ثمّ في أبريل 2024 أقامَت العتبةُ العباسيةُ في مقرِّها بكربلاءَ حفلاً مهيباً احتفاءً بأربعةِ آلافٍ وخمسمئةِ طفلةٍ بعمرِ تسعِ سنواتٍ وهُنّ محجَّباتٌ. تتكرّرُ تلك الاحتفالاتُ في ظلِّ نقدٍ شرسٍ لحفلاتِ تخرّجِ الطلّابِ والطالباتِ في الجامعاتِ العراقيةِ لِما فيها من اختلاطٍ، وُصِفَت فيه الطالباتُ بالرخيصاتِ والراقصاتِ، على حدِّ قولِ كَرّار بَكّان، وهو صانعُ محتوىً معروفٌ بمناهضتِه القوانينَ المدنيّةَ. وكان آخِرُ نشاطِه مشاركتَه في حملةِ مناهضةِ مفهومِ النوعِ الاجتماعيِّ بديلاً للجنسَيْن. وسَجّلَ كَرّارُ بصوتِه مقطعَ الفيديو الدعائيَّ للحفلِ المركزيِّ السابعِ للعَتبةِ العباسيّة.
يُعَدُّ الحجابُ في بعضِ الثقافاتِ رمزاً للهُويةِ الدينيةِ والثقافيةِ. ويُستعمَلُ عادةً أداةً للتعبيرِ عن المعتقداتِ أو الانتماءِ السياسيّ. أمّا في العراقِ فدلالةُ الحجابِ أوسعُ من أنْ تُختزَلَ في ذَيْنِك السِياقَيْن، بَلْ تتجاوزُهما لتضعَه في موقعٍ رمزيٍّ يُلخِّصُ التغيُّراتِ السياسيةَ في البلدِ على مَرِّ العقودِ الماضية. أثَّرَت الأنظمةُ السياسيةُ وأفكارُها على هذا الرمزِ بتحريكِ السياساتِ والتوجّهاتِ الاجتماعيةِ بما يضمنُ هيمنَتَها. وتحجيبُ النساءِ مِن مظاهرِ تلك الهيمنة، وتحديداً وسطَ العراقِ وجنوبَه، أيْ في المناطقِ ذاتِ الغالبيةِ الشيعيّة. حتى باتَ الحجابُ ثمّ لبسُ العباءةِ ومستلزماتِها محلَّ تنافسٍ بين المراجعِ الدينيةِ وأحزابِ السلطةِ في المجالِ العامِّ، ممّا يناقضُ ادّعاءَ المراجعِ الدينيةِ بأنّ الحجابَ وُضِعَ بإرادةِ النساءِ أنفُسهنّ. وحدّثَتني نساءٌ من مشاربَ اجتماعيةٍ ومهنيةٍ مختلفةٍ عن تجربتِهنَّ في هذا الشأن.
يذكرُ بعضُ العراقيين مراحلَ تغيّرِ فكرةِ التحجيبِ، ومنهم ربّةُ منزلٍ من النجفِ في نهايةِ عقدِها الخامسِ، إذْ تقولُ عن قياديةٍ نسائيةٍ من حزبِ البعث: "كان شكل منال يونس بالرَبطة مِن تطلَع بالتلفزيون وشلون صدّام يهتمّ مِن تحكي هو اللي شجّعني ألبس مثلها … وكان كلّ الزِلِم حولي شايفينها أنيقة ورزنه وظلّيت لابستها من وقتها". شَغَلَت منال يونس الألوسي منصبَ رئيسةِ الاتّحادِ العامِّ لنساءِ العراقِ منذ سنةِ 1976، وارتدَت الحجابَ في ظلِّ الحملةِ الإيمانيةِ التي بدأَها حزبُ البعثِ بقيادةِ نائبِ الرئيس عِزّة الدُوريّ سنةَ 1993.
وفي عهدِ الرئيسِ أحمد حسن البكر، الذي رأسَ العراقَ قبلَ صدّام حسين من 1968 إلى 1979، أصدرَ وزيرُ داخليّتِه في أكتوبر 1968 بياناً يقضي بمنعِ "الميني جوب"، أي التنّورةِ القصيرة. وعَيَّنَ الحدَّ الأَدنى لطولِ التنانير بعقدةٍ (أي بوصة) واحدةٍ تحت الركبة. استعملَ البيانُ مفرداتٍ مثلَ "تمسّكاً بالأخلاقِ العربيةِ الإسلاميةِ السليمةِ ومن أجلِ زيٍّ نسائيٍّ محتشم". ويذكرُ لنا عبدُ الرحمن سليمان الدربندي في كتابِه "المرأة العراقية المعاصرة" المنشورِ سنةَ 1970 أنه، وعلى علمانيةِ حزبِ البعثِ، لَم يحاول الاصطدامَ بالثقافةِ الإسلاميةِ الشعبيةِ أو استفزازَها بل حاولَ في مرّاتٍ عدّةٍ أن يُظهِرَ نفسَه نصيراً لها، ممّا حَمَّلَ العباءةَ والحجابَ ثقلاً سياسياً.
اعتمَدَت حملةُ التسعينياتِ الإيمانيّةُ بثَّ الإسلامِ ديناً وشعائرَ ونهجَ تفكيرٍ في قطاعاتِ الدولةِ كلِّها. يذكرُ كايل أورتن في مقالٍ نُشِرَ سنةَ 2015 على مدوّنتِه، بأنّ غرضَ الحملةِ كسبُ بعضِ ركائزِ الدعمِ لرئاسةِ صدّام حسين. وفي خِضمِّ الحربِ العراقيةِ الإيرانيةِ انتشرَ الخطابُ الدينيُّ المسموعُ القادمُ من الثورةِ الإسلاميةِ في إيران بين الشبابِ عقبَ سنواتٍ من العلمانيةِ المبنيةِ على وفرةِ الموارد. لفتَ الأَمرُ انتباهَ حزبِ البعثِ، فاستنكرَ "شيوع الطائفية والتطرّف بين الشباب" في اجتماعِه سنةَ 1982. وأَعلنَ النظامُ عن اتّباعِ النهجِ الإسلاميِّ بعدَ مؤتمرٍ إسلاميٍّ شعبيٍّ سنةَ 1983، وتأسيسِه كلّيةَ صدّام للدراساتِ الدينيةِ سنةَ 1989.
استهدفَت تلك التحرّكاتُ كَسْبَ رجالِ الدينِ السُنّةِ. ولكنّ رجالَ الدينِ الشيعةَ، ولِقُربِهم من إيران، فقد كانوا مصدرَ قلقٍ لصدّام، فحاولَ كبحَهم بمنعِهم من الاحتفالاتِ ومصادرةِ حقّهِم في التعبيرِ وفي إظهارِ شعائرِهم. أُخمِدَت انتفاضتُهم سنةَ 1991 واعتُقِلَ رجالاتُها ونُكِّلَ بهم. وأسرفَ الرئيسُ العراقيُّ ببناءِ المساجدِ وتمويلِ رجالِ الدينِ السُنّةِ وكَسْبِ وُدِّهِم، وتصالحَ مع التفكيرِ الإسلاميِّ السُنّيِّ في الداخلِ والخارجِ، فأَيَّدَ الانقلابَ في السودانِ واستضافَ وزيرَ خارجيةِ الانقلابِ حسن الترابي في بغداد لمباركةِ غزوِ العراقِ للكويتِ، وأقامَ علاقاتٍ مع حركةِ طالبان. وقد حاولَ النظامُ تثبيتَ جزءٍ من رؤيتِه "الإسلامية" بأجسادِ النساء.
سادَت مطلعَ التسعينياتِ ظاهرةُ ارتداءِ الربطةِ، أي الحجابِ التقليديِّ. ويكونُ عادةً قطعةَ قماشٍ من الجُرجيت، وهو نسيجٌ شفافٌ وخفيفٌ، أو نسيجِ الأطلسِ الناعمِ والحريريِّ، أو الكَتّان. يتراوحُ طولُ الربطةِ ما بين ثمانين إلى مئةِ سنتيمترٍ، بألوانٍ متعدّدةٍ، تُطوى عادةً على شكل مثلّثٍ وتُلبَسُ على الرأسِ، ثم تُعقَدُ عند أسفل الذقنِ بدبّوس. كانت دلالةً على التأثّرِ الاجتماعيِّ صوريّاً بالثورةِ الإسلاميةِ في إيران سنةَ 1979. أَدخلَت إيرانُ الربطةَ إلى الأسواقِ العراقيةِ باللونين الأبيضِ والأسودِ، ثم تنوّعَت إلى ألوانٍ غامقةٍ أُخرى، لتُرتدَى حجاباً مع العباءة.
كُثّفَت الحملةُ الإيمانيةُ في النصفِ الثاني من التسعينيات، ما بدا مرحلةَ قطفِ الثمارِ لعملِ صدّام في تنميةِ الجانبِ الإسلاميِّ، إذْ تخرّجَ العشراتُ في جامعتِه الإسلاميةِ وطلّابُ العِلْمِ في المساجدِ السُنّية. وتزامَنَ ذلك مع فتحِ البابِ للفقهاءِ الشيعةِ في الوعظِ والتجمهرِ، وإنْ بتقييدٍ وبرقابةِ نظامِه المشدَّدة. شاعَ حينئذٍ بين النساءِ المحجَّباتِ الجمعُ بين العباءةِ والرَبطةِ، وبدا ذلك من مظاهرِ رغبةِ الدولةِ بالأَسْلَمَةِ. وحَثَّ المرجعُ الدينيُّ الشيعيُّ السيّدُ محمد صادق الصدر على لبسِ الربطةِ مع العباءةِ تفضيلاً على الشائعِ من لبسِ الربطةِ والجُبّةِ فقط.
ثمّ أُضيفَت "البُوشِيّة"، وهي قطعةُ قماشٍ من الكَتّانِ أو الجُرجيتِ يُعصَبُ بها الرأسُ وتُسدَلُ لتُغطّيَ الوجهَ كاملاً، إلى الزِّيِّ النسائيِّ بعد أن كانت العباءةُ والربطةُ لبسَ الخروجِ المتعارفِ عليهِ، وتحديداً في مدنِ الفراتِ الأوسطِ والجنوبِ، وهي مدنِ النفوذِ الشيعيِّ، لا سيّما في خضمِّ الصراعِ الطائفيّ، بسببِ الخوفِ من الاختطافِ والاتّجارِ بالنساءِ. ثمّ صارَت العباءةُ رمزاً للاحتشامِ بعد استقرارِ الأمنِ الداخليِّ، وتلبيةً للخطابِ الدينيِّ من منابرِ رجالِ الدينِ الشيعة. كان وجودُ البوشيّةِ موازياً للحجابِ الإيرانيِّ [الإيشادور] القادمِ من إيران مع رجوعِ المسافرين العراقيين أو قدومِ طلّابِ العلمِ الدينيِّ إلى الحَوزات.
كثيراتٌ لَم يَجِدْنَ في لبسِ البوشيّةِ حمايةً من التحرّشِ، كما قالت لي ربّةُ منزلٍ، تبلغُ 38 عاماً، مِن كربلاء. إذْ فَرَضَ زوجُها عليها لبسَها سنةَ 2004، لكن لضعفِ نظرِها باتت البوشيّةُ تؤذيها، فنَزَعَتها ولَم يعترضْ زوجُها. وتضيفُ أن "البوشية شي فاشل. زوجة حَماي عدها ثمان أولاد وتخرّجوا ولابسة بوشية. وزوجة حَماي الثانية مطلعة عيونها من البوشية وهَم تحارشوا بيها".
ومع ذلك داومَت بعضُ النساءِ المتديّنات أو المنتميات إلى عوائلَ دينيةٍ على لبسِ البوشيّةِ سنواتٍ طويلةً حتى تعوَّدن عليها. ربّةُ منزلٍ نَجَفِيةٌ ثلاثينيةٌ هي الأُخرى قالت لي: "آني من كنت عند أهلي ما ألبسها نهائياً. لما انخطبت، زوجي جابها هدية بيوم العقد بالبداية. كنت مجبورة عليها، ما أحبها أصلاً. بس بعدين حبّيتها هْواي [كثيراً] وقمت ما أقدر بدونها وتقريباً صار خمسطعش سنة لابستها. بالبداية هْواي مواقف شفت بسببها كنت أرفعها لأن ما أعرف ألبسها وأخاف أوقع. كانت نظرات الناس مو حلوة لأن رافعتها … وهذا ضوّجني [أزعجني] هْواي لأن كنت أحس بنظرات مريبة. بعدين تعوّدت لدرجة من أطلع من العملية مال الولادة لابستها بس أستحي هْواي، بدونها أحسّ ناقصني شي مهم".
وسنةَ 2015 واجهَت طالبةٌ جامعيةٌ قرارَ عمادةِ كلّيةِ الآدابِ في الجامعةِ العراقيةِ بمنعِ اللواتي يرتدين البوشيةَ من دخولِ الكلّيةِ واضطُرَّت إلى نزعِها وقتَ الدوامِ، كما أخبرَتني. أمّا الآنَ فهناك قَبولٌ للبوشيةِ وللمنتقباتِ، حتّى أنهنّ يَحضُرنَ الامتحاناتِ النهائيةَ وهُنَّ يرتدينها.
أُخرَياتٌ على اختلافِ أعمارِهنَّ وبعد تجرِبتِهنَّ يَرفضنَ الادّعاءاتِ بأنّ العباءةَ سترٌ يحمي المرأةَ من التحرُّش. تقولُ لي مترجِمةٌ من النجفِ: "'كنت قبل أقنِع نفسي أنه هي تحمي نفسي من التحرّش وتغبّي أجزاء جسمي ومحد يشوفني. انصدمت، هي ما فادتني، وأصعب موقف تعرّضت له بالعباية كان بمكان مقدّس بعاشوراء وأكو [ثمّة] شخص دخّل إيده من جوّا العباية وكمش [أمسك] منطقة من جسمي وكنت لابسة عباية ونقاب. هم مو يقولون 'اقتدي باللبس الزينبي، وهذا يستركم ويحميكم من الرجال'؟ ولكن مع هذا تعرّضت للتحرّش الجنسي البشع، ومحد سمعني لمّا صيّحت عليه. ظلّ يقول 'لا ياختي، ما سوّيت شي' وضَحَك وراح ولا كأنه صار شي. والناس لاموني وقالوا أنه إحنا لازم ما نطلِع بناتنا، ولهذا قرّرت حتى ما أروح أماكن دينية بوقت الزيارات والمناسبات، وما ألبس عباية لأن هي لا تحميني ولا مفيدة. وطبعاً بصعوبة حققت هالشي".
أمّا عقبَ التحرُّر من داعش وعودةِ الناس لمَواطنِهم، وكان التنظيمُ قد فَرَضَ زِيّاً إجباريّاً على النساءِ في المناطقِ التي سيطرَ عليها في الموصلِ وغيرِها، صِرنا نرى الحجابَ مع النقابِ الملوّنِ بلا عباءة. ومع أن هناك خوفاً من الاتّهامِ بالولاءِ لداعش أو الارتباطِ بها، داومَت كثيراتٌ على ارتداءِ ذلك الزيِّ وكأنّ داعش ما زالت موجودة. أَخبرَتني ربّةُ منزلٍ موصليةٌ في بدايةِ عقدِها الثالثِ، كان زوجُها أحدَ جنودِ داعش، أنّها تلتقي بمَن يرتدين النقابَ ويَعِشْنَ حياتَهنَّ وفقَ تعليماتِ "الدولة الإسلامية" عند "البصمة" كلَّ شهرٍ، فتقولُ: "أحسّ داعش ويانا من يباوعن علي وآني خالعة النقاب ومخلية مكياج خفيف. داخلي خوف منهن بس مضطرة أشوفهن كل ثلاثين يوم". والبصمةُ فحصٌ أمنيٌّ شهريٌّ في مبنى مديريةِ الاستخباراتِ والأمنِ الوطنيِّ في الموصلِ، تخضعُ له نساءٌ لديهنّ أزواجٌ أو آباءٌ أو أبناءٌ ماتوا إبّان سيطرةِ داعش أو قُتِلوا في المعاركِ مع تنظيمِ الدولةِ أو يُشتبَه بانتمائِهم للتنظيم.
كُرِّمَت طالباتُ المدارسِ والحوزاتِ العلميةِ والجامعاتِ والأكاديمياتِ والمدرِّساتُ ممّن يرتدينَها، في لقاءاتٍ تلفزيونيةٍ أو محافلَ خاصّةٍ تَحضُرُها مَن لا يرتدين العباءة. وعُرِضَ النقابُ، وليسَ الحجابُ أو العباءةُ فحسبُ، موضةً تُجرِّبُه عارضاتُ أزياءٍ ذواتُ عيونٍ واسعةٍ وحواجبَ مقلّمة. يمكن وصفُ هذه الحملاتِ بالتجاريةِ وقد أسهمَت بتحويلِ النقابِ إلى زيٍّ شائعٍ في محافظاتِ الجنوبِ في الأسواقِ والمحالِّ، وفرضَته العتبةُ العباسيةُ والحسينيةُ على موظّفاتِها، ووضعَته العتبةُ العَلويةُ شعاراً مرسوماً على بوّاباتِ النساءِ في دُورِ العبادة. سنةَ 2023 ظهرَت امرأةٌ اسمُها "أمّ مظفّر"، وكانت ترتدي العباءةَ والحجابَ والنقابَ ملوّثاتٍ بالترابِ والجواربَ السوداءَ، والغرضُ زيارةُ الإمامِ الحسينِ مشياً على الأقدام. فما كان إلّا أنْ أظهرَتها مواقعُ التواصلِ الاجتماعيِّ نسخةً معاصرةً من السيدةِ زينب، عجَّت بها المنصّاتُ قدوةً للمرأةِ المسلمة.
دَرَجَ أن يخصّصَ رجالُ الدينِ، مرتضى المدرسي ومثال زمان الحسناوي وعليّ الطالقاني، جزءاً من وقتِهم لتصويبِ سلوكيّاتِ النساءِ بما يتماشى ومنظورَهم للدِين. يتحدّثون عن "العباءة العراقية" رمزاً للحشمةِ وعن ضرورةِ ترسيخِها وسيلةً للشريعةِ والتقاليدِ لسترِ النساء. وعَدُّوا ارتداءَها "جهاداً للدفاعِ عن الدِين"، خصوصاً لطالباتِ الجامعات. وفي هذا الصددِ قالت لي طالبةٌ في جامعةِ الكوفةِ بالنجفِ إنّها وأُخرَياتٍ وَجَدْن عباءاتِهنّ ملقاةٍ على الترابِ بعد أن خَلَعْنها عند بوّابةِ الحرمِ الجامعيِّ وتَرَكْنَه في أكياسٍ، لعدمِ توفّرِ خزاناتٍ للطالبات. أزالَها حرسُ أمنِ البوابةِ بذريعةِ أنّ العباءاتِ وُجِدَت في غيرِ مكانِها. إلّا أنّ الطالباتِ اعتَدْنَ وضعَ العباءاتِ في المكانِ ذاتِه. بينما تبدّلَت الحالُ اليومَ وكأنّه في سياقِ حملةٍ لنبذِ الطالباتِ اللواتي يرتدينَ العباءةَ في الشارعِ لكن يَخلَعْنَها في الحرمِ الجامعيِّ ويكتفين بلبسِ حجابِ الرأس.
قالت لي محاميةٌ في عقدِها الخامسِ بأنّها شهدَت مرحلتَيْن اختلفَت فيهما النظرةُ إلى التحجيب والتعاملِ معه. ففي أثناءِ عملِها بغرفةِ محامي محافظةِ النجف، كانت المرحلة الأولى قبلَ سقوطِ نظامِ صدّام حسين. وفيها خلعَت المحامياتُ العباءةَ وارتدَين قيافةَ المحامي. أمّا المرحلةُ الثانيةُ فهي "ربط العباءة بالجدّية بالعملِ والشرفِ، لأنّ من تخلعُها يعني أنها تَستحصِلُ الحقوقَ بناءً على علاقاتِها الحميميةِ مع بقيّةِ المحامين والقضاةِ والموظفين. وتظلُّ تُنبَذُ وتُحارَبُ وتُستدعَى من إدارةِ الغرفةِ ويُضغَطُ عليها مجتمَعياً حتى ترتديَها". وترى المحاميةُ أنَّ العباءةَ تَحولُ دونَ العملِ الحقوقيِّ لأنّه يتطلّبُ ملابسَ مريحةً لئلّا تنشغلَ المحاميةُ بالحفاظِ على تناسقِ لبسِها عِوَضَ تعاطيها مع القضايا التي تحتاجُ نقاشاً، ولا سيّما أنّ العباءةَ عُرضةٌ للاتّساخِ طُوالَ الوقتِ.
شَكَت لي محاميةٌ أُخرى متزوّجةٌ في محافظةِ الديوانيةِ، في العقدِ الثالثِ من العمرِ، عمَّا خَبِرَتْه في إطارِ الحياةِ الشخصيةِ والعملِ، قائلةً: "ناس يقيّمون أخلاق البنات من لبس العباية. الموضوع استفزّني ولبستها. لكن آني ما أحبها وما ودّي ألبسها. بشكل مباشر من زوجي ومجتمعه العشائري انجبرت ألبسها وتعرّضت لمواقف بسببها بالبداية لأني أبقيها مفتوحة وما متعلّمة عليها. وبنفس الوقت من أروح محافظات منفتحة، أشوف نظرات استغراب من شكلي. ومو بس آني، أكو هواي يلبسنها حتى يحمِن نفسهن من الكلام والانتقاد، ولكن لا يحبنها ولا مقتنعات بيها".
تقولُ موظّفةٌ من مدينةِ العمارةِ إنَّ كثيراً من النساءِ يَلبسْنَ العباءةَ كُرهاً، مضيفةً: "لبَستها غصب من الرابع إعدادي ولحدّ الآن مجبورة ألبسها. ما أحب ينقال عليها جزء من التراث. هذا جزء من النفاق والتمظهر والادّعاء، ولا نحكى عنها على إنها شي حلو، لأن هيج معناها مالنا حق التذمّر ... إحنا ممكن نفقد حياتنا بسببها. تعرّضت لحادث بسببها لأني كنت مستعجلة وغلقت باب السيارة وحرّكت وصار جزء من العباية تحت العجلة وكان ممكن تصير كارثة".
تُضيفُ العباءةُ على النساءِ عبئاً آخَرَ في حرِّ العراقِ الذي قد يَبلغُ خمسين درجةً مئويةً في الصيفِ الممتدّ ثمانيةَ أشهُر. لا خيارَ للمرأةِ بالتخفّفِ من العباءةِ لمجابهةِ الحَرِّ، بل تزيدُ طبقاتُ العباءةِ من معاناتِها مع الحرارة. أطلعَتني طالبةٌ جامعيةٌ من بغداد عن معاناتِها، قائلةً إنّها تصطحبُ طفلَها كلَّ صباحٍ مشياً على الأقدامِ لتوصلَه إلى الحضانةِ متوشِّحةً بالعباءةِ التي تُعيقُها وتُتعِبُها في جوٍّ حارقٍ وطفلٍ يجبُ حملُه وحملُ متعلّقاتِه ومتعلقاتِها، مع ضرورةِ الحفاظِ على العباءةِ من غيرِ أن تنفتحَ فيظهرَ لبسُها أو تلتصقَ بجسدِها فتبدو تفاصيلُه. والأطفالُ أيضاً يشارِكون أمّهاتِهم هذه الشكوى. قالت لي إحداهُنّ: "ما أحبها [العباءة] لأن ضيّعت أمّي بسببها مرّة بالسوق من كنت طفلة … كلّ النسوان لابسات عبايات ويتشابهن فمسكت بعباية امرأة غير أمّي وضِعِت".
ثمّةَ أُخرَياتٌ يَختَرْنَ ارتداءَ العباءةِ بدوافعَ اقتصاديةٍ وليس دينيةٍ، لارتفاعِ أسعارِ الملابسِ المستورَدة. تُعلِّقُ طالبةٌ جامعيةٌ من كربلاءَ بأنها تُفضِّلُ لبسَ العباءةِ في الجامعةِ؛ إذ يُجنّبُها ذلك شراءَ أطقمٍ مختلفةٍ، لا سيّما للدوام. لذا تلبسُ مع العباءةِ ملابسَ مريحةً تحتها بلا اهتمامٍ بشكلِها أو نوعِها أو جودتِها فهي غيرُ مرئيّة.