"لماذا لم تحرروا فلسطين بعد": قائد حماس يحيى السنوار في سباق دائم لتحقيق أهدافه 

يمكن تفسير عملية "طوفان الأقصى" بأنها محاولة لتسريع الأحداث وسحب المستقبل إلى الحاضر، فارضاً على الجميع مواجهة الواقع الآن سواء أرادوا ذلك أم لا.

Share
"لماذا لم تحرروا فلسطين بعد": قائد حماس يحيى السنوار في سباق دائم لتحقيق أهدافه 
يحيى السنوار يلوح بيده أمام الجماهير خلال الاحتفال بيوم القدس العالمي في مدينة غزة. (تصوير يوسف مسعود/ عبر غيتي للصور)

كان اجتماعاً ضمَّ فصائلَ فلسطينيةً في عاصمةٍ عربية. كان الصخبُ كعادتِه عالياً، والنقاشُ حادّاً في تفصيلِ البيانِ السياسيِّ وصياغةِ كلماته وتعبيراته. فجأةً قاطعَ الضجيجَ مداخلةُ الأمينِ العامِّ لإحدى الفصائلِ بالقولِ: "أيُّها الرفاقُ، أيُّها الإخوةُ، لا داعيَ لكلِّ هذا الاختلافِ، فإنّما نحن كراكِبي سيارةٍ تسيرُ بأقصى سرعتِها، يقودُها أبو إبراهيم، وجميعُنا يَعلمُ أنها بلا مكابح". هذه النادرةُ على طرافتِها لم تخلُ من تأطيرٍ واقعيٍّ للمشهدِ العامِّ الذي ظهرَ فيه أبو إبراهيم، يحيى إبراهيم حسن السنوار. نعم، إنه في عجلةٍ من أمرِه.

اختلفَ المحلّلون في شخصيةِ السنوار، الرئيسِ الجديدِ للمكتبِ السياسيِّ لحماس، والذي عُيِّنَ بعدَ اغتيالِ إسماعيل هنيّة في طهران نهايةَ يوليو 2024، فمنهم مَن يراه متشدّداً ومحدوداً، ومَن يراه مَصلَحياً ومخطِّطاً. يظهرُ السنوار متنقِّلاً في مواقِفِه من وسطِ المشهدِ إلى أقصى يمينِه، ويمنحُ كلَّ عينٍ ما ترغبُ فيه. وقد أصبحَ منذ عمليّةِ السابعِ من أكتوبر الأكثرَ حضوراً في الوعيِ العامِّ على حدٍّ سواء. رأسُ المطلوبين لإسرائيل وللكتّابِ والمحلّلين، ولعامّةِ الناسِ، سواءً مَن يوافقُه أو يخالفُه. 

وللشروعِ في منهجيةِ الفهمِ العامِّ لسلوكِ السنوار، يمكنُ البدءُ من اللحظةِ التي خرجَ فيها من سجنِه ليسألَ مستنكِراً "لماذا لَم تحرِّروا فلسطينَ بعدُ؟" فقد كان مهجوساً بالزمن دائماً. وتتجلّى ملامحُ إدراكِه لمحدوديةِ الوقتِ وضيقِ المكانِ خارجَ السجنِ، لا داخلَه فحسب. فمسيرتُه في الثلاثَ عشرةَ سنةً الماضية تبدو محكومةً بضغطٍ زمانيٍّ ومكانيٍّ لرجلٍ طالما اعتَقَدَ أنه كان بالإمكانِ أفضلُ ممّا كان. 


وُلدَ السنوارُ مرّتَيْن. مَرّةً حينَ أطلَّ برأسِه إلى الدنيا في زقاقٍ فقيرٍ في مخيّمِ خان يونس سنةَ 1962، ومَرّةً أُخرى حينَ خرجَ من السجنِ في صفقةِ التبادلِ الشهيرةِ بِاسمِ "صفقة شاليط" سنة 2011 بعد ثلاثٍ وعشرين سنةً مع ألفٍ ونيّفٍ آخَرين.

يبدو السنوارُ منذُ خروجِه من السجنِ وكأنّه في عجلةٍ دائمةٍ من أمرِه. لذا يسعى إلى حرقِ المراحلِ وكأنّه اليقينُ بأن ما تبقّى له بعد تحريرِه من الأَسرِ ليس بأكثرَ ممّا مضى. فقد دخلَ السجنَ وعمرُه سبعةٌ وعشرون عاماً، بتهمٍ تتعلّقُ بعمليةِ اختطافِ جنديَّين إسرائيليَّين وقتلِهما، وقتلِ أربعةِ فلسطينيِّين يشتبه بتعاونِهم مع إسرائيل. وحُكِمَ بأربعِ مؤبّداتٍ يُضافُ لهنّ خمسٌ وعشرون سنة. وعندما خرجَ من السجنِ كان على أبوابِ العقدِ الخامسِ من عُمرِه.

هذا الضغطُ الزمنيُّ قد يحدّدُ زاويةَ روايةٍ ما لسيرةِ الثلاثةَ عشرَ عاماً الأخيرة في حياتِه حتى السابعِ من أكتوبر 2023. في صورةٍ قديمةٍ للسنوار وهو في السجن يظهرُ وفي يدِه ساعةٌ من نوعِ كاسيو. تثيرُ تلك الصورةُ تساؤلاً عمّا يعنيه الوقتُ لرجلٍ يعلمُ أن سنواتِ حُكمِه بالسَّجنِ هي أضعافُ ما سيعيشُه هو وأربعةُ أجيالٍ ربما مِن بعدِه.

بعدَ خروجِ السنوارِ من السجنِ بأيّامٍ هَمَسَ لأحدِ أصدقائِه المقرَّبين بأنه يريدُ أن "يكسرَ السِلْك"، يعني السياجَ الفاصلَ بين غزّة و"إسرائيل"، أي أنَّهُ ينوي اقتحامَ الحدودِ على الاحتلال. حين قالَها، لَم يكُن بعدُ قد تولَّى أيَّ مسؤوليةٍ يستشرف منها قدرته على فعلِ ذلك. فحماس التي عاد إليها ليست هي حماس التي تركَها عندما سُجن. فهي لم تعُد تلك الجماعةَ الصغيرةَ المنفصلةَ عن نظامِ الحياةِ العامِّ للناسِ وتقاطعاتِه، بل هي الآن مؤسسةٌ كبيرةٌ، سياسياً وعسكرياً، وتسيطرُ على قطاع غزّة وتديرُه بجهازٍ حكوميٍّ وأمنيّ معقّدٍ منذ خمس سنوات.

لكنَّ السنوار لم يدَّخِر وقتاً في سبيلِ مبتغاه. فقد انتُخب السنوار بعد شهورٍ قليلةٍ من عودته إلى القطاع عضواً في قيادةِ حماس السياسيةِ. وبعد اغتيالِ أحمد الجعبري، نائبِ القائدِ العامِّ لكتائبِ القسّام، في نوفمبر 2012 تولَّى مهمّةَ ضابطِ الاتصالِ بين الجناحين السياسيّ والعسكريّ. وهو الموقعُ الذي سيَمنحُه رؤيةً مبكرةً لاتّخاذِ قراراتٍ كبيرةٍ متعدّدةٍ اتّخذَها لتحدّي الواقعِ القائمِ من مَسيراتِ العودةِ مروراً بعمليةِ سيفِ القدسِ وانتهاءً بعمليةِ طوفانِ الأَقصى. وعلى أنَّ الأنفاقَ ليست فكرةً جديدةً طرأَت مع وجودِه خارجَ السجن، كان اهتمامُه بها وتطويرُه لشبكتِها لافتاً. ويبدو أن النقلةَ التي كان يَشهدُها السنوارُ في عمليةِ تطويرِ الأنفاقِ عمقاً وكفاءةً وامتداداً قد مَنحَتْه اتّساعاً مكانياً مهمّاً، لا سيّما حينَ أعلنَ على الملأِ أنَّ حماس تمتلك مدينةً أُخرى تحت غزّة. وقالت مصادرُ استخباريةٌ أنَّ بعضَ أنفاقِها قد يصلُ إلى خمسةَ عشرَ طابقاً تحت الأرض.

ومع ترقِّيه في هرميّةِ الحركةِ فإنَّ واقعَ الحياةِ داخلَ غزّة التي فُرضَ عليها الحصارُ منذ سنة 2007 باتَ مرتبطاً في ذهنِه بتجربةِ السجنِ وكأنَّه امتدادٌ له. يبدو ذلك في إجابتِه للصحفية الإيطالية "فرانشيسكا بوري" في لقائها معه سنة 2018، حين قال: "لَم أَخرجْ أبداً؛ لقد غَيّرتُ السجنَ فقط، فرغم الكثير من المعاناة والمشاكل التي كنّا نواجهها في السجن، فقد كان القديمُ أفضلَ. كان يتوفّر لي ماءٌ وكهرباءُ. كان يتوفّر لديّ الكثيرُ من الكتب. غزّةُ أصعبُ بكثيرٍ. غزّةُ أكبرُ سجنٍ مفتوحٍ على وجهِ الأرض". ويضيفُ في اللقاء ذاته: "لِنجعل الوقتَ يلعبُ لصالحِنا" في معرضِ تناوله للمستقبلِ الذي يريدُه للأجيال الفلسطينية المقبلة. وهنا تبدو الساعةُ هي الحاضرةَ دوماً، ليس في يده منذ أيامه الأولى في السجن فحسبُ، وإنَّما في عقله وتطلعاتِه أيضاً.


ارتبطَ وصفُ السنوار بالواقعيِّ أو المتشدِّد دوماً بمواقف خَطِّيَّةٍ ذات اتجاهٍ واحدٍ للتدليلِ عليها. كالقولِ مثلًا إنَّه فتحَ أبوابَ المصالحةِ مع حركةِ فتح، ومَضَى في تطوير علاقاتٍ إقليميةٍ مع مصر. أو أن هجومَ السابعِ من أكتوبر يُجلِّي شخصيَّتَه المتشدِّدة. والحقُّ أنَّ السنوارَ يتمتّع بشخصيةٍ ذاتِ قدرةٍ كبيرةٍ على الانتقال من يسارِ الموقفِ إلى أقصى يمينِه، حسبما يقيِّمُ الجدوى.

يَظهرُ السنوارُ في عددٍ من خطاباتِه ملتزِماً هدفَ تحريرِ الأَسرى، وهو هدفٌ أعلنَه لرفاقِه عندما همَّ بالخروجِ من سجنِه في ترتيباتِ صفقةِ شاليط عامَ 2011. وسعى إلى تحقيقِه في السنواتِ الأولى من خروجِه حين أَسرَت حماسُ أربعةَ جنودٍ إسرائيليّين، بينهم اثنان في حربِ 2014، ولا يُعرَفُ على وجهِ التحديد ملابساتُ أَسرِ الآخرَيْن. ومنذ ذلك الحينِ أدارَ جولاتٍ عدّةً من المفاوضاتِ التي لَم تُفضِ إلى نتيجةٍ، حتى جاءت عمليةُ السابع من أكتوبر، التي قامت على ضرورةِ انتهائِها بأَسْرِ العشراتِ من أفرادِ العدوّ. وقد أَسفرَت عن أَسرِ 233 إسرائيلياً. قد يعكسُ الالتزامُ بهدفٍ بهذا الحجمِ شخصيةً قليلةَ المرونةِ. ويبدو أنّ نظرةَ السنوارِ بشأنِ الأسرى مصداقٌ لذلك.

في الجانبِ السياسيِّ، بدأَ السنوارُ فعلاً بمسارٍ جادٍّ لتحقيقِ المصالحةِ بعد شهورٍ قليلةٍ من تولِّيهِ قيادةَ غزّة سنة 2017، لدرجةِ تهديدِه الشهيرِ بأنّه لن يتوانى عن "كسرِ عنقِ من لا يريدُ المصالحةَ". جاء ذلك بعد أيّامٍ من حلِّ اللجنةِ الإداريةِ الحكوميةِ لغزّة، التي شكَّلَتها حماس لإدارةِ القطاعِ بعد فشلِ المصالحةِ مع حركةِ فتح في اتفاقِ الشاطئِ الذي وقّعَته الحركتان في 2014 وتشكّلت بموجبِه حكومةُ وفاقٍ وطنيّ. أثارَ تشكيلُ اللجنةِ الإداريةِ رَدّةَ فعلِ السلطةِ الفلسطينيةِ ورئيسِها محمود عباس، الذي فرضَ إثرَها عقوباتٍ على قطاعِ غزّة تسبّبَت بانقطاعِ الكهرباءِ لرفضِه دفعَ فاتورةِ الوقود. وطالَبَ عباسُ بحلِّ اللجنةِ شرطاً للمصالحة.

تعهَّدَ السنوارُ بتقديمِ "تنازلاتٍ صاعقة" أُخرى من أجلِ تنفيذِ المصالحةِ، معرِباً أنه "ليس لديهم فرصٌ لتضييعِها أكثر". ولكنَّه انتقل إلى الضفّة المقابِلة في غضونِ أقلّ من سنةٍ، عندما تيقّنَ أن فتح والسلطةَ في رام الله لا تريدُ، أو لا تملكُ قرارَ المصالحة. لقد أعرَضَ السنوارُ عن الملفِّ برمّتِه وأدار له ظهرَه، حتى قيل أنّه رفضَ تلقّي اتصالٍ هاتفيٍّ من أبو مازن في مناسبةٍ اجتماعية.

ولَم يكُن راضياً عن اتفاقِ إسطنبول الذي وقّعَته حماس مع فتح أواخرَ 2020، والذي ثبتَ لاحقاً أنه كان بلا جدوىً، بعد إلغاءِ محمود عباس الانتخاباتِ التي انبثقَت عن تلك التفاهمات. ما تزال القطيعةُ مع أبو مازن حتى اليوم، فلَم تَشهَد الحربُ الحاليّةُ أيَّ اتصالٍ سياسيٍّ من نوعه بين حماس ومحمود عباس، خلافَ حركةِ فتح التي انعقدَت بينها وبين حماس إبّانَ الحربِ لقاءاتٌ واتفاقاتٌ في موسكو وبكين، ولكنها ما زالت طورَ الاختبارِ المتشائم

مع ذلك تجلّت واقعيةُ السنوارِ في 2017 إذْ بدأَ حواراً مع محمد دحلان، المقيمِ الآن في الإمارات والذي كان يرأسُ جهازَ الأمنِ الوقائيِّ في غزّة في التسعينيات ومطلعِ الألفيّةِ الثانيةِ، وهو جهازٌ تابعٌ للسلطةِ الفلسطينيةِ اشتهرَ بملاحقةِ أعضاءِ حماس وقادتِها وتعذيبِهم. ونتجَ من هذا الحوارِ تفاهماتٌ أوليّةٌ، ما لبثَت أن تعزّزَت بعد فشلِ مسارِ المصالحةِ مع حكومةِ عباس في رام الله. وهي علاقةٌ مستمرّةٌ حتّى اليومِ، تفسِّرُ مخاتلةَ دحلان السياسيةَ وبيانَه الخطابيَّ التصالحيَّ مع حماس إبّان الحربِ على غزّة. كان من دوافعِ هذه العلاقةِ، بكلِّ ما أثارَت من الجدلِ وما زالت، انسدادُ أُفقِ المصالحةِ مع فتحِ أبو مازن، وكانت علاقةً، في حينِها، مرتبطةً برغبةِ السنوار في الانفتاحِ على القاهرة التي احتَضنَت اللقاءَ الأوّلَ بينَه وبين دحلان.

أمَّا رؤيةُ السنوار السياسيةُ، كما عَبّرَ عنها هو بنفسه، فهي تستند إلى الوثيقة السياسية التي تبنّتها حماس في 2017، وتدعو إلى إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ في الأراضي المحتلّة سنةَ 1967. وهو يشير إلى ذلك في أكثرِ من لقاءٍ، وإلى أن حركتَه أبدَت مرونةً كافيةً كانت تستدعي من العالم فتحَ حوارٍ مَعَها، لكن هذا العالمَ لَم يستجِبْ، على حدِّ وصفِه. ويشدِّدُ السنوار على جوانبَ أُخرى في هذه الوثيقةِ، منها العلاقةُ مع المجتمع المدنيّ، والفصائل الفلسطينية، وضرورةِ بناءِ المشروع الوطني الفلسطيني. 

مع ذلك، لا يَنتظر السنوارُ الآخَرين للوصولِ إلى الصيغة الأنسبِ للمشروع الوطني، ويطبّقُ فلسفتَه الخاصّةَ في إدارة السلطة والحكومة في غزّة بما يتناسب مع رؤيتِه الوطنية. ففي لقاءٍ صحفيٍ شهيرٍ في بداياتِ تولّيه قيادةَ غزّة في 2017، يعلنُ السنوارُ أنَّ حركتَه معنيّةٌ ببناءِ "قوّتها، ليس من أجل حكم غزّة، بل من أجل حلم التحرير". وهذا يدعو إلى تساؤلاتٍ عن توقعاته لمستقبلِ حكمِ حماسَ لغزّة أو بدائلِه في ضوءِ تداعياتِ عمليةِ السابع من أكتوبر.

وفي الوقت ذاتِه وقفَ السنوار بقوّةٍ مع مَسيراتِ العودةِ في 2018، أسلوباً "للمقاومة السلمية"، كما وصفَها هو نفسُه. وقد خرجَ على الشاشاتِ يدافعُ عن الفكرةِ، ويدعو إلى الالتفاتِ إلى "سلمية" الحراكِ الفلسطينيِّ في هذه المَسيراتِ، ورفعِ الحصارِ عن غزّة. ولكنه، كما في باقي الملفّات، يمنحُ التجاربَ فرصاً محدودةً من الوقت لاختبارِها، فقد توقّفَت هذه المظاهراتُ بعد أقلَّ من عامَيْن من بدئها في مارس 2018. فمن "المظاهرات السلمية" في 2018 و 2019 التي قُوبِلَت بالرصاص راحَ ضحيّتَها عشراتُ الشبّان وآلافُ الجرحى، يؤسِّس السنوارُ سرديةَ السابع من أكتوبر ملجأً أخيراً لا مجرّدَ خيار.

وفي تقييمِ موقعِه بين الواقعيةِ والتشدّدِ، يُظهِرُ السنوار حساسيةً أقلَّ من المصطلحات المثيرة للجدل. فطالما تجنَّبَ قياديّو حماس استخدامَ كلمةِ "سِلمية" كي لا يثيروا انطباعاً سلبياً من مواقفهم قياساً على تجربةِ فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقد كان الاستخدامُ الأكثرُ في خطابِ حماس هو "المقاومة الشعبية" أو "الشاملة"، في إشارةٍ غيرِ مباشرةٍ إلى عدمِ نفيِ المقاومة المسلحة التي لَم تُعلِنْ حماسُ أبداً التخلّيَ عنها أو حتى تقليلَ التركيز عليها من جهةِ الإعداد. 

وبالفعلِ لم تتوقّف العملياتُ العسكرية، ولم تتوقف مرونةُ خطابِ الآخَر الفلسطيني التي تبنّاها السنوار . فعقبَ الحرب الإسرائيلية سنة 2021 أُعلِنَ عن لغزِ الرقمِ 1111، الذي أثار فضولَ كثيرٍ إلى أن تبيّن أنه يشير إلى رشقةِ صواريخَ في ذكرى وفاةِ الرئيسِ الفلسطينيِّ الراحلِ ياسر عرفات "أبو عمار" في الحادي عشر من نوفمبر. وحقّقَت هذه العمليةُ هدفاً مزدوجاً هو استمرارُ المقاومةِ ورسالةُ تقرّبٍ إلى القاعدةِ الشعبيةِ لحركةِ فتح. وقد يراه بعضُهم محاكاةً لرمزيةِ عرفات في زعامتِه واحتوائِه السياسيِّ بوصفِه زعيماً تجاوَزَ تنظيمَه إلى امتداداتِ الشارعِ الفلسطينيِّ المتنوعة. والشاهدُ في رشقةِ الذكرى هذه واستدعائِه اسمَ عرفات أنّ السنوارَ لم يُقيِّد نفسَه بالمحدّداتِ البلاغيةِ للخطابِ التقليديِّ لحماس. فبين الواقعية والتشدّد يَفتحُ السنوارُ المساحةَ الأوسعَ لخطابِه وسلوكِه. فيراه من يراه واقعياً، ويراه من يراه متشدّداً، من غير أن يُخطئَ أيٌّ منهما.


تعمّقَت علاقةُ حماس بمحورِ المقاومةِ الذي تقوده إيرانُ، بعد سنواتٍ من الفتور شهدَتها العلاقاتُ، إثرَ موقفِ الحركةِ من الثورةِ السوريةِ، بين 2011 و 2016. كان خطابُ الحلفاء في المحورِ عن حدثٍ كبيرٍ قادمٍ، أو "المعركة الكبرى"، وهي بيئةٌ انبثقَت عنها فكرةُ "وحدة الساحات" بعد معركةِ سيف القدس، الاسمِ الذي تطلقُه الفصائلُ على الهجمات التي شنَّتها ردّاً على الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة في حيِّ الشيخ جرّاح بالقدس في مايو 2021. 

وقد صدرَت تصريحاتٌ تتحدَّثُ عن مناقشةِ فكرةِ الحرب الشاملة، والحربِ الإقليميةِ بِاتّخاذِها أمراً لا مفرَّ منه. منها تصريحُ الشيخِ صالح العاروري، نائبِ رئيسِ المكتبِ السياسيِّ لحركةِ حماس، قبلَ هجومِ أكتوبر بحوالي شهرٍ ونصفٍ حين قال إنَّ "المقاومة لديها الجاهزيةُ والمكوّناتُ والأسبابُ والإرادةُ والمصلحةُ في أن تكونَ هناك حربٌ إقليمية". ويبدو أن السنوار قد حَسَمَ الموعدَ. وهجومُ السابع من أكتوبر، الذي اتّخَذَ قرارَه، لا يبدو بعيداً عن فكرةِ اختصارِه المسافاتِ الوقتيّةَ، وكسرِ حاجزِ الزمنِ الذي يَحولُ بينه وبين الحدثِ المستقبليِّ الموعود.

نَقُصَ إبّانَ قيادةِ السنوارِ الإيمانُ بانفصالِ العسكريِّ عن السياسيّ. وتجلَّى هذا في وجودِ قياديِّين من القسّامِ في مكتبِه السياسيِّ مثلَ مروان عيسى، نائبِ رئيسِ الأركانِ في الكتائب. على اختلافِ رُؤى السنوار ومقاربتِه عمّا اعتادت عليه حماسُ، لا يمكن فصلُ مشروعِه عن مشروعِ حماس المرتكزِ في ماهيّتِه على مقاومةِ الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك يبدو السنوارُ كمن يسبقُ الآخَرين ميلاً أو أكثرَ.

وربما ساعدَ السنوارَ في ابتعادِه عن السياسات التقليدية للحركة في غزّة اعتمادُه المبكرُ على طواقمَ من الشباب، بغضِّ النظرِ عن خبراتهم وإرثهم في التجربة. وهو ما أثار جدلاً في قيادته، لكنه كان سلساً وسريعاً بالقدرِ الذي يكفي لئلّا يتعثّرَ به.

في النهاية لا يمكن إلا القولُ بأن السنوار سياسيٌّ واقعيٌّ في مَواطنَ، ومتشدِّدٌ في أُخرى. وهو جنديٌّ يلتزمُ الخطَّ لمن يراه كذلك، ومتمرّدٌ لمن يراه من زاويةٍ أُخرى. ومع تولّيه رئاسةَ المكتب السياسي لحماس، يدخلُ السنوارُ في اختبارِه الأكبرِ، الذي سيغدو الحكمُ عليه اليومَ سابقاً لأوانِه، ولا سيّما أنه سيقودُ الحركةَ في أكبرِ تحدّياتِها التي تمثّلَت في حربِ الاستئصالِ الحاليّةِ على غزّة.

اشترك في نشرتنا البريدية