ربما نشعر أن قصصاً مروعة مثل هذه القصة لا تتماشى مع المنطق ويصعبُ علينا التعبير عن ذلك بالكلمات. يصعب علينا أن نصف هذه الكراهية التي تحول أباً إلى ألدّ أعداء طفله من ذوي الإعاقة لدرجة القتل! إن افتقارنا للمفردات للتحقيق في ما نعرفه عن العالم يعيق فهمنا. وإذا لم نفهم ما يحدث فلن نتمكن من مواجهته. فكيف يمكننا ضمان أن لا يتعرض ذوو الإعاقة اليوم للتمييز والاضطهاد كما حصل في تلك القصص المروعة. لذلك يجب أن نبحث عن اسم لهذا التمييز بفهم جذوره، ولا يمكن فهم هذه الجذور بلا لغة. لكن اللغة نفسَها تخوننا ليس فقط في غياب المصطلح وإنما في تعريفها له، فتبني حاجزاً كبيراً بسبب كلمة "طبيعي" لنصبح سجناء افتراضات لغوية تعيقنا عن تجنب فخ كبير يصطادنا ويقيدنا في صناديق معرفية محددة، فنضع البشر في قالبين: طبيعي وغير طبيعي.
ومع غياب برامج قتل ممنهجة حالياً كالتي أدراها النازيون لذوي الإعاقة، إلا أننا ما زلنا نعاني من مفاهيم وترسبات من الأفكار والقيم والسياسات التي تتعامل معهم على أنهم أقل شأناً أو قيمة أو أهمية، أو أنهم ملزمون بالسعي الأبديّ إلى الشفاء والاقتراب قدر ما يمكن من الأشخاص "الطبيعيين". هي تلك المنظومة التي تقول عنهم: "مع الإرادة لا إعاقة"، وتنشر على مواقع التواصل الاجتماعي قصص النجاح الهوليودية الباهرة عن تحدي الإعاقة، أو ما يقابلها من نبرة المبالغة بالمحبة وبتسمية ذوي الإعاقة "بالملائكة" ليزيلوا عنهم صفة الإنسانية ببساطة.
ومع وجود المصطلح باللغة الإنجليزية ونشر بعض الأبحاث في العالم الغربي عن معناه إلا أنه ما زال عتبة لم يستطع كثير ملاحظتها حتى يتجاوزوها. وهو يشمل جملة السياسات والتصورات والأفكار والخطابات التي، سواء بوعي أو بغير وعي، تحمل تحيزاً نحو الأشخاص ذوي الإعاقة. أما في العالم العربي فالمصطلح غير موجود على حدّ علمي إلى لحظة كتابة هذا المقال. لهذا تولدت عندي رغبة عميقة في نحت مصطلح عربي مقابل كلمة "أيبيلزم" يساعد على تطوير رؤى جديدة تتحدى النماذج النمطية.
وجدت في مصطلح القُدْرَوِيّة مقابلاً عربياً مناسباً لمصطلح "أيبيلزم"، وقُدْرَوِيّ مقابلاً لمصطلح "أيبيلست" في وصف الرجل، وقدروية في وصف المرأة. اشتققت هذه المفردات من كلمة قدرة التي أعتقد أنها أفضل ما يعبر عن المعيار الذي نوظفه لتبرير إقصاء ذوي الإعاقة والاضطرابات من الفضاء العام. ستسمح لنا هذه المفردات ببناء فهم ثقافي نستطيع به أن نعاين التعقيدات والصور الذهنية التي تحوم حول معنى الإعاقة وهويتها بوضوح، وتُسهم في كشف المنظومة المعرفية والثقافية التي تبرر إقصاء المختلفين اجتماعياً وتتواطأ على ذلك.
ليست كل معرفة سهلة. إذ يصعب أن نناقش معلوماتٍ تمثل تحدياً عاطفياً أو تعقيداً أخلاقياً أو غير مريحة اجتماعياً أو بسبب غياب المفردات أو نُدرّسها أو نُوثقها أو نتداول كثيراً منها. ولهذا صاغت الباحثتان أليس بيت وديبوراه بريتزمان مصطلح "ديفيكلت نوليج" الذي ترجمته إلى "المعرفة الشاقة". وهو مفهوم يشير إلى أي معرفة صعبة الإدراك مثل الصدمة أو الظلم أو الفظائع التاريخية. تتطلب المعرفة الشاقة جهداً فكرياً لمواجهة الحقائق غير المريحة والتعامل مع تجارب إنسانية صعبة.
تركز الباحثتان على أهمية الاعتراف "بالمعرفة الشاقة" والتعامل معها جزءاً من مسؤولية تعليمية ومجتمعية أوسع لفهم أدق للعالم ولتعزيز التعاطف ومهارات التفكير النقدي. فبدلاً من مناقشة الإعاقة ذاتها يجب أن نبدأ باستكشاف القدروية بطرح مجموعة جديدة ومختلفة من الأسئلة. يسأل جيمس إل. تشيرني أحد هذه الأسئلة في كتابه "أيبيلست ريتوريك"، أي الخطاب القدروي، إذ يقول: "ما الذي يجعل الثقافة مبنية على التحيز ضد الإعاقة؟ من أين اكتسبت الثقافة المعاصرة هذه الأفكار وكيف قبلها المجتمع بأسره؟"
مع أن مَن وظّف المصطلح الإنجليري "أيبيلزم" نسويات أمريكيات في الثمانينيات إلا أن هذا التحيز المتجذر اتجاه ذوي الإعاقة المتجذر يمتد قروناً من التاريخ البشري. ففي الثقافات القديمة كان قتل الرضع ذوي الإعاقة أو التخلي عنهم شكلاً من أشكال القدروية. وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين اكتسبت حركات التحسين العرقي للبشر بالتهجين، أو اليوجينيك، شهرة في أوروبا والولايات المتحدة. كانت هذه الحركات تفضل الأفراد الأصحاء جسدياً وذهنياً وتركز عليهم بسياسات تمييزية. من أشهر هذه السياسات اعتماد برنامج "اكتيون تي 4" في قصة الصبي الذي قُتل طبيّاً بمباركة هتلر لتكون بداية الخيط للقضاء منهجياً على أكثر من مئتي ألف فرد من ذوي الإعاقة والأمراض العقلية والصفات غير المرغوب فيها.
ما زال التفكير القدروي في مجتمعاتنا الحديثة حاضراً ومسيطراً. قد لا تكون حوادث القتل شائعة حالياً، لكن ثمة حوادث نادرة ومحزنة تذكرنا بالقدروية المتجذرة والمتشعبة في أعماقنا. فقد الصبي التوحدي تيرانس كوتريل ذو الثمانية أعوام حياته سنةَ 2003 في جلسة طرد أرواح شاركت بها والدته مع القس راي هموفيل الذي كان يضع ركبته على صدر الطفل الصغير ليستخرج الشيطان منه فأزهق روح الطفل بعد ثلاثة أسابيع من تلك الجلسات المكثفة. واجه هموفيل عواقب خفيفة، إذ نال عقوبة السجن عاماً ونصف والبقاء سبع سنوات تحت إشراف الدولة وعقوبة مالية زهيدة ومنعه مؤقتاً عن إجراء جلسات طرد الأرواح حتى "إشعار آخر".
تُبرز هذه الحادثة الأليمة واقعاً مقلقاً. فكيف يمكن للأهالي في القرن الواحد والعشرين أن يشاركوا في قتل طفل من ذوي الإعاقة والاضطرابات. ففي سنة 2022 قتلت أمٌّ مصرية ابنها التوحدي ثم حاولت الانتحار، وقد نقل موقع الغد في تقرير: "قضية هزت مصر.. الأم قتلت أبناءها وحاولت الانتحار". فهل يمكننا أن نأمل أن لا تكرر هذه في الأعوام القادمة، وهل يمكننا أن نتوقف عن التعامل مع الإعاقة على أنها قضية ناعمة سهلة يحاول أصحاب القلوب الكبيرة أن يتصدروا بها بعضَ المشاريع الخيرية ليشعروا بتفوقهم الأخلاقي و إنسانيتهم. إن النظر في هذه المشكلات يحدد مسؤوليتنا في إعادة تقييم تصوراتنا ومؤسساتنا وسياساتنا وثقافاتنا. علينا أن نجد الطرق للإطاحة بعرش القدروية الذي نتربع فوقه، وعلينا أن نعيد بناء فهم جديد يتجاوز برمجة العقل الباطن المستمر في تهميش الأفراد من ذوي الإعاقة واستبعادهم.
عاش مجتمع الصم في الولايات المتحدة بداية القرن التاسع عشر فترة ذهبية، إذ اهتمَّ مسؤولو مناهج التربية بتدريس الأطفال ذوي الإعاقة السمعية فطوّروا لغة الإشارة الأمريكية. وهذه اللغة مزيج من لغة الإشارة الفرنسية ولغات الصم الأمريكية الأصلية ولهجة الإشارة من جزيرة مارثا فينيارد الأمريكية، حيث كان الصمم متوارثاً بكثرة بين سكان الجزيرة. لم تدم هذه الفترة طويلاً، إذ قاد مخترع جهاز الهاتف الكندي الأمريكي ألكسندرغراهام بيل، وبدعم من رجل الأعمال الأمريكي ومخترع المصباح الكهربائي توماس أديسون، حركة الشفاهية. أدت هذه الحركة إلى قمع لغة الإشارة والتركيز على التواصل الشفهي. فصار أولياء الأمور حريصين على أن يندمج أطفالهم الصم في "العالم الحقيقي"، فأخضعوا أطفالهم لتدريبات مكثفة تمتد ساعات طويلة شملت تدريبات على تحريك اللسان ومسك وجوه الأطفال والضغط عليها حتى يتعلموا طريقة تحريك الوجه للنطق بكلمة معينة. آلاف الساعات هُدرت ليكبر هؤلاء الأطفال غير قادرين على لفظ الكلمات كما يقولها الأشخاص الذين يسمعون. فلا هم استطاعوا التواصل بالنطق، ولا هم تعلموا لغة الإشارة التي حُرموا منها.
لا يسعني وأنا أكتب هذه السطور إلا أن أفكر في مجتمع التوحد وكم من الآباء والأمهات يُنصحون بتدخل مبكر مكثف لينقذوا أطفالهم مما يسميه كثيرون براثن وحش التوحد. وسبب هذا رغبتهم الدفينة في منح أطفالهم هدية الانتماء إلى "العالم الحقيقي". وكما حدث للأطفال الصم يضع الأهالي اليوم أطفالهم في جلسات تدّخل مكثفة لتدريبهم على النطق بكلمات مقابل مكافأة معينة بدلاً من محاولة تعليمهم التواصل بطرق لا تنطوي فقط على النطق.
قد لا تكون مقارنة عالم التوحد وعالم الصم وباقي الإعاقات هي الجانب الأوحد، بل هناك جانب آخر يتعلق بطريقتنا في التفكير بالطب. فالأغلبية ينتظرون أن يصل الطب إلى الحل السحري، ويتبادلون آخر الأخبار الطبية عن الاكتشافات والأبحاث التي تبدأ بأسباب إعاقة طفلهم وتنتهي عند إمكانية الشفاء مروراً بمحاولات عدّة لمساعدتهم على الاقتراب مما يُسمى حالاً "طبيعيةً". ولكن في عالم التوحد مثلاً لم يقدم الطب حتی الآن ما يتوق له كثيرٌ من الأهالي وهو الشفاء من التوحد. في المقابل قدّم الطب إلى مجتمع الصم وأهاليهم اختراع الغرسة القوقعية التي توصل إشارات صوتية إلى العصب السمعي. ولكن هل عدّها مجتمع الصم الشفاء الذي حرموا منه أم لا.
رحلة زراعة القوقعة مليئة بالتعقيدات. فالأصوات التي يسمعها الشخص بعد العلاج ليست كالتي يسمعها مَن ليس عنده إعاقة سمعية. تشير الدراسات أيضاً إلى أن طفلاً واحداً من بين كل أربعة أطفال تُزرع له قوقعة يعاني من مضاعفات قد يختفي معظمها تلقائياً، ولكن قد يتطلب بعضها إجراء عملية جراحية إضافية. قد يعاني بعض الأشخاص من شلل الوجه وقد تتأثر الغرسات مع بعض الاختبارات التشخيصية، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي، فتدمر كل ما تبقى من السمع. الإعاقة السمعية لا تعني عدم سماع أي صوت البتة، وتتراوح درجات فقدان حاسة السمع، فبعض الأشخاص قد يسمعون بعض الأصوات العالية أو الحادة ولكن مع الغرسة القوقعية تتلف أي قدرة على سماعها.
يُشجَّع على الغرسة مع أن خيار زراعة القوقعة ينطوي على التزام طويل الأمد أو مدى الحياة على تدريبات سمعية، ومتابعة إعادة تأهيل اكتساب مهارات اللغة المنطوقة والبصرية، وربما إجراءات طبية إضافية. فزراعة الغرسة القوقعية الصناعية ليست علاجاً للصمم بل تدخل طبي ليتواصل الأصم بطريقة القادرين على السمع. ولذا فهناك جدل كبير في الموضوع وأسئلة مهمة تواجه مجتمع الصم، أسئلة عن الحفاظ على هوية ثقافة مجتمعهم والحفاظ على لغة الإشارة وتعليمها ونشرها مقابل الانضمام إلى العالم "الطبيعي".
تحلل سارة شيني أصول مفهوم "العادي" بدقة في كتابها "آم آي نورمال؟"، أو "هل أنا عادية؟". تغوص الكاتبة في الجذور التاريخية وتطور فهم المجتمع لما يعد معياراً أو نموذجاً لما هو عادي. تسرد تشيني قصة عالم الفلك والرياضيات البلجيكي أدولف كويتيليت الذي طبّق منحنى أخطاء الفلك لتحديد مواقع النجوم لقياس الأبعاد المتوسطة لجسم الإنسان وتقديرها. طورت أبحاث كويتيليت في وقت لاحق مؤشر كتلة الجسم، وهو مقياس يستخدم على نطاق واسع لتقييم وزن الجسم بالنسبة للطول. ومع عدم مراعاته عوامل كثيرة، مثل كتلة العضلات أو الدهون أو العِرق أو متغيرات أخرى. وتظهر آثاره بوضوح على التقييم المعاصر لمعايير جسد الإنسان. استعمل كوتليت منحى بيانياً بسيطاً صَقَلَ فهمنا وتقديرنا للبنية، ولغياب قياس مطلق، اعتُمد على المتوسطات المستمدة من أشيع المقاسات في السكان. فأصبح رقم القياس المتوسط "العادي" هو المثالي. أما الأفراد من خارج هذا البيان فقد صُنفوا أخطاء وانحرافات عن المثالي والمتوسط والطبيعي. أي برسم بياني صغير وقع ملايين البشر خارجه، وبدأ الهوس العلمي بوصف "العادي" في جسم الإنسان.
مرت الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك، وتحديداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بحقبة زمنية أراد الجميع فيها أن يشعروا بأن حياتهم لا تختلف عن باقي المجتمعات التي لم تخض الحرب. كانوا يبحثون عن شعور الحياة "العادية"، لأنهم يتوقون إلى حياة "نموذجية" و"مثالية" تحاكي أنماط الحياة الاجتماعية التقليدية. هيمن الشعور بضرورة الامتثال لنمطية معينة وعدم الخروج عمّا هو "عادي" في جوانب الحياة كلها. ولذلك شُجّع توزيع الأدوار التقليدية على الرجال والنساء، وفي الوقت ذاته تأججت وصمة العار من الإعاقة وخصوصاً الاضطرابات النفسية. حتى استُعمل حينها مصطلح "شيل شوك"، أي "صدمة القصف" للجنود المكتئبين العائدين من الحرب بدلاً من استخدام مفردات مثل اكتئاب أو انهيار نفسي. يبدو مصطلح "صدمة القصف" آنياً وبطولياً وقوياً أمام كلمة انهيار أو اكتئاب. واللافت أن النساء شُخِّصْنَ بالهستيريا لأكثر من أربعة آلاف سنة بدلاً من التشخيص بالقلق أو الاكتئاب. بنظرة سريعة إلى تاريخ الإعاقة والأمراض والاضطرابات فمن المستحيل أن لا نلاحظ التقاطعات المدهشة بين كل هذه الهويات وكيف تؤثر على لغتنا وتقييمنا.
إذن، انتقل الهوس بما هو "عادي" إلى الثقافة الشعبية. فقد جمع الدكتور روبرت لاتو ديكنسون والفنان أبرام بيلسكي سنةَ 1945 القياسات الإحصائية المتوسطة لـخمسة عشر ألف رجل وامرأة من العرق الأبيض تتراوح أعمارهم بين الحادي والعشرين والخامسة والعشرين لإنشاء التمثالين المعروفين باسم "نورما" و"نورمان". السيدة نورما والسيد نورمان تحولا إلى أيقونة مفهوم الجسد المثالي. ومن المفارقات أن هذه التماثيل كانت غير متناسبة، وذات أيدٍ كبيرة وأطراف طويلة، وعندما حاولوا البحث عن رجال ونساء يتطابقون مع التمثالين المذكورين، لم يكن أي شخص عنده مقاسات مطابقة لمقاسات السيد التمثال "عادي" والسيدة التمثالة "عادية".
فندرك من ذلك أن الشخص الطبيعي لا يعني بالضرورة أنه شخص عادي. بل قد يكون خارج المنحنى البياني كله. ومع ذلك فقد رسخت هذه التماثيل الأساس لتعميم مصطلح "نورمال" في الغرب، مما يشير ضمنياً إلى مفارقة، إذ إن الطبيعي المثالي هو أن تكون "متوسط". وقد حدا هذا المفهوم بمزيد من الباحثين إلى التعمق في معنى "المتوسط الطبيعي والعادي". ولكن كانت هذه الدراسات تركز دائماً على عينات من الرجال البيض المتعلمين فقط. ومما يستحق الذكر أيضاً أن هذه القياسات والنسب المتوسطية الطبيعية قد خدمت الرأسمالية كثيراً. الاعتماد علی توحيد المنتجات استناداً إلى أساس متوسط الأحجام أسهم بإنتاج أكبر لكثير من السلع، بداية من مقاعد السيارات ونهاية بالقبعات. بالمناسبة يصعب عليّ العثور على قبعة تناسب حجم رأسي، ويحرجني ذلك كثيراً عند تجربة القبعات في المتاجر، لذلك لجأت إلى قبعات الرجال. أنا امرأة قياس رأسها أكبر من معظم النساء. وبهذا انحرفت عن المنحنى وسقطت خارجه مما يجعلني امرأة ذات رأس غير "عادي". ولكنني أؤكد إذا رأيتني لن يخطر على بالك أنني مخلوق فضائي بل أبدو "طبيعية" جداً.
أرجو التنبه إلى كيف يستخدم الناسُ ذوي الإعاقة كثيراً في سياقات مثل هذه متناسين معظم الوقت أن الإنسان يحمل قيمة لمجرد أنه إنسان. هناك آية في القرآن الكريم تقول: "وَلَقَد كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُم فِي البرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقْنَا تَفْضِيلا". علل مفسرون مثل البغوي والواحدي التكريم بقدرتنا على التفكير أو على النطق، ولكنني لا أرى ذلك في الآية. أرى فقط أن جميع البشر مكرمون بغض النظر عن قدراتهم.
استند هذا النص إلى مراجع من الأبحاث والتاريخ الغربي. وقد أشرت قبلاً أن علم دراسات الإعاقة لا يزال في مراحل مبكرة في الغرب. ولولا السير الذاتية التي قرأتها وبعض الكتب التي ناقشت معنى الإعاقة وأبعادها وتاريخها لاستمرَّ اعتقادي بأن الطب والتقدم العلمي يسعيان إلى تقديم الأفضل لذوي الإعاقة وتحسين وضعهم. ولكنني بدأت أدرك عمق تجذّر الطب والبحث العلمي تاريخياً في القدروية، وأن طريقنا طويلة أفراداً ومجتمعات لتفكيك كثيرٍ من تلك الأوزار الاجتماعية المرتبطة بمفهوم ما هو "طبيعي"، الذي لا يعني سوى العادي. الخطوة الأولى هي تسمية الأشياء، كما يقول باولو فريري خبير التربية والتعليم البرازيلي. لذا أقدّم اليوم للقراء مصطلح "القدروية" أداة لإعادة الحوار مع تراثنا وتراكماتنا المعرفية العربية، والاعتراف بتأثير القدروية المستمر على صياغة ثقافتنا ومجتمعنا وقيمنا.
نحن مجتمعات ما زالت تخوض حروباً وتعاني من دكتاتوريات واحتلال ينتج كثيراً من الإعاقات الصحية والنفسية وفقدان الحواس والأطراف. الإعاقة ليست حالة طبية فقط، بل هوية ثقافية وسياسية لها تاريخها وشعورها بذاتها وانتمائها ونضالاتها ولها تجاربها وآراؤها الفريدة وإسهاماتها. ولهذا نحن بأشدّ الحاجة لإعادة التفكير في مفاهيم الإعاقة. هناك ضرورة ملحة في هذه اللحظات الصعبة لبدء رحلة معرفية جديدة إلى مجتمع أشد وعياً وإدراكاً يحترم مفهوم كرامة الإنسان ويتضامن معه.