ثلاثية الهوية الأردنية وعقدة التوفيق

ما بين العشائري والفلسطيني والهاشمي، يبحث الأردن عن هوية شاملة

Share
ثلاثية الهوية الأردنية وعقدة التوفيق
العلم الأردني بين جدران السيق في البتراء، الأردن / خدمة صور غيتي

حضرت مباراة كرة قدم بين ناديي الفيصلي والوحدات في ملعب الحسن بمدينة إربد شمال العاصمة الأردنية عمّان منذ عقدٍ ونيف في سنواتي الجامعية الأولى. يمثل الفيصلي الهوية الوطنية الأردنية بمفهومها الواسع وينتمي مشجعوه إلى الشرق الأردني. بينما يمثل الوحدات الهوية الفلسطينية في الأردن، لا سيما قاطنو مخيم الوحدات بالعاصمة عمّان. كان كلُّ لون من ألوان قمصان الفريقين وكل لافتة وكل هتاف صدحت به الجماهير في المدرجات مرة للملك ومرة لفلسطين إعلاناً عن الهوية التي تجمع الأردنيين وتفرقهم في آنٍ. 

تنسج هذه الهوية خيوطها بين ما هو شرقي وغربي، وتتردد أصداؤها في كل زاوية من زوايا المملكة. تعمّقت الهوية تحت وطأة أحداث أيلول الأسود الدموية سنةَ 1970 بين الدولة الأردنية والفصائل الفلسطينية، ثم ترسخَّت سنةَ 1988 بفك الملك حسين الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية وتوقيع اتفاق وادي عربة مع إسرائيل بعد ذلك بست سنوات. 

أنتجت هذه الانتماءات والولاءات المعقدة في المجتمع الأردني ما أسميه بمثلث تحديات في تعريف الهوية الوطنية. أضلاع هذا المثلث هي العشائر التي كانت إحدى اللبنات الأساسية في نظام الولاءات منذ تأسيس المملكة، والمكوّن الفلسطيني بشقيه المجنسين أردنياً ومن ظلّوا لاجئين، والنظام الهاشمي في أعلى السلطة. تضع هذه المكونات الدولة أمام تحدي التوفيق بينها في إطار هوية أردنية جامعة.


مثلثُ الهوية نتاجُ سلسلة من تطورات اجتماعية وسياسية سبقت تأسيس المملكة واستمرّت حتى اليوم. لم ترتكز الهوية في الأردن بدايةً على كيان سياسي بمعنى الدولة، بل على أساس عشائري أو طائفي أو مناطقي ضيّق كالقرية. في ظلِّ الحكم العثماني لم يكن هناك وحدة إدارية مستقلة تسمى الأردن. إنما نشأت الأردن دولةً حديثة من رحم الاتفاقيات الدولية والتقسيمات الاستعمارية السائدة بعد الحرب العالمية الأولى، لا سيما في زمن الانتداب البريطاني، إذ كانت الهوية الوطنية تُبنى بتوجيهات وضغوط خارجية. منحت بريطانيا شرق الأردن استقلالاً جزئياً في مايو 1923 تحت حكم الأمير عبد الله بن الحسين، وأبقت الشؤون المالية والعسكرية والسياسة الخارجية في إمرتها. احتفظت العشائر بنفوذ كبير في العلاقات المعقدة مع السلطة الحاكمة، وأسهمت في ترسيخ نمط الحكم الجامع بين الاستبداد السياسي والرعاية الاجتماعية، فنشأت هوية وطنية تعتمد على الولاءات القبلية.

تشكلت ملامح التعبير عن الهوية الأردنية زمنَ الإمارة التي امتدت من سنة 1921 حتى الاستقلال سنة 1946، لا سيما بعد عقد المؤتمر الوطني الأول سنةَ 1928 الذي نادى بالاستقلال وعدَّ نفسه "ممثلاً شرعياً للشعب الأردني". مع هذا تشكَّلت في الإقليم الأردني تلك الحقبة ثمانيَ عشرة حكومةً رَأَسَهَا ثلاثةُ سوريين وثلاثةُ فلسطينيين ولبناني وحجازي. لم يشغل المنصب أي رئيس من شرق الأردن. 

شهد الأردن ما بين سنتي 1956 و 1975 تحولاتٍ اجتماعيةً وسياسية مهمة أثّرت في بنية العشائر والهوية الوطنية. أهمها نكسة حزيران 1967 التي نتج منها النزوح الفلسطيني الكبير إلى الأردن المغيّر التركيبةَ السكانية جذرياً. بدأت تتشكل الهوية الوطنية الفلسطينية بمعناها السياسي، وفي قلب هذا التغير منظمة التحرير الفلسطينية التي رفعت شعارات التحرير ورفضت الوصاية والتبعية طلباً لاستقلال القرار الفلسطيني. أضعفت القومية الفلسطينية الهويةَ الأردنية الصافية فأصبحت هذه الهوية مزيجاً من هويات أخرى. وصار الفلسطينيون بهذا المنظور مصدرَ اضطرابٍ في الدولة.

لم تكن العشائر وقتئذٍ وحدات اجتماعية تقليدية بل شريكاً في السلطة وصناعة القرار وتأمين الحماية لأفرادها، مما أثَّر في ترسيخ الهوية الوطنية المتّسمة بالولاء والتضامن. تفاعلت العشائر مع الفلسطينيين دمجاً أو تمييزاً، وأثر كل منهما في هوية الآخر الثقافية والاجتماعية. إلا أن نكسة 1967 أسهمت في تعميق الهوية الأردنية وتمييزها عن الهوية الفلسطينية والعربية. وفي سبتمبر 1970 شهد الأردن فصلاً تاريخياً دامياً هو "أيلول الأسود" أو "حرب أيلول" بين النظام الأردني والفصائل الفلسطينية. وتشير بعض النظريات إلى أنَّ أحدَ أسبابها محاولاتُ هذه الفصائل الفلسطينية الإطاحة بالملك حسين. سعت الدولة عقب تلك الأحداث إلى صياغة الهوية الوطنية الأردنية على أساس القبيلة وقيمها والولاء للنظام السياسي الهاشمي.

سعياً إلى تحقيق التنمية والاستقرار في السبعينيات وجد الأردن في الفلسطينيين شركاء في النمو الاقتصادي والثقافي. فقد استمرت العشائر الأردنية في تأدية دور الوسيط الاجتماعي والثقافي، فتعايشت مع الفلسطينيين في مجتمعات مختلطة تحتفي بالتنوع وتواجه التحديات معاً. هذه التفاعلات لم تكن دائماً سلسة، فقد شابتها تحديات الموارد والهوية والانتماء. تحدثت عن هذه التفاعلات مع باحثة من أصول شرق أردنية، وكغيرها فضلت عدم ذكر اسمها لحساسية الحديث عن الهوية، فعلقت بقولها: "إن كثيراً من العائلات الفلسطينية والأردنية، مع الروابط الزوجية بينهم، إلا أنها كانت وما تزال ترفض التصاهر بسبب الأصول التي ينتمي إليها الفرد". أشارت الباحثة إلى أن بعض العائلات الفلسطينية "ما زالت تعارض فكرة التصاهر مع الأردنيين بناءً على الأصول التي ينحدرون منها، وبالمثل، يُظهر الأردنيون تحفظات مماثلة على الفلسطينيين".

أعلن الملك حسين في يوليو 1988 فكَّ الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية، فتعمّق الانقسام بين الأردنيين من أصول شرق أردنية ومن أصول فلسطينية. شعر الفلسطينيون في الأردن بفقدان جزء من هويتهم السياسية والوطنية، إذ سحبت الحكومة الأردنية الجنسية الأردنية من الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية ووضعتهم في إدارة منظمة التحرير في ظل الاحتلال الإسرائيلي. تبع ذلك عودة عشرات آلاف الفلسطينيين من دول الخليج إلى الضفة الشرقية بعدما طُردوا منها في حرب الخليج الثانية.

أضافت اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل سنةَ 1994 بعداً آخر إلى تعقيدات الهوية في الأردن. فقد كانت أوَّلَ وثيقة سياسية يوقِّعُ عليها الأردن ويقر بتوطين مليونين من مواطنيه من أصول فلسطينية لا بتنفيذ حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. مما يعني بقاء الوجود الفلسطيني في الهوية الأردنية قضية معلقة حتى الوصول إلى حلٍّ نهائي مع إسرائيل يؤدي إلى عودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية.

عادت مسألة الهوية سنة 1999 بعد تسلم الملك عبد الله الثاني مقاليد الحكم، أطلق الملك بعدها مبادرات عدة لتعزيز الهوية الوطنية، ومنها مبادرة الإصلاح والتحديث. وبما أن الهوية الوطنية مدخلٌ للانخراط في العمل السياسي، فقد طالب الأردنيون من أصول فلسطينية بتمثيل عادل لهم في مؤسسات الدولة كالعشائر الشرق أردنية. جاءت الانتفاضة الثانية سنةَ 2000 لتعم الأردن اضطرابات ومظاهرات طالبت بإغلاق السفارة الإسرائيلية وإلغاء اتفاقية وادي عربة. وهو أمر تكرر مراراً لا سيما في حرب غزة الحالية. بهذا بات مفهوم الهوية القومية في عيون بعضهم مرتبطاً بمفهوم الأمن، أي الأردن أولاً وما بعده ثانوي.

برزت هذه التراكمات في التاريخ الأردني الحديث مثلث تحديات في تعريف الهوية الوطنية بأضلاعٍ ثلاثة: العشائر والمكوّن الفلسطيني والنظام الهاشمي. تتداخل هذه المكونات وتتفاعل مع بعضها سلباً أو إيجاباً خلاف ما هو شائع من أن الأردن متجانسٌ كلّه.


أما العشائرُ ضلع المثلث الأول فهي في الأردن جزء من التركيبة السكانية للبلاد ومؤسسات حيوية تؤثر في السياسة والمجتمع. يتجلى دورها في النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كانت القبائل في شرق الأردن من المؤيدين الأوفياء للنظام الملكي الهاشمي. وينبع ولاؤهم من مزيج معقد من المصالح التاريخية والتحالفات السياسية والمنافع الاجتماعية المستمدة من علاقتهم بالدولة. فقد اتبع الأمير عبد الله الأول بن الحسين في سعيه إلى إنشاء سلطة مركزية سياسةَ احتواء زعماء العشائر وإرضائهم، فمنحهم امتيازات مثل الرتب والمراكز والأراضي وأغدق عليهم المنح والعطايا. دُمجت القبائل في هياكل الدولة العسكرية والبيروقراطية منذ فترة تأسيس الإمارة في العشرينيات. واعتمد النظام الملكي في الخمسينيات والستينيات على دعم العشائر في مواجهة التحديات السياسية الداخلية والخارجية، مثل التهديدات الناصرية والبعثية. نحا النظام الهاشمي حينئذٍ نحوَ الأمير عبد الله فمنح المناصب الحكومية والامتيازات الاقتصادية لأعضاء العشائر المؤيدين، مما عزز ولاءهم ودعمهم. لقد ضمن هذا الأسلوب قاعدة دعم مستقرة للنظام الملكي، ولكنه أدى إلى نظام سياسي تؤثر فيه الانتماءات والتقاليد القبلية على السلطة السياسية فانعكس ذلك على التمثيل السياسي وتوزيع الموارد. تشمل هذه التقاليد الولاء للعشيرة، إذ تُحل النزاعات والخلافات بين أفراد العشيرة داخلياً بمجالس الصلح. ويعمل زعماء العشائر وسطاء بين الدولة والمجتمعات المحلية، مما يوفر شبكات دعم وانتماء تعزز الهوية العشائرية التي غالباً ما تسبق الجدارة أو الانتماء الوطني.


في الضلع الثاني للمثلث يظهر الوجود الفلسطيني معضلةً في تشكيل الهوية الأردنية الجامعة. يشكل الفلسطينيون الآن نسبة كبيرة من سكان الأردن، ما بين حاصلين على الجنسية الأردنية أو الجوازات المؤقتة أو المسجَّلين لاجئين في الأونروا ويقدَّرُ عددهم 2.2 مليوناً في 2023 كما ورد في بيانات المنظمة الدولية. تُقدِّر بعض المصادر الرسمية هذه النسبة بين 40 في المئة إلى 60 في المئة، وذكرت مصادر بأنها تصل إلى 70 في المئة من مجموع السكان. هذه النسبة أتت للتدفقات السكانية الكبيرة سنتي 1948 و 1967، أي النكبة والنكسة. مع اندماج غالبية الفلسطينيين في المجتمع الأردني إلا أنهم يواجهون أحياناً عوائق في المؤسسات والمجتمع تحد من فرصهم الاقتصادية وتمثيلهم السياسي. فالفلسطينيون الذين لا يحملون الجنسية الأردنية يواجهون تحديات جمة في الحصول على وظائف أو في المشاركة السياسية، خصوصاً أولئك الذين يعيشون في المخيمات. لكن تبقى الحقيقة أن تأثير الفلسطينيين متجذر بمختلف جوانب الحياة في المجتمع الأردني. فقد وجدت دراسةٌ سنةَ 2004 ناقشت العلاقة بين الاقتصاد والبعد السكاني في الأردن أن عصب خمسمئة شركة في الأردن رجال أعمال من أصول فلسطينية، وتحديداً في قطاعي العقار وسوق المال. منهم من نُسبت إليه المساهمة في بناء الأردن، مثل مؤسسة طلال أبو غزالة والبنك العربي. ومع غياب أرقام دقيقة لحجم استثمارات هؤلاء وثرواتهم، إلا أنها تقدر بمليارات الدولارات. ولهم دور في الحراك الثقافي والفني في البلد، وغالباً ما يُصوَّرون فلاحين في السرديات الشعبية والسياسية رمزاً إلى ارتباطهم بالأرض ونضالهم من أجلها.

 يعلق دكتور أردني تحدثنا معه على هذه السرديات فيقول إنها "تشكّل مفهوماً خطأ عن المجتمع الفلسطيني، تُوضع دائما في مواجهة الصورة النمطية المضادة للمجتمع الأردني الذي يُصوَّر على أنه حصرياً بدوي، يضفي الطابع الرومانسي على الثقافة البدوية في تشكيل سردية الهوية الأردنية التي تميز نفسها عن الهوية الفلسطينية. هذه المقاربة خاطئة تماماً أيضاً لأن جزءا من مكوّن المجتمع الشرق أردني يأتي من أبناء الأرياف كذلك".


تبرز في النظام الهاشمي، الضلع الأخير من المثلث، معضلةُ الولاء الشعبي للنظام ولا سيما الفلسطينيين. يتجاوز النظام الهاشمي التواصل المباشر مع الشعب الأردني أفراداً ومجموعات إلى استمالة الرأي العام وكسب الشعور الشعبي وفرض نوع من المصالحة القسرية مع القوى الفاعلة في الدولة. وعن هذا يقول باحث آخر: "يتشكل جزء من القوى الفاعلة داخل الأردن من الأحزاب والنقابات التي لديها مستوى محدد من المصالح وتبادل للحماية مع الدولة، وفسادها لا يقل عن الفساد في الدولة نفسها، بغض النظر عن أصول الأفراد المنتمين إليها".

ويرى النظام الهاشمي أن سرديات "الأغلبية الفلسطينية" محاولة لتقويض الدولة الأردنية واستقرار نظامها السياسي، وقد تقود إلى زعزعة شرعية النظام المستِمدّ جزءاً منها من دعم القبائل الأردنية الأصلية. وقد تهدف السردية إلى تعزيز مطالب الفلسطينيين بزيادة التمثيل السياسي والاقتصادي، مما قد يخل في تركيبة النخب السياسية والاقتصادية القائمة.

يسود شعور بين كثير من الشرق أردنيين بأن الهوية الهاشمية همشت هويتهم الوطنية والسياسية وتجاهلتها. فهذه الهوية بمنظورهم تغلّب المصالح الهاشمية على الوطنية الأردنية، وفيها تصبح هوية الهاشميين مرادفة لهوية الدولة الأردنية نفسها. مما يعني أن الأردن يُرى كياناً لا يمكن فصله عن العائلة الهاشمية، فتاريخ الهاشميين وإنجازاتهم يشكلان الأساس الشرعي للدولة. ويشعرون أيضاً أن ضياع هويتهم الوطنية والسياسية وإساءة فهمها جعلهم يبدون داعمين للهاشميين في الإعلام والمنابر الاجتماعية الداخلية والخارجية بدلاً من أن يكونوا مشاركين فاعلين في صياغة هويتهم الوطنية المستقلة.

وهنا يعلّق الباحث المذكور آنفاً: "التركيز على الهوية الهاشمية يُشعر بعض الأردنيين بأن هوياتهم غير ممثلة تمثيلاً كاملاً في السرد الوطني، الذي يُنظر إليه على أنه صيغ حول شرعية وتاريخ العائلة المالكة بدلاً من التاريخ والهوية الجماعية للشعب الأردني، ونرى ذلك في كل الأغاني الوطنية على سبيل المثال أو السلام الملكي".

يظهر جانبٌ من الاستياء الشعبي بالهجوم على النظام وانتقاده، إلا أنه يبدو دعوة إلى تأكيد انفصال الهويات لا تعبيراً عن رغبة في إسقاط النظام فقط. من أدوات التعبير عن الاستياء: الاستعانةُ برموز الهوية الشرق أردنية مثل رئيس الوزراء السابق وصفي التل، المعروف بوطنيته والتزامه بخدمة الأردن والأردنيين وقربه من القضية الفلسطينية، وصياغة شعارات مثل: "ديرتنا الأردنية قبل الثورة العربية" وشعار "الله، الأردن، القدس عربية".


التحدي الأكبر للدولة مع تداخل أضلاع المثلث الهوياتي وتفاعل مكوناته هو التوفيق بين هذه الأضلاع مع الحفاظ على الشرعية الهاشمية. إلا أن المهمة ليست هينة فالواقع فيه تباينات مع زعم قوى المجتمع الداخلي من سياسيين وأعضاء نقابات وغيرهم بالتساوي القانوني بين الأفراد جميعهم بالمواطنة. في بعض الحالات يواجه الفلسطينيون في الأردن تحديات الحصول على الجنسية أو سحب الأرقام الوطنية أو الخدمات المدنية منهم مقارنةً بالمواطنين الأردنيين من أصل عشائري. وبين سنتي 2004 و 2008 سُحبت الجنسية الأردنية من أكثر من ألفين وسبعمئة إنسان من أصول فلسطينية، كما أوردت منظمة هيومن رايتس ووتش. وحال فلسطينيي غزة أصعب لأنهم لم يحصلوا قط على الجنسية الأردنية بعد عقود من إقامتهم في المملكة. ومع اندماج عدد من الأردنيين من أصول فلسطينية في المجتمع الأردني تظل مسألة الهوية عندهم مرتبطة بالقضية الفلسطينية. في أحداث مثل ذكرى النكبة أو النكسة يُظهرون تضامناً كبيراً مع فلسطين، فينظّمون مسيرات وفعاليات تذكارية تعبر عن الهوية الفلسطينية والتمسك بحقوقهم التاريخية والوطنية. 

ويشير أكاديمي أردني إلى أن "التفاوت في الوصول إلى الموارد والفرص الاقتصادية بين المجموعات الشرق أردنية والفلسطينية يسهم في تفاقم التوترات الاجتماعية. يرى الفلسطينيون في الأردن أنهم يُمثَّلون تمثيلاً ناقصاً في الهياكل السياسية ويُقصَون عن الفرص الاقتصادية المتاحة. بينما يشعر الأردنيون من أصل شرقي بضرورة الحفاظ على هويتهم في مواجهة ما يعدونه تضخماً للذات الفلسطينية، سواء داخل الأردن أو خارجه، التي تجد تعبيرها القوي في منابر المعارضة".

وتزيد علاقةُ العشائر المتضاربة أحياناً مع الهوية الفلسطينية تعقيدَ محاولات التوفيق. فالعشائر تدعم المطالب الفلسطينية من جهة، خصوصاً ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل احتجاجات "حراك الرابع" سنة 2018 الذي تبلورت حراكاً اجتماعياً مشتركاً رافضاً قانونَ ضريبة الدخل الجديد حينئذ ومقروناً بمطالبات لتحسين الظروف المعيشية والمساواة في الحقوق الاقتصادية. ومن جهة أخرى قد تميل العشائر إلى تأييد السياسات الحكومية التي قد تتعارض مع مصالح الفلسطينيين في الأردن، لا سيما بالمشاركة السياسية.

يؤدي النظام الأردني دوراً كبيراً في توجيه تفاعلات العشائر مع الهوية الفلسطينية وتشكيلها، ويستعملها لتنفيذ سياساته بالتمثيل السياسي أو بالدعم الاقتصادي. يضمن النظام الانتخابي الأردني تمثيلاً واسعاً للعشائر لا سيما في المناطق الريفية والبدوية. ورد في دراسة عن الانتخابات النيابية الأردنية سنة 2020 أن 64 في المئة من مقاعد مجلس النواب يسيطر عليها مرشحون يعتمدون على الدعم العشائري. يُنظر إلى النواب العشائريين على أنهم حلفاء الحكومة، وبهم تمتلك الحكومة قاعدة دعم متينة في مجلس النواب. وتفضّل السياسات الحكومية أحياناً الأردنيين "الأصليين" على الفلسطينيين في الوظائف الأمنية، مما يزيد التوتر وشعور الفلسطينيين بالإقصاء أو تهميش مطالبهم إذا كانت تتعارض مع الأهداف الأمنية أو السياسية للنظام، كالقيود على تملّك الفلسطينيين الأراضيَ والعقارات في بعض المناطق. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى حكوماتٍ سابقة شهدت تعيينات تُبرز هذا النمط، مثل حكومة عبد الرؤوف الروابدة وحكومة سمير الرفاعي، إذ اختير عددٌ كبير من الوزراء بناءً على خلفياتهم العشائرية. 

تقول باحثة من أصول فلسطينية عن ذلك: "المناصب السياسية في الأردن، تُدار غالبًا وفق توازنات عشائرية ومناطقية بدلاً من معايير الكفاءة المهنية. يبرز هذا التوجه بوضوح من قوائم رؤساء الوزراء، فيغلب الطابع العشائري والشرق أردني على الاختيارات لضمان التوازن والاستقرار الاجتماعي، وهذا التوجه ليس محصورًا فقط في منصب رئيس الوزراء، بل يمتد أيضًا إلى التعيينات الوزارية الأخرى، فالغالبية من الشرق أردنيين".

هنا يمكن تصور الهوية عنصراً ثقافياً أو اجتماعياً وأداةً تفاوضية في آن تُستعمل في الساحة السياسية. يدرك النظام الهاشمي أن الفلسطينيين في الأردن جزء من شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تتشابك مع النسيج الواسع للدولة الأردنية. يمكن للفلسطينيين بالتلاعب بعناصر هويتهم التأثير في السياسات الحكومية والعلاقات الخارجية، خصوصاً المفاوضات مع إسرائيل أو دعم قضيتهم على المستوى الدولي. وبصفتهم جزءاً كبيراً من القوى العاملة يؤثرون في السياسات الاقتصادية والاجتماعية في الأردن، فإن استقرار هذه الجماعات يُعدُّ دلالةً مهمةً على استقرار الدولة الأردنية كلها.


منذ العهد العثماني حتى اليوم مرت الأردن بمحطات تاريخية فارقة، تخللتها تغيرات اجتماعية وسياسية شكّلت هوية المملكة. وبينما يتجانس ظاهر هذه الهوية، يزخر باطنها بالتنوع في الانتماءات والتقسيمات بين مكونات المجتمع الأردني. أهمها البعد العشائري والوجود الفلسطيني، وبينهما النظام الهاشمي. تتكامل أضلاع الهوية الثلاثة هذه وتتنافر أحياناً، وخلف هذا كله يكمن سؤال التوفيق بين هذه المكونات وقدرة الدولة على الجمع بينها في هوية جامعة وشاملة. الدولة ذاتها التي تُعدُّ ضلعاً من أضلاع المعضلة بل تسهم في تعميقها أحياناً.

اشترك في نشرتنا البريدية