تنسج هذه الهوية خيوطها بين ما هو شرقي وغربي، وتتردد أصداؤها في كل زاوية من زوايا المملكة. تعمّقت الهوية تحت وطأة أحداث أيلول الأسود الدموية سنةَ 1970 بين الدولة الأردنية والفصائل الفلسطينية، ثم ترسخَّت سنةَ 1988 بفك الملك حسين الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية وتوقيع اتفاق وادي عربة مع إسرائيل بعد ذلك بست سنوات.
أنتجت هذه الانتماءات والولاءات المعقدة في المجتمع الأردني ما أسميه بمثلث تحديات في تعريف الهوية الوطنية. أضلاع هذا المثلث هي العشائر التي كانت إحدى اللبنات الأساسية في نظام الولاءات منذ تأسيس المملكة، والمكوّن الفلسطيني بشقيه المجنسين أردنياً ومن ظلّوا لاجئين، والنظام الهاشمي في أعلى السلطة. تضع هذه المكونات الدولة أمام تحدي التوفيق بينها في إطار هوية أردنية جامعة.
تشكلت ملامح التعبير عن الهوية الأردنية زمنَ الإمارة التي امتدت من سنة 1921 حتى الاستقلال سنة 1946، لا سيما بعد عقد المؤتمر الوطني الأول سنةَ 1928 الذي نادى بالاستقلال وعدَّ نفسه "ممثلاً شرعياً للشعب الأردني". مع هذا تشكَّلت في الإقليم الأردني تلك الحقبة ثمانيَ عشرة حكومةً رَأَسَهَا ثلاثةُ سوريين وثلاثةُ فلسطينيين ولبناني وحجازي. لم يشغل المنصب أي رئيس من شرق الأردن.
شهد الأردن ما بين سنتي 1956 و 1975 تحولاتٍ اجتماعيةً وسياسية مهمة أثّرت في بنية العشائر والهوية الوطنية. أهمها نكسة حزيران 1967 التي نتج منها النزوح الفلسطيني الكبير إلى الأردن المغيّر التركيبةَ السكانية جذرياً. بدأت تتشكل الهوية الوطنية الفلسطينية بمعناها السياسي، وفي قلب هذا التغير منظمة التحرير الفلسطينية التي رفعت شعارات التحرير ورفضت الوصاية والتبعية طلباً لاستقلال القرار الفلسطيني. أضعفت القومية الفلسطينية الهويةَ الأردنية الصافية فأصبحت هذه الهوية مزيجاً من هويات أخرى. وصار الفلسطينيون بهذا المنظور مصدرَ اضطرابٍ في الدولة.
لم تكن العشائر وقتئذٍ وحدات اجتماعية تقليدية بل شريكاً في السلطة وصناعة القرار وتأمين الحماية لأفرادها، مما أثَّر في ترسيخ الهوية الوطنية المتّسمة بالولاء والتضامن. تفاعلت العشائر مع الفلسطينيين دمجاً أو تمييزاً، وأثر كل منهما في هوية الآخر الثقافية والاجتماعية. إلا أن نكسة 1967 أسهمت في تعميق الهوية الأردنية وتمييزها عن الهوية الفلسطينية والعربية. وفي سبتمبر 1970 شهد الأردن فصلاً تاريخياً دامياً هو "أيلول الأسود" أو "حرب أيلول" بين النظام الأردني والفصائل الفلسطينية. وتشير بعض النظريات إلى أنَّ أحدَ أسبابها محاولاتُ هذه الفصائل الفلسطينية الإطاحة بالملك حسين. سعت الدولة عقب تلك الأحداث إلى صياغة الهوية الوطنية الأردنية على أساس القبيلة وقيمها والولاء للنظام السياسي الهاشمي.
سعياً إلى تحقيق التنمية والاستقرار في السبعينيات وجد الأردن في الفلسطينيين شركاء في النمو الاقتصادي والثقافي. فقد استمرت العشائر الأردنية في تأدية دور الوسيط الاجتماعي والثقافي، فتعايشت مع الفلسطينيين في مجتمعات مختلطة تحتفي بالتنوع وتواجه التحديات معاً. هذه التفاعلات لم تكن دائماً سلسة، فقد شابتها تحديات الموارد والهوية والانتماء. تحدثت عن هذه التفاعلات مع باحثة من أصول شرق أردنية، وكغيرها فضلت عدم ذكر اسمها لحساسية الحديث عن الهوية، فعلقت بقولها: "إن كثيراً من العائلات الفلسطينية والأردنية، مع الروابط الزوجية بينهم، إلا أنها كانت وما تزال ترفض التصاهر بسبب الأصول التي ينتمي إليها الفرد". أشارت الباحثة إلى أن بعض العائلات الفلسطينية "ما زالت تعارض فكرة التصاهر مع الأردنيين بناءً على الأصول التي ينحدرون منها، وبالمثل، يُظهر الأردنيون تحفظات مماثلة على الفلسطينيين".
أعلن الملك حسين في يوليو 1988 فكَّ الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية، فتعمّق الانقسام بين الأردنيين من أصول شرق أردنية ومن أصول فلسطينية. شعر الفلسطينيون في الأردن بفقدان جزء من هويتهم السياسية والوطنية، إذ سحبت الحكومة الأردنية الجنسية الأردنية من الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية ووضعتهم في إدارة منظمة التحرير في ظل الاحتلال الإسرائيلي. تبع ذلك عودة عشرات آلاف الفلسطينيين من دول الخليج إلى الضفة الشرقية بعدما طُردوا منها في حرب الخليج الثانية.
أضافت اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل سنةَ 1994 بعداً آخر إلى تعقيدات الهوية في الأردن. فقد كانت أوَّلَ وثيقة سياسية يوقِّعُ عليها الأردن ويقر بتوطين مليونين من مواطنيه من أصول فلسطينية لا بتنفيذ حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. مما يعني بقاء الوجود الفلسطيني في الهوية الأردنية قضية معلقة حتى الوصول إلى حلٍّ نهائي مع إسرائيل يؤدي إلى عودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية.
عادت مسألة الهوية سنة 1999 بعد تسلم الملك عبد الله الثاني مقاليد الحكم، أطلق الملك بعدها مبادرات عدة لتعزيز الهوية الوطنية، ومنها مبادرة الإصلاح والتحديث. وبما أن الهوية الوطنية مدخلٌ للانخراط في العمل السياسي، فقد طالب الأردنيون من أصول فلسطينية بتمثيل عادل لهم في مؤسسات الدولة كالعشائر الشرق أردنية. جاءت الانتفاضة الثانية سنةَ 2000 لتعم الأردن اضطرابات ومظاهرات طالبت بإغلاق السفارة الإسرائيلية وإلغاء اتفاقية وادي عربة. وهو أمر تكرر مراراً لا سيما في حرب غزة الحالية. بهذا بات مفهوم الهوية القومية في عيون بعضهم مرتبطاً بمفهوم الأمن، أي الأردن أولاً وما بعده ثانوي.
برزت هذه التراكمات في التاريخ الأردني الحديث مثلث تحديات في تعريف الهوية الوطنية بأضلاعٍ ثلاثة: العشائر والمكوّن الفلسطيني والنظام الهاشمي. تتداخل هذه المكونات وتتفاعل مع بعضها سلباً أو إيجاباً خلاف ما هو شائع من أن الأردن متجانسٌ كلّه.
يعلق دكتور أردني تحدثنا معه على هذه السرديات فيقول إنها "تشكّل مفهوماً خطأ عن المجتمع الفلسطيني، تُوضع دائما في مواجهة الصورة النمطية المضادة للمجتمع الأردني الذي يُصوَّر على أنه حصرياً بدوي، يضفي الطابع الرومانسي على الثقافة البدوية في تشكيل سردية الهوية الأردنية التي تميز نفسها عن الهوية الفلسطينية. هذه المقاربة خاطئة تماماً أيضاً لأن جزءا من مكوّن المجتمع الشرق أردني يأتي من أبناء الأرياف كذلك".
ويرى النظام الهاشمي أن سرديات "الأغلبية الفلسطينية" محاولة لتقويض الدولة الأردنية واستقرار نظامها السياسي، وقد تقود إلى زعزعة شرعية النظام المستِمدّ جزءاً منها من دعم القبائل الأردنية الأصلية. وقد تهدف السردية إلى تعزيز مطالب الفلسطينيين بزيادة التمثيل السياسي والاقتصادي، مما قد يخل في تركيبة النخب السياسية والاقتصادية القائمة.
يسود شعور بين كثير من الشرق أردنيين بأن الهوية الهاشمية همشت هويتهم الوطنية والسياسية وتجاهلتها. فهذه الهوية بمنظورهم تغلّب المصالح الهاشمية على الوطنية الأردنية، وفيها تصبح هوية الهاشميين مرادفة لهوية الدولة الأردنية نفسها. مما يعني أن الأردن يُرى كياناً لا يمكن فصله عن العائلة الهاشمية، فتاريخ الهاشميين وإنجازاتهم يشكلان الأساس الشرعي للدولة. ويشعرون أيضاً أن ضياع هويتهم الوطنية والسياسية وإساءة فهمها جعلهم يبدون داعمين للهاشميين في الإعلام والمنابر الاجتماعية الداخلية والخارجية بدلاً من أن يكونوا مشاركين فاعلين في صياغة هويتهم الوطنية المستقلة.
وهنا يعلّق الباحث المذكور آنفاً: "التركيز على الهوية الهاشمية يُشعر بعض الأردنيين بأن هوياتهم غير ممثلة تمثيلاً كاملاً في السرد الوطني، الذي يُنظر إليه على أنه صيغ حول شرعية وتاريخ العائلة المالكة بدلاً من التاريخ والهوية الجماعية للشعب الأردني، ونرى ذلك في كل الأغاني الوطنية على سبيل المثال أو السلام الملكي".
يظهر جانبٌ من الاستياء الشعبي بالهجوم على النظام وانتقاده، إلا أنه يبدو دعوة إلى تأكيد انفصال الهويات لا تعبيراً عن رغبة في إسقاط النظام فقط. من أدوات التعبير عن الاستياء: الاستعانةُ برموز الهوية الشرق أردنية مثل رئيس الوزراء السابق وصفي التل، المعروف بوطنيته والتزامه بخدمة الأردن والأردنيين وقربه من القضية الفلسطينية، وصياغة شعارات مثل: "ديرتنا الأردنية قبل الثورة العربية" وشعار "الله، الأردن، القدس عربية".
ويشير أكاديمي أردني إلى أن "التفاوت في الوصول إلى الموارد والفرص الاقتصادية بين المجموعات الشرق أردنية والفلسطينية يسهم في تفاقم التوترات الاجتماعية. يرى الفلسطينيون في الأردن أنهم يُمثَّلون تمثيلاً ناقصاً في الهياكل السياسية ويُقصَون عن الفرص الاقتصادية المتاحة. بينما يشعر الأردنيون من أصل شرقي بضرورة الحفاظ على هويتهم في مواجهة ما يعدونه تضخماً للذات الفلسطينية، سواء داخل الأردن أو خارجه، التي تجد تعبيرها القوي في منابر المعارضة".
وتزيد علاقةُ العشائر المتضاربة أحياناً مع الهوية الفلسطينية تعقيدَ محاولات التوفيق. فالعشائر تدعم المطالب الفلسطينية من جهة، خصوصاً ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل احتجاجات "حراك الرابع" سنة 2018 الذي تبلورت حراكاً اجتماعياً مشتركاً رافضاً قانونَ ضريبة الدخل الجديد حينئذ ومقروناً بمطالبات لتحسين الظروف المعيشية والمساواة في الحقوق الاقتصادية. ومن جهة أخرى قد تميل العشائر إلى تأييد السياسات الحكومية التي قد تتعارض مع مصالح الفلسطينيين في الأردن، لا سيما بالمشاركة السياسية.
يؤدي النظام الأردني دوراً كبيراً في توجيه تفاعلات العشائر مع الهوية الفلسطينية وتشكيلها، ويستعملها لتنفيذ سياساته بالتمثيل السياسي أو بالدعم الاقتصادي. يضمن النظام الانتخابي الأردني تمثيلاً واسعاً للعشائر لا سيما في المناطق الريفية والبدوية. ورد في دراسة عن الانتخابات النيابية الأردنية سنة 2020 أن 64 في المئة من مقاعد مجلس النواب يسيطر عليها مرشحون يعتمدون على الدعم العشائري. يُنظر إلى النواب العشائريين على أنهم حلفاء الحكومة، وبهم تمتلك الحكومة قاعدة دعم متينة في مجلس النواب. وتفضّل السياسات الحكومية أحياناً الأردنيين "الأصليين" على الفلسطينيين في الوظائف الأمنية، مما يزيد التوتر وشعور الفلسطينيين بالإقصاء أو تهميش مطالبهم إذا كانت تتعارض مع الأهداف الأمنية أو السياسية للنظام، كالقيود على تملّك الفلسطينيين الأراضيَ والعقارات في بعض المناطق. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى حكوماتٍ سابقة شهدت تعيينات تُبرز هذا النمط، مثل حكومة عبد الرؤوف الروابدة وحكومة سمير الرفاعي، إذ اختير عددٌ كبير من الوزراء بناءً على خلفياتهم العشائرية.
تقول باحثة من أصول فلسطينية عن ذلك: "المناصب السياسية في الأردن، تُدار غالبًا وفق توازنات عشائرية ومناطقية بدلاً من معايير الكفاءة المهنية. يبرز هذا التوجه بوضوح من قوائم رؤساء الوزراء، فيغلب الطابع العشائري والشرق أردني على الاختيارات لضمان التوازن والاستقرار الاجتماعي، وهذا التوجه ليس محصورًا فقط في منصب رئيس الوزراء، بل يمتد أيضًا إلى التعيينات الوزارية الأخرى، فالغالبية من الشرق أردنيين".
هنا يمكن تصور الهوية عنصراً ثقافياً أو اجتماعياً وأداةً تفاوضية في آن تُستعمل في الساحة السياسية. يدرك النظام الهاشمي أن الفلسطينيين في الأردن جزء من شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تتشابك مع النسيج الواسع للدولة الأردنية. يمكن للفلسطينيين بالتلاعب بعناصر هويتهم التأثير في السياسات الحكومية والعلاقات الخارجية، خصوصاً المفاوضات مع إسرائيل أو دعم قضيتهم على المستوى الدولي. وبصفتهم جزءاً كبيراً من القوى العاملة يؤثرون في السياسات الاقتصادية والاجتماعية في الأردن، فإن استقرار هذه الجماعات يُعدُّ دلالةً مهمةً على استقرار الدولة الأردنية كلها.