أدب الشباب في فلسطين: تصنيف أدبي جديد لا يخرج عن التقليدي

يتمايز أدب الشباب الفلسطيني عن ثلاثية المنفى والسجن والمقاومة والتي صبغت الأدب الفلسطيني المعاصر، لكنه لا يخرج عنها

Share
أدب الشباب في فلسطين: تصنيف أدبي جديد لا يخرج عن التقليدي
فلسطينيون في مدينة رام الله في الضفة الغربية سنة 2008 يخلّدون ذكرى الشاعر محمود درويش (تصوير عباس مومني من فرانس برس / خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

"أتطلّعُ إلى اللحظة التي أُدعَى فيها كاتباً وحسبُ، فتكون الكتابةُ مهنتيَ الرئيسةَ، وأُكرِّس كلَّ وقتي لها". هذا ما قاله صديقٌ ستّينيٌ، وهو أديبٌ فلسطينيٌ غزيرُ الإنتاج، صَدَرَ له في أقلَّ من أربعةِ عقودٍ عشراتُ الكتبِ في فنونِ الأدبِ المختلفةِ، وهو ما يزال مجبَراً على العمل في أكثرَ من مهنةٍ لإعالةِ نفسِه. ألحّت عليَّ شكوى صديقي عندما عُهِدَ إليَّ بعملِ تسجيلٍ وثائقيٍ إذاعيٍ عن أدبِ الشباب في العالم العربي، وهو موضوعٌ اختارَ اتحادُ إذاعاتِ الدولِ العربيةِ التركيزَ عليه في السياق الفلسطيني، إذ حاورتُ مجموعةً من الكتّاب والروائيين والشعراء والنقّاد المطّلعين على المشهد الأدبيّ في فلسطين.

شغلَ بالي حينَها أن تصنيفَ الأدبِ بِسِنِّ الأديبِ ربما يَخلقُ مشكلةً يتطلّبُ حَلُّها أوّلاً فهمُ ما إذا كانت شكوى الأدباء المخضرمين مِن ضُعفِ المردود الماديّ عامةً أو خاصّة. طلبتُ من صديقي إيضاحاً فرَدَّ بحسرةٍ قائلاً إن الأدبَ في عالمِنا العربيِ بما فيه الفلسطينيُ "لا يُطعِمُ خبزاً" وأنّ "الأديبَ الذي يعيشُ على هامشِ السياسة والمجتمع" لا يزال مهمَلاً يعيشُ على الكفاف.

ربما تُعبِّر شكوى ذلك الكاتب عن شعورٍ بالغُبنِ والإهمالِ، فبدلاً من تركيز الاهتمام بدايةً على حَلِّ المشكلات التي يعاني منها الكتَّابُ الكبارُ، يَتجاهل القائمون على المؤسّسات الأدبية تلك المشكلاتِ برعاية الكتّابِ الناشئين. لكنّ القَطعَ في هذه المسألةِ يستلزِمُ استكشافَ أيِّ مبرِّرٍ موضوعيٍّ لهذا التوجّهِ، كما يستلزِمُ استكشافَ أيِّ مفهومٍ واضحٍ لتحديد ماهيّةِ أدبِ الشباب.

يُعرِّفُ البعضُ أدبَ الشباب وفقاً للفئة العمرية أو البدايات الأدبية للكتّاب. في حينِ يراهُ آخَرون إشارةً للنِتاج الأدبيّ الذي ظَهَرَ منذ بدايةِ الألفية. و يَربطُه قومٌ آخَرون بالجِدّةِ، أي يصِفون إبداعَ الشباب بالكتابات الجديدة أو الإبداع الجديد. ولا يخلو أيٌّ من هذه التعريفات من إشكاليات.

في السياق الفلسطيني ظَهَرَ ما يسمّى أدبَ الشباب في فترةِ ما بعدَ أوسلو في منتصف التسعينيات ونظرَ إليه كثيرون باعتباره جنساً أدبياً جديداً يَخرج عن النمط المألوف في الأدب الفلسطيني، ولا سيّما أدبِ الجيلِ المؤسّس. إلا أنه واقعياً فلا سِماتَ خاصةً تَفصِله بالكامل عن السِمات العامة للأدب الفلسطيني المعاصر والتي لا تَخرج عن ثلاثيةِ أدبِ المنفى وأدبِ المقاوَمة وأدبِ السجون. هذه هي المحدِّداتُ التي صَنَعَها الحالُ الفلسطينيُ تحت الاحتلالِ أكثرَ من سبعةِ عقودٍ، ولا يوجد تمايزٌ حادٌّ فيها بين الأجيال الشابّة التي نشأَت بعد فترةِ أوسلو وتلك التي سبقَتها، وإنْ كان الأدبُ الشابُّ يميل بجزءٍ منه لمعالَجةِ هذه الهمومِ الجامعةِ من منظورٍ ذاتيٍّ شعوريٍ أكثرَ منه للاشتباكِ المباشرِ مع الحدث كجيلِ الآباء المؤسِّسين من الأدباء. هو إذن نموذجٌ أدبيٌّ يتمايزُ عن هذه الثلاثية بأساليبِ التعبير، ولكنه لا يَخرج عنها بالسياقِ والروح. 


ليس ثمّةَ تعريفٌ عربيٌ جامعٌ مانعٌ لمفهومِ أدبِ الشباب. وما رَشَحَ من التقصّي والبحثِ كان في الغالبِ جملةً من التعريفات الوظيفية المتباينة تبعاً للغاية المقصودة من هذا الأدب. أَجمَلَت الكاتبةُ السعوديةُ نوال بنت ناصر السويلم هذه الغاياتِ في أربعةِ تعريفاتٍ مبنيةٍ على رؤيةِ مستخدمي هذا المفهوم وأهدافهم. أَوّلُها يَربطُ تعريفَ أدبِ الشباب بالمرحلة العمرية. وثانيها يَربطُه بتجربةِ البدايات إذ يُعَدُّ الشبابُ هنا هو الإبداعَ الأوّلَ والمنجَزَ الفتِيَّ وليس المُبْدِعَ نفسَه. أما التعريفُ الثالثُ فيَربطُ مفهومَ أدبِ الشباب بحقبةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ مثل مطلعِ الألفيةِ الحالية. وأخيراً تعريفٌ يَربطُ هذا الأدبَ بالجِدَّةِ، فيَصفُ إبداعَ الشباب بالكتاباتِ الجديدة أو الإبداعِ الجديد.

تضيفُ الكاتبةُ أن ثمّةَ ضبابيةٌ في تعريفِ أدب الشباب، فرَبْطُه بالعُمر يُثيرُ إشكاليةَ أنه "لا توجد دراسةٌ تُثبِتُ انعكاسَ العُمرِ على التجربة الإبداعية". أما التعريفُ الذي يربطُ أدبَ الشبابِ بتجربة البدايات فهو يَخلقُ إشكاليةَ ضَمِّ أُدباءَ ممّن تجاوزوا الخمسين عاماً. ربطُ تعريفِ أدبِ الشباب بحقبةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ يُبرِزُ إشكاليةَ أن الأديبَ ونتاجَه الأدبيَ وإنْ كانا يتأثّران بسِمات المرحلة، إلّا أنهما يتأثّران أيضاً برواسب المرحلة السابقة التي لا يمكن استبعادُها أو التقليلُ من أثرِها. أما مَن عرَّفَ أدبَ الشباب على أساس الجِدَّة، فلَم يَلتفِت إلى أن النتاجاتِ الأدبيةَ تتفاوتُ عادةً في مستوى الحداثة والجِدَّة، ولذلك لا يمكن وضعُها في سلّةٍ واحدة.

أميلُ إلى التعريفين الأوّلَين وأُطبّقُهما على الحالة الفلسطينية، فهُما يأخذان بالاعتبار الفئةَ العمريةَ المستهدَفةَ من الشباب ودعمَ نتاجِهم الإبداعي. الأمثلةُ على ذلك الدعمِ متنوعةٌ، منها مسابقةُ "الكاتب الشابّ" التي رَعَتها مؤسسةُ عبد المحسن القطان، واستمرّت من سنة 2000 إلى سنة 2019، وكان الهدفُ منها رفدَ المشهدِ الأدبي الفلسطيني بأصواتٍ أدبيةٍ فلسطينيةٍ شابةٍ، حتى سنّ 35 عاماً، في حقولِ الشِعرِ والقِصةِ القصيرةِ والرواية.

إلّا أنّ هذا الحقلَ الأدبيَّ الشبابيَّ في فلسطين يبقى حديثاً نسبياً. إذْ بدأَ الاهتمامُ الرسميُّ والأهليُّ به يتّضِحان مع دخول الفلسطينيين مرحلةً سياسيةً جديدةً بتوقيعِ اتّفاقِ إعلانِ المبادئِ المعروف بِاسم اتّفاقِ أوسلو سنةَ 1993 بين منظّمةِ التحريرِ وإسرائيل. تَنامَى هذا الاهتمامُ مع تأسيسِ وزارةِ الثقافة الفلسطينية وعزَّزَه نُشوءُ منظّماتٍ غيرِ حكوميةٍ تُعنَى بقطاعِ الأدبِ الفلسطيني والناشطين فيه، على نُدرَتِها، منها مركزُ أوغاريت الثقافي المعتني بإصدارات الأدباء الشباب، وكذلك مؤسسةُ تامر للتعليم المجتمعي المخصِّصةُ جزءاً من دعمِها لإصدارات قصص الأطفال واليافعين.

كتبَ الناقدُ فخري صالح أن الأدبَ الفلسطينيَ كان أدبَ منفىً قبلَ اتّفاقِ أوسلو، وذلك في مقالٍ عبَّرَ فيه عن تَوْقِ الفلسطينيِّ لاستعادةِ فلسطينَ "فردوسِه المفقودِ"، والعبارةُ هنا لعارف العارف، أحدِ مؤرِّخي النكبة. وتحت هذا العنوان الكبير سَيطرَ ما أُطلِقَ عليه اسمُ أدبِ المقاوَمةِ، ومنه انتشَرَ ما سُمّيَ لاحقاً أدبَ السجون. ومِن أعلامِ أدبِ المقاوَمةِ محمود درويش ومعين بسيسو وسميح القاسم وعز الدين المناصرة وسلمى الخضراء الجيوسي وفدوى طوقان وغسان كنفاني.

سواءً أَعُدَّ الأدبُ الفلسطينيُّ أدبَ منفىً أَمْ أدبَ مقاوَمةٍ أَمْ أدبَ سجونٍ، فإنه لَم يَخرجْ عن التعبير عمّا يُمكِنُ وصفُه بالأسئلة الفلسطينية الكُبرى المتمثّلةِ بثلاثيةِ الحرّيةِ والاستقلالِ الناجزِ والعودةِ، وإن اختَلَفَ الكتّابُ الفلسطينيون حول تعريفِ كلٍّ منها. ولا يعني ذلك أن الأديبَ الفلسطينيَ لم يَطرقْ قبل أوسلو أسئلةً أُخرى غيرَ هذه الأسئلةِ الجمعيةِ الفلسطينيةِ، مثلَ الحرّيةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ، والسؤالِ عن حقوقِه الفردية والخاصة، والتعبيرِ عن لواعجِ نفسِه الداخليةِ، والحديثِ عن علاقتِه بالآخَرِ، كالذكرِ مقابلَ الأنثى والأنثى مقابلَ الذكرِ، كما جاء في المجموعة القصصية بعنوان "الرَجلُ الذي لا يتكرّر" للكاتبة حزامة حبايب. مضافاً لذلك الحديث عن الآخَرِ الأُمَمِيّ، أي الإنسانِ أيّاً كانت قوميّتُه أو ثقافتُه، ومثالُ ذلك كتابُ إدوارد سعيد "خارجَ المكان" الذي يمثّل سيرةَ الكاتبِ الذاتية.

هذه السِماتُ التي صَبغَت مقاصدَ الأدب الفلسطيني لَم تتبدّد مع حقبةِ أوسلو، وإنْ تَراجَعَ حضورُها، ولَم تَعُد الأسئلةُ الفلسطينيةُ الكبرى مركزيةً كما كانت. ما حصلَ هو أن الحالةَ الضبابيةَ التي سادت مع توقيعِ اتّفاقِ أوسلو ونشوءِ سلطةِ حكمٍ ذاتيٍّ فلسطينيةٍ لَم  تستطِع التحوّلَ بعد ثلاثةِ عقودٍ من هذا الاتفاق إلى دولةٍ تتمتّع بسيادةٍ، وكلُّ ذلك ألقى بظلاله الثقيلة على الأدب الفلسطيني.


تغيّرَت صورةُ البطلِ في الرواية الفلسطينية. فبَعد أن كان واثقاً في حقبةِ الأدباء الكبار، مثلَ حامد المتمرّدِ في رواية "ما تبقّى لكم" لغسان كنفاني، أصبحَ مهزوزاً بعد أوسلو، كما في روايات "البقايا" لأحمد حرب و"خطوات" لعزت الغزاوي. وبدَأنا نشهدُ في الرواية الفلسطينية حضوراً أكبرَ لأنواعٍ أُخرى من الشخصيات مِثلَ العُملاءِ، أي المتعاوِنين مع الاحتلال، وتجّارِ القضية، أيْ مَن يستغنون عن الصالح الوطني ويضرّون به مقابل مصالحهم الشخصية، وشَهدْنا أيضاً تحوّلاتٍ كبرى على بعض الشخصيات الروائية التي انتقلَت مِن موقعِ الفدائيِّ والمقاتِلِ إلى موقعِ المفاوِضِ والمساوِمِ، ومِن خانةِ المنتمي إلى غيرِ المُبالي، مثلما في رواية "مقامات العشاق والتجار" لأحمد رفيق عوض. رصدَ نقّادٌ وباحثون كُثرٌ هذه التحوّلاتِ، منهم عبد الرحيم الشيخ في دراسةٍ بعنوان "تحوّلات البطولة في الخطاب الثقافي الفلسطيني"، وحسين عمر دراوشة الذي كتبَ "تحوّلات لغةِ الخطابِ في الشِعرِ الفلسطينيِ بعدَ اتّفاقيةِ أوسلو: دراسةٌ لسانيةٌ تداولية"، وأحمد حرب الذي قدّمَ شهادةً بعنوان "شهادةٌ أدبيةٌ: الأدبُ الفلسطينيُ بَعد أوسلو".

هذه التحوّلاتُ التي طرأًت على الأدب الفلسطيني لَم تَنَلْ مِن السِماتِ العامّةِ التي وَسَمَته أدبَ منفىً في العموم وأدبَ مقاومةٍ وأدبَ سجونٍ في التجلّيات. وما يكاد يتوارى أو يَخفِتُ وهجُ حضورِها مع فتراتِ الهدوء السياسي حتى يَستأنفَ الظهورَ مع احتدامِ الصِدامِ الفلسطيني الإسرائيلي. يرجع ذلك إلى أن الشرطَ الذي يتحكّم في السياق الذي يعمل فيه الأدبُ الفلسطينيُ لَم يتغيّر. إنه شرطُ الاحتلال الذي لا يزال يحدِّدُ اتّجاهاتِ الفلسطينيين عامةً والمثقفين خاصةً، سواءً كانوا أدباءَ كباراً في العُمر أو شباباً.

وهنا تَظهرُ وجاهةُ إعادة التذكير بالجدلية الأساسية في هذا النص، وهي تناسبيةُ مفهومِ أدبِ الشبابِ مع الوضع الفلسطيني. بمعنىً أدقّ، إمكانيةُ وجودِ مسوّغاتٍ موضوعيةٍ  للحديث عن ظهورِ جنسٍ أدبيٍ فلسطينيٍ جديدٍ يمكن أن يُنعَت بالشبابيّ. سواءً أَكانَت مقاصدُ أعلامِ هذا الأدبِ مِن الأُدباءِ الفلسطينيين الشبابِ حصراً عليهم ولا يَطرُقُها الأُدباءُ الفلسطينيون الكبارُ، أًمْ أنّ هذا الجيلَ الأدبيَّ له هُويّةٌ خاصّةٌ تُميِّزُه عن سِماتِ الأدبِ الفلسطينيِ بحقبِه وتصنيفاتِه المتباينة. يمكن القولُ إن الأدبَ الشابَّ يُسهِمُ في تطوير الأدب الفلسطيني بإضافةِ طبقاتٍ جديدةٍ من التعبير، تُركِّزُ على الفرديّ والنفسيّ والاجتماعيّ، ممّا يُثري التجرِبةَ الأدبيةَ الفلسطينية.

لذلك لا وجاهةَ لدعوى أن هناك جنساً أدبياً فلسطينياً جديداً يمكن أن نطلقَ عليه اسمَ "أدب الشباب في فلسطين" لأنه لا توجد سماتٌ خاصةٌ بهذا الجنس يمكن أن تميّزَها عن السماتِ العامةِ التي عُرفَ بها الأدبُ الفلسطينيُ المعاصر. وأَعني به الأدبَ الذي انتشرَ بعد نكبةِ سنة 1948، ونَما وترعرعَ بعد نكسةِ سنة 1967، مروراً بفتراتِ حضورِ الفصائل الفلسطينية في الأردن ثم لبنان من نهاية الستينيات حتى بداية الثمانينيات، والانتفاضة الأولى سنة 1987 وما تلاها من توقيعِ اتفاق أوسلو سنة 1993، والحقبِ التي تبعَتها وآخِرُها الحصادُ المُرُّ الذي يَشهده الآن قطاعُ غزة.

أن تعكسَ ظروفُ كلِّ مرحلةٍ تاريخيةٍ نفسَها على سماتِ الأدبِ الفلسطيني، أو أيِّ أدبٍ، أمرٌ غيرُ مستغرَب. أُحيلَ هذا المنظورُ جزئياً إلى نظرية الانعكاس التي ترى في الأدبِ فاعليةً اجتماعيةً وليسَ فنّاً لغوياً أو تعبيراً جمالياً فحسْب. وهو بهذا يمثّلُ مرآةً للواقع والمجتمع ويَدخلُ معهما في علاقةِ تأثيرٍ وتأثُّر. قد يكون النتاجُ الأدبيُ ممتثّلاً للواقع ومتصالِحاً معه أو كما في السياق الفلسطيني ناقداً يسعى لتجاوزِه وتفكيكِه بل حتى هدمِه. لا يمكن إنكارُ أن الأدبَ يعكسُ التغيّراتِ الاجتماعية والسياسية والنفسية التي يمرُّ بها المجتمع. لذا لا يُستنكَر أن يَظهرَ في أدب الشباب بعضُ التوجّهات الجديدة التي تعبِّر عن التحوّلات في الهموم الفردية والجماعية، مِن غيرِ أن تنفيَ الأساسياتِ الثابتةَ التي قامت عليها ثلاثيةُ المنفى والسجنِ والمقاومة.

وإذا سَلّمْنا جدلاً بهذا الطرح – ليس لشيءٍ إلا لكونِه موضوعياً أساسُه فهمُ السياق السياسي والاجتماعي والتاريخي الذي مرَّ به الشعب الفلسطيني بما في ذلك الأدباءُ الفلسطينيون – يمكنُنا الاستنتاجُ أنه لا وجودَ لجنسٍ أدبيٍ فلسطينيٍ جديدٍ قائمٍ بذاتِه ومطلقِ التميّزِ نستطيع أن نسمّيَه أدبَ الشبابِ في فلسطين. لقد وضعَ مَن أُسمّيهم الأدباءَ المؤسّسين مداميكَ الأدبِ الفلسطينيِ المعاصر. هذا التوصيفُ دفعَ بعضَ الأدباء الذين حاورْتُهم في برنامجي للقول إن جيلَ الكتّابِ الأوّلَ قد رفعَ السقفَ الإبداعيَ بوتيرةٍ قلّما استطاعَ الأدباءُ المُحْدثون من الشباب الذين جاؤوا بعدَهم مجاراتَها. بل لا يزال كثيرٌ منهم يقفون على تخومِ ما أَنجَزَه أسلافُهم أو "يحومون في أجوائه"، كما عَلّقَ بعضُهم.

يَرى بعضُ النقّادِ أن هذا التوجّهَ إلى الفردية والذاتية يمثّلُ خروجاً عن المألوفِ في الأدبِ الفلسطيني. يشرحُ أستاذُ السرديّاتِ وتحليلِ الخطابِ نضال الشمالي هذه المسألةَ بالقولِ "إن التجاربَ التي نَقرَؤها اليومَ في أدبِ الشباب في فلسطين مقطوعةُ الصِلةِ شكلاً عن أدبِ القاماتِ الكبرى … هذا الأمرُ أَورَثَ عجزاً وضجراً عند الشباب دَفَعَهم إلى التغيير لمجرّدِ أنهم لا يستطيعون الوصولَ إلى مستوى القاماتِ العليا السابقةِ في التأليف. وكأنّ أدباءَ الجيلِ الأوّلِ أَورَثوا عقدةً لأُدباءِ الجيل الجديد دَفَعَتهم إلى الحديث فيما يُقدِّمون عن الهَمِّ الفرديّ، وعن ذواتِهم الغنائية". 

قَدّمَ الشماليُ نماذجَ على ذلك لأدباءَ فلسطينيين معاصرين مثل جدل القاسم ومحمد الصالحي وسلوى الطريفي وغيرِهم قائلاً إن هؤلاء الشبابَ "قدَّموا أدباً جيداً لكنه أدبٌ مسكونٌ بالهموم الفردية أكثرَ من أن يكون أدباً ضمن خطابٍ واحدٍ بسرديته المعهودة التي يزخر بها القاموسُ الفلسطينيُ بمصطلحاته المستقرّة: احتلال، تهجير، مخيم، يُتْم، معاناة، صمود، وتحرير". في رأيٍ مشابهٍ، يرى الروائيُ أحمد رفيق عوض أن نتاجَ الشبابِ الفلسطينيِّ الأدبيَّ في الثلاثين سنةً الأخيرةَ، لا سيّما في حقلِ الروايةِ، "لا يَعترفُ بأُبُوّةِ الروائيِّين الذين سبقوهم … تَشعرُ أنها رواياتٌ بناتُ لحظتِها، مشوّهةٌ، ودُونَ تاريخ".

وأضافَ أن الهَمَّ العامَّ والأسئلةَ والشعاراتِ الفلسطينيةَ الكبرى ربما فقدَت مركزيتَها في هذه الروايات، "ما أصبح مسيطِراً هو الهمُّ الذاتيُّ، الشكلُ البنائيُّ للرواية، الجمالياتُ، الهمسُ الداخليُّ، والحواراتُ الداخلية". وتُعلِّقُ الروائيةُ رجاء الرنتيسي على الوضع الأدبي الحالي قائلةً إنه ومع التحفيزات كلِّها من الجهات الرسمية والمؤسسات المعنية بالثقافة "لَم تَظهَر في العقدَين الماضيَين أسماءُ أدبيةٌ كبيرةٌ كما ظهرَ في سنواتِ الستينيات والسبعينيات والثمانينيات".

كأننا في حالةٍ من التنافر أو التنافس بين نوعين متوهَّمين من الأدب: الأولُ عَدّهُ النقادُ حداثَويّاً ينزِعُ إلى الذاتية حدَّ الإفراط بدلاً من طرح المشكلات الكبرى، وهو أدبُ الشباب الحالي. والثاني عُدَّ ماضوياً أصيلاً لا يزال مسكوناً بتلك الأسئلة، كما هو الحالُ في نتاجاتِ الجيل المؤسِّس. يقول الروائيُ أنور الخطيب مبيّناً الفرقَ بين إنتاجَي الجيلَيْن، ومؤكّداً ما أرمي إليه مِن أنّ القضايا التي تؤرِّق الكتّابَ الفلسطينيين واحدةٌ "إن الشِعرَ وتوهُّجَ اللغةِ والمغامرة لا ترتبطُ بعمرٍ زمنيّ. بعضُ الشباب يَكتبُ بثوريةٍ عاليةٍ في اللغة والمضمون والشكل وبعضُهم يَكتبُ بتقليديةٍ وكلاسيكيةٍ، مثلُهم في ذلك مثلُ الكبار". لكنه يشيرُ أيضاً إلى أن "الشباب يعيشون مرحلةً تَكثرُ فيها التحديات"، وهي إحدى سماتِ الاختلاف عن الجيل المؤسِّس برأيِه. ويُعطي مثالاً على ذلك قصيدةً لجواد العقاد مِن غزّةَ جاءَ فيها:

لا تعشقي شاعراً في الحربِ
يُعيد ترتيبَ المشهد،
يأخذُ الأطفالَ في رحلةٍ،
يخبئ كلَّ طفلةٍ في نجمة،
ويرفعُ سماءً من الأدعية.
لا تسألي عن تهالكِ صوته،


يمكن الحديثُ عن أدبِ شبابٍ وآخَرَ نِسويٍّ وثالثٍ مِن أشكالٍ أُخرى تمثّل فئاتٍ اجتماعيةً مهمَّشةً أو هامشيةً في الدولِ كاملةِ السيادة. لكن في السياق الفلسطيني الذي لا يزال يخضع للاحتلال تظلُّ السمةُ الغالبةُ على الأدب الفلسطيني هي كونَه أدبَ منفىً وأدبَ مقاومةٍ وأدبَ سجون. هذه المحدِّداتُ لا تقتصر على أدباء المناطق المحتلة سنة 1967، حيث يخضع الجميعُ هناك للاحتلالِ العسكري وقوانينِه، بل تمتدّ أيضاً إلى فلسطينيِّي الشتاتِ من اللاجئين، وتَشملُ من بَقوا في بيوتهم وأراضيهم إبّانَ نكبةِ سنة 1948. هذه المحدِّداتُ الثلاثةُ تستمرُّ في رسمِ السياقِ الأدبيِّ العامِّ حتى بين الشعراء الشباب، وتضعُهم تحت المظلةِ الفلسطينيةِ ذاتِها التي ارتَكَز عليها الأدباءُ المؤسِّسون، وإن اختلفَ التعبيرُ عنها بين جيلِ الشباب من الكُتّاب، فانتقَلَ بعضُهم من الارتباط المباشر بالهَمِّ القوميِّ والتعبيرِ المقاوِمِ إلى استكشافِ الذاتِ وسَبْرِ علاقتِها بهذا الهمِّ بلا إشارةٍ بَيِّنَةٍ إليه. فغيرُ مستغرَبٍ أن يعكسَ أدبُ الشباب توجُّهاتٍ جديدةً تعبّرُ عن التحوّلات في الهموم الفردية والجماعية، مع الحفاظ على الأركان الثابتة التي قامت عليها ثلاثيةُ المنفى والسجنِ والمقاومة.

وهنا أعود وأستذكرُ شكوى صديقي الأديبِ المثقَلِ ونظرائِه الذين حاورْتُهم في برنامجي. وقد خرجْتُ بانطباعٍ مفادُه أن الأدبَ الفلسطينيَ سيبقى مشغولاً بالهواجس اليومية للإنسان الفلسطيني العادي، بدءاً من لقمةِ عيشِه بلا منغِّصاتٍ من الاحتلال، وليسَ انتهاءً بالعيش في دولةٍ مستقلةٍ يتنقلُ في أرجائها بلا حواجزَ عسكريةٍ أو قيود. وإن كانت هذه الهواجسُ لا تمنع التوجّهَ لمعالجةِ انشغالاتٍ مثل التي أشارت إليها النقاشاتُ أعلاهُ من همومٍ ذاتيةٍ وهمسٍ وحواراتٍ داخلية. أما الانشغالاتُ الأدبية التصنيفية بين آباءٍ مؤسِّسين وأدباءَ شبابٍ جُددٍ، وإن كانت بمجمَلِها مشروعةً وموجودةً، فإنها تَظلُّ ثانويةً في السياق الفلسطيني.

اشترك في نشرتنا البريدية