استمع لهذه القصة
وَلّدَ البيانُ خيبةَ أملٍ واسعةً وردودَ أفعالٍ باللغتَين الإنجليزيةِ والعربيةِ، نظراً لشهرةِ هابرماس وتأثيرِه الواسعَين في النطاق الجامعي العربي والغربي. ولكنها خيبةٌ لا تُوازي ما يحدث في أرض الواقع مِن قتلٍ وإبادةٍ للشعب الفلسطيني في غزّة والضفّة. وحامَت الكثيرُ من الشُكوك حول الدَور النقدي الذي يُمكن أن تؤديّه "الأكاديميا" والأكاديميُّ العربيُ تعبيراً عن تلك الخيبةِ. نشرَ أستاذُ الفلسفة المعاصرة في جامعة ابن زهر بالمغرب، محمد الأشهب، ترجمةً للبيانِ مع تعليقاتٍ عليه في مَوقعِ "أنفاس" الإخباريِ بعنوان "لا أتّفق مع الموقف المتحيّز لإسرائيل من فلاسفةٍ ألمانيين يدّعون الدفاع عن القِيَم الكونية". وحاولَ بعضُهم أن يَستدرِك بالتأكيد على عدمِ انتمائه لفكرِ هابرماس، مجادِلين بأنّ هذا البيانَ ضدُّ فِكرِه، ومحاوِلين تِبيانَ التناقضِ بين فِكرِه الكونيِ ومضمونِ البيانِ المُخزي.
خلافاً لذلك، أَكّدَت بعضُ المقالات على أنّ فِكرَ هابرماس ينطلقُ مِن مركزيةٍ أوروبيةٍ، وربطَته بعنصريةِ الفلاسفةِ الألمانِ العِرقيةِ مثل كانط وهيغل. وأَفضلُ مثالٍ على هذه المقالات مقالُ أستاذِ الدراسات الإيرانية والأدبِ المقارَن في جامعة كولومبيا الأمريكية، حميد دباشي، المنشورُ باللغة الإنجليزية على مَوقعِ "ميدل إيست آي" بعنوان "بفضلِ غزة، انكشفَت الفلسفةُ الأوروبيةُ بوصفِها مُفلِسةً أخلاقياً". وكذلك مقالُ المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر، عزمي بشارة، المنشورُ على مَوقعِ المركز العربي بعنوان "قضايا أخلاقيةٌ في أزمنةٍ صعبةٍ (صيغة معدّلة)"، الذي تحدّثَ عن مركزيةِ فِكرِ هابرماس الأوروبيةِ، وتجاهُلِه للفلسطينيين، وتحريفِ النقاشِ إلى مسألةِ عداءِ السامية، وقَدّمَ نقداً أخلاقياً وقانونياً لموقفِه وكَشَفَ عن تنكُّرِ فِكرِه للكونيةِ خاصّةً بعد موجاتِ هجراتِ المسلمين لأوروبا. بينما تأرجحَت مقالةُ الأستاذِ الموريتاني والباحثِ في الفلسفة، عبد الله السيد ولد أباه، المنشورةُ على مَوقعِ "عروبة 22" بعنوان "هابرماس وحرب غزّة" بين وصفِ البيانِ بالتناقض وبين كونِ فلسفتِه "ممركَزةً أوروبياً"، ومفارقةِ البيان لأفكاره الكونية، ولكن دون التطرّقِ إلى جوانبِها ونقاشِ تفاصيلِها أو حتّى ربطِها بتقاليدها العنصريةِ والفلسفيةِ عند كانط وهيغل كما فعلَ مقالُ حميد دباشي.
والحقيقةُ أن المسألةَ أبعدُ من أنّ فِكرَ هابرماس متقوقعٌ أوروبياً. فالبيانُ الذي أَصدرَه عن غزّة نتيجةٌ تراكميةٌ لانتمائه لمدرسةٍ فكريةٍ، اسمُها النظريةُ النقديةُ، رأتْ في الهولوكوست جريمةً بشريةً فريدةً تستدعي نقداً للحداثةِ وعلاقتِها بالآخَرِ، ولكن تناولَتها ضمن التاريخ والسياق الأوروبي الخالص. لَم يقتصر النقدُ على الحداثةِ فقط، بل طالَ أهمَّ أعلامِ الفلسفةِ في ذلك الوقت، ومنهم الفيلسوفُ الألمانيُ مارتن هايدغر الذي انخرطَ في النازيّةِ وتولّى رئاسةَ جامعةِ فرايبورغ لمدّةِ عامٍ أثناءَ حُكمِ النازيّةِ وصَمَتَ عن جرائمها. يعبِّر هابرماس عن الطريقة التي قُرِئَ بها هؤلاءِ المفكّرون، ومِن ضمنِهم هايدغر بعد الهولوكوست، في نصّه "حول الاستخدام العامّ للتاريخ: الفهم الذاتي الرسمي للجمهورية الاتحادية يتفكك" حيث كتبَ: "بعد عام 1945، أصبحنا نقرأ كارل شميت وهايدغر وهانز فراير، وحتّى إرنست يونغر، بشكلٍ مختلفٍ عمّا كان عليه قبل عام 1933. بالنسبة للعديد من الناس. ليس من السهل تحمّلُ ذلك، خاصةً بالنسبة لجيلي، الذي كان – بعد الحرب العالمية الثانية – تحت التأثير الفكري لأعلامٍ كهؤلاء". ولا تختلفُ قراءَتي لهابرماس في موقفِه من الحرب على غزّة عن قراءَته لهؤلاء المفكّرين بعد جرائمِ النازيّةِ إلا في مَوقعِ القراءَة. فأنا أنطلقُ من موقعِ الاختلافِ الاستعماريِ، أي من موقعِ الذين خَبِروا الاستعمارَ الأوروبيَ وكانوا موضوعَه، والذي يُمكِّنُ مِن كشفِ التناقضات وأشكالِ التمييزِ وإقصاءِ الآخَر التي يتضمّنها فكرُ هابرماس.
المدرسةُ النظريةِ النقديةِ التي ينتمي إليها هابرماس لَم تفسِح المجالَ سوى لمساحةٍ ضيّقةٍ لنوعٍ محدَّدٍ من الآخَرِ، وهو الآخَرُ الأوروبيُ الأقربُ، بينما تجاهلَت تواريخَ غيرِه ومآسيَهم مِن الآخَرِ غيرِ الأوروبيِ أو "الأقصى" كما أُسمّيه. ويجدُ مفهوما الآخَرِ الأَقصى والآخَرِ الأَقربِ أهمّيتَهما في إعادةِ النظرِ في مفهومِ الآخَرِ المجرَّدِ الذي يتحدث عنه الفلاسفةُ الأوروبيون ومِن ضِمنِهم هابرماس. فَلَم يَكتفِ هابرماس بمتابعةِ ما فعلَه أسلافُه في النظرية النقدية مِن تجاهلٍ لهذا الآخَرِ الأقصى، بل سَعى لإلغائه. فهو في صراعِه مع القوميةِ في أوروبا وإمكانيةِ عودتِها إليها سعى لتطوير هويّةٍ دستوريةٍ مربوطةٍ ربطاً وثيقاً بجريمةِ الهولوكوست باعتبارِها جريمةً بشريةً، وهويّةً أوروبيةً قوامُها مجموعةٌ من القِيَم والتقاليد والمُثلِ الكونيةِ التي تشتركُ فيها مع آخَرين قريبين منها مثلَ أمريكا وأستراليا وإسرائيل وهونغ كونغ.
تبدو هذه المنظومةُ الفلسفيةُ شديدةُ الأوروبيةِ مصمّمةً لحراسةِ أوروبا من عودةِ القوميةِ وعودةِ آوشفيتس، أي معسكرِ الاعتقال النازيِّ الأشهرِ. وداخلَها تنغلقُ تواصليةُ هابرماس بوَجْهِ الآخَرِ الأَقصى. فمآسي هذا الآخَرِ لا تَرقى لأن تكون مأساةً بشريةً تؤسَّسُ عليها هويةٌ أوروبيةٌ بأبعادٍ كونيةٍ، ولا يؤبَه لها إن كان التعرّضُ لجلّادِه قد يحفِّزُ عودةَ هذه القومية من جديدٍ في أوروبا. بل حتى وجودُه مُواطِناً في أوروبا لا يؤخَذ على محملِ الجدِّ، ويفضَّلُ عليه الآخَرُ الأَقربُ الذي يوجَد بينه وبين أوروبا بعضُ الشَبَه ويَرتبط معها بتاريخها المنطلِق من جريمةِ الهولوكوست. ولا تتكشّفُ تناقضاتُ هذه المنظومةِ بوضوحٍ إلّا بفضِّ نموذجِ التصوّرِ الذي صاغَته النظريةُ النقديةُ لمعاداةِ الساميّةِ ونزعِ استثنائيةِ الهولوكوست وإعادةِ ربطِه بتواريخِ الجنوبِ مِن منظورٍ جنوبيٍ متضامنٍ مع فلسطين.
إنّ ما يجعلُ هذا التمييزَ بين الضحايا قادحاً في أطروحةِ كِتاب "جدل التنوير" هو ما يمثِّله الكِتابُ مِن موقفٍ نقديٍ للتنويرِ والحداثةِ على أنّها تحوُّلٌ حضاريٌّ. ولكنّ الكتابَ يَتجاهلُ – للأسفِ – دراستَها خارجَ الإطارِ الأوروبيِ، على عالَميّتِها، ويكتفي بتناولِها ضمنَ الجغرافيا السياسية الأوروبية. فلَم تقتصرْ تأثيراتُ الحداثةِ السلبيةِ على الداخلِ الأوروبيِ بل شملَت الخارجَ أيضاً. ومع أهميةِ تحليلاتِ أدورنو وهوركهايمر الحداثةَ وظاهرةَ معاداةِ الساميّةِ وربطِها بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتشوّهات المجتمع الحديث، ونقدِ الحُججِ السياسية والاجتماعية والدينية والتاريخية التي تؤسِّسُ لمعاداةِ الساميّةِ وربطِها بنظامِ المعرفةِ الحديثة، إلّا أن تحليلَهما لمعاداةِ الساميّةِ والهولوكوست يفتقرُ إلى فهمِ الظاهرةِ في أَبعادٍ أشملَ مِن سياقِها الأوروبي. فالتجرِبةُ الأوروبيةُ ليست وليدةَ تاريخِها الخاصِّ فقط، بل إنّ جانبَها الأكثرَ ظُلمةً لن يتكشّفَ إلا حينَ ربطِها بتواريخِ المجتمعاتِ التي اُستعمِرَت منذ القرن السادس عشر. ولا يمكنُ فهمُ ظاهرةِ معاداةِ الساميّةِ والمَحرقةِ خارجَ هذا التاريخِ الطويل. ولذلك فإنّ قراءتَهما للمسألةِ اليهوديةِ ضمنَ سَرديّةِ الحداثةِ الأوروبية لا تَكشفُ العواملَ الأساسيةَ التي ساهمَت في صعودِ الهتلريّةِ وحدوثِ المَحرقةِ النازيّةِ. وبالمِثلِ، فإنّ تطوُّرَ عنفِ أوروبا الداخليِ وهويّتَها القوميةَ الثقافيةَ ليسا نتيجةَ حركةٍ داخليةٍ في أوروبا فقط، بل نتيجةُ العنفِ الذي مارسَته الدولةُ القوميةُ الأوروبيةُ في المستعمَرات. ناقشَتْ بوك موريس هذه النظرةَ حول الهويّةِ الأوروبيةِ وعنفِها في كتابِها "هيغل، هاييتي والتاريخ العالمي" قائلةً إنّ الهويّةَ الثقافيةَ الأوروبيةَ "بدأَت تترسّخُ في الوقت الذي كانت فيه الممارسةُ الاقتصادية للعبودية قائمةً على الاستعباد الرأسمالي الممنهَج والمتطوّر للغاية لغير الأوروبيين باستخدامهم قوىً عاملةً في المستعمرات. ومِن المفارَقةِ أنّ الاستعمارَ سهّلَ الانتشارَ العالميَ لمُثُلِ التنويرِ التي انتشرَت ضمنَ هذا التناقضِ الأساسيِ معَه".
لقد تجاهلَت سَرديةُ أدورنو وهوركهايمر هذا الربطَ بين الهولوكوست وتجارِبَ المجتمعاتِ وتواريخَها خارجَ أوروبا، واستَبعَدَت تجرِبةَ الآخَرِ الأَقصى داخلَ نسقِهما النظريِ استمراراً لما ظلّت تَفعلُه الفلسفةُ الأوروبية. وبهذا التجاهلِ المنهجيِ، اتَّخذَ هابرماس مِن مسألةِ الهولوكوست دون غيرِها ذريعةً للتخلصِ مِن النزعاتِ القوميةِ التي كانت وبالاً على أوروبا وعلى آخَرِها الداخلي. فقد وُضِعَ اليهوديُ داخلَ نصِّ جدلِ التنويرِ ضحيّةً مُثْلَى لمَسعَى التنوير في التخلّصِ من الطبيعة وانفصالِها عنها. لكن مثلما تَخبِرُنا التجربةُ الطويلةُ لحقبةِ الاستعمارِ، والدراساتُ المكثفةُ منذ القرن الماضي، فاليهوديُ لَم يكُن أَوّلَ ضحايا العقلِ والمجتمعِ الحديثَيْن اللذَيْن حوّلا الطبيعةَ إلى أداةٍ، بل تَتّسعُ قائمةُ الضحايا لتشملَ الإفريقيَ والآسيويَ والعربيَ والمجتمعاتِ الأصيلةَ في الأمريكتَيْن وأستراليا. ويمكنُ تتبّعُ التمييزِ والعنصريةِ التي مارَسَها العقلُ الحديثُ على تلك المجتمعاتِ في معظمِ الأعمالِ الفلسفيةِ والتي تجدُ تكاملَها المطلقَ في الاتجاهِ الفلسفيِ عند هيغل حين يقولُ في كتابِه "العقل في التاريخ" عن الإفريقيِ إنّه "يمثّلُ الإنسانَ الطبيعيَ في حالتِه الهمجيةِ غيرِ المروَّضةِ تماماً ولا بدّ لنا، إنْ أَردنا فهمَه فهماً حقيقياً سليماً، أنْ نضعَ جانباً كلَّ فكرةٍ عن التبجيلِ والأخلاقِ وكلِّ ما نسمّيه شعوراً أو وجداناً، فلا شيءَ ممّا يَتّفقُ مع الإنسانيةِ يمكن أن نجدَه في هذا النمطِ من الشخصية".
لقد نشأَت الهويةُ القوميةُ الأوروبيةُ وتكشّفَت بالاختلافِ، وليس بتأمّلٍ داخليٍ لِلذاتِ؛ نشأَت تحديداً عند لقائها بالآخَرِ غيرِ الأوروبي في المستعمَرات. يُؤرّخُ لهذا اللقاءِ بالقرن السادس عشر عند غزوِ الأوروبيين للأمريكتين. بل وصلَ الحدُّ بهم كما يؤكِّدُ كيخانو في نصِّه "استعمارية القوة والمركزية الأوروبية وأمريكا اللاتينية" بالشعور طبيعياً بالتفوقِ على جميعِ البشرِ. بدأَ هذا اللقاءُ عنيفاً، واحتاجَ دائماً إلى تسويغاتٍ وتبريراتٍ لأنّ الاستعمار قد أَخَذَ على عاتقه تحريرَ الناسِ بِاسمِ الإنسانيةِ، وهو ما مَدَّتْه به الفلسفةُ والعِلمُ الحديثان منذ ديكارت إلى الفلسفةِ المعاصرةِ بتطويرِ معرفةٍ عِرقيةٍ تحطُّ مِن الشعوبِ وتزيدُ مِن شعورِ التفوّقِ للأوروبيين. ومع وضوحِ عنصريةِ هذه الفلسفةِ وإلغائها شعوبَ العالم مِن التاريخِ والإنسانيةِ، إلّا أنّ بعضَ المفكِّرين مِن غيرِ الأوروبيين يَتجاهلون هذا الأمرَ ويُنكِرونه بدعاوىً مختلفةٍ. وبذلك يَنبَري محمد عبد الرحمن حسن في كتابه "ذاتيات: فضّ نظرةِ الفلسفة الأوروبية إلى الإنسان والمجتمع" قائلاً: "يعتقدُ البعضُ أن عباراتِ العرقيةِ والعنصريةِ التي تظهرُ في نصوصِ كبارِ الفلاسفةِ والمفكِّرين الغربيين مجرَّدُ انحرافاتٍ عارضةٍ لا يجبُ أن تُعامَلَ بجِدّيةٍ. ولكن حينَ تؤخَذُ تلك العباراتُ مقترنةً بالمشروعِ الكلّيِ لفيلسوفٍ ما، والواقعِ الذي أُنتِجَت فيه، ثمّ تُلحَق بالخطاب العامّ للفلسفة الأوروبية وسباق السيطرة على العالم، فسوف يتضّح أنّها تشكّل جزءاً مِن كُلٍّ متماسكٍ ومنظّمٍ. ويستمدُّ الأوروبيون من ذلك الكُلِّ اعتقاداتٍ راسخةً حول تميّزهم عن بقية البشر، فيَتهيّؤون عقلياً ونفسياً للعمل على إخضاعهم. وتظهرُ تلك الاعتقاداتُ أيضاً لدى مفكّرين غربيين معاصرين مشتغلين بنقد السيطرة، وإنْ كان ضمنياً، بما أنّهم يغضّون الطرفَ عن ميراثِ التمييز الهائل الذي يزخرُ به تاريخُ الفكر الأوروبي، ويستمرّون في دراسته وتدريسه دون نقده". وهذا يشملُ النظريةَ النقديةَ، فلمْ تكُن استثناءً من هذا المسار.
لقد صَنّفَ الفكرُ الأوروبيُ العالَمَ ومجتمعاتِه تراتبياً وفقاً لمنطقِ العِرقِ والتقدّمِ التاريخي. وقد تطوّرت هذه الأفكارُ منذ استعمارِ ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر لتصبحَ أيديولوجيا الغزوِ "الحضاري"، الذي مارسَ به الأوروبيون أبشعَ أنواعِ القتل والإبادة في التاريخ، كما حدثَ في الكونغو والجزائر وناميبيا والأمريكتَين وأماكنَ أُخرى أثناءَ حقبةِ الاستعمار. وقد صُنِّفَ اليهودُ الأوروبيين ونُظّمَت إبادتُهم باعتبارهم عِرقًا، كما فُعلَ مِن قبلُ بالمستعمَرات. لذلك يوجِدُ البعضُ أساساً للحجّةِ القائلةِ بخطأِ فصلِ مأساةِ آوشفيتس عمّا حدثَ خارجَ أوروبا. فمعسكراتُ الاعتقالِ والإبادةِ والعنصريةِ تجدُ أساسَها القويَّ والمتينَ في الممارَساتِ التي نُفذّت بدايةً خارج أوروبا ثمّ انتقلَت إلى الداخل. وهذا يتطلّب ربطاً ووصلاً بين هذه الظواهر خارج أوروبا وانعكاساتِها الداخلية، أو على الأقلّ أن ينتجَ عن دراستها داخلياً تعقبُّها في الخارج. وهذا النوعُ من التفكير والنقد قد تطوّرَ في العديد من أعمال مفكّرِي الجنوب لنقدِ ما بعد الحداثةِ، والتي يُجْمِلُها ويضيفُ إليها محمد عبد الرحمن حسن في فصلِ "لا مرئية الآخرين" في كتابه "ذاتيات" المذكورِ سابقاً.
تكمن أهميةُ هذه الأرضيةِ النظريةِ من التحليل في المساعدةِ على نقدِ الأُسُسِ التي انْبَنَت عليها كلُّ فلسفةٍ أخلاقيةٍ تُعنَى بالآخَرِ الأقربِ وتهمِّشُ الآخَرَ الأَقصى غيرَ الأوروبيَ، كما هو حالُ النظريةِ النقديةِ وخاصّةً أعمالُ أدورنو وهابرماس. ذلك أنه قد تأسّسَ على تحليلِ معاداةِ الساميّةِ في كتابِ "جدل التنوير" نقدٌ للحداثةِ الظاهرةِ ونداءاتٌ أخلاقيةٌ أطلقَها أدورنو في كتابه "جدلية سلبية" حيث كتبَ: "لقد فرضَ هتلر على البشر في وضعِ انعدامِ حريتِهم أمراً قطعياً جديداً: أن يفكّروا ويفعلوا بحيث لا يتكرّرُ آوشفيتس، وألّا يحدثَ شيءٌ يشبهه". ويمكن الوقوفُ عند هذا الاقتباسِ والتساؤلُ لماذا ذُكِرَ البشرُ، ولماذا تُرفَعُ الضحيّةُ اليهوديةُ وقاتلُها هتلر لتمثّلَ أمراً قطعياً ملزِماً للجميعِ، ولماذا حين يُذكرُ ضحايا آخَرون وقتلةٌ آخَرون، يُذكَرون في سياقِهم القوميِ أو الحضاريِ الخاصِ دون أن ينالوا شرفَ الترفيعِ لمستوى البشرية.
لا يمكن تحليلُ هذه النقلةِ من أوروبا أو ألمانيا بوجهٍ خاص إلى البَشَرِ، إلّا بالطبيعة الافتراضية في الفلسفة الأوروبية، والتي تَتصوّرُ نفسَها فلسفةً كونيةً تُمثِّلُ البشريةَ أو الإنسانيةَ النموذجيةَ وليس الإنسانيةَ الأوروبيةَ فحسب. يوازي هذا الافتراضُ الكونيُ في الفلسفة الأوروبية ما نراه الآن على مستوى الإعلام من تصريحاتٍ أوروبيةٍ وأمريكيةٍ تتضامن مع المحتلّ الإسرائيلي على أنه ضحيّةٌ، وتُكمِّمُ أفواهَ الغربيين وغيرَ الغربيين وتعتقلُهم حين يتحدّثون عمّا يحدث في غزة. وفي اعتقادي تجدُ هذه الممارسةُ السياسيةُ والتكميميةُ أساسَها في الفصل المعرفي والأخلاقي والتاريخي لأوشفيتس حدثاً إنسانياً فريداً لا مثيلَ له ولا صلةَ له بممارساتٍ سابقة بحيث ينبغي على العالَم أن يتألّم له وحدَه دون غَيرِه. وهو ما سيمثّل لاحقاً عنصراً أساسياً للعَمى عن فهم ظاهرة الحداثة بشُمولٍ داخل نقدِ ما بعد الحداثة، بل اكتفاء الآخَرين غير الأوروبيين بنقدهم لها دون تطويرِ انتقاداتِهم الخاصّة المنطلقة من تجارِبهم وتجاربِ شعوبِهم.
لا يتلخصُ الخللُ النقدي في النظرية النقدية في اقتصارها على أوروبا فحسب، بل في نظرتها للحداثة مجرَّدَ انحرافٍ عن المسارِ أو انقلابٍ عليه. نجدُ ذلك في دفاع أدورنو وهوركهايمر عن الصفات الإيجابية للحداثة مثل الاستقلالية والفردية والعقلانية، في حين أنّ هذه المفاهيمَ نشأَت في خضمِّ انعكاس الاستعمار على الفِكر، وذلك بتصوّر أن التاريخ يمكن أن يصنعَه البشرُ بأفكارهم. لقد مكّنَ الاستعمارُ هذه المفاهيمَ من الظهور بسبب الشعور بالتفوق وإمكانيةِ تغيير التاريخ عبر الإرادة البشرية فقط، فتصوّرَ الأوروبيون أنفسَهم مستقلين وأحراراً بينما استعبَدوا الآخَرين. ويتناقض الفكرُ الأوروبيُ بما أن هذه المفاهيمَ قد تكشّفَت في الواقع وعلى مستوى الفكر في نقيضِها عبر عملياتِ الاستعباد ونفيِ الآخَرين لأنهم غيرُ عقلانيين، مما يثير الكثيرَ من الشكوك حول هذا النقد المحدود وغير المكتمل في النظرية النقدية. ومع الانتقادت لكتاب "جدل التنوير"، إلّا أنّه مهمٌ في دراسةِ ظاهرة التنوير والحداثة في سياقها الأوروبي وفي ما قدّمَه من انتقاداتٍ لمثالبِ الحداثة. فالكتاب يقدّم نقداً قيّماً للحداثة في جانبها الخطابي وتمثّلاتِه، ويَنقدُها نظاماً للمعرفة متعقِّباً عناصرَها في المجتمع والدولة الأوروبيَين ومتجاوزاً الانتقاداتِ الأُخرى التي وقفَت عند الطابع الخطابي والنصّيِ كما هو الحالُ عند دريدا على سبيل المثال.
ومثلما أتاح أدورنو مساحةً فلسفيةً لوجود الآخَر عبر تبيين استحالةِ المطابقةِ الهيغلية، فهو سيفعل الأمرَ نفسَه إزاءَ فلسفة كانط الذاتية. فإذا كانت الذاتُ عند هيغل تسعى للقضاء على آخَرِها بالمطابَقةِ معه، فإن الذات عند كانط غيرُ آبهةٍ بآخَرِها لأنها مكتفيةٌ بنفسها منغلقةٌ عليها. فهي لا تكون حرّةً إلّا بانفصالها عن الذوات الأُخرى والشروط الاجتماعية والتاريخية التي توجد فيها، وتكتفي بالانصياع لأوامرها الصادرة عنها. لذلك عدَّها أدورنو أخلاقاً متعاليةً ومنفصلةً عن التاريخ. وتعبّرُ إرادةُ هذه الذات عن نزعةٍ عقليةٍ محضةٍ أو نظريةٍ بحتةٍ بلا أي دوافعَ محسوسةٍ واجتماعية. يؤدّي هذا التصورُ للذاتية بالنسبة إلى أدورنو إلى إخضاع الجسدِ والرغباتِ للإرادة العاقلة وللدوافع الناجمة عن القانون والواجب الأخلاقي. وهي ستسعى لتحقيق ذلك بممارسة العنف على الطبيعة الحسّية في الإنسان، وسينقلبُ العالَمُ الخارجيُ إلى عدوٍّ، وستضطرُ الذاتيةُ إلى إخضاع نفسِها والموضوعاتِ إلى واجبِها المحضِ خارج كل علاقةٍ مع الآخَرين لتحقيق الفعل الأخلاقي الحُرّ، وتنتهي في النهاية إلى إخضاع الطبيعة الحسّية وإخضاع الذاتِ نفسها للواجب.
استطاع أدورنو بهذا النقد تطويرَ فلسفةٍ تقيمُ الأخلاقَ على أولويةِ الآخَرِ وخصوصيتِه ومعاناتِه الجسدية والحسية ومن ثمّ إبراز الطابع النقدي والمقاوم للجدل السلبي في علاقته بالأخلاق. ومع هذا، فإننا إذا وضعنا أفكارَ أدورنو في سياقِها الألماني، سيتضّحُ أنّ آخَرَها هو الآخَرُ الأقربُ الذي ينحصر في اليهودي الأوروبي، وفي أكثر تجليّاته الآخَرِ القوميِ الأوروبي. فهذه المعالَجةُ الأدورنيّة لا تتعدى حدودَ أوروبا بما أن نموذجَها أوشفيتس ولا تستطيع إدراكَ الآخَر الأقصى سواءً كان في ناميبيا أو الهند أو الجزائر أو أمريكا الجنوبية، إذ تقع هذه المجتمعات خارج أفقِ الفكر الأوروبي. فمع كل النقد الذي وُجّهَ للبنية التي تنتج العنفَ ضد الآخَر الأَقربِ، لم يتعرّض روّادُ النظرية النقدية إلى النصوص المؤسِّسة للعنصرية الموجَّهة للآخَر الأقصى في مدوّنات فلسفة الأنوار. ولن نجد كذلك تحليلاً واحداً لعناصر معاداة غير الأوروبيين داخل النظرية النقدية، ولا توجدُ أيُّ أداةٍ مفاهيميةٍ تحليليةٍ تُعين على فهم ظاهرةِ الحداثةِ في المستعمرات. بل إنّ نقدَ أدورنو للذاتية والكلّية سيبتعد عن الآخَر الأقصى، الذي هو آخِر الجغرافيا الطبيعية التي يقول فيها كانط: "لقد تحدّى هيوم أيَّ شخص ٍأن يقدّمَ مثالاً على شيءٍ أظهرَ فيه الزنجيُّ موهبةً. وهو يؤكّدُ أنّ مِن بين مئاتِ آلافِ السُود الذين جرى نقلُهم إلى أماكنَ أُخرى خارجَ موطنِهم، مع أنّ كثيرين منهم قد حُرِّروا، لَم يوجد واحدٌ قدّمَ شيئاً عظيماً في الفن أو العلم، أو أيَّ شيءٍ له قيمة".
رأى هابرماس في هذه التحوّلات محاولةً خطيرةً لإحياءِ هويّةٍ ألمانيةٍ مطهَّرةٍ من جرائم الماضي ومدعاةً للفخر، ووجدَ نفسَه مسؤولاً عن الدفاع عن هويّةٍ وطنيةٍ مرتبطةٍ بشكلٍ رئيسيٍ بالدستور وعن فرادةِ لحظةِ الهولوكوست. إلا أن طريقةَ دفاعِه عن هاتين المسألتين تتضمّن إلغاءَ الآخَر الأقصى. ففي نصّه "حول الاستخدام العام للتاريخ: الفهم الذاتي الرسمي للجمهورية الاتحادية يتفكك" يدافِعُ هابرماس عن هويةٍ وطنيةٍ تتجاوز الهوياتِ التقليديةَ وتستند على المواطَنةِ الدستوريةِ وينتمي الجميعُ فيها إلى الدستور. تعملُ هذه الهويةُ على تجاوزِ أشكال الهوية التقليدية كالهوية القومية وذلك بالتعلّم من الماضي والتذكّر المشترك، واعتبار التاريخ مسؤوليةً مشتركةً عابرةً للأجيال. وتحتاج هذه الهويةُ الدستورية إلى قوةٍ تحفيزية وجدَها هابرماس في عملية التذكّر. فهابرماس يجدُ الطعنَ في الماضي وعنفِه أسبقيةً وأولويةً على الذكريات نفسها، حيث لا يمكن للسياسة اليومية أن تنتجَ هذا النوع من القوة التحفيزية لإنتاج ثقافةٍ وطنيةٍ دستوريةٍ غيرِ دمويّة. فكلُّ تصوُّرٍ بالنسبة لهابرماس للهويةِ القوميةِ قد جاءَ ملطَّخاً بعملياتِ تطهيرٍ دمويّة.
والماضي الذي يمثّلُ تذكّرُه عند هابرماس قوّةً تحفيزيةً لهذه الهويّة الدستورية المتجاوزة للهويات القومية والعرقية هو بشكلٍ رئيسيٍ ماضي الهولوكوست بعد رفعه وحده لمستوى المأساة البشرية. لا يمكن فهمُ الربطِ بين التعلّم من الماضي وبناء هويّة دستورية والهولوكوست عند هابرماس، إلّا بالتمييز الذي قدّمَه أدورنو لآوشفيتس باعتباره جريمةً بشريةً استثنائيةً وتحذيرِه الواضحِ من تكراره. لذلك فما يحدثُ في غزّة لا يمثّلُ قتلَ دولةٍ قوميةٍ أوروبيةٍ مواطنين أوربيين، فهو لا يتضمّنُ الشقَّ الثانيَ من النداء الأخلاقي لأدورنو وهو ألّا يتكرّر شيءٌ يشبهه، فلا مانعَ برأيِ هابرماس بما أنهم غير أوروبيين. وهكذا سعى هابرماس لتوظيف آوشفيتس من أجل بناءِ هويةٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ مختلفةٍ تتحاشى الوقوعَ في شِراك القومية، وتمتدُّ لتشمل جميعَ الأجيال ليس في ألمانيا فحسب، بل في كلِّ أوروبا حتى لو لم يكُن لهم مسؤوليةٌ مباشرة. يقول هابرماس عن أبناء هذه الأجيال الأوروبية أنّهم "قد نشأوا في أسلوب حياةٍ كان ذلك ممكناً فيه. إنّ حياتنا مرتبطةٌ بهذا السياق من الحياة الذي كان فيه آوشفيتس ممكناً، ليس من خلال الظروف الطارئة، ولكن داخلياً". وبهذه الطريقة يكون هابرماس قد ربطَ الحياةَ السياسية الألمانية والأوروبية أيضاً بهذه اللحظة المذنبة. ويشبِّه عملَه هذا بالتوبة المسيحية ويستعمل في نصّه لفظَ "ريبينتينس"، والذي يمكن أن نجدَ جذورَ دلالتَه الدينيةَ حسب ما يسعى إليه هابرماس في نصّه في فقرةٍ في سِفْرِ الأمثال من الكتاب المقدّس تقول: "مَن يَكتم خطاياه لا ينجح، ومن يُقرُّ بها ويتركُها يُرحَم".
سنجد في قراءة أعمال هابرماس في هذه اللحظة الموسّعة التي تشمل تحرّر المستعمرات مدى أوروبيّة علاقته بالقومية. فهذه العلاقة مرّت بمرحلتين. بدأت أولاً بعداء محدود تجاه القومية فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحرر المستعمرات حتى اتّحاد ألمانيا. وهو ما يظهر بوضوح في نصوصه السياسية الأولى إلى حدود نصوصه في "سجالات المؤرّخين" التي حاولَ فيها كبحَ جماحِ القومية حتى لا تتفجّر في وجهِ أوروبا مرّةً أُخرى أثناءَ تحرّرِ المستعمَرات، بربط القومية بالماضي وذاكرة الهولوكست. كان ذلك بسبب تحرّرِ العدو كما يقول كارل شميت، المفكّر السياسي والقانوني الألماني، فقد كان العدوُّ بالمستعمَرات هو الذي يؤدي دورَ ترحيل عنفِ القومية بالخارج والذي انعكس لاحقاً إلى الداخل في أوشفيتس والحربين العالميتين.
انتهى هابرماس في مرحلته الثانية من علاقته بالقومية للسعي إلى القضاء عليها تماماً عبر إذابتها في هويّةٍ أوروبيةٍ كُبرى متضمَّنةٍ داخل الإتحاد الأوروبي وذلك لمجابهةِ القطبية الأمريكية. فبعد الغزو الأمريكي للعراق، أصدرَ هابرماس بياناً منشوراً في الحادي والثلاثين من مايو 2003 بعنوان "ما الذي يجمع الأوروبيين معاً؟" ووقّعَ عليه نخبةٌ من الفلاسفة والمفكّرين من أوروبا وأمريكا الشمالية مثل دريدا وريتشارد رورتي وأمبيرتو إيكو وغيرهم. صدرَ هذا البيانُ في سياقِ احتجاجاتٍ أوروبيةٍ على احتلال العراق. وقرأَ هابرماس هذه الاحتجاجات بوصفِها تعبّرُ عن ولادةٍ جديدةٍ للمجال العامّ الأوروبي ولهويةٍ أوروبيةٍ جديدةٍ، إذ يتعيّن "على الناس أن يَبنوا هوياتِهم الوطنية ويضيفوا إليها بعداً أوروبياً". ولن تجدَ في هذا البيان ذِكراً للعراق أو العراقيين سوى فقرةٍ صغيرةٍ جدّاً أشار فيها إلى عمليات الموت والألم التي يمكن أن يعانيها الناس نتيجةَ الغزو. في مقابل ذلك، ركّزَ البيانُ حديثَه عن أوروبا والقِيَم الأوروبية والتقاليدِ التي تجمع الأوروبيين معاً لمواجهة القطبية الأمريكية. ويقول البيانُ: "على المستوى الدولي وفي إطار الأمم المتحدة، يتعيّن على أوروبا أن تلقي بثقلها على الميزان لموازنة النزعة الأحادية المهيمنة للولايات المتحدة".
لا يذكر هابرماس في بيانه الاستعمارَ باعتباره أحدَ عوامل تشكيل الهوية الأوروبية التي يصفُها بأنها "قائمةٌ على الوعي بالمصير السياسي والمستقبل المشترك". ولو جاءَ طمسُ الاستعمار ضمن سياقٍ يطمس كلَّ جانبٍ سلبيٍ في الهوية الأوروبية وتاريخِها لكان الأمرُ هيّناً، لكن البيانَ يقصِر الجوانبَ السلبيةَ في الهوية الأوروبية على الهولوكوست والحربين العالميتين والصراعات بين العِلم والدِين والصراعات فيما بين دول أوروبا. ثمّ يصلُ إلى أنّ هذه السلبية هي الخاصّيةُ الأوروبية، أي أنّ أوروبا تتعلم مِن تجاربها وتتجاوزها. ثمّ يشير في البيان ذاته إلى أنّ بعضَ القيمِ الأوروبية قد انتشرت مثل العلمنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع البرجوازي. لكنه في الوقت نفسه يطمس كيفيةَ انتشارها. أما الجانبُ الإيجابيُ لهذه الهويةِ فيذكر قِيَمَ القوّة الناعمة والسلام في سياساتها الخارجية والبعدِ عن الحرب والتفاوض كما يشير إلى الجذر اليهودي المسيحي للحضارة الغربية والعقلانية والفردانية والتي تشمل بالطبع أمريكا وأستراليا وكندا. وفي موضعٍ وحيدٍ من آخِرِ فقرةٍ من البيان يربط هابرماس ازدهارَ أوروبا بالتوسّع الاستعماريّ حين يذكر "لقد شهدَت كلُّ دولةٍ من الدول الأوروبية الكبرى ازدهار قوتّها الإمبراطورية. وما هو أكثر أهميةً في سياقنا، هو أنّه كان على كلٍّ منها (أي الدول الأوروبية) أن تعملَ عبر تجربة فقدان إمبراطوريتها. في كثيرٍ من الحالات، ارتبطت تجربة التدهور هذه بخسارة الأراضي الاستعمارية"، ولكنه للمفارقة لا يربط هذا الازدهارَ التقني والاقتصادي وحتّى القِيَمي في نظريته النقدية بعملية التوسّع الاستعماري، بل يرى جميعَ هذه التحولّات ضمن حركةٍ تاريخيةٍ أوروبيةٍ داخلية.
لا يكتفي البيانُ بذلك، بل يذهبُ إلى أنّ الآخَرين باتوا يعترفون بالهوية الأوروبية. والمدهشُ في هذا السياق نوعُ الآخَرين الذين يختارهم لإثبات الهوية الأوروبية، فهو يقول إن هناك "ملامحَ مشتركةً لذهنيةٍ سياسيةٍ بدأت تتشكّل لدرجة أن الآخَرين كثيراً ما يدركوننا بوصفنا أوروبيين لا ألمانيين أو فرنسيين، وهذا لا يحدث في هونغ كونغ فحسب، بل حتّى في تل أبيب". وهذا هو الموضع الوحيد في كل النصّ الذي ذُكر فيه مفهوم الآخَر، إذ يكشف فيه هابرماس أن آخَرَه ليس مرتبطاً بجغرافيا أوروبيةٍ فقط بل بقِيَمٍ وتاريخٍ مشترَكٍ وتقاليدَ سياسيةٍ أوروبيةٍ في نهاية المطاف. فمع أن هابرماس يعتبر سكان هاتين المنطقتين آخَرين، لكنهم آخَرون من النوع الأقرب الذي يوجِدُ بينهما روابطَ ثقافيةً وقيميةً نابعةً من التجربة الأوروبية، إذ تتشارك هاتان المنطقتان مع أوروبا قيمَ الديمقراطية حسب خصوصية كل حالةٍ من الحالتين. والحقيقة أنه خلافاً لما يزعمه هابرماس، فإن ما يربط هاتين المنطقتين بأوروبا هو جانبُها المظلم المرتبط بالاستعمار والعنصرية والتبعية ما بعد الاستعمارية. ويتضّح مِن هذا كلّه أنّ مفهوم الآخَر عند هابرماس محدودٌ للغاية ويندرج ضمن فلسفةٍ تقوم على اختلافٍ ضمن دائرة التشابه، أو اختلافٍ مع الآخَر الأقرب دون نظرٍ للآخَر الأقصى.
وهذا الانغلاقُ التواصليُّ يفسّر لنا حدودَ الخطيئة والتوبة عند هابرماس. فإذا كان تاريخ أوروبا ليس مقتصراً على جريمة الهولوكوست، بل على تواريخَ وجرائمَ كثيرةٍ خارج أوروبا حدثت أثناء الاستعمار، فإن مساحة التوبة المسيحية التي يفكّر بها هابرماس ويوظّفها في نصّه تتطلب تأسيسَ هويةٍ دستوريةٍ متجاوزةً القوميةَ شاملةً أمماً وشعوباً أُخرى وليس اليهود فقط. لكننا لا نرى هابرماس يشعر بالذنب ويرغب بالتوبة عن جرائم الألمان في ناميبيا. ولا نراه يخشى خطرَ القوميّات العنصرية خارج أوروبا، كالقوميّة العنصرية التي تنطوي عليها إسرائيل وخطرها الإبادي على بشرٍ آخَرين. لو كان هذا مرئياً لهابرماس، لرأيناه يُدينها ويصدرُ أمراً قطعياً جديداً مثل ذلك الأمر الذي أصدره أدورنو عن آوشفيتس، وهو أمرٌ سائغٌ خارج إطار أوروبا ويكون كونياً أكثر من الأوّلِ المحدود. ولكن بما أنّه يؤسّس فلسفتَه على أرضيةٍ أوروبيةٍ خالصةٍ غير مرتبطةٍ بالخارج، بل تتجاهلُ الخارجَ تماماً، فلن يكون بمقدوره عملُ أيٍّ من هذا، ولن يكون تعليقُه على حدثٍ مثلِ هذه الحرب المروّعة في غزّة إلا تعليقاً مرتبطاً بأوروبا وآخَرِها القريب.
وهذا ما يتّضح من بيانه حول الحرب على غزّة، فكُلُّه يدور حولَ أوروبا. فما حفّزَ البيانَ هو خوفُه من عودة النزعات القومية في ألمانيا. يظهر ذلك بوضوحٍ في قوله في البيان "وكيفما كان الحال، فإن تصرّفات إسرائيل لا تبرِّر بأيّ حالٍ من الأحوال ردودَ الفعل المعادية للساميّة، وخاصّةً في ألمانيا". إذ أنّ أمرَ معاداة الساميّةِ ووقوفَ هابرماس مع إسرائيل يرتبط بتوجّهاته المعادية للقومية واحتمالية عودتِها في ألمانيا ثمّ أوروبا. كما تتكشّف حدودُ انفتاحه على الآخَر الأقصى عند حديثه في البيان عن المواطنين من أصولٍ غيرِ أوروبيةٍ، من عربٍ ومسلمين وأفارقةٍ، الذين عَدَّ تضامنَهم مع فلسطين بثّاً لروحِ كراهيةٍ معاديةٍ للساميّة. فهؤلاءِ، على مواطَنَتهم في أوروبا، يَبدون أبعدَ وأخطرَ على أوروبا من إسرائيل التي تصبح حمايتُها والتهوينُ من جرائمها جزءاً من الحفاظ على أوروبا. وقد وصفَهم في البيان بأنهم "أولئك الذين يُقيمون في بلادنا"، وهي وقاحةٌ غريبة، فلا شأنَ لهؤلاء بما حدثَ في سياقٍ أوروبيٍ، وهُم الآن يتضامنون مع الفلسطينيين إزاءَ مجزرةٍ أوروبيةٍ جديدةٍ بما أنّه وصفَ إسرائيل في أكثر من مرّةٍ بالأوروبية والغربية أو امتدادٍ لهما. ولكن يبدو أنّ النازيةَ متغلغلةٌ كثيراً في قلب الفيلسوف الكبير، بما أنّه غَيّرَ مسارَها وأعادَها مرّةً أُخرى خارج أوروبا كما كانت من قبل في المستعمَرات، وكما فعلَ مِن قَبْلُ سلفُه الفيلسوفُ الألماني لايبنيتس بالاقتراح الذي قدّمَه لملك فرنسا لويس الرابع عشر لغزو مصر بعد أن تردّد عزمُه على غزو هولندا وألمانيا.
يبدو أنّ الشاعر والمفكر الكاريبي المارتينيكي إيمي سيزار كان محِقّاً حين قال في كتابه "خطاب حول الاستعمار": "يتفاجأ الناس ويصبحون ساخطين. يقولون: إنها النازية. نعم، ولكن قبل أن يكونوا ضحاياها، كانوا شركاءَ لها. وقد تسامحوا مع تلك النازية قبل أن تُفرض عليهم، وقد برّأُوها، وأغمَضوا أعينَهم عنها، وأضفوا الشرعية عليها، لأنّها، حتى ذلك الحين، كانت تُطبّق فقط على الشعوب غير الأوروبية". ومع أنّ نصَّ سيزار المقتبَس سابقاً قد كُتبَ في لحظةٍ تبدو أقدمَ وقد مضى زمنُها، إلّا أنّ استدعاءَ سيزار يبدو مبرَّراً لأنّه لم يُسمَع ويؤخَذ بجدّية. فمعَ مخاطَبةِ سيزار الأوروبيين إلّا أنّه لَم يجِد آذاناً صاغيةً. ويُذكِّرنا بهذا النسيانُ المتعمَّد للآخَرين ضمن السردية الأوروبية، والتي ما زالت متواصلةً، وفي أكثر مدوّناتها الحديثة التي تدّعي الكونيةَ، أي هابرماس ونصوصه. لم تكن مدرسةُ فرانكفورت وحدها من حلّلَت النازيةَ ولحظةَ أوشفيتس، بل هناك مدوّناتٌ فلسفيةٌ واجتماعيةٌ وتاريخية قد حلّلَت هذه اللحظةَ، إلّا أنّها تجاوزَت تجاربَ الآخَرين غير الأوروبيين وسردياتهم. ولم تبدأ الفلسفةُ الأوروبيةُ بمراجعة نفسها إلّا حين ذاقت الويلَ الذي ذاقته المستعمَرات قبلَها بكثيرٍ، ولكنّها، للأسف، لم تشعر بضرورةِ قراءتِها ضمن تواريخ العالم والمضطهَدين.