استمع لهذه القصة
قرارُ تعليق مجلس الأمَّة هو الأوّلُ منذ تحريرِ الكويت من الاحتلال العراقي سنة 1991. إذ عُقِد مؤتمرٌ في مدينة جدَّة السعودية في أكتوبر 1990 بين أُسرةِ الصباح، التي كانت تَتّخذ من الطائفِ مقرّاً مؤقّتاً لحكومتِها في الخارج، ونُخَبٍ كويتيةٍ من مختلف التيارات السياسية الكويتية. خَلَصَ المؤتمرُ حينَها إلى ما سُمِّيَ "اتفاق جدَّة" الذي تعهّدَت فيه الأُسرةُ بعودةِ الحياة البرلمانية إلى الكويت بعدَ طَرْدِ المُحتلِّ العراقيّ. يُعَدُّ تعليقُ مجلس الأُمّة الآنَ خروجاً على هذا الاتفاق وعودةً إلى الأساليب غير الدستورية التي كانت تستخدم بكثرةٍ قبل عقد الاتفاق، إذْ حُلَّ المجلسُ مرّتَيْن حَلّاً غيرَ دستوريٍّ مع تعليق موادٍّ من الدستور؛ الأولى عام 1976 واستمرّ الحَلُّ أربعَ سنواتٍ، والثانية عام 1986 ولم يَعُد المجلسُ إلّا بعد اتّفاقِ جدّة وتحريرِ الكويت.
كان الحلُّ غيرُ الدستوريِّ الثالثُ للمجلسِ ثمرةَ العلاقةِ المتوتّرةِ بين مؤسَّسة الإمارة ومجلس الأمَّة في العقدَيْن السابقَيْن. شطرٌ من هذا التوتّرِ هيكليٌّ تَنامَى بسببِ الآلِيّات والمحدِّدات الدستورية التي نَظمَت العلاقةَ بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، ووَزَّعَت السُلطاتِ بما يُبْقِي البابَ مُوارِباً أمامَ إعادةِ إنتاجِ الأزْماتِ وتعزيزِ الصِدامِ بين المؤسَّستَيْن. فمثلاً يُخوِّلُ الدستورُ مؤسَّسةَ الإمارةِ صلاحيةَ حلِّ المجلسِ والدعوةِ إلى انتخاباتٍ جديدة، بينما يَحِقُّ لأعضاءِ مجلس الأُمَّة استجوابُ الوزراء وسحبُ الثقةِ منهم.
منذ مؤتمر جدَّة، التَزمَت مؤسّسةُ الإمارةِ في إدارةِ علاقتِها مع الكُتَلِ السياسية بما حَدَّدَه الدستورُ. غيرَ أنّ العلاقةَ اضطَرَبَت منذ تَوَلِّي الأميرِ صباح الأحمد الصباح للحُكمِ سنةَ 2006 حتى وفاتِه سنة 2020. فقد استَنزَف الشيخُ صباح أثناءَ حُكْمِهِ ما أُتيحَ له من أدواتٍ دستوريةٍ وقانونيةٍ لإدارة علاقتِه مع القِوى السياسيةِ المختلفة. بينما لم تترفّقْ هذه القِوى في استثمارِ الأدوات التي يُتيحُها لها الدستور.
نجح الشيخُ صباح الأحمد عامَ 2012 في تَفْتيتِ الكُتَلِ والمجاميع السياسية بمجلسِ الأمَّة وهزيمتِها. لكنّ نجاحَه خَلَقَ مشكِلةً لَم تكُن في الحُسبان؛ إذ صار العملُ البرلمانيُّ فرديّاً ابتداءً من سنة 2013، فتقلّصَت قدرةُ الإمارة على التحكّم به والسيطرة عليه. وبعدَ وفاة الشيخ صباح سنة 2020 أَعلَن خليفتُه الأميرُ نوّاف الأحمد الصباح عن حوارٍ سياسيٍّ وتسوياتٍ للقوى المختلفة لتخفيف الاحتقان السياسي، بَيْد أن هذه المحاولةَ لَم تَنجح في وَأْدِ التوتُّرات. وبوفاة الشيخ نوّاف الأحمد سنة 2023 باتَ اللجوءُ إلى أدواتٍ غيرِ دستوريةٍ والخروجُ على اتفاق جدَّة أمراً محتمَلاً ما لَبِثَ الأميرُ الجديدُ أن قَصَدَهُ قَبْلَ إتمامِ سَنَةٍ مِن حُكْمِه.
شَرَعَ الخطيبُ، وهو مِن أوائلِ الأطباء الكويتيين، عندَ رجوعِه إلى الكويت، في بناءِ حركةٍ سياسيةٍ تطالِبُ بتحويلِ الكويتِ إلى إمارةٍ دستوريةٍ يَنتخِبُ فيها الشعبُ بَرلمانَه. كان أَثَرُ الخطيبِ في كتابةِ الدستورِ بَيِّناً بتقديم التَوصِيات والتعليقات إبّانَ عُضويّتِه في المجلس التأسيسيّ الذي انتُخِب عام 1962 بهدفِ صياغةِ الدستور واعتمادِه، وشَغَلَ الخطيبُ آنذاك مَنصِبَ نائبِ رئيسِ المجلس.
عَلَّقَ الأميرُ صباح السالم الصباح المجلسَ تعليقاً غيرَ دستوريٍّ أوّلَ مَرَّةٍ في الكويت سنةَ 1976، بعدَ صِراعٍ على مَنصِبِ وِلايةِ العَهْدِ بين ابنَي العَمّ؛ الشيخَيْن جابر العلي السالم الصباح وسعد العبدالله السالم الصباح؛ إذْ يَشترِطُ الدستورُ الكويتيّ مبايَعةَ أغلبيةِ أعضاءِ المجلسِ في جلسةٍ خاصّةٍ على مَن سيَختارُه الأميرُ لولاية العهد. خَلَقَ هذا الشرطُ تنافُساً بين الشيخَيْن جابر العلي وسعد العبدالله؛ فكِلاهُما يُريد استقطابَ مجلسِ الأُمَّة لضَمانِ مَنْصِبِ ولاية العهد بعدَ وفاة الأمير صباح وتولِّي وليِّ عهدِه الأميرِ جابر الأحمد الجابر الصباح الإمارةَ. فالشيخُ جابر العلي كان وزيرَ الكهرباء والماء ثمَّ وزيرَ الإرشاد والأنباء، أمّا الشيخُ سعد العبدالله فكان وزيرَ الداخلية ووزيرَ الدفاع. تَنوّعَت أساليبُ الصّراع بين الشيخَيْن حتى وَصَلَت إلى تزوير انتخابات مجلس سنة 1967. وَقَفَت كتلةُ أحمد الخطيب الإصلاحيةُ حينئذٍ في وجهِ هذا التزوير باستقالةِ مَنْ نَجَحَ مِن أعضائِها احتجاجاً.
أَلْقَى التنافُسُ بين الشيخَيْن جابر العلي وسعد العبدالله بِظِلِّه على الحياة السياسية في الكويت، حتّى حَلَّ الأميرُ صباح السالم الصباح المجلسَ عامَ 1976 لحَسْمِ هذا النِّزاع. وبَرَّرَ الأميرُ ذلك عندما تَلَا أًمْرَ الحَلِّ بتَأَزُّمِ العلاقةِ بين الحكومة والمجلسِ، مع أنَّ الواقعَ بَدا خِلافَ ذلك. فقد أشاد جابر العلي نائبُ رئيسِ الوزراء ووزيرُ الإعلام بالعلاقة بين الحكومة والمجلس في آخِرِ جلسةٍ للمجلس قبلَ أن يُفاجَأَ النُوّابُ بقرارِ الحَلّ. رَفَضَت بعضُ الصُّحُفِ مثل صحيفةِ الوطنِ اليوميّةِ والطليعةِ الأُسبوعيّةِ حَلَّ المجلس وقتَئذٍ، ورَفَضَه عددٌ من الهيئات وجمعيات المجتمع المدني التي أَصدرَت بياناً مشترَكاً في الثامن عشر من سبتمبر 1976 رَفَضَت فيه الإجراءاتِ الحكوميةَ. تَوالَت الضُغوطُ الشعبيةُ، وبَرَزَ ما سُمِّيَ "حراك مسجد شعبان الشيعي" الذي أَشعَل فتيلَه رجلُ الدِينِ الشيعيُّ أحمد عباس المهري بعد ستةِ أَشهُرٍ من اندلاع الثورة الإيرانية سنةَ 1979. كان الحراك في بدايتِه اجتماعياً يحارِب التمييزَ ضدّ الشيعة في الكويت، لكنَّ مساهَمةَ إصلاحيِّين قوميِّين ووطنيِّين فيه بإلقاء المحاضَرات أَضْفَى عليه بُعداً وطنياً. فقد حاضَرَ الدكتورُ أحمد الخطيب في المسجد مُبدِياً رَفْضَه إجراءاتِ تعليقِ مجلس 1975 بعدَ سَنَةٍ من انعقاده. يقول أحمد الخطيب عن ذلك في مذكّراتِه: "إن عناصرَ مقرَّبةً من الشيخ جابر العلي كانت تقول إن الحالةَ الصحّيةَ للأمير كانت صعبة. ولو أنه تُوُفِّيَ بوجود المجلس لكانت حظوظُ الشيخ جابر العلي في الولاية أَكبَر، لِما يَتمتَّعُ به من شعبيةٍ عند بعض النُوّاب، ويَستشهِدون بالمعركة الحامية التي حصلَت في اجتماعِ العائلة لانتخاب وليِّ العهد بعد وفاةِ الشيخ صباح السالم وغيابِ المجلس وكيفيةِ إبعاد الشيخ جابر العلي لمَصلَحةِ الشيخ سعد العبدالله. لكنّنا لا نَعرفُ الحقيقةَ كاملةً، لذا لا نستطيع الجَزْمَ في سببِ حَلِّ المجلس بهذه السُرعةِ وهذه الطريقة". بعدَ حَلِّ المجلس تُوُفِّيَ الأميرُ صباح السالم في ديسمبر 1977، ثمَّ عُيِّنَ الشيخُ سعد العبدالله بمرسومٍ أميريٍّ وليّاً للعهدِ سنةَ 1978، دونَ أخذِ رأيِ مجلسِ الأمَّةِ، لأنّه لَم يكُن موجوداً. وبعد أن عُهِدَ بالولاية للشيخ سعد العبدالله بثلاثِ سنواتٍ، عادَ مجلسُ الأمَّةِ نتيجةَ تَنامي الضغوطاتِ الشعبية.
أَصدَرَ الأَميرُ جابر الأحمد الصباح في أغسطس 1980 أمراً أميرياً بعودةِ الحياةِ البرلمانية. ثمَّ شَفَعَهُ بعِدَّةِ مَراسيمَ أميريةٍ قد تؤدّي حالَ تطبيقِها إلى إضعافِ المجلس، منها مرسومٌ أميريٌّ لتنقيح بعض مَوادِّ الدستور، وآخَرُ لتعديل الدوائرِ الانتخابيةِ العَشْرِ لتُصبِحَ خَمساً وعشرين دائرةً. رَفَضَت الحركةُ الإصلاحيةُ، وعلى رأسِها جماعةُ الخطيب، التعديلاتِ المقترَحةَ للنظام الانتخابي لأنّها تُشَتِّتُ قوى الحركةِ الإصلاحية، كما وَرَدَ في مذكّراتِ الخطيب.
يبدو أن الحكومةَ أرادت بهذا التقسيم زيادةَ حُظوظِ النُوّاب المُوالِين لها، لا سيّما أولئك المتركّزِين في تجمّعاتٍ سكانيةٍ قَبَلِيّة. فازَ في الانتخابات التي أُجرِيَت وفقَ نظام الدوائر الجديد أعضاءٌ غيرُ محسوبِين على الكُتَلِ الإصلاحية والوطنية، وعَقَد المجلسُ أُولى جلساتِه سنة 1981. لكن، خِلافَ ما أَمَّلَت الحكومةُ، رَفَضَ سبعةٌ وعشرون نائباً مرسومَ الأمير بتنقيح الدستور إثرَ حملةٍ شعبيةٍ كبيرة.
أَلحَقَتْ أزمةُ سوق المناخ خسائرَ فادحةً بمئاتِ المستثمِرين والمُضارِبين مِن مختلف فئات الشعب، ممّا أَفرزَ مجلِساً ذا تَوَجُّهٍ مُعارِضٍ في انتخابات سنة 1985. لَم يَتَوانَ المجلسُ الجديدُ عن توظيفِ أدواتِه الرقابيةِ، وعلى رأسِها استجواباتُ عددٍ من الوزراء، منهم وزير العدل والشؤون القانونية والإدارية سلمان الدعيج الصباح. أَدّى استجوابُه إلى توقيع طلب سحب الثقة عنه بعد شهرٍ فقط من انتخاب المجلس، فاستقال الدعيج. تصاعدَت التوتّراتُ بين المجلس والحكومة بسبب أزمة المَناخ والتحقيق بشأنها، ممَّا حَدا بمجلس الأُمَّة إلى أن يَطلبَ من المحكمة الدستورية تفسيرَ المادة الرابعة عشرة بعد المئة من الدستور، المتعلّقة بصلاحيته الرقابية وحَقِّه في الاطِّلاع على مَحاضِرِ اجتماعاتِ البنك المركزيّ في فترةِ أزمةِ المناخ.
حَكَمَت المحكمةُ لصالحِ المجلس. وبعدَ صُدور الحُكْم صَوَّتَ المجلسُ بأغلبية ثلاثين نائباً على انتدابِ مجموعةٍ منَ النُوّاب للذهاب إلى البنك المركزي لتأديةِ دَورِهم الرقابيّ. لكنّ الأميرَ جابر الأحمد الصباح أَصدَرَ أَمْراً بحَلِّ المجلس حَلّاً غيرَ دستوريٍّ في الثالث من يوليو سنة 1986، أي قبل الموعد المقرَّر لذهاب النوّاب المنتدَبين إلى البنك المركزي بيومَيْن. استمرّ تعليقُ المجلس أكثرَ من ثلاثِ سنواتٍ. ومع ارتفاعِ وتيرةِ المطالَبات بعودة الحياة البرلمانية، لا سيّما الاحتجاجات والتجمّعات الشعبية التي عُرِفَت بـِاسمِ "دَواوين الاثنين"، صَدَرَ قرارٌ سنة 1990 بتأسيس مجلسٍ جديدٍ يَشْغَلُ مَحَلَّ مجلسِ الأمَّةِ لأربَعِ سنواتٍ، سُمِّيَ "المجلس الوطني" بصلاحياتٍ تشريعيَّةٍ محدودةٍ، استشاريةٍ وغيرِ ملزِمةٍ للحكومة، بحيثُ يُعيِّنُ الأميرُ ثُلُثَ أعضائِه على أن يُنتخَبُ البقيّةُ من الشَعْبِ مباشرةً.
لَم يَكَد المجلسُ الوطنيُّ يباشِرُ أعمالَه صيفَ 1990 حتى اجتاحَ العراقُ الكويتَ عسكرياً في الثاني من أغسطس من العام نفسِه. سَعَت الحكومةُ الكويتيةُ مِن مَنفاها في السعودية بعدَئذٍ إلى تصديرِ الكويتِ للمجتمعِ الدوليّ دولةً ديمقراطيةً مقابلَ نظامٍ عراقيٍّ استبداديّ. فتَواصَلَت مع النُخَبِ السياسية، على اختلاف توجُّهاتِها ومرجعيّتِها. دُعِيَ الجميعُ إلى حضورِ مؤتمرِ جدَّة الشعبي من الثالث عشر حتى الخامس عشر من أكتوبر سنة 1990. استَهدفَ المؤتمرُ إجماعَ الشعبِ الكويتي على أُسرةِ الصباح الحاكمةِ لمنحِها الشرعيةَ السياسيةَ اللازمةَ لكسبِ التعاطُفِ العالَميّ وحَشْدِه من أجلِ تحرير الكويت. نجحَت الأُسرةُ في كسبِ تأييدِ النُخَبِ المعارِضة والإصلاحية مقابلَ التزامِها بعودةِ الدستورِ والحياةِ البرلمانية من غيرِ مساسٍ بهما. ففي البيان الختامي للمؤتمرِ نَصَّ المجتمِعون على أنَّه "بعدَ أن يتحقّق لنا نصرُ الله على الفئة الباغية ونحرِّرَ أرضَنا من رجسِ النظام العراقي الآثِم سنقوم بإعادة بناءِ كُوَيْتِنا الحبيبة"، وأنّ أساسَ هذا البناءِ "تَمَسُّكُ الشعبِ الكويتيّ بوحدتِه الوطنية ونظامِه الشرعيّ الذي اختارَه وارتضَاه والمعتمِد على الشورى والديمقراطية والمشاركة الشعبية في ظِلِّ دستورِ البلادِ الصادرِ عامَ 1962 والذي يُعتبَر الدرعَ الواقيَ والضمانةَ الأساسية لسلامة المجتمع".
ومِن سِمات تلك الفترة أيضاً اتساعُ المَسارِ البرلماني الكويتي وتجذّره. ففي سنة 2003 فُصِلَت ولايةُ العهد عن رئاسة مجلس الوزراء أوَّلَ مرَّةٍ يومَ عُيّن الشيخُ صباح الأحمد رئيساً للوزراء. في هذه الفترة نشأ جيلٌ جديدٌ من الإصلاحيِّين، أبرزُهم النائبُ مسَلَّم البَرّاك، الذي لُقِّبَ لاحقاً "ضمير الأمَّة ". تشكَّلت شخصيةُ البَرّاك السياسيةُ أثناءَ العمل النقابيّ؛ فقد كان رئيساً لنقابة عمّال البلدية والإطفاء، ثمَّ عضواً في الاتحاد العامّ لعمّال الكويت، ثمَّ الأمينَ المساعِد للاتحاد العربي لعمّال البلديات للشؤون العربية والعمالية. خَسِرَ البَرّاك في أوّلِ انتخاباتٍ خاضَها بمجلس الأمَّة سنة 1992، ثمَّ نَجَحَ في كلِّ الانتخاباتِ البرلمانية اللاحقة حتى مجلس فبراير 2012. أَنشأَ البَرّاكُ وآخَرون كتلةَ "العمل الشعبي" البرلمانيةَ سنةَ 1999، وهو كيانٌ له أثرٌ سياسيٌّ في تلك السنوات، لا سيّما في الحراك السياسي الذي عُرِفَ باسمِ مَسِيرات "كرامة وطن" ما بين عامي 2012 و 2014.
شَهدَت هذه الفترةُ أيضاً تطوّراتٍ أُخرى ساهمَت بتوسيع الحياة البرلمانية في الكويت. أهمُّها إقرارُ قانون حقِّ المرأة في المشاركة السياسية انتخاباً وترشيحاً سنة 2005. بلغَ هذا المسارُ البرلمانيُّ في الكويت ذروتَه يومَ لعب مجلس الأمَّة دوراً رئيساً سنة 2006 في تولِيةِ رئيسِ الوزراء آنذاك صباح الأحمد الصباح منصبَ الإمارة. فعندما تُوُفِّيَ الأمير جابر سنة 2006 تولّى بعدَه الشيخُ سعد العبدالله الإمارةَ. لكن بسبب اعتلالِ الأميرِ سعد العبدالله فَعَّلَ مجلسُ الأُمَّةِ المادّةَ الثالثة من قانون توارُث الإمارة التي تُخوِّلُه صلاحيةَ إعفاءِ الأميرِ لدواعٍ صحّية، فأَصبَح صباح الأحمد أميراً للبلاد. كذلك لَعِبَ المجلسُ دَوراً في تغيير النظام الانتخابي تجاوُباً مع حراكٍ شبابيٍ سُمِّيَ حملة "نَبِيها خَمْس" الذي أدّى إلى إلغاء الدوائر الانتخابية الخمس والعشرين واستبدالِ خمسِ دوائرَ بها.
انتظامُ النُوّاب المُعارِضين في كُتَلٍ جماعيةٍ داخلَ مجلس 2006 مَنَحَ الحكومةَ القدرةَ على المناوَرة في اللعبة البرلمانية. فمع نجاح المجلس في إسقاط عددٍ من الوزراء، نَوَّعَت الحكومةُ تكتيكاتها ضد المُعارَضة، كما في تأجيل الاستجوابات وجعْلِها سرّيةً وإحالَتِها إلى المحكمة الدستورية. ونَجَحَت غيرَ مرَّةٍ في استمالةِ كُتَلٍ برلمانيةٍ، مثل كتلة العمل الوطني والتجمّع السلَفي وأغلب النوّاب الشيعة، لمساندتِها في هذه المناوَرات أو الوقوف معها ضدَّ الاستجوابات. لكنّ هذه المناوَرات اتّسمَت بالتعقيد بسبب المواقف المتباينة. فقد انقلبت هذه الطريقة على الحكومة بعد الأحداث المتتابعة التي أَعقَبَت ما سُمّيَ "قضيّة الإيداعات المليونية". بدأت هذه القضيةُ عام 2011 بإعلان النائب فيصل المسلم عن تلقّيه معلوماتٍ عن مبالغَ ماليةٍ سَلّمَها رئيسُ الوزراء آنذاك ناصر المحمد إلى أعضاء في مجلس الأمَّة. تَقدَّم المسلم بطلب استجواب رئيس مجلس الوزراء، فاقتَرحَت بعضُ الكُتَل الموالية للحكومة تحويلَ الاستجواب إلى جلسةٍ سريّة، بَيْدَ أنّ كتلة العمل الوطنيّ الموالية أيضاً صوَّتت ضدَّ هذا المقترَح، ففَشِلَ التصويتُ وصارَ الاستجوابُ علنياً. بعد الاستجواب تَقدَّم النائبُ فيصل المسلم بطلبِ سَحْبِ الثقةِ عن رئيس الوزراء ناصر المحمد، لكنّ كتلة العمل الوطنيّ صَوَّتَت ضدَّ هذا المقترَح أيضاً. وتَجَلّى هنا أن بعضَ الكُتَل المواليةِ للحكومة تَرفض إحالةَ الاستجوابات إلى المحكمة الدستورية أو غيرِها من آليّات الحكومةِ لوَأْدِ الاستجوابات، حتى وإن كانت تلكَ الكُتَلُ ضدَّ الاستجوابِ نفسِه.
استمرَّ تأرجُحُ الكُتَل الموالية في الأحداث التي أعقبت قضية الإيداعات المليونية. فبعد فشل محاولة النائب فيصل المسلم سَحْبَ الثقةِ عن رئيس الوزراء، رَفَعَ بنكُ بُرْقان عليه دعوىً بتهمةِ التعاونِ مع موظَّفٍ في البنك لإفشاء معلوماتٍ سرّيّة تتعلق بحساباتِ عملاء مرتبطةٍ بقضيةِ الإيداعات. قرّرت اللجنةُ التشريعيةُ بسبب تلك الدعوى رَفْعَ الحَصَانةِ البرلمانية عن النائب فيصل المسلم، لكنَّ الحكومةَ والنُوّابَ الموالين لها ماطَلوا وتَغيَّبوا عمداً عن جلساتٍ عدّةٍ حتى تنقضيَ الفترةُ الدستورية لسقوط الحصانة عن فيصل المسلم تلقائياً. قرَّرت كتلةُ العمل الوطني الانضمامَ إلى الكُتَل الإصلاحية والمعارِضة، مثلَ كتلة العمل الشعبي وكتلة الإصلاح والتنمية وبعض النواب المستقلين. ثمَّ ائتَلَفَت تلك الكُتلُ جميعاً في تجمّعٍ سُمِّيَ "إلا الدستور". وفي ندوةٍ عَقَدَتها هذا التجمّع في ديوانية النائب المُعارِض جَمْعان الحِرْبِش، حدثت مشادّةٌ غيرُ مسبوقةٍ بين الحضور والقوّات الخاصّة. أدّت هذه الأحداثُ إلى تصعيد كتلةِ العمل الوطني معارَضتَها الحكومةَ، ودَفَعَت عدداً من النوّاب المستقلّين إلى معارَضة الحكومة.
بلغَ فقدانُ سيطرة الحكومة على الكُتَل البرلمانية ذروتَه عندما طالَبَ كلٌّ مِن عضو كتلة العمل الوطني المحسوب على الحكومة سابقاً صالح المُلّا، وعضو كتلة الإصلاح والتنمية المعارضة جَمْعان الحِرْبِش، وعضو كتلة العمل الشعبي المُعارِض مسَلَّم البرّاك، باستجوابِ رئيس الوزراء ناصر المحمد في ديسمبر 2010. تمكَّنت الحكومةُ بشِقّ الأَنفُسِ وبمساندةِ نوَّابٍ مستقلِّين من مَنْعِ سحْبِ الثقةِ عن رئيس الوزراء ناصر المحمد. إلا أنَّ هذا الاستجواب فَتَحَ البابَ لسَيْلٍ من الاستجوابات المتتالية، بما فيها طلبُ عدّةِ نُوّابٍ محسوبِين على الحكومة استجوابَ الشيخ ناصر المحمد. جاء بعض تلك الاستجوابات في سياق صراعٍ بين قطبَيْن من الشيوخ أنفسِهم وهُما رئيسُ الوزراءِ ناصر المحمد ونائبُ رئيس مجلس الوزراء ووزيرُ التنمية والإسكان أحمد الفهد. تزامنَت هذه الاستجواباتُ وتَفاعُلَ المشهدِ السياسيِّ الكويتي مع أحداث الربيع العربي. ففي نوفمبر 2011، عُقِدَت ندوةٌ شعبيةٌ في ساحة الإرادة، وهي ساحةٌ عامّةٌ مقابِلَ مجلس الأمَّة. خُتِمَت الندوةُ بدخولِ المتظاهرين مجلسَ الأمَّة، ممَّا أدّى بعدَ عدّةِ أسابيعَ إلى استقالةِ حكومةِ الشيخ ناصر المحمد، وكان هذا المَطلَبَ الأهمَّ للمعارَضة. ومع تحقُّق هذا المَطلَب حُلَّ مجلسُ الأمَّة دستورياً.
يُعَدُّ مجلسُ الأمَّةِ المنتخَبُ في فبراير 2012 مُعارِضاً، إلا أنَّه يتميّز عن المَجالس السابقة بازدياد النوّابِ المستقلِّين غيرِ المنتمِين إلى كُتلٍ جماعية. بدأ المجلسُ بوعودِ توافقٍ بين مجلسِ الأمَّة ورئيسِ الوزراء الجديد الشيخ جابر المبارك الحمد الصباح، وهو أول رئيس وزراء من خارج الفرعَين التقليديَين؛ أي ذرّيةِ جابر المبارك وسالم المبارك. غير أنَّ تركيبةَ المجلس كانت تَشي بالفشل. إذْ لَم تستطع الحكومةُ أن تَعتمِدَ على كتلٍ برلمانيةٍ منظَّمة وموالية لها من جهة. ووَجدت الحكومةُ نفسَها بمواجَهة معارَضةٍ غيرِ متجانسة ولا تَجمعُها أيُّ رؤيةٍ سياسية أو فكرية واضحة من جهةٍ أخرى. أدَّى هذا الوضعُ إلى إفلاتِ أداةِ الاستجواب من عقالِها واستعمالِ أعضاءِ المعارَضة إيّاها بإفراطٍ من غيرِ تنسيقٍ بينهم. لَم تَقتصِر هذه الاستجواباتُ على الأعضاء المحسوبِين على المعارَضة بل امتدَّت إلى غيرِهم من المحسوبين على الموالاة أيضاً. وقدَّم أعضاءُ هذا المجلس أيضاً مجموعةً من المقترَحات والقوانين وسَّعَت هُوَّةَ الأزمةِ بين الحكومةِ والأغلبية المعارِضة. وعلى رأس هذه المقترَحات المطالبةُ بتعديل المادة التاسعة والسبعين من الدستور، التي تنصُّ على عدمِ صدورِ أي قانونٍ إلا إذا أقرَّه مجلسُ الأمَّة وصدَّق عليه الأميرُ. واقترح أعضاءُ المجموعة حينَها إضافةَ عبارةِ "وكان موافقاً للشريعة الإسلامية" في الدستور، وإضافةَ قانونِ إعدامِ المُسِيءِ للذاتِ الإلهيةِ والرسولِ، وقانونَ تقليصِ صلاحيّاتِ المحكمةِ الدستورية.
كانَ موقفُ الأمير صباح الأحمد صعباً إزاءَ هذا المجلسِ فلجأَ إلى سياسةٍ جديدةٍ لكبحِ جماحِ المعارضةِ داخلَ مجلس الأمَّة وخارجَه. ارتكزت هذه السياسة على توظيفِ أدواتٍ دستوريةٍ وقانونيةٍ خارجَ السياقِ البرلماني. أوَّلُ هذه الأدوات تغييرُ النظام الانتخابي في انتخابات مجلس 2013 بحيث لا يحقُّ للناخبِ التصويتُ فيها لأكثر من مرشَّحٍ واحدٍ، بعد أن كانَ الناخبُ يستطيعُ التصويتَ لأربعةِ مرشَّحِين. أضرَّ هذا التعديلُ بقدرةِ الكُتَل السياسية والتحالفاتِ على التشكُّل؛ ذلك أنه أَجبرَ الناخبَ على اختيارِ مرشَّح واحدٍ فقط، ممَّا أدّى إلى انهيارِ الكُتَل السياسية ومقاطعةِ المعارَضةِ الانتخاباتِ. وقد تدنَّت نسبةُ المشاركةِ في انتخابات مجلس ديسمبر 2012، المعروفِ بمجلسِ الصوتِ الواحدِ إلى 40 بالمئة بعد أن كانت حوالي 60 بالمائة في الانتخابات التي سبقَتها بعدَّةِ أشهُر، وذلك نتيجةَ مقاطَعةِ المعارَضةِ الانتخابات. استهدَفَ النظامُ الجديدُ التَّحكُّمَ بالمُخرَجات البرلمانية بعلاقةٍ جديدةٍ بين السياسيِّ وقاعدتِه الانتخابية. فبدلاً من تبنِّي خطابٍ سياسيٍ يَستقطبُ مختلفَ الناخبين، تقوقعَ الخطابُ وانخفضت نسبةُ نجاح المرشَّحين. فتحوَّل الخطاب السياسي إلى القواعد الاجتماعية القَبَلية والطائفية وغيرِها لكسب نسبةٍ ضئيلةٍ ومضمونةٍ مقابلَ وُعُودٍ بخِدْماتٍ حكوميةٍ، كالتوظيف والتَرْقيات الوزارية وغيرِها.
بعد ذلك، شنّت السلطةُ حملةَ اعتقالاتٍ وأَصدرَت قراراتِ سَحْبِ الجنسية من بعض أعضاء الحركةِ السِّياسيةِ المعارِضةِ المطالِبة بالتحوّل إلى الإمارة الدستورية، والتي نظّمت عدّةَ مسيراتٍ بعنوان "كرامة وطن". ثمَّ تمكَّنَت مؤسسةُ الإمارة من التَّحالُف معَ رئيسِ مجلسِ الأمَّة الجديد مرزوق الغانم الذي كان له أثرٌ في ضبطِ سلوكِ المجلسِ وضمانِ عدمِ إفلاته من عقالِه. أدَّتْ هذه القراراتُ والأساليبُ إلى سَجْنِ مجموعةٍ من القيادات السياسية وتهجيرِها، وانهيارِ قُدرةِ نوّابِ مجلس الأمَّة على تكوين كتلٍ برلمانيةٍ معارِضة، ممّا فَكَّكَ المعارَضةَ السياسيةَ وغَيَّبَها تماماً عن المشهد الكويتي ما بينَ 2013 و 2016، ثمَّ حَضَرَت على استحياءٍ في مجلس 2016 إلى 2020.
لَم يكُن في حُسبان الأمير صباح الأحمد أن نجاحَه في تفكيك المعارَضة الجماعية داخلَ مجلس الأمَّة وخارجَه سيؤدي إلى مشكلةٍ أُخرى فَتَحَت بابَ المرحلة الثانية من صراعِه مع مجلس الأمة، وتمثَّلَت في صعودِ النوّابِ المستقلِّين ما بين عامَي 2012 و 2020. فزوالُ الكُتل البرلمانية والسياسية سَلَبَ الحكومةَ قدرتَها على المناورة بين مجاميعَ مختلفةٍ فيما بينها، كما جَرّدَها من القدرة على ضبط استخدام النوّاب أداةَ الاستجواب. أطلقَ صعودُ النُوّابِ المستقلِّين العنانَ للعملِ الفرديِّ ممَّا أدَّى إلى ارتفاعٍ حادٍّ بعددِ الاستجوابات في مجلسَيْ ديسمبر 2012 و 2013 مع خُلُوّ هذين المجلسَيْن من كُتل معارضة. أصبحَ قرارُ الاستجواب يُتّخذ بتفرَّدٍ ويتبعه تشكُّل مجموعةٍ من النّواب مع الاستجوابِ أو ضده، بدلاً من اتخاذ القرار جماعياً، وبعد التنسيق مع الكتل السياسية والبرلمانية. وضعُفَت قدرةُ الحكومةِ على تخفيفِ وطأة الاستجوابات بالتفاوض مع كُتلٍ منظَّمةٍ وإجبارِها على التفاوض مع أفرادٍ بعمليةٍ مضنيةٍ نتائجُها غيرُ مضمونة.
أَسهمَت ظاهرةُ النُوّاب المستقلِّين والإفراط باستعمالِ أداةِ الاستجواب في زعزعةِ الاستقرارِ السياسيِّ في الكويت. فعددُ الاستجواباتِ المقدَّمة مِن نُوّاب مجلس الأمَّة ما بين عامَي 2012 و 2020 يعادِل أكثرَ من ثلاثةِ أضعاف عددِ استجوابات فترة 2006-2012. وتزامن ذلك مع لجوءِ مؤسسة الإمارة مراراً إلى حلّ المجلس دستورياً. وبدأَت مؤسسةُ الإمارة أيضاً بالتَّفاهم مع أعضاءِ المجلس المطالِبين بخِدْماتٍ حكوميةٍ معيّنةٍ، عَلّها تَكْسب ولاءَهم. وشملت هذه الخِدْماتُ تعييناتٍ في مناصبَ قياديةٍ مثل وكالاتِ الوزارات، وتسهيلاتٍ للعلاج بالخارج. وكثُرَ استخدامُ هذه الوسائل في مجلسِ 2013 حتى أُطلقَ عليه اسمُ مجلس المناديب، تهكمّاً وإشارةً إلى أن أعضاءَه أصبحوا مندوبين للناخبين لقضاء حوائجهم الخدمية بدلاً من تمثيلهم سياسياً ومعالجة الإشكالات الحكومية والتشريعية. انتهت هذه الحقبةُ بوفاة الأمير صباح الأحمد، لكنّ تَبِعاتِها غيرَ المخطَّط لها ستُفضي إلى خروجِ مؤسسة الإمارة عن اتفاق مؤتمر جدَّة الشعبي.
بدأ الشيخُ صباح الخالد حياتَه العمليَّةَ دبلوماسيّاً منذ 1973. وترأَّسَ جهازَ الأمن الوطني عام 1998 ثمَّ أصبح وزيراً للشؤون الاجتماعية والعمل عام 2006، وبعد عدّة حقائبَ وزاريةٍ أصبحَ وزيراً للخارجية، خلفاً للشيخ محمد صباح السالم الذي استقال من منصبه احتجاجاً على قضية الإيداعات المليونية والفساد الحكومي عام 2011. كانت نتائج الانتخابات لصالح المعارَضة التي عقدت اجتماعاً فوريّاً أعلنت فيه تحديد أولويات المرحلة التي يتصدّرها اتفاقُ سبعةٍ وثلاثين نائباً معارِضاً على منعِ النائب مرزوق الغانم من الوصول إلى رئاسةِ المجلس؛ المنصبِ الذي تبوَّأه طيلةَ المجلسين السابقين (2013-2016 و2016-2020). وسُمِّيَت هذه الكتلةُ "كتلة الأغلبية". رأى نُوّابُ هذه الكتلةِ أن الغانم كان رأسَ حربةٍ ضدَّ الأصوات الإصلاحية، وكان وراءَ سياسات النفي والتهجير والإقصاء في المرحلة السابقة. أثناء جلسة التصويت دَعَمَ أعضاءُ الحكومةِ كلُّهم التصويتَ لمرشَّحِ الرئاسةِ مرزوق الغانم ليصبحَ رئيسَ المجلس، فيما نَكَثَ بعضُ النُوّاب بوعودِهم بالالتزام بمرشَّحِ الأغلبية. تداولت وسائلُ الإعلام حينَها صوراً قيلَ أنها لأوراقِ تصويتٍ ممهورة بشفراتٍ إلكترونيةٍ استخدمتها كتلةُ المعارَضة لحصرِ المصوِّتِين، وعُرِفَت لاحقاً بقِصّةِ "الباركود". لَم يستطِع النُوّابُ ضمانَ موقفٍ موحَّدٍ في انتخابات الرئاسة نتيجةَ تفتُّت الكُتَل السياسية وتعاظُم الفرديَّةِ في البرلمان وعدم وجود طابعٍ فكريٍ أو سياسيٍ يجمع "كتلة الأغلبية".
تفاقمت الأزمةُ بين نُوّاب الأغلبية والحكومة مبكّراً وتمخَّضَت عن عددٍ من الاستجوابات، وُجِّهَ خمسةٌ منها على الأقل إلى رئيس الوزراء صباح الخالد ليُقِرَّ المجلسُ بأعضائه الموالين والحكومةُ "قانون المُزْمَع"، للحدِّ من سيلِ الاستجوابات المقدَّمةِ إلى رئيس الوزراء. و"المُزْمَع" قانونٌ تحومُ حولَه بعضُ الشُبهاتِ الدستورية، ويقضي بتأجيلِ الاستجوابات المراد تقديمُها إلى رئيس الوزراء. بذلك تفادى الرئيسُ صباح الخالد إسقاطَه المرتقَب. احتجَّت الأغلبيةُ المعارِضةُ على هذا الإجراء وعلى تعطيل ملفِّ العفو. فوقّعَ ثمانيةٌ وثلاثونَ نائباً في أكتوبر 2021 بياناً سُمِّيَ بيانَ الأُمَّة، وَجَّهَ فيه الأعضاءُ دعوةً إلى الأمير نواف الأحمد للنظر في حلِّ المشكلات العالقة بين السلطتين. وركَّزَ البيان على أهمية الدَّفع "بإقرار العفو عن أبناء الكويت المحكومين لرأيٍ أو موقفٍ سياسي" في ظلِّ الظروفِ التي تشهدُها المنطقة.
قَبِلَ الشيخُ نوّاف الأحمد هذا الخطابَ بعد تعطُّل انعقادِ الجلسات ودَعا إلى حوارٍ وطنيٍّ يجمعُ ممثِّلِي المعارَضة والسلطةَ التنفيذية. أدّى الحوارُ إلى العفوِ عن بعض السياسيِّين وعودةِ المهجَّرين منهم، خصوصاً مسَلَّم البرّاك وفيصل المسْلِم وجَمْعان الحِرْبِش ومبارك الوَعْلان. إلا أن الخلافات انفجرت داخلَ "كتلة الأغلبية"، بسبب عدم التواصل مع بعضِ النوابِ غيرِ الموقِّعين على البيان وعلى طبيعةِ التنازلات التي قدّمها النُوّابُ الموقِّعون من أجل الحصول على العفو، وعلى تفويضِ رئيس مجلس الأمَّة مرزوق الغانم بالتعامل مع ملف العفو.
أدَّت هذه الخلافاتُ في النهاية إلى حلِّ مجلس الأمَّة. واتَّهمَ نائبُ الأغلبية بدر الداهوم النُوّابَ الموقِّعين على بيان الأمَّة بعزلِ النُوّاب غيرِ الموقِّعين، وبتفويضِ رئيس مجلس الأمَّة مرزوق الغانم "المنبوذ شعبياً" بالتفرّد بمسألة العفو. تعقَّدت الأمورُ بين أعضاءِ المجلس المسانِدين خُطواتِ النائب عبيد الوسمي وبيانَ الأمَّة والنوّابِ المعارِضين لهذه الخُطوات. ولّدت هذه التعقيداتُ صِداماتٍ عدّةً، منها استمرارُ بعضِ النوّابِ بمطالَباتِ إسقاطِ رئيس المجلس وآليّةِ وضع القوانين على أجندة المجلس، ناهيك عن المطالَبة بإسقاط رئيس الوزراء تحتَ شعار رحيل الرئيسَيْن.
اعتَمَد هؤلاء الأعضاءُ على تعطيلِ الجلسات واستجواب الوزراء، لأن الأدواتِ البرلمانيةَ لا تُمَكِّنُ النُوّابَ من تغيير رئيسِ البرلمان. واستمَرّ الشدُّ والجَذْبُ بين الطرَفَيْن، مما أدّى إلى اعتصام النُوّاب في المجلس منتصف يونيو 2022، وكان سببُ الاعتصامِ المعلَنُ تعطيلُ الجلسات العادية للمجلس مدّةً تزيد عن الشهرَيْن، ورفضُ قانون إقرار منحةِ المتقاعدِين بالصيغة المفروضة من الحكومة. دَعَت القِوى السياسيةُ حينَها إلى تنظيمِ ندواتٍ في دواوين النُوّاب المعتصِمِين. أنهى قرارُ حلِّ المجلس هذه الفترةَ المتأزِّمةَ؛ فقد افتَتح الأميرُ خطابَه الذي عدّه أعضاءٌ محسوبون على المعارضة الممتدة تاريخياً منذ 2012 تصحيحاً للمسار، بعباراتٍ مطَمْئِنةٍ قائلاً: "ونَقولُها أمامَكم في خطابنا هذا أننا لن نَحِيد عن الدستور ولن نقوم بتعديله ولا تنقيحه ولا تعطيله ولا تعليقه ولا حتى المساس به، حيث سيكون في حِرزٍ مكنونٍ فهو شرعيةُ الحُكم وضمانُ بقائه والعهدُ الوثيقُ بيننا وبينكم". ثمَّ أَكّدَ في الخطاب حقَّ الأمَّة في تقرير شؤونها إذ قال: "قد قرّرنا مضطرّين ونزولاً على رغبة الشعب واحتراماً لإرادته الاحتكامَ إلى الدستور والعهدِ الذي ارتضيناه.. حلَّ مجلس الأمَّة حلّاً دستورياً... وهدفُنا من هذا الحلِّ الدستوريِّ الرغبةُ الأكيدةُ والصادقةُ في أن يقوم الشعب بنفسه ليقول كلمةَ الفصلِ في عملية تصحيح مسار المشهد السياسي". وأضاف التزاماتٍ عُدّت تاريخيةً وأُولى من نوعِها بحيادِ الحكومة في مناصبِ مجلس الأمَّة من الرئاسة وحتى اللجان البرلمانية.
آتَت الانتخاباتُ اللاحقةُ لاعتصام النواب نتائجَ استثنائية. فقد حاز الأعضاءُ المحسوبون على التيار المعارِض والمناوئ للرئيس السابق مرزوق الغانم، الذي لَم يشارِك بها، على الأغلبية البرلمانية. وامتَنعت الحكومةُ عن التَّصويت فيما يتعلّق برئاسة المجلس ومكتبه وباقي لجانه، مما أسفر عن استبشارٍ بصدقِ الخطاب الأميري ونتائجِه. دامَ التعاونُ زمناً قصيراً ثمَّ غابت الحكومةُ عن جلسة العاشر من يناير 2023 بسبب فرض المجلس قانونَ شراء القروض الذي ضَغَطَ به بعض النوّابِ لاستكمالِ ملفِّ العفو عن المهجَّرين. إثرَ هذه الأزمةِ أَبطلت المحكمةُ الدستوريةُ البرلمانَ، ليعود المجلسُ السابقُ برئاسة مرزوق الغانم بقُوّةِ الدستورِ وكأنّ الحلَّ لَم يكُن. ثم حُلَّ المجلسُ مرّةً أُخرى ودُعِيَ إلى انتخاباتٍ جديدةٍ في السادس من يونيو 2023.
كاد مجلسُ 2023 الثاني أن يكونَ انطلاقةً جديدةً لعلاقةِ تعاونٍ بينَ مجلسِ الأمَّة ومؤسسة الإمارة تجُبُّ ما قبلَها من نزاعات. لكنَّ وفاةَ الأمير نوّاف الأحمد وتشظّي المعارضةِ حَالا دونَ ذلك. فقد أدّى انقسامُ الكُتل إلى التوسّع في وصف السياسيين بالمعارَضة حتى فقدَ المصطلحُ قدرتَه على تمييز المعارِضين عن غيرِهم، حتى وإن كان يُقصَدُ به كلُّ المناوئين لمرزوق الغانم. فاز أعضاءٌ محسوبون على تيّار المعارَضة بثمانيةٍ وأربعين مقعداً من أصل خمسين، والاثنان الباقيان هُما نائبُ وزيرٍ ومرزوق الغانم. اتَّفقَت مجموعةُ الأعضاء الثمانية والأربعون على خارطةٍ تشريعيةٍ برلمانية تُركِّز على ترتيب أولويات البرلمان، وتَلتزم بتعهّدات الإصلاح السياسي، مثل قانون المحكمة الدستورية والعفو والنظام الانتخابي.
دَعَمَت الحكومةُ، التي كان رئيسُ الوزراء فيها نجلَ أمير البلاد الشيخ أحمد النواف الأحمد، هذه الخطّةَ التشريعية. وزاد من توافُقِ المجلسِ والحكومةِ عودةُ أحدِ أقطاب الأسرة المقرَّبِ من أعضاء كُثُرٍ في كتلة الثمانية والأربعين، الشيخ أحمد الفهد وزيراً للدفاع. حقّقَ هذا التوافقُ المأمولَ بإقرارِ قانونِ المحكمة الدستورية وقوانين أخرى في دَوْر انعقادٍ تكميليٍّ لم يَتجاوز أربعةَ أشهر، ثمَّ قانونِ المفوّضية العليا للانتخابات ورفعِ الحظر عن بعض السياسيين للمشارَكة في الانتخابات، وبالعفوِ عن المهجَّرين السياسيين والمحكومين بقضية إرهابٍ عُرِفَت باسمِ خليّة العبدلي، وهي خليةٌ من كويتيين ووافدين تعمل مع حزب الله اللبناني، قَبضَت عليها الأجهزةُ الأمنيةُ، ووجدت معها عدداً كبيراً من الأسلحة الثقيلة. يُفهمُ هذا العفوُ على أنه جزءٌ من صفقةٍ بين من أراد العفوَ عن المهجَّرين ومَن أرادوا استغلال اللحظة للإفراج عن هذه الخلية. وقد شَجَبَ الشيخُ مشعل الأحمد تلك الصفقةَ في خطاب تولّيه مَسندَ الإمارةَ. وكان قَبْلَها قد أصدرَ أمراً أميرياً، بصفتِه نائبَ الأمير ووليَّ العهد، بوقف التعيينات والتنقلات الحكومية ثلاثةَ أشهر لما يراه عبثاً تمارِسُه الحكومةُ والبرلمان.
لَم يدُم ذلك التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية طويلاً. ففي ديسمبر 2023 توفّي الأميرُ نواف الأحمد، ونُودِي بالشيخ مشعل الأحمد أميراً للبلاد. ألقى الأميرُ مشعل خطاباً نقدياً حادّاً عند تولّيه الإمارةَ، قال فيه: "لم نلمس أي تغيير أو تصحيح للمسار بل وصل الأمر إلى أبعد من ذلك عندما تعاونت السلطتان التشريعية و التنفيذية واجتمعت كلمتُهما على الإضرار بمصالح البلاد و العباد وما حصل من تعيينات ونقل في بعض الوظائف والمناصب والتي لا تتفق مع أبسط معايير العدالة والإنصاف وما حصل كذلك في ملف العفو وما ترتّب عليه من تداعيات وما حصل من تسابُقٍ لملف ردّ الاعتبار لإقراره لَهُْوَ خيرُ شاهدٍ و دليلٍ على مَدى الإضرار بمصالح البلاد".
أَفضى هذا الخطابُ إلى استقالةِ الحكومة وتكليفِ حكومةٍ جديدة يرأسُها الشيخ محمد صباح السالم. وما إن باشرَت الحكومةُ العتيدةُ عملَها حتى عاد الصراعُ بين مجلس الأمَّة والحكومة نتيجةَ تدافُع المبادَرات الفردية وانعدامِ التنسيق بين أعضاء المجلس. طالبَت الحكومةُ الجديدةُ بإمهالِها شهراً للنظر في الرواتب، فانقسمَت كتلةُ الثمانية والأربعين؛ إذ أيَّدَ ستةَ عشرَ نائباً طَلَبَ الحكومةِ ورَفَضَه الآخَرون. تلا ذلك كلمةٌ للنائب عبدالكريم الكندري يدافع فيها عن المجلس من النقد الأميري اللاذع. عَدَّ الأميرُ الخطابَ مسّاساً بمقامِه وتدخُّلاً في صلاحياته، فأعلَنَ في الخامس عشر من فبراير 2024 حلَّ مجلس الأُمَّة حلّاً دستورياً والدعوةَ إلى انتخاباتٍ جديدة، بعدَ رفضِ المجلس بأغلبيته طَلَباً بشطبِ كلمة الكندري من مَضْبَطَة الجلسة.
عاد أغلبُ أعضاءِ المجلسِ السابقِ، بما فيهم عبدالكريم الكندري، مجدّداً في انتخابات الرابع من أبريل سنة 2024. وبسبب اعتذار الشيخ محمد صباح السالم المفاجئ عن تولّي رئاسة الحكومة، وغيابِ مرشَّحٍ بديلٍ، قرّر الأميرُ استخدامَ المادة الخمسين من الدستور، التي تُرجئُ انعقادَ المجلسِ شهراً كاملاً حدّاً أقصى. اختيرَ بعد ذلك الشيخُ أحمد العبدلله الأحمد رئيساً للوزراء. وشاعت أخبارٌ عن تشكيلِ حكومةٍ تضمُّ فهد اليوسف وزيراً للداخلية. طالبَت الأغلبيةُ الفائزةُ توّاً بالانتخابات باحترامِ اختيارِ الناخبِين وعدمِ توزيرِ مَن تَرَاهُم سبباً للأزمات. واليوسف هو أحدُ الوزراء المرفوضين نيابياً لسحبِه جنسياتِ بعض المواطِنين والفاعلِين السياسيين بعد الانتخابات. ودعا النائبان عبدالهادي العجمي وأنور الفِكِر إلى مؤتمرٍ صحفيٍ في السادس من مايو طالَبَا فيه استبعادَ اليوسفِ من التشكيل الوزاريّ المزمَع. كما وسبقَ للفِكِر أن حذَّرَ بلهجةٍ شديدةٍ من احتمالِ تزكيةِ الشيخ ناصر المحمد وليّاً للعهد. لم يمرّ على تلك التعليقات أربعة أيّامٍ إلّا وأصدر الأميرُ مشعل الأحمد في العاشر من مايو 2024 أمراً بحَلِّ مجلسِ الأُمَّةِ حَلّاً غيرَ دستوريٍّ، وبتعليقِ العملِ ببعضِ موادِّ الدستور. وهو القرارُ الأَوّلُ من نوعه منذُ مؤتمر جدَّة الشعبي.
عقب ذلك، صَدَرَ أمرٌ أميريٌّ بتزكيةِ الشيخ صباح الخالد وليّاً للعهد، من غير وجودِ برلمانٍ يُصوِّت على هذا الاختيار. ويعيد هذا إلى الأذهانِ الحلَّ غيرَ الدستوريّ الأولَ عام 1976؛ ففي الحالتين عُلِّقَ المجلسُ بعد أن استطاع أحدُ الشيوخ المتنافسين ضمانَ أغلبيةٍ تساوِمُ في اختيارِ وليٍّ للعهد. ومع أن التنافسَ على ولايةِ العهدِ محرِّكٌ رئيسٌ لهذين التعليقَين، إلا أنَّ عواملَ أُخرى مثل الإفراطِ باستخدامِ الاستجواب وغيابِ الكُتل البرلمانية كانا مؤثِّرَين في عدم الاستقرارِ من جهةٍ وفي انخراطِ الأعضاءِ بالصراع من جهةٍ أُخرى، وهو ما تكرَّرَ في تاريخ مجلس الأُمَّة الكويتي.