موشيه ديان على شاطئ غزة: آثارٌ فلسطينية بين تدميرٍ إسرائيلي وإهمالٍ محلي

باتت آثار غزة مشتتة وضائعة بين تدمير ونهب الاحتلال لها وإهمال فلسطيني متمثل بضعف التوثيق والتدوين، ما يهدد شواهد ودلالات ارتباط الفلسطيني بأرضه

Share
موشيه ديان على شاطئ غزة: آثارٌ فلسطينية بين تدميرٍ إسرائيلي وإهمالٍ محلي
قصر الباشا في مدينة غزة بعد قصفه بالطيران الإسرائيلي (من فرانس برس / خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

دُعيتُ عندما كنت أعيش في بيروت عام 2015 لحضور معرض مخصص لبعض القطع الأثرية التي سرقها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه دايان ثم أهداها أصدقاءَه مختومةً باسمه. أمام تلك القطع المعروضة في قصر الأونيسكو بالعاصمة اللبنانية، وقد استعادتها مؤسستان عربيتان بشرائها من صالة كريستيز بنيويورك، فكرتُ في هذه الآثار وأنها امتداد تاريخي عميق لمنطقة لا يرى العالم منها إلا الاضطرابات السياسية والدماء، ولا تُدرَس إلا من منظور الصراع والسلام والإرهاب.

يتناقل الفلسطينيون رواياتٍ محلية تمثل لمحات عن نظرتهم إلى تاريخ غزة. تركز هذه الروايات على شخصية موشيه ديان مقرونًا بالتاريخ المضيّع. إذ يروون أن الرجل شوهد مراراً جاثياً على ركبتيه محاطاً ببعض جنوده وهو ينبش رمال بحر غزة باحثًا عن الموجودات الأثرية. ليس هذا فحسب، بل يتهمونه وأركان حكومته في فترة الستينيات والسبعينيات بمحاولة زرع آثار تاريخية ودلائل تثبت وجود الشعب اليهودي في المنطقة. ويتداولون قصصاً عن خطط ممنهجة ومنظمة أدارها الجيش الإسرائيلي لسلب الآثار الفلسطينية وهدم دلائل ارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه. إحداها رواها لي والدي أنه بعد نكسة 1967 اقتاد الجيش الإسرائيلي عمالاً وسجناءَ فلسطينيين إلى سيناء وأمرهم بحفر آبار عميقة بمعاونة الحفارات. رمى أحد ضباط الجيش قطعاً أثرية في هذه الحفر ثم غُطيت بالرمال لاحقًا، وتكررت هذه العملية مراراً. وبينما يتناقل الفلسطينيون هذه القصص والروايات لا يكفّون عن الحديث عن ضعف اهتمام السلطة الفلسطينية ومن بعدها حركة حماس بهذا الميراث التاريخي وإهمال التوثيق والتدوين، أو بخس القيمة المادية والمعنوية لهذا الميراث. 


تُلقي الطائرات الحربية الإسرائيلية حِمَمَها على المدينة القديمة في غزة بينما أكتب هذه السطور، مدمّرةً حمام السمرة أحد أقدم الحمامات الشعبية في المنطقة يزيد عمره على سبعمئة عام. ونفثت هذه الطائرات نيرانها على قصر الباشا ويعرف بقصر آل رضوان أحد أهم المعالم الأثرية في قطاع غزة بُنيَ قبل أكثر من ثمانمئة عام ويتميز بعمارته الإسلامية التي تمثل العهدين المملوكي والعثماني. سقطت القنابل على أعمدة المسجد العمري الكبير، ثالث أكبر مساجد فلسطين بعد الأقصى ومسجد الجزار في عكا، ويفوق عمره عشرة قرون. وقد كان معبداً وثنياً، ثم صار كنيسةً في العهد البيزنطي، فمسجداً في العهد الإسلامي. دمرت الدبابات الإسرائيلية مواقع البلاخية و الأنثيدون القديم، أحد أهم الموانئ التاريخية في شرق المتوسط. بني هذا الميناء في الفترة الهلنستية، في القرون الثلاثة قبل الميلاد، وظلّ مستخدماً طيلة الفترة البيزنطية السابقة على العهد الإسلامي. طال التدمير الإسرائيلي فسيفساء الكنيسة البيزنطية في جباليا، ولولا صفة الحماية التي منحتها اليونسكو لدير سانت هيلاريون، لطاله التدمير الإسرائيلي كما طال غيره في المنطقة الوسطى من قطاع غزة.

أحاول تجاوز مشاهد الدمار مع شعوري بأثرها عليّ لأفكر بأهمية تلك الآثار بالنسبة لغزة. يدعم وجود هذه الآثار رواية الفلسطينيين بأحقيتهم في هذه الأرض وينفي ادعاءات الاحتلال عن وجودٍ تاريخي للشعب اليهودي في المنطقة. أُهملت هذه الآثار وهُمشت وتردى حالها، وزاد الطين بلة القصف الإسرائيلي الذي هدم كثيراً من معالم غزة الأثرية. 

غزة ذات البقعة الجغرافية الصغيرة تمتد بجذورها التاريخية إلى أكثر من خمسة آلاف عام، إلا أنها تعاني إهمال تدوين أحداثها وحقبها التاريخية. ففي التاريخ القريب، لا يوجد إلا كتب قليلة عن غزة من بينها كتاب للنمساوي جورج جات الذي أقام في غزة ضمن حملة تبشيرية كاثوليكية في سنة 1880. أما البريطانيون، فلم يكتبوا عن تاريخ المدينة شيئاً طيلة عقود احتلالهم الثلاثة. حتى مصر لم تدون شيئا عن غزة في فترة حكمها للقطاع عقدين بعد نكبة 1948.

بدأ هدم الموروث الثقافي المادي وغير المادي مع قدوم الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. فقد هُدِّمت بعض الآثار التاريخية المادية كالقصور والمساجد، وأُهملت العادات والتقاليد الشعبية وغيرها من الآثار غير المادية. ومع تشكّل السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير عام 1993 بدأ بعض الكتاب بتدوين تاريخ غزة. حقق الباحث عبد اللطيف زكي أبو هاشم كتاب "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة" لعثمان مصطفى الصباغ وهو مجلدات أربعة عن تاريخ غزة وبنيتها الاجتماعية في جميع العصور. أما في عهد حركة حماس الذي بدأ بسيطرة الحركة عسكرياً على قطاع غزة عام 2007 فكاد الإهمال أن يكون حرباً غير معلنة على الآثار المادية وغير المادية.


لَمْ يُولِ الساسة الفلسطينيون أهميةً كبيرة للآثار الفلسطينية والتنقيب عنها عندما حكمت السلطة الفلسطينية معظمَ قطاع غزة وأجزاء صغيرة من الضفة الغربية، وعلى ذمة بعض الموظفين في وزارة الثقافة في عهد الوزير إلياس فرج ومن بعده الوزير مترى أبو عيطة، كانت ميزانية وزارة السياحة والآثار هزيلة وكان التوظيف فيها للمقربين على حساب الكفاءة. تضررت المواقع الأثرية في غزة وفُقد كثير منها وسط التدمير والبناء العشوائي لأن الوزارة ركزت جهدها على المواقع الأثرية في الضفة الغربية أكثر من قطاع غزة. عملت السلطة لاحقاً وبدعم دولي على حماية بعض المواقع دون اهتمام بربط الرواية التاريخية الفلسطينية بالمواقع المكتشفة، مما جعلها مواقع ثقافية وأثرية مادية بلا قيمة شعبية مرتبطة بالهوية الفلسطينية.

لم تهتم السلطة الفلسطينية بإنشاء متاحفَ للآثار المادية تدعم الرواية التاريخية الفلسطينية مع أن السرديات التاريخية مركزية في الصراع مع إسرائيل. وهمشت السلطة بعض الشخصيات التي جمعت الآثار بجهود فردية وأقامت متاحف تعرض الرواية الشفهية الفلسطينية. متحف القرارة الذي أسسه وليد العقاد خير مثال على ذلك؛ إذ جمع أكثر من ألفين وثمانمئة قطعة أثرية. هذا المتحف وكذلك فندق المتحف الثقافي مثالان على تحول هؤلاء الأفراد من هواة جمع الآثار إلى أصحاب متاحف منزلية خاصة.

حولت إسرائيل قصر الباشا فور احتلالها غزة عام 1967 إلى جزء من مدرسة الزهراء الثانوية بقرار من موشيه دايان نفسه، ثم دمرته بنيرانها في الحرب الحالية. يتذكر سكان حي الدرج أن موشيه دايان تفقّد القصر وحمل بعضاً من حجارته وأعمدته. ثم غّيرت الإدارةُ العسكرية معالمَ المكان بتجصيصه بالأسمنت. وبعد مجيء السلطة الفلسطينية، أعادت ترميم المكان وأضافت حديقة حوله وفصلته عن المدرسة. هذا العمل أبرز إنجازات وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في غزة حينها.

اكتشف الفلسطينيون لاحقاً في غزة آلافاً من القطع الأثرية وعرضوها في محافل دولية كثيرة. ففي عام 2005، أُرسلت كثير من هذه القطع إلى متحف جنيف. وبعد وصول حركة حماس لحكم القطاع وتشظي الفلسطينيين بين كيانين متنافسين، بقيت الآلاف من تلك القطع الأثرية في مخازن المتحف كما ذكر مديره. ولا يوجد على حد علمي أي تواصل من وزارة السياحة والآثار الفلسطينية لاستعادة تلك القطع حتى عام 2018.

أما القطع الأثرية داخل غزة، فيذكر الغزيون أن توزيع عشرات القطع من الأراضي بلا زمامٍ ولا خطام في مدينة الزهراء جنوب غزة أدى إلى طمس مئات القطع الأثرية وتخريب عشرات المواقع التاريخية. إقامة مدينة سكنية في الزهراء بقرار من ياسر عرفات كان بحجة استضافة العائدين من الشتات، ولتكون حداً طبيعياً يوقف تمدد مستوطنة نتساريم القريبة. أما في عهد حركة حماس، فقد وُزّعت الأراضي تعويضاً لمن لم يتسلّم راتبه سنوات، وكان أغلب هؤلاء من كبار موظفي حماس نفسها.


تغيَّر الوضع كثيراً بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة. فقد ظهرت الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية مسيطرة على الأرض ومؤثرةً على القرار. وكان لدى بعضها آراء دينية ترفض الاعتراف بأهمية الآثار المرتبطة بالأرض، حتى ادعى بعضهم أنها كومة من الحجارة المصفوفة أو أصنام لا قيمة لها. يعتقد أصحاب هذه الآراء أن ما دون الإسلام لا يجب الأخذ به أو تذكاره. ويتجاهل بعضهم الآثار التاريخية بدعوى أن الحاضر أولى من الماضي. إن هذا التصور الذي يرى الرسوم والتماثيل محرمة أو مكروهة، يقرنها بالوثنية التي جاء الإسلام لإزالتها. أبرز مثال على هذا الفصل بين الوثني والإسلامي هو الكنيسة البيزنطية التي اكتشفت صدفةً في منطقة شارع عمر المختار وسط مدينة غزة في أثناء إعادة تأهيل أجزاء من الشارع قبل سبعة أعوام، لكنها دُمرت من جرّاء التجريف والبناء.

تميزت فترة سيطرة حماس بالنشاط الشبابي المهتم بالآثار والعامل على حمايتها ورفض تدميرها أو محاولة طمسها. غياب القانون لم يمكّن هذه المحاولات الشبابية أن تحقق النجاح المرجو، وغياب سلطة آثار مستقلة وقوية أدى إلى مواصلة عمليات الهدم والتجريف والسرقة.

ولعل قصة التمثال "أبولو الغزي" مناسبة لتوضيح الآثار المؤسفة لغياب مثل هذه السلطة. ففي عام 2013، لمح الصياد الفلسطيني جودت غْرَاب جسماً غريباً في قاع بحر مدينة دير البلح. لقد وجد تمثالاً ثميناً يعود إلى العهد اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد ويزن خمسمئة كيلوغرام. سُمي التمثال لاحقاً باسم "أبولو الغزي" ويعتقد أن عمره يزيد عن 2500 سنة، وهو أحد أقدم القطع الأثرية التي عُثر عليها بحالة جيدة في قطاع غزة. أخرج الصياد التمثال وقطع أصبعه ليتأكد إن كان ذهباً أملاً في بيعه.

ادّعى بعض النشطاء الشباب الذين تحدثت إليهم في وقتها وكانوا قد أخذوا على عاتقهم حماية الآثار الغزاوية أن قائداً من كتائب القسام استولى على التمثال بعد أسابيع، واختفت آثاره منذ ذلك الحين. حاولت وزارة الآثار في حكومة حماس التفاوض مع أفراد كتائب القسام الذين استولوا على التمثال، إلا أنها لم تفلح في استعادته. عُثر على صفحة في موقع البيع الإلكتروني "إي باي" تعرض بيع التمثال بعد سنوات بنصف مليون دولار، لكن بعد حملة على مواقع التواصل الاجتماعي حُذف عرض البيع. انتشرت شائعات لاحقاً بين النشطاء بأن التمثال دُمر بعد أن قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي بيت أحد قادة القسام، فاختفى منذ ذلك اليوم ولم يُرَ في أي متحف أو معرض للموجودات الأثرية.

أما قصر الباشا فقد حظي بمكانة أفضل في عهد حكومة حماس. فقد سُلمت الحديقة لبلدية غزة، وافتُتح متحف وطني تاريخي لفلسطين فيه بعض القطع الأثرية وبعض مقتنيات الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات. لكن إسرائيل دمرت المكان بصواريخ طائراتها الحربية في حربها الحالية، مع أنه لم يكن يُستخدم لأغراض عسكرية. وكأن جنود اليوم يكملون ما بدأه موشيه دايان منذ عقود.

أعيد بناء بعض المساجد الأثرية بعد حرب غزة عام 2021. منها مسجد السيد علي في حي الشجاعية الذي فاق عمره سبعة قرون، إلا أنه بُني على شكل مربع أسمنتي دون اهتمام بمكانته التاريخية وقيمته الأثرية. في الحي نفسه، عثرت بلدية غزة عام 2015 على ثلاث جرار فخارية مليئة بالقطع النقدية عمرها أَزْيدَ من أربعمئة عام. ومع أن وزارة السياحة والآثار في حكومة حماس قالت إن المختصين سيرممونها ويعيدونها لأنها جزء من حضارة فلسطين وتاريخه، إلا أن مصيرها لا يزال مجهولاً. ولغياب سجلٍ مدون للآثار والموجودات الأثرية، يخشى أن تتكرر حادثة تمثال أبولو الغزي مرة أخرى.

صدر قرار عن حكومة حماس بتجريف قطع الأراضي في منطقة وسط غزة قرب الموقع الأثري التاريخي "تل السكن" وتوزيعها على أفرادها. أثار هذا القرار احتجاجاً شعبياً انضم إليه أفراد من حركة حماس نفسها. والسبب أن المنطقة تحوي موقعين لمستوطنتين حضريتين من العصر البرونزي، إحداهما مصرية والأخرى كنعانية. توقف المشروع بعد الاحتجاجات الشعبية الكبيرة، وسبق أن احتج الفلسطينيون في غزة على محاولات حماس وحركة الجهاد الإسلامي بناء ملاعب ومراكز عسكرية بالقرب من موقع البلاخية الأثري. هذا الضغط الشعبي أجبر الحركة على وقف بناء مركز التدريب العسكري.

إن غيابَ الخطط الوطنية الشاملة لصيانة الأماكن الأثرية من عوامل فشل حماس في الحفاظ على الآثار القديمة في غزة. وغيابُ القوانين التي تحمي الآثار أعطى بعضَ العسكريين في حركة حماس العاملين في وظائف أمنية حماية معينة تسمح لهم أحياناً بالتعدي على الآثار وإخفائها كما حدث مع تمثال أبولو الغزي.


ذكر الإعلام الحكومي أن الحرب الإسرائيلية الحالية على القطاع دمرت منذ أكتوبر الماضي أكثرَ من مئة موقع أثري. لقد تعرضت المواقع الأثرية وتاريخها المادي للدمار، ضمن ما وصفت بأنها "مذبحة ثقافية" لمحو الآثار والتاريخ المادي لغزة مع المقتلة الجارية بحق سكانها.

كانت إسرائيل معتديةً في جرائم سرقة آثار غزة، فقد أرادت محو الرواية الفلسطينية التي أخفق الفلسطينيون بعدها في حفظها وصونها عندما لاحت الفرصة لتسجيل المواقع الأثرية في لائحة التراث العالمي وحمايتها دولياً. لكن يبقى السؤال: ألم يكن ذلك صعبًا أمام مسلسل من الدمار كُتبت آخر حلقاته بركوب أول طيار حربي إسرائيلي مقاتلته النفاثة متجهاً لقصف قصر الباشا وحمام السمرة؟ ومع أول قذيفة ضربت أقدم ميناء تاريخي في غزة؟

لقد أضحت آثارُ غزة ودليلُ مجدها المادي كنوزاً بلا حماية، تتقاذفها أيادي إسرائيل وتعبث بها أيدي الناس في غزة بلا حسيب أو رقيب. ربما يُلام الفلسطينيون في هذا الجانب ويتحملون جزءاً من المسؤولية عن ضياع جلّ تاريخهم الملموس، لكن تبقى إسرائيلُ المسؤولَ الأول والأكبر بتدميرها المنهجي المقصود لمعالم غزة التاريخية. إنها محاولة لقطع صلة الفلسطيني بماضيه؛ فحجارة المسجد العمري العريق وحمام السمرة وغيرها التي أضحت كومات بائسة تختلط برائحة القذائف والبارود لا تحتاج دليلاً عمّن يتحمل جل المسؤولية في ضياع آثار غزة.

اشترك في نشرتنا البريدية