أساطير الآخِرين: لماذا صارت نظرياتُ المؤامرة دِيناً جديداً؟

صدفة غريبة في جبال باكستان جمعت الكاتبَ بثلاثة رجال من بلدته الأسكتلندية، تحكي قصتُهم رحلةَ الإنسان في تكوين نظريات المؤامرة لتفسير كل شيء

Share
أساطير الآخِرين: لماذا صارت نظرياتُ المؤامرة دِيناً جديداً؟

سافرتُ صيف 1994 إلى جبال شمال باكستان ستةَ أسابيع والتقيتُ وقتئذٍ ثلاثة اسكتلنديين ينحدرون من بلدة غالّواي التي عشتُ فيها زمناً من طفولتي. لم نستطع بالسويعات التي اجتمعتُ فيها مع روبن وروبرت وريتشارد أن نخفي دهشتنا من صدفة اجتماع أبناء بلدةٍ اسكتلندية نائية أسماؤهم متشابهة في مكانٍ قَصِيّ. بعدَ أربعة عشر عاماً، وأنا في غالّواي، فاجأني صوت قرع الباب بعد الظهيرة. لقد كان سَمِيّي روبن. قال لي: "رأيتك في السوق ولحقتك إلى المنزل. سبق أن التقينا في باكستان قبل سنوات. اسمك روبن، على ما أذكر". عرّفني روبن على أُناس كثر في غالّواي وخارجها حتى صرت مَديناً له ولصدفتنا الأولى بكثير من صداقاتي الآن. ثم التقيت بروبرت وريتشارد أيضاً في الأسابيع اللاحقة. هل كانت هذه كلها فعلاً مصادفات؟ 

يقال إن العقل البشري ينزع إلى القَصص لاستيعاب الواقع، ويبحث عن التفاصيل المتّسقة والمنتظمة وينسجها ليفسّر ما حوله. ثم يتباين الناس في حدّة إدراكهم، فمنهم من لا يلاحظ شيئاً أصلاً، فلا يجد أي معنى في حياته، ومنهم المهووسون بالمؤامرات الذين يُنقّبون في كل جزئية بالحياة عن تفسير ومعنى ويعتقدون أن كل حدثٍ عابرٍ جزءٌ من مخطّطٍ مُحْكَمٍ يستهدفهم. وفي الوسط بين الهَوَس وعدم الاكتراث هنالك أُناسٌ لا يُغالون في تصديق نظريات المؤامرة التي  تفسر غرائب الحياة والظواهر الكبرى بناءً على قناعات شخصية تشكلت ونُسجت دون دليل.

تتغير هوية المتآمرين في نظريات المؤامرة بتغيُّر الثقافة والسياق. فَهُم تارةً سحرةٌ أو كاثوليك أو ماسونيون أو أحمديون أو زواحف بشرية، وتارةً هُم الاتحاد الأوروبي أو رجل الأعمال الأمريكي اليهودي جورج سوروس أو مؤسسة بيل غيتس صاحب شركة مايكروسوفت للكمبيوتر. إذن، البشر صنفان: متآمِرون ذوو خطط فتّاكة، ومتآمَرٌ عليهم. وهؤلاء نوعان: سوادٌ أعظم من الجهلة لا يتنبّهون إلى المؤامرة، وقلّةٌ يقِظةٌ تُميِّز الحقيقةَ وتُبصر الخلاص. تخصُّ نظرياتُ المؤامرة المصدّقين بها بصفاء البصيرة، فهُم النخبة الناجية التي فهمت المؤامرة، وانحازت إلى الصواب والصلاح المعرفي والأخلاقي.

لا مفرّ من الإقرار بانتشار المؤامرات. فنحن نلمسها بالعلاقات الكيدية في الأُسر وبيئة العمل وسراديب الحكومات ودهاليز الأحزاب السياسية وصفوف الجيوش وأجهزة المخابرات. لكنّ وجود أصلٍ لنظرية مؤامرةٍ ما لا يبرّر الغلوّ في تفسيرها ولا الإيغال في حملها على ظاهرها وتعميمها وافتراض أن نظريةَ مؤامرةٍ واحدةً تلغي النظريات الأخرى. فهذه المبالغة تطمس التباسات الواقع وتعقيداته وتعيد كل شيء إلى سببٍ رئيس واحد، كما تُبرز حبكة واحدة جامعة بدل ملايين الحبكات المتشابكة. وهنا مربط الفرس، فنظريات المؤامرة تمنحنا مفتاحاً سحرياً نفتح به جميع الأساطير ونفسر غوامض الأمور. وهذا النزوع للفكر المؤامراتي لا يختص به شعب من الشعوب أو جنس من الأجناس، بل إنه منتشر في مناطق شتى من العالم، من باكستان حيث التقيت أصدقائي الثلاثة إلى أوروبا التي قد نظنها محصَّنة من مرض الإيمان بنظريات المؤامرة لتقدمها العلمي.


ينتمي روبن إلى جيلٍ أقدم من جيلنا غير متأثر بالإنترنت كثيراً، وتقرّبه سنارة الصيد من الحياة اليومية الواقعية. أما روبرت فمؤمنٌ ضليع بنظريات المؤامرة، موقِنٌ أن الأميرة ديانا اغتيلت، وأن هجمات 11 سبتمبر 2001 مؤامرةٌ دُبّرت بليلٍ. كما يظن أن المؤامرات باديةٌ للمبصِرين وأن الفيديوهات في يوتيوب تدلّ على ذلك، لذا علينا أن نشاهدها بتمعّن. إنه مشبوبٌ بالعاطفة، وإذا اعترضتَ على كلامه يشتعل غضباً.

في نظريات روبرت، لا مكان للصدفة ولا تقع الحوادث وحدها دون سبب مدبَّر، فالسيارات لا تصطدم فحسب، والإرهابيون لا يحالفهم الحظ فقط. لذلك فإن شرح حادثةٍ ما ومعرفة اليد الخفية وراءها يكمن في الإجابة عن سؤال "من المستفيد؟". استُعملت هذه المغالطة في إنكار المجازر الكيماوية التي ارتكبها نظام الأسد؛ لأنها بناء على ذلك مصطنعة للتحريض على تدخّل عسكري خارجي. والثوار هم المستفيدون، إذن هم أو حلفاؤهم المزعومون في تركيا وفرنسا من نفّذها. اطّردت هذه الحجة لتبرير هجماتٍ عدّة، حتى بعدما تبيّن استحالة التدخّل الخارجي. بلا شك لم يستفد الثوار من رؤية أهلهم يختنقون حتى الموت، بينما استفاد النظام من نشر الذعر في البلدات الثائرة وكسر شوكة معارضيه المسلّحين، ولم يمتلك الثوار قدرة على تخزين الأسلحة الكيماوية أو إطلاقها، ولَم تَطِرْ طائراتٌ تركية أو فرنسية في أي مكان قريب من الهجمات. لكن لا قيمة لكل هذا فالقصة هي الأهم، لا الحقائق ولا كرامة الضحايا. عندما بدأ روبرت يردد نظريات المؤامرة السورية، طلبتُ منه ألّا يثرثر في حضوري عن سوريا. فأنا لا أستطيع التحمل.

أما ريتشارد فيُذيِّل كلامَه بعلامات التعجب. يقول مثلاً: "منسوب الكربون؟ تلك أكذوبة، أكذوبة! يقولون إنها سبب تغير المناخ، صح؟ أكيدٌ المناخ يتغيّر! لو لم يتغير لما كان هناك مناخ! ولكنهم لن يسمحوا لك بالحديث عن ذلك! المسألة كالهولوكوست لديهم! ممنوعٌ الحديث عنها!". هل يمنع الحديث عن أن المحرقة النازية خدعة؟ أُفضّل ألا أستفسر، بل أميل إلى الحديث عن مواضيع قريبة مني ومنه، لأن مواقفه مما يجهلُ متشددةٌ ولأن الأشياء التي لا يفهمها تبعث فيه حماساً مفاجئاً وتُجذِّر ثقتَه بنفسه. أصبح ريتشارد خبيراً بالشأن البوليفي في أمريكا الجنوبية مدّةً بعد استماعه بودكاست عن الموضوع. وعندما استقال الرئيس البوليفي ألفارو موراليس وسط احتجاجاتٍ على نتائج انتخابات 2019، كان ريتشارد متيقّناً من وجود مؤامرةٍ أمريكيةٍ سرّيةٍ لا يعرفها سوى المتآمرون أنفسهم ومستمعو البودكاست تهدف إلى حرمان الصين من يورانيوم بوليفيا. ثم أصبح بعدها خبيراً في شؤون المثليين. لم أعرف قبل لقائه أنهم صاروا مثليين بسبب الأموال السخية التي دفعتها الحكومة لهم، ألم يكن هناك مثليون قبل ذلك؟ 

لَمْ تَدُم خبرتُه بالمثليين أكثر من يوم واحد، لكنه خبيرٌ ضليعٌ بشؤون كورونا منذ يوم الإغلاق الأول. ومتيقّنٌ أن المرض غير موجود، بل ما هو إلا زُكامٌ، إن وُجِد. أما اللقاح فيقول عنه ريتشارد: "إنه عملية إعدام جماعي، هذه هي الحقيقة!" وهو خديعة لجمع عيّنات من الحمض النووي. ظننتُ أن ريتشارد وأمثاله سيُذعنون لحقيقة وجود كورونا عندما اجتاحت موجة شديدة من كورونا الهند، ودفن كثيرون أقرباءهم على ضفاف نهر الغانج بسبب اكتظاظ محارق الجثث. لكنه ما إن التقينا حتى بدأ يشرح لي سبب كثرة الوفيات في الهند، والتي لم تكن برأيه بسبب كورونا بل بسبب الجوع والعطش، لأن الحكومة الهندية منعت الطعام والماء عن الشعب لتوحي لهم أن كورونا مرضٌ قاتل. لم أسأله إن كان يظنّ الهنود أغبياء ولا يستطيعون تمييز أسباب الوفاة، لأنني شكّكت بحكمته من قبل في موضوع المثليين وطلبت حينها أن يغير الموضوع أما الآن فاكتفيت بالإيماء والابتسام.

لست متأكداً أَسُلُوكي جبانٌ أم متسامح. لكن لو صادفتُ شخصاً مثل ريتشارد على مواقع التواصل الاجتماعي سأحظره فوراً دون تردد. أولئك الافتراضيون يثيرون غضبي بتصريحاتهم التي تستهين بالحقيقة والمعاناة وتُؤَوِّل كلَّ شيءٍ، حتى الإبادةَ الجماعية. مجالسةُ ريتشارد تختلف عن قراءة نظريات المؤامرة على مواقع التواصل فهو يغيّر الموضوع إذا ما طلبت منه، كما أنه لا يمتلك نفوذاً أو علاقات مع أصحاب السلطة ولا حتى مع أشخاصٍ خارج دائرته الصغيرة. وريتشارد يلفت الأنظار بمهاراته العملية، لا سيما بما فعله عندما أعاد بناء منزله حول موقد حطبٍ ضخم. ولَدَيْهِ اكتفاءٌ ذاتيٌّ من الوَقود. وهو إلى ذلك يزرع الخضروات ويربي الماعز والدجاج والإوز ويحصد بالمنجل لينتج التبن. بنى برجاً من جذوع الأشجار وعلّق تمثال حيوانٍ محنّطٍ في بيته، ويبدو لي أنه أبٌ صالح.

ريتشارد جاهل بطريقة عمل وسائل الإعلام على الإنترنت ويستهلك محتواها دون نقد، فيقول جادّاً: "أخبرني يوتيوب". لا يدري أن موقع يوتيوب، كمعظم وسائل الإعلام على الإنترنت، يكرس وجهات النظر حينما يقترح عليك محتوى مشابهاً لما تشاهده أو تقرؤه. فأنت ما إن تشاهد مقطع فيديو حتى يقترح عليك يوتيوب مقاطع شبيهة. فلو شاهدت مثلاً فيديو يشكّك باللقاحات ستنهال عليك فيديوهات مقترحة أخرى تشكك بها أيضاً ثم فيديوهات تدّعي أن بيل غيتس يحاول إعدام السكان وإعادة ضبط الاقتصاد. وسرعان ما يصبح محتوى المنصة عندك متعصّباً دون اقتراح أي محتوى يجادل و يحاجج ما تراه. يخلق كل ذلك شعوراً بأن مقاطع الفيديو بما فيها من نظريات ليست متشددة ونادرة بل سائدة؛ لأن عقل المشاهد ينحاز عفواً فيقبل المعلومات التي تثبت معتقداته. لذلك، إذا أصيب أحدهم بنوبة قلبية وكان قد تلقى لقاحاً في الأشهر القليلة الماضية، سيستنتج ريتشارد أن اللقاح هو السبب دون تفكير بأن التدخين أو الكحول أو الحلويات قد تكون هي السبب.

ديدنُ المؤمنين بنظريات المؤامرة تأكيد كفرهم بها، فهم باحثون عن الحقيقة لا أكثر. لكن ريتشارد عكسهم يفتخر بإيمانه: "نعم أنا من جماعة نظرية المؤامرة، لقد تناولت الحَبّة الحمراء منذ البداية!" يقصد بالحَبّة الحمراء قبول حقيقة العالم المؤلمة، ويقابل الحبة الحمراء أخرى زرقاء تعني الغرق في الجهل والخديعة كما يصوّر مشهد شهير في فيلم "ماتريكس".

شجاعة ريتشارد الاستثنائية هذه لا تشجّعني على الردّ. لا ننكر ههنا أن اعتقادات ريتشارد شائعة، فجارنا المسنّ مثلاً يرى أن كورونا مرض حقيقي، ويعزل نفسه خوفاً منه، لكنه لن يأخذ اللقاح لئلا تقتله الحكومة. ولديه كذلك أفكار نمطية عن العرب، قال لي مرة من وراء سور حديقته: "ألا تراهم مقسّمين بين سنة وشيعة؟ يحتاجون قائداً قويّاً يمنعهم من الاقتتال. لقد كان القذافي نعمة لليبيا، وبعد رحيله عمّت الفوضى". أجبته أن لا طوائف متنازعة في ليبيا، وأن ليبيا تكاد تخلو من الشيعة فانتقل توّاً إلى نظريته الأخرى: "إذن المشكلة في إسرائيل! إسرائيل مسؤولة عن كل مشكلة في العالم". نعم، يمكننا جميعاً ترك العالم العربي وراءنا لكنه لن يتركنا أينما حللنا وارتحلنا.

زار مرّة صديقي الرافض نظريات المؤامرة صديقُه المؤمن بها عندما سمع أنه أخذ اللقاح. لم يكتفِ بتنبيهه إلى وجود شريحة في جسمه، بل أخرج جهازاً اشتراه من الإنترنت لتحديد موقعها. وعندما لم يُعطِ الجهاز معلومات عن الشريحة المزعومة بدأ يتململ قائلاً: "حسناً لا بد أن الشريحة مزروعة في دماغي". ابتسم صديقي بلطف، لكن الرجل أكد استحالة ذلك: "الشريحة تبقى في الذراع ولا تتحرك" ثم رمى جهازه وصرخ: "إنه معطوب، سأُعيده وأستردّ مالي". زارت صديقتي أحد مراكز تدليك القدمين، حيث أخبرها المختص وهو يدلك قدميها بأن بوتين غزا أوكرانيا لتفكيك شبكات التحرّش بالأطفال لا لبعث الإمبراطورية السوفييتية ولا للانتقام من توسع حلف الناتو.


كنتُ قد فرغت من تدوين قائمة بمنظِّري المؤامرة المحليّين عندما قررت أنا وزوجتي التوجه إلى البلدة المجاورة للغداء في محل وجبات سريعة. وأثناء انتظارنا فتح كل منا نسخة من صحيفة موجودة على الطاولة اسمها "ذا لايت" (النور) وشعارها "الحقيقة دون رقابة". يغلب على محتوى هذه الصحيفة أحاديث عما تدعوه "انقلاب كورونا" ومقالات عن الحرب التي تصفها بالوهمية بين روسيا وأوكرانيا والتي أشعلها المتآمرون عمداً وعن أضواء الشوارع المزودة بأشعة ضارة للعين. في الصحيفة إعلانات عن منتجات يساعدك أكلها أو ارتداؤها في الحفاظ على صحتك لتكون بذلك أذكى من أولئك الذين يأخذون اللقاح. أحد كتّاب الصحيفة يحذّر من طموح المتآمرين الدموي في تقليص عدد سكان العالم بنسبة 90 بالمئة، خاتماً مقالته بقوله: "كلما وقع مكروه اسألوا أنفسكم: ما هو أخبث الأسباب المحتملة؟ لأن الارتياب الآن هو ثمن الحرية". ولّى الزمن الذي كانت فيه الصحف المجانية بالأماكن العامة تحتوي إعلانات أو مواعظ دينية أو دعوات إلى مناصرة حقوق العمال.

أصبحت مدينة شيترال في باكستان، حيث التقيت بالأصدقاء الثلاثة، معقل نظريات المؤامرة عن لقاح شلل الأطفال. إذ يعتقد الناس هناك أن أمريكا وإسرائيل ومنظمات أممية يهدفون بهذه اللقاحات إلى جعل النساء المسلمات عاقرات وإلى قطع نسل أجيال المسلمين مستعينين على ذلك بتجنيد أطباء وممرضات لتقديم اللقاح. كانت عاقبة نظرية المؤامرة هذه آنذاك قتل عددٍ من الأطباء والممرضين بالرصاص. باكستان وأفغانستان هما البلدان الوحيدان حيث تنتشر الإعاقات الناتجة عن فيروس شلل الأطفال بسبب عدم تلقي اللقاح.

يصاب الأطفال في أفقر مناطق باكستان بشلل الأطفال، وهذا قد يعاضد مَن قالوا إن العقلية التآمرية ناتجة عن ضعف التنمية وعن الجهل. إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أمرين، الأول إن نظريات المؤامرة عن اللقاحات قديمة قدَمَ اللقاحات نفسها وقد بدأت في أوروبا منذ عصر التنوير. ففي إنجلترا بالقرن الثامن عشر ادّعى بعض الناس أنّ مرضى الجدري، الذين لقّحهم إدوارد جينر بلقاح من جدري البقر، على وشك أن تنبت لهم قرون بسبب اللقاح. أما الأمر الثاني هو إن تصرفات ذوي النفوذ غير الحكيمة، تعزّز نظرية المؤامرة دون قصد، فمثلاً عندما نظّمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية برنامج تلقيح مزيَّف في أبوت آباد الباكستانية أثناء مطاردتها أسامة بن لادن رسّخت أقاويل منظّري المؤامرة المحليين التي ترى أن اللقاحات واجهة للإمبرياليين الأجانب.

تتأرجح نظريات المؤامرة هبوطاً وصعوداً باختلاف الزمن والثقافة، لكنها تتصاعد عندما يشعر الناس بالارتباك والخوف من التغيرات الاجتماعية السريعة التي قد تحفّزها تقنيات التواصل الجديدة. قديماً تزامن انتشار المطابع في أوروبا مع الهوس بمطاردة الساحرات، الذي وصل إلى ارتكاب المجازر الجماعية. أما في القرن العشرين فقد ساهمت الصحف والإذاعات في إفشاء الحديث عن المخلّصين والأعداء والضحايا المحتملين. واليوم سهّل الإنترنت نشوء مجتمعات عابرة للحدود تنظّر للمؤامرة. 

جمهور نظرية المؤامرة المثالي أشخاص يصيبهم العجز وسط التغيّرات المتتابعة ويرون أنهم غير مسيطرين على مجريات الأمور التي يتحكّم بها آخرون لا يعرفونهم ويتعاظم عندهم الشعور بتخلّي الآخرين عنهم. ينطبق ذلك أيضاً على شعوب الأنظمة الديكتاتورية، ما يعني أن التخلّف السياسي يهيئ المناخ المناسب للمؤامرات. يشبه العالمُ العربي في شهيته نظريات المؤامرة باكستانَ كثيراً، بل ربما كان أسوأ منها. فباكستان رغم مساوئها بلدٌ ديمقراطي، بينما لا وجود لدولة عربية ديمقراطية. كانت المؤامرات أداة تمارس بها السياسة في العواصم العربية حتى عام 2011. وكان سكان المنطقة غير مؤثّرين على حكوماتهم أو في شكل دولهم التي رسم حدودها ــ سرّاً ــ غزاةٌ أجانب. في حين نظّمت أجهزةُ مخابرات ولجانٌ عسكرية سرية سلسلةً من الانقلابات والانقلابات المضادة، حينها التبس الحابل بالنابل فتولّدت القصص لتملأ الثغرات. 

تعاني المجتمعات العربية من مصائب شتى، ولها أسبابها في تقريع الآخرين. فبدل أن تحمّل نفسها أو الأنظمة الحاكمة أو الفساد العام مسؤولية الإخفاقات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، يسهل اتّهام المخطّطات الخارجية أو التحريض على الأقليات الطائفية. وبسبب تفشّي الإحباط والرقابة والخوف، تنتشر قصصٌ تعكس الهموم المحلية ثم تتحول إلى تفسيرات طريفة للأحداث العالمية. في دمشق مثلاً، تُباع نُسَخ من كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" دون أيّ إشارة إلى أنها وثيقة مزورة صاغها ضباطُ شرطة روس في القرن التاسع عشر ثم رعاها من رأى مصلحة في ذلك. فمثلاً، يستثمر النظام بفحوى الكتاب عن اليهود ويتوافق عليه ويستفيد أصحاب النفوذ من جهل وتعصّب الضعفاء بهدف تشتيت الغضب الشعبي. وألمع مثال على ذلك تأليف وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس (1972-2004) كتابَ "فطير صهيون" الذي أعاد فيه سرد حادثة دمشق عام 1840، والتي كانت بذاتها استيراداً لفرية انتشرت في أوروبا وهي تصوير اليهودي مولعاً بشرب الدم. آنذاك اتهم مسيحيو دمشق يهودها بقتل راهب من أجل خَبز فطير الفصح بدمه قبل أن يتبنّى القنصل الفرنسي التهمة ويقنع الحاكم المصري بسجن عدد من اليهود المنحوسين الذين انتُزعت منهم الاعترافات بالتعذيب ثم اتُّخذت أدلة دامغة حينها ومرة ثانية على يد الوزير البعثي بعد قرن ونصف.

إذن نظريات المؤامرة لها سوقها وجمهورها مهما حملت من أكاذيب. فحزب الله مثلاً افترى قصة تحذير آلاف اليهود من الذهاب إلى عملهم يومَ هجمات 11 سبتمبر، مفترضين بذلك أن اليهود شديدو الإخلاص لقيادتهم اليهودية ولم يكشفوا السرّ إلا لحزب الله! على مرِّ السنين أيضاً قال لي أشخاص مختلفون في بلدان عربية عدة إنّ آل سعود والقذافي وحسني مبارك وياسر عرفات يهود، أي أن خلاص العالم العربي منوط بإيجاد قادة غير يهود. نظرياتٌ تُبسّط الواقع تبسيطاً مخيفاً من جهة وتواسي الكبرياء المجروح من جهة أخرى؛ لأن الهزيمة أمام مؤامرة عالمية مكتملة الأركان ليست إخفاقاً شائناً، بل نتيجة حتمية دون تدخل إلهي. قصص تعزز غرور من يؤمن بها، فإلى أي حد أمتنا مرعبة ومهمة إذا كانت اليهودية والماسونية والرأسمالية الأميركية وغيرهم يتكاتفون بلا كلل للسيطرة عليها؟

أحدَثَ النظام في سوريا نظريات مؤامرة لا حدّ لها أثناء الثورة لشرح التحديات التي تواجهه. قال النظام عبر وسائل إعلامه إن رئيس المخابرات السعودية الأمير بندر بن سلطان والصهاينة وتنظيم القاعدة يدفعون بسخاء للمتظاهرين ليخرجوا إلى الشوارع. بينما يعرض تلفزيون النظام صور حبوب هلوسة تحمل شعار قناة الجزيرة على أنها سبب المظاهرات. وهناك أيضاً مجسّمات مستنسخة من المدن السورية في الصحراء القطرية حيث يمثّل بعضهم أنهم جنود سوريون يُطلقون النار على ممثلين آخرين بدور مدنيين سوريين.


للأسف لا تقتصر هذه النظرة التآمرية على الأماكن التي ذكرتها، بل تتعداها إلى شتى أنحاء العالم. لا أكاد أجد مكاناً في عصرنا شرقاً وغرباً ريفاً ومدينةً يخلو من لعنة تفشي نظريات المؤامرة، والتي يبدو أنها باتت ترسم سياسات الدول وتبلور ثقافة الجماهير. لا ريب، فقد بدأ قرننا الحادي والعشرون بـ"حرب عالمية على الإرهاب" التي اختزلت عشرات النزاعات المسلّحة في قصة سردية متجانسة خارج السياق جعلتها حرباً بين فرسان صالحين ومتآمرين شيطانيّين. حرب لم يُنظر إليها على أنها نظرية مؤامرة أو شعار تسويقي.

 بعد عقدين أصبح دونالد ترامب زعيماً لما سمي بـ"عصر ما بعد الحقيقة"، الذي يلتبس فيه الحق على الناس مع كثرة المعلومات. وظّف ترامب وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن انتقل من تجارة العقارات وتلفزيون الواقع إلى عالم السياسة بتأييده نظرية مؤامرة تدّعي أن النخبة الليبرالية المتآمرة أخفت أن باراك أوباما لم يكن مؤهّلاً للترشح إلى الرئاسة لأنه لم يولد في الولايات المتحدة. صوّر ترامب الثري نفسه أنه من عامة الناس وضحية للجماعات الخبيثة، وعلى رأسها وسائل الإعلام التي تبثّ الأخبار الكاذبة. بذلك حيّد ترامب الصحافة الاستقصائية وعطّل قدرتها على قول الحقيقة معلناً أن الحقيقة كذبة وأن أكاذيبه هي الحقيقة مهما تناقضت. استفاد ترامب من حركة "كْيو أنون" وهي سلسلة نظريات مؤامرة تدّعي أن شخصيات بارزة كهيلاري كلينتون متورطة في التحرش والاتّجار بالأطفال وأنها تتآمر على رئاسة ترامب أيضاً. ولكن نظرية المؤامرة التي هددت الديمقراطية الأمريكية بحقّ هي ادّعاءات ترامب أن الحزب الديمقراطي زوّر نتائج انتخابات 2020 بالتحالف مع جهات من الدولة العميقة. صدّق هذه الادّعاءات 53 بالمئة من مناصري الحزب الجمهوري أي ملايين من الشعب الأمريكي كما جاء في استطلاع لوكالة رويترز وشركة إبسوس. 

تتوارى العنصرية والازدراءُ العرقي وراء كثير من مشاريع ترامب السياسية ومنها نظريته عن أوباما والوعد ببناء جدار على حدود المكسيك وحظر دخول مواطني بعض الدول غالبيتها إسلامية إلى الولايات المتحدة، لا سيما النسخة الأميركية من نظرية مؤامرة "الاستبدال العظيم". تقول هذه النظرية إن الحزب الديمقراطي وغيره من الليبراليين يهدف إلى تدمير الأكثرية الأميركية باستبدال الأميركيين البيض بمهاجرين ملوّنين ينتمي أكثرهم إلى "حثالة الدول" كما قال ترامب. يظهر استطلاع لموقع "يوغوف" أن 61 بالمئة تقريباً من ناخبي ترامب و53 بالمئة من متابعي قناة "فوكس نيوز" يصدقون هذه النظرية. وأشار مذيع فوكس نيوز السابق، تاكر كارلسون، إلى نظرية "الاستبدال العظيم" مئات المرات. وتتحدث النسخة الأكثر غلواً من هذه النظرية عن إبادة البيض وتشير غالباً إلى أن المتآمرين هم ليبراليون يهود. لذلك كان الهتاف المزدوج للمتظاهرين بمسيرة توحيد اليمين في شارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا عام 2017 "لن تستبدلونا" و"اليهود لن يحلّوا محلّنا".

أما النسخة الأوروبية من نظرية "الاستبدال العظيم" فتدعي أن المسلمين يشكلون تهديداً سكانياً كما يقول رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان. وأثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا عرض مرشحو اليمين المتطرف نظرية المؤامرة هذه، بل كررتها مرشحة يمين الوسط فاليري بيكريس محاولة استقطاب ناخبي اليمين المتطرف. كما يقلق 67 بالمئة من الفرنسيين من "الاستبدال العظيم". أما الجنرال الصربي راتكو ملاديتش المعروف بسفّاح البوسنة، فبرّر ما اجترحه الصِرب من إبادة جماعية بأن العالم الإسلامي هو "قنبلة سكانية" ينبغي أن تُفكك قبل أن تنفجر بهم. ومثله الرهبان البوذيون في ميانمار الذين يتحدثون عن أن ضحاياهم من فقراء وصيادي وفلاحي الروهينجا يمثلون تهديداً سكانياً منظّماً قضى على البوذية في بعض المناطق لا سيما في باكستان وأفغانستان. ويرى القوميون الهندوس في الهند أن علاقات الحب بين المسلمين والهندوس هي مؤامرة "جهاد الحب" لإخضاع الهند وأسلمتها بوسائل غير عسكرية. أحياناً يقتنص المسلمون نظرية المؤامرة المعادية للإسلام ويوغلون فيها، من ذلك ما أخبرني به أحد السوريين قبل أكثر من 20 عاماً أن أوروبا ستكون ذات أغلبية مسلمة خلال 20 عاماً فقط. سمّى كتاب "الاستبدال العظيم" الصادر بالفرنسية عام 2011 نظرية المؤامرة باسمها هذا وفيه يصف المؤلف رينو كامو المهاجرين غير البيض الآتين من بلدان كانت مستَعمَرة بالمستعمرين في أوروبا مراراً وتكراراً. مراوغة لغوية يخال بها الأقوياء أنفسهم ضعفاء ويحسب بها مرتكبو الجرائم الذين يخافون من التغيير الاجتماعي أنفسهم ضحايا. 

حمل التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دلالات ودوافع عدّة وكان انعكاساً لشعورٍ عارم بالاضطهاد. حينها انتُزع القرار الوطني من يد الشعب البريطاني وكانت بريطانيا فريسة البيروقراطيين الأوروبيين والمهاجرين سرّاً وعلناً. تبدّى الحلّ بشعار فضفاض هو "استعيدوا السيطرة" وعندما لم يتفق أحد على معنى هاتين الكلمتين انتشر شعار: "استكملوا بريكزت". انشغل المهتمون بالمجال العام في بريطانيا أكثر من خمس سنوات بسياسات الخرافة والهوية الجريحة، لا بأزمة المناخ أو ازدياد الفقر. كان الأمر كالأحلام الرّثة التي قال عنها أحدهم على التلفاز: "ماذا يعنون بقولهم سنكون معزولين بعد بريكزت؟ حتماً لا. إنها الإمبراطورية البريطانية. ثمة مليارات البشر في الإمبراطورية البريطانية". كان هذا التعليق الغبي نسخة صادقة من الشعارات اللامعة والمراوغة التي رافقت حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. عفا الزمن على الإمبراطورية منذ أكثر من سبعين سنة، لكن الحملة كانت حنيناً إلى زمن استحواذ بريطانيا على المحيطات كحنين أنصار ترامب إلى زمن سيطرة البيض الكاملة على الحياة العامة، يومَ كان السود يعرفون مكانتهم. ربما كانت حياة معظم البريطانيين والأميركيين البيض يومئذٍ أقصر وأفقر، لكن الصور المتخيلة لذاك الزمن وحكاياته السعيدة أجمل من حاضرنا المعقّد والمحيّر.

نعم، كانت كل المطالبات ببناء الأسوار وتعزيز الحدود واليقين الأحمق والنزعات الانعزالية والحمائية انعكاساً غاضباً لواقعنا المُعَولَم. فاليوم يمكن أن يعلو صوت الاضطرابات أو الأيديولوجيات أو الأموال أو الحركات الاجتماعية في أي مكان، ثم يتردد صداها بسرعة في أي مكان آخر. من ذلك هتافات المتظاهرين الذين خرجوا عام 2017 تحت شعار "توحيد اليمين" في فرجينيا ممن يؤمنون بتفوّق العِرق الأبيض التي عبّروا فيها عن آرائهم بما يجري في العالم العربي تعبيراً يضاهي في عبقريته آراءهم بسياسات الهجرة في البلد حين قالوا: "ادعموا الجيش العربي السوري"، "ناهضوا دعاة العولمة"، "الأسد لم يرتكب أي جرم"، "استبدال القذافي كان خطأ لعيناً".

ينتشر بين بقايا اليساريين أيضاً جوهرُ هذه المواقف من دعم نظام الأسد ونظريات المؤامرة التي تنكر المجازر والإبادة في سوريا والكراهية العميقة للإسلام والزعم أن دعاة العولمة يقفون وراء الثورات العربية وكذلك وصف الثورة الليبية بالمؤامرة الخارجية. وهذا لأن الحُمق ليس حكراً على اليمين، فمنطق المؤامرة والتعميم الشديد واختزال العالم المعقّد ليس أقلّ انتشاراً وسط اليسار. يُفسر ذلك جزئياً بهزائم الحركات اليسارية التاريخية، دون أن نتجاهل ميل البشر إلى التفكير البسيط. 

يبدو أن نظريات المؤامرة ميدان مشترك بين اليمين واليسار. فبعد إخفاق اليساريين في تطوير فكر اقتصادي واجتماعي يلائم العالم المعاصر. وبعد عجزهم عن مراجعة تاريخهم الاستبدادي ويأسهم من نهوض الجماهير من سُباتها لتُغير العالم جذريّاً، انتقل معظمهم من التحليل المادي إلى التحليل الغيبي وتخلّوا عن النضال داخل الدول وتحلّوا بهوس الصراعات بين الدول. إلا أن هوسهم وهمي وتحليلاتهم ظاهرية، فالجماعات التي تعدّ نفسها معادية للإمبريالية ويرفع لواءها يساريون مثل جيرمي كوربين ونعوم تشومسكي تبدأ دوماً بتحديد فسطاط الشر: الولايات المتحدة، بريطانيا، إسرائيل، السعودية، ثم تدعو إلى دعم فسطاط الخير الصامد في وجه هذا العدو الإمبريالي. العالم أكثر تعقيداً مما توحي به هذه النظرة البسيطة، لا سيما اليوم. فاليساريون الذين يرون الإمبريالية الأمريكية منبع الشر، يتجاهلون أن إيران إمبريالية في سوريا ولبنان والعراق واليمن وضحية تاريخية للإمبريالية الغربية في آن. كما أنهم عاجزون عن الإقرار بخطر الفاشية الصربية على أبناء البوسنة وكوسوفو، في حين أنهم يلومون حلف شمال الأطلسي على ما حصل بالبلقان. واستناداً على رؤيتهم هذه، رفض السياسي البريطاني جيريمي كوربين الاعتراف بحدوث الإبادة الجماعية للمدنيين في البوسنة وكوسوفو بينما تجاوز عدد ضحايا المجازر فيهما تسعة وستون ألف مسلم ومسلمة.

يشوّه معادو الإمبريالية كلَّ ما لا يتماشى مع ثنائية الفسطاطين، الطاغوت الأميركي وضحاياه في العالم الثالث، فيتجاهلون كل ما يتناقض معه أو يحرّفونه أو يعيدون تفسيره بما ينسجم مع معتقداتهم. وبما أنّ أمريكا "مفتاح الأساطير" فإن المدافعين عن الإمبريالية يرون أن الثورات على الأنظمة غير الحليفة للولايات المتحدة مخططٌ لتكرار ما حدث في العراق من شن حرب مدمرة استناداً إلى حجج واهية وأنّ ثورتي سوريا وليبيا كانتا محاولتين غربيتين لتغيير النظام. إذن، فاليساريون معادو الإمبريالية يرون أن معاناة السوريين والليبيين غير موجودة أو هي جزء من مؤامرة خارجية وأداة للتدخل الأجنبي إن وُجدت.

هذا الإنكارُ لمشيئة المضطهدين السياسية الذين يواجهون الرصاص بصدورهم أمارةُ العنصرية. وبه يُصوّر المغامرون بحياتهم أنهم متخلفون وحمقى منقادون خلف مخططات الأميركيين الدهاة. وأنهم يخاطرون بالموت مراراً وتكراراً لأن وكالة المخابرات المركزية تتحكّم بهم. بالغباء نفسه، ابتدع صديقي ريتشارد هنوداً في رأسه يظنّون أنهم ماتوا بسبب كورونا لكنهم ماتوا من الجوع والعطش. لا قيمة للمنطق ولا للحقائق ولا للمعاناة الإنسانية عند هؤلاء، فالمهم هو القصة وكأن أبطالها ليسوا بشراً حقيقيين بل أحجاراً على رقعة شطرنج.

لهذا رفضت جماعة "أوقفوا الحرب" في بريطانيا الاحتجاجَ على براميل الأسد المتفجرة التي استهدف بها أحياء المدنيين العُزّل ولم تعترض على هجماته الكيماوية ضد المدنيين ولم تنكر المجاعات التي فرضتها إيران أو تدمير روسيا المدن والبلدات السورية. لكنها تظاهرت ضد أي محاولة تضييق غربي على الأسد، هاتفين كل مرة: "ارفعوا أيديكم عن سوريا". هنا يتلاقى اليساري مع الفاشي، فكل معارض هو جهادي تموله السعودية والدفاع المدني السوري المعروف بالخوذ البيضاء يتبع تنظيم القاعدة الذي تموله الولايات المتحدة ومن حق أي نظام أن يقمع شعبه. كما أنّ بشار الأسد لم يرتكب أي جريمة والجرائم المزعومة حرب نفسية وأما الضحايا فممثّلون بارعون. وهذه الجملة الأخيرة استعملها منظّرو المؤامرة الأمريكيون لوصف المكلومين من أقارب الأطفال والمعلمين الذين قُتلوا في إطلاق نار بمدرسة ساندي هوك الابتدائية في ولاية كونيتيكيت عام 2012. فقد ادعوا أنها خدعة دبّرها جواب سؤال: "من المستفيد؟" أي جهات تريد تقنين بيع الأسلحة في الولايات المتحدة.

وفي هذا دخول إلى عالم الدين الباطني حيث الأحداث الظاهرية رموز ذات معانٍ سريّة والخديعة مبدأ كوني والحقيقة تنكشف لثلة من الأخيار فقط. وحين تلتقي شهية البشر للحكايات الشيّقة بالدعاية السياسية المنظّمة وفلسفات ما بعد الحداثة نصل إلى مرحلة انهيار المعنى. فلا شيء حقيقي، وكل شيء ممكن. لا تهدف الدعاية السياسية اليوم إلى ترسيخ سردية محددة على أنها حقيقة، بل إلى خلق التشويش وتقويض إمكانية الفعل الإيجابي.


بعد أسابيع قليلة من الغزو الروسي لأوكرانيا، أرسل لي صديق باكستاني مقطع فيديو لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وهو يهذي: "إذا كنتم لا تستطيعون النوم بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فإليكم بعض النصائح لتهدئتكم. أولاً، تخيلوا أن الحرب في أفريقيا. تخيلوها في الشرق الأوسط. تخيلوا أن أوكرانيا هي فلسطين. تخيلوا أن روسيا هي الولايات المتحدة". منطق موغلٌ بالسّخف، يعني: "نعم، أنا قاتل، ولكن الرجل الواقف هناك قاتل أيضاً". رغم ذلك يقبل جمهوره هذا المنطق دون جدال أو تفكير ويتجاهل أن روسيا تقتل المدنيين في سوريا وأن مرتزقة منظمة فاغنر المرتبطة بالحكومة الروسية يقتلون المدنيين في ليبيا ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى. بل يعتقد جمهور لافروف عدمَ جواز الاعتراض على الغزو الروسي لأن أميركا غزت العراق في 2003. نعم، يبدو أننا لا يجوز أن نعترض على غزو العراق لأن الروس دمّروا الشيشان ولا يجوز أن نعترض على حرب الشيشان لأن الولايات المتحدة تدخّلت في دول أميركا الوسطى ولا يجوز أن نعترض على هذا لأن الروس غزَوا أفغانستان ولا نعترض لأن أميركا فخّخت فيتنام.

ومن هذا المنطلق علّق الكاتب والناشط السياسي المؤمن بالوحدة الأفريقية الكبرى كيمي سيبا على غزو أوكرانيا بقوله: "بوتين يريد استعادة أرضه، ويده غير ملطخة بدماء العبيد وضحايا الاستعمار". تعليق ينمّ عن جهل بتاريخ العبودية في روسيا وبمحاولاتها التوسع والاستيلاء على بلاد المسلمين في القوقاز وآسيا الوسطى وعلى البوذيين والوثنيين في سيبيريا وشرق آسيا. كما يشي بتجاهل الإبادة التي اقترفتها الإمبريالية الروسية بالشعوب غير الروسية، لا سيما مجاعة هولودومور في ثلاثينيات القرن العشرين حين مات زهاء أربعة ملايين فلاح في أوكرانيا فقط. يذكّرنا المدافعون عن الإمبريالية أيضاً بأن شبه جزيرة القرم كانت لروسيا سابقاً ولكنهم في الوقت نفسه يتغافلون عن أنها كانت للتتار قبل ذلك والتتار مسلمون تعرّضوا للتهجير على يد الإرهاب الستاليني. ويكشف مؤشر الديمقراطية العالمي في سنة 2022 أن للمصريين والسعوديين والمغاربة والباكستانيين وجهة نظر إيجابية من روسيا رغم المذابح التي ارتكبتها بمسلمي سوريا والشيشان وأفغانستان، ما يجعل تضامن شعوب الأمة الإسلامية نكتة سخيفة. 

كانت أساطير الأولين ذات معنى، خففت آلام الإنسان ووضعتها في سياق السنن الكونية. أما الآن فكلما انحسر الدين حلّت محله معتقدات أحدثها الإنسان ثم نسج منها قصصاً وروايات ومؤامرات تفسّر ما حوله لعلّه يفهم الحياة ويقاوم اليأس. أخفق تاريخ البشر بعد الأديان في خلق أديان جديدة، بل حلّت في القرن العشرين قوميات ومعتقدات سياسية تدعو إلى تقويض الفرد أو تقليص حضوره محلَّ الأديان. وقد لاحظت ذلك المفكرة والمنظرة السياسية الألمانية حنة آرنت، فقالت: "المواطن الصالح في الحكم الشمولي ليس النازي المخلص أو الشيوعي المقتنع بل الشخص الذي فقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال، وبين الصواب والخطأ". 

في ظل الشيوعية، كانت الحكاية هي زحف البروليتاريا الكادحة للوصول إلى مجتمع بلا طبقات بإرشاد من نخبة الحزب التي تطبق نظرية علم المادية الجدلية وهي الإيمان بأن التاريخ تُسيّره أحداث مادية متناقضة. ورغم حتمية التقدّم إلا أنه تقهقر بسبب بعض المخربين المتآمرين. حدد النظام السوفييتي حينها الأعداء المتمسكين بالطبقات لا سيما الكولاك، أي الفلاحين الذين قاوموا عمليات التنظيم الجماعي، والبدو المسلمين الذين قاوموا التحضر والاندماج بالكادحين وقضى عليهم. كما حدد أعداء الأمة من بولنديين وأوكرانيين وشيشان وتتر وكوريين ويهود وغيرهم، وجوّع وقتل وسجن ونفى الملايين منهم خشية أن يخرب تآمرهم المتخيل المستقبل السوفييتي المشرق.

وفي ظل الفاشية حل الشعب أو العرق محل البروليتاريا في دولة الرأي الواحد، وحلت الداروينية الاجتماعية الزائفة، أي تطبيق نظرية داروين في التطور الطبيعي على النظام الاجتماعي، محلَّ المادية الجدلية. كان الأعداء المتآمرون متحكّمين في الرؤية الفاشية بقدر ما كان العرق الصافي مستهدفاً كما يزعمون لذلك كانت المذابح النازية المدبّرة بحق اليهود دفاعاً عن النفس في نظرهم. وتسارعت الخطى نحو الهولوكوست عام 1941 حين لم تنتصر ألمانيا على الاتحاد السوفييتي. ما الذي يمكن أن يبرر إذن الهجمات الألمانية سوى الخيانة الأزلية لليهود؟ وكيف يُفسر تحالف روسيا الشيوعية وأمريكا الرأسمالية وبريطانيا الإمبريالية على ألمانيا إلا بتخطيط اليهود العابر للحدود؟ إذن، كل امرأة يهودية قُتلت وكل شيخ ألقي في غرف الغاز وكل طفل أحرق كان جزءاً من الجهد الحربي وضربة لا بد منها ضد المؤامرة. جُوِّع الغجرُ وذوو الاحتياجات الخاصة وقرويّو أوكرانيا وروسيا البيضاء وسكان لينينغراد ووارسو وملايين سجناء الحرب السوفييت عمداً، لأنهم في نظر النازيين أنواع مختلفة من "الأونترميش" (ما دون البشر) أي ليسوا من نوع الألمان الإنساني عينه. لم تتحدث الشيوعية السوفييتية لغة عنصرية كهذه – رغم اضطهادها الأمم غير الروسية تحديداً – لكنها تتفق مع النازيين بالافتراض نفسه. أن البشر يجب أن ينظر لهم إحصائياً على أنهم موارد أو عوائق بطريق المستقبل، وليسوا معجزات وعي مركبة أو كينونات حقيقية. 

 لم تكن هذه الوحشية حكراً على الغربيين، بل حذت الصين المؤلِّهة للحزب والقائد حذوهم يوم وضعت علم ضحاياها الشمولي الخاص فوق ملايين الجثث. وما الفكر البعثي الذي استبدل رسالة القرآن بشعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" عنهم ببعيد، مع التفاوت بعدد الضحايا. وفي الدول المتدينة، أعيد تقديم الدين بما يتوافق مع القصص الوطنية الملحمية لكي يشيطن الأعداء المتخيلين أو يجعلهم قرابين. لا ترتبط هندوسية حزب "باراتيا جاناتا" الهندي الما بعد استعمارية والمادية والمرتابة جداً بهندوسيات الحقب السابقة. وضج الإسلام السياسي بأشكاله المختلفة خلال القرن السابق بحجج عن الدولة القومية الحديثة التي خلفت الاستعمار، وكان قلقاً من الأجانب المتآمرين وكُتّاب الطابور الخامس. وخُلطت الماركسية والفاشية مع الإسلام لتُوجد ظاهرة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) المتّسقة مع ألعاب الفيديو وأفلام الأكشن وموسيقى راب العصابات، أكثر من اتّساقها مع العقيدة وعلم الكلام الإسلاميين في العصور الوسطى.

 اخترقت داعش الحداثة إلى ما بعد الحداثة والعبثية. كانت ظاهرة ولدت في القرن الواحد والعشرين بعصر فقد إيمانه بالأديان السياسية. كانت الشيوعية الإله الذي فشل والحكم الفاشي أفضى إلى تساقط الجدران حتى على العِرق السيد. لم يبقَ ليملأ الثغرة بعد القصص الاستهلاكية وتأليه المشاهير والواقع الافتراضي والمخدرات إلا نظريات المؤامرة بهيئة مختزلة غير ملحمية. 

كُتب في إحدى صفحات مجلة "ذا لايت" التي التقطتها في محل الوجبات السريعة: "لم أعرف كثيراً من الأرواح اليقظة. تنكرت لعائلتي. وخسرت خطيبتي. شعرت بالقنوط حيناً، لكنني صمدت، متأملاً أن صحيفة كهذه ستظهر". هذه لغة دينية عن النفي والعودة، عن السقوط والخلاص، بأسلوب ذكي، لأن نظريات المؤامرة تعلن عودة الدين بنسخة رديئة. وتمنح شعوراً بالتضامن والحق والباطل بصيغة سيئة. لم يعد هدف القصة تفسير الكون كما كان بل تبيان وساوس الأعداء ومؤامراتهم. ولا بشارات بل أخبار سيئة. وتلاشى الأعداء فليسوا اليهود جميعاً الآن بل جورج سوروس وحده، ولا مكائد الرأسمالية الدولية بل بيل غيتس فقط. جعلنا الشعور بسيادة الظلم والعجز عن مواجهة القوى المتجبّرة واهنين نؤدي أدوارنا قسراً بغضبٍ قد ينفجر عنفاً عشوائياً. لكن الناس تحب قصصها مهما كانت بالية، وتحوّلها إلى مواقف لتلتزم بها ثم تشكّل مواقفهم هذه هويتهم التي سيقاتلون دفاعا عنها وههنا تظهر الطائفية والعشائرية الجديدة.

 إذن لا حلول فورية، وربما ستكتب ثقافاتُنا في المستقبل قصصاً أفضل أو تصيغ القصص القديمة مرة ثانية بطريقة أكثر إقناعاً. لكن علينا الآن أن نتذكر دائماً ونذكر من حولنا قدر الإمكان بالحقائق المحضة: بأن الأحداث ربما تقع من تلقاء نفسها أو بمنطق معقد لا نستطيع إدراكه. فالحياة ــ ولله الحمد ــ أعقد من قدرتنا البشرية على الإحاطة بفهمها. وبأنه لا سيطرة مطلقة فيها لمرء بعينه. وبأنه لا وجود للأخيار والأشرار بل للبشر، فالأخيار أنفسهم أشرارٌ حيناً أو بجوانب ما والأشرار أخيارٌ أحياناً أو بجوانب أخرى. وأن لا ثابت، فكل شيء بتغير مستمر. وأن لا طرق مختصرة لفهم الأمور. وكما قالت حنة آرنت يوماً: "التفكير لا يؤدي إلى الحقيقة؛ إنما الحقيقة هي بداية الفكر".

اشترك في نشرتنا البريدية