من غزو العراق إلى حرب غزة: عن فشل محاولات إصلاح المؤسسات الصحفية العالمية والعربية من الداخل

جوهر مشكلة الصحافة العالمية كامن في هيمنة القالب والبناء والإطار الذي حُدِّدت به أساليب العمل الصحفي اليومي

Share
من غزو العراق إلى حرب غزة: عن فشل محاولات إصلاح المؤسسات الصحفية العالمية والعربية من الداخل

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

بعد الغزو الأمريكي للعراق تشكّل جيلٌ إعلاميٌ عربيّ في الصحافة الأمريكية والأوربية ما لبث أن امتُحن في الحرب الإسرائيلية على غزة. نشأ هذا الجيل في مؤسسات الإعلام الغربي بعد الغزو ثم برز بعد ثورات الربيع العربي، فقد أدار أقساماً في كبرى الصحف العالمية و ترأّسَ بعضَها. كانت الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عقدين من غزو العراق اختباراً وسبراً لفاعلية هذا الجيل وحدود تأثيره بتجويد العمل الصحفي في تلك المؤسسات. فمع تفاوت الحضور العربي في هذه المؤسسات الإعلامية ما بين الغزو وغزة، لم تتغير التغطية الإعلامية، بل تكررت عيوبها في الحَرْبَين؛ سواءً بالتَّحيُّز الفاضح والتأثر بالروايات الرسمية والسرديات السائدة والانقياد لها وبانتقاء الموضوعات والمواد الإعلامية وصياغتها شكلاً ومضموناً.

قد تُفسَّر هذه الحالة بأنها نعرةٌ عنصرية أو استهدافٌ ممنهَج للعرب والمسلمين، إلا أنها تفسيرات تعوزُها الدِقّة. نعم، لا شك أن للعنصرية والتحيز وتشابك العلاقات بين المؤسسات الصحفية والسياسية دوراً محورياً في استحالة تحسين العمل الصحفي من الداخل، وقد بانت بأبشع صورها في الحرب الحالية. لكن مع تعاظم أعداد الصحفيين العرب وغيرهم من أصحاب الميول التقدمية التي تنبذ العنصرية، تتضح عوامل ذات صلة بجوهر العمل الصحفي يغفل عنها عند الحديث عن تغطية هذه المؤسسات أخبار منطقتنا خاصة والأخبار العالمية عامة.

القول بأن أصل المشكلة يكمن في القالب والبنية لا يعني تحجيمَ المشكلة أو الحدَّ من مسؤولية الصحفيين والمحررين. على العكس، إن تشخيصنا هذا يعني أن المعضلة أشد وأرسخ من مجرد كونها عنصرية وتحيُّز وأن الحل لا يتأتى إلا بتغيير طريقة العمل الصحفي التي أطّرتْهُ هذه المؤسسات. 

ونستند في هذا التشخيص إلى تجربة فريقنا الممتدة في الصحافة الناطقة باللغتين الإنجليزية والعربية على حدٍّ سواء. وعلى هذا أسَّسنا مجلة "نيو لاينز" في الولايات المتحدة قبل أربع سنوات، وقد أثبتت نجاحها وتميّزها في ساحةٍ مُكْتظَّة بالصحف العريقة: فمع قلّة مقالاتها وحداثة سِنِّها حاز صحفيوها عدداً من الجوائز، ولا يكاد يمرّ شهران دون أن تترشح إحدى مقالاتها لجوائز من مؤسسات مرموقة في الولايات المتحدة وبريطانيا. وتابعت مقالاتِها كبرى الصحف الأمريكية مثل صحيفتَي نيويورك تايمز وواشنطن بوست. وبناء على هذا التشخيص لأصل مشكلة الصحافة نُطلِق اليوم مجلة الفِراتْس.


أحسب نفسي من أبناء الجيل المذكور آنفاً، فقد تعلّمتُ الحرفة على يد صحفيين من بريطانيا والولايات المتحدة وكندا، ونشرتُ كثيراً في صحفٍ كبرى في الولايات المتحدة وبريطانيا. هذه التجارب الصحفية المطّردة مع تجارب أقراني من هذا الجيل على اختلاف المؤسسات التي عَملْنا بها علَّمَتني أن جوهر مشكلة الصحافة الغربية يكمن في هيمنة القالب والبناء والإطار الذي حُدِّدت به أساليب العمل الصحفي اليومي وقامت عليه هذه المؤسسات الإعلامية. هذه المشكلة البنيوية تجعلُ مظلوميةَ الأمريكي والبريطاني الذي يعيش في البلدات والمدن الصغرى صِنْوَ مظلوميةِ العربي والأوكراني والهندي التي يشكو فيها من الإعلام المتقوقع في العواصم والمدن الكبرى مثل نيويورك ولندن. وتنبع تلك الشكوى من تأثر الإعلام الغربي بالروايات الرسمية أو النظرة الطبقية التي تجهل وتغفل عن هموم أواسط الناس، وتركيزه على مسائل تهمُّ المترَفين وتُروِّج عمداً أو جهلاً للحروب والاستقطاب الاجتماعي والتحزُّب السياسي والتخندق الطائفي. 

خير مثال على أثر هيمنة القالب والتأطير ما تفرضه الصحافة من ضرورة تبرير نشر الأخبار الخارجية، أو "الأجنبية" كما تسمى، تبريراً صريحاً يتضمنه النص. ذلك لأن  الصحف الغربية تهتم بالأخبار الداخلية في بلادها، ثم تنشر عن العالم بأسلوب يخاطب جمهورها الأصلي ويناسبه. فتبرير نشر الخبر أو الموضوع الأجنبي ليس مجرد قرار يُتَّخذ ثم يُكْتَب على إثره المقالُ بأسلوبٍ يناسب الموضوع، بل ينبغي أن يشتمل المقال على هذا التسويغ وعلّة النشر ويُنسج كل عنصر من عناصر القصة الصحفية على منواله عنواناً ومتناً. لا يكتب الصحفيُّ المقالَ كما يتصوره بعد الموافقة، وإن التزم بمعايير الكتابة الصِرفة، بل عليه أن يحشو علة النشر في المادة حشواً يفرغها من تفاصيل جوهرية ويحوّر مضمونها. إذا كانت المادة عن الشرق الأوسط فالموضوعات المختارة تكون مألوفة للقارئ فكراً وأسلوباً، مثل التَطَرُّف والحُروب والإرهاب والاضطهاد وانتهاك الحقوق. وإلا فالموضوع قد لا يصلح للنشر لأنه "ممعن بالتفاصيل" ومنغمس فيها وينبغي أن يطفو على سطح الفكرة والموضوع. وتفترض الصحف دائماً أن القارئ لا وقت لديه لقراءة التفاصيل، وأن شرح الأمور قد ينفّر القراء والقارئات ويعيق فهمهم. وتَطّرِد المسألة في بلاد الغرب نفسها؛ إذ تُصنَّف قضايا البلدات والمدن الصغرى في الولايات المتحدة أخباراً محلية، تغطيها الصحف المحلية في الولاية نفسها لا الصحف الوطنية الكبرى مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز التي تهتم بما يشغل القارئ على المستوى الوطني. فإن نقلت تلك الصحف الكبرى الخبرَ صار خبراً وطنياً، حتى شاعت عبارة: "ليس خبراً حتى تنشره نيويورك تايمز"، فما بالُك بالأخبار الأجنبية.

صياغةُ الخبر بأسلوب يركّز على إبراز الجانب السلبي في القصة جزءٌ من طبيعة العمل الصحفي النابع من مكانتها سلطةً رابعةً تُسائل السلطات الثلاث الأخرى، لا سيما في مقدمة المقالة وما تشي به نبرة النص. فإن كان محور المقال إيجابياً أو يحكي قصة نجاح، فهي بشرى خير في منطقة أنهكتها الحروب والكراهية والجماعات المتطرفة، وجزيرة مستقرة في إقليم لُْجِّي مضطرب، وبلد واعد بعد أن كان معقلاً للتيارات المتشددة. أما إن كان الحديث عن دول الخليج، مثلاً، فلا فِكاك من عباراتٍ تُشدّد على ترفها مثل "البلاد الغنية بالنفط"؛ ولا يكفي أن تقول "دبي غنية"، بل قُل "غناها الفاحش تعدى حدود الغلاف الجوي للأرض" لإثارة اهتمام القارئ. ألا ترى أنها لا تنشر شيئاً عن الخليج سوى الموضوعات الاقتصادية والتجارية والسياسية أو موضوعات فيها صورة نمطية لمنطقة يُفترض أنها محلّ اهتمام القارئ.

ثالثةُ أثافي المشكلة البنيوية للصحافة الإنجليزية الهوسُ بما قد يسمّى "العيون الصافية". كنت أتساءل، مثلاً، عن الحكمة في إرسال صحفي لم تطأ قدماه شارعاً خارج بلده في أوروبا أو أمريكا لكتابة مقال عن دبي أو العراق، مع كثرة المراسلين المخضرمين للصحيفة نفسها أو الصحفيين الغربيين العارفين بالمنطقة. عرفت السبب متأخّراً. فلتغطية موضوع مهم وكبير في منطقة ما، ترسل الصحف وقنوات التلفزيون صحفياً لا دراية له بالموضوع ويجهل المنطقة لصياغة مادة صحفية بعيونٍ صافية لا تشوبها شائبةُ المعرفة والخبرة. وهذا عرفٌ تختص به منطقة الشرق الأوسط دون غيرها، فلا يرسَل صحفي إلى الصين أو روسيا وهو لا يتكلم لغة البلد.

والعبرة هنا ليست بأن الجهل بالموضوع أو بالبلد غاية في ذاته، بل بالاعتقاد أن التجرد في الملاحظة وصياغة المادة بأسلوب قريب من الجمهور لا يتأتّيان للمتعلقين بالمكان معرفياً أو عاطفياً. وقد يكون لهذا المنهج أصل في البحث العلمي، أن يبدو الباحث خاليَ الذهن من الموضوع في أسئلته وبحثه. بهذا المنطق يكون الجهل بالمكان مَزِيَّة والعلم بحذافيره مثلبة، حتى صار أحياناً معياراً لاختيار مراسلين لمواقع حساسة ذات أهمية خاصة للجهة الإعلامية، كبغداد. مثالٌ قد يقرّب الصورة أكثر، حكاه الممثل الأمريكي الإيراني ماز جبراني في مقابلة عن قصة تجسيده شخصية مسلم متطرف في أحد الأفلام الأمريكية. يقول إنه نبّه العاملين بالفيلم إلى أن العمامة التي اختاروها لشخصيّته ما هي بعمامة المسلمين بل عمامة أتباع ديانة السِيْخ في الهند. شكروه على التنبيه وأخبروا المخرج بالأمر، فأقرَّ بالخطأ من غير أن يبدل العمامة السيخية لأنها – حسب ظنه – توحي للمشاهد الأمريكي مباشرة أن هذا "رجل شرير". بإمكان المخرج أن يصوّر المسلم شريراً ثم يصوب الخطأ بعد معرفته، إلا أن العمل الفني، في عُرف هوليوود، ينبغي عرضه للجمهور بصورة نمطية بُنيت على صورة نمطية أخرى في ذهن المخرج الهوليودي عن فهم المشاهد الأمريكي ومعرفة ما يريد. تلتقي صنعة الأخبار مع صنعة الأفلام عند نقطة إخراج العمل على افتراضات عن الجمهور أو المتلقين وفرضيات ثقافية عن المنطقة التي يغطيها العمل.

للصحافة الغربية شأنٌ لا يُنكر. فلولا شجاعة الصحفيين الأجانب وحرصهم على الكشف عن الحقيقة لظلّت كثير من قضايا الفساد والانتهاكات طيَّ الكتمان ولما سَمِعَتْ عنها الشعوب العربية، من أبو غريب وغوانتانامو إلى قضايا فساد وانتهاكات تشمل كل الأنظمة العربية بلا استثناء. تلمس في أغلب الصحفيين الغربيين من مراسلين ورؤساء تحرير أعرق الصحف إيماناً بمبادئ الصحافة النبيلة كالنزاهة وأمانة النقل وقول الحق، وترى فيهم حبّاً للمنطقة التي يغطون أخبارها، بل إن بعضهم أشد شغفاً وتعلُّقاً بها من زملائهم العرب ويبذلون جهوداً لتدريب الصحفيين العرب ومساعدتهم ويسعون إلى تعيينهم في مناصب أعلى. كثير منهم لديهم خبرة ومعرفة حاذقة بثقافات المنطقة ويشتكون من أسلوب عمل مؤسساتهم.


تشترك الصحافة العربية مع نظيرتها الغربية في كثير من هذه العيوب، من تأطير للموضوعات وتسطيحها وركض وراء الأخبار الكبرى فحسب. فقد استوردت قالباً صحفياً غربياً مبنياً على أصل سليم في نشر الأخبار السياسية ومحاسبة السلطة، ثم صيّرته قالباً يُعنى بالأخبار السياسية من زيارات ولقاءات وبالتعليق عليها دون القدرة على تخطّي الحدود التي رسمتها لهم الحكومات. وأصبحت تفاصيلُ المسائل السياسية والاجتماعية والدينية حقلَ ألغام تتفادى الصحفُ المحلية نقاشَه بعمق لئلا تطأَ على لغمٍ قبَليّ أو سياسيّ أو طائفيّ. فكم من صحفيٍّ سُجن أو عُرض للمساءلة القانونية لاستعماله الكلمة الخطأ. فتصير مهمةُ المحرر الأساسية حينئذٍ حمايةَ الصحيفة والصحفي من الرقيب القانوني والسياسي.

تخالُ الصحف نفسها محيطة باهتمامات القارئ وحدود فهمه، وتقيس نجاح عملها بمدى انتشار موادها الصحفية وعدد قراءاتها. تقتضي سياسة "الانتشار أولاََ" صياغة عنوان جذّاب يكون مناط المقال، مما يفرض على الصحفيين حدوداً ضيقة في اختيار الموضوعات وصياغتها، حتى صار عملهم لا يستقيم إلا بها وإن شَكَوا من تحجيم المادة التي كتبوها وتسطيحها. يصارع الصحفيون هذه المعايير ويسددون ويقاربون ما استطاعوا لاستدراك ما يمكن استدراكه، ومع ذلك قلّما تخرج المادة الصحفية بالدقائق والتفاصيل التي يودّون إظهارها.

تَرسَّخ أيضاً في الصحافةِ النشرُ المتسارع على قدر ما يسنح ويعرض في الساحة، عوضاً عن التأني واختيار موضوعاتٍ تهمّ الجمهور الذي تأْملُ الوصولَ إليه على اختلاف مشاربه. إن المعيار السائد لانتقاء أهم الأخبار وصناعتها يقتضي تتبع أكبر الأحداث السياسية والاقتصادية من وجهة نظر عواصم الإعلام ونُخَب المدن الكبرى التي تحدد "أهمية الخبر" ثم تنافس الجهات الإعلامية على تغطيته. ولا ينبغي على صحيفة أن تفوّت تغطية خبرٍ نشرَتْه صحيفةٌ منافِسة، حتى باتت الصحف والقنوات تتماثل وتتجانس في منشوراتها. فيكفيك قراءة صحيفةٍ واحدة أو مشاهَدة قناةٍ واحدة لمعرفة "الأخبار"، التي اختيرت وصِيغت لك، ثم تُقلِّب الصحفَ والقنواتِ استئناساً بوجهة نظرٍ أُخرى عن الخبر نفسه. يركض العمل الصحفي وراء الأخبار والأحداث الكبرى، والتعليق عليها، فيغفل عن الأخبار المحلية، ناهيك عن تتبع مسارات قضايا وقصص تتشكّل ببطء أو التنقيب داخل قضايا اجتماعية لا تحمل طابعاً خبرياً.


إذن لو أن العلّة كامنة في عنصرية وتحيّز العاملين في المؤسسات الصحفية فحسب لأَمْكَن علاجها بزيادة الوعي وتغيير الأفراد ودخول المؤسسات من أجل "التغيير من الداخل". لكن جوهر العلّة هو شكل آخر من العنصرية المؤسساتية المنبثقة من بِنْية العمل وإطاره التي تضمن ديمومة التحيّز في التغطية وإن قلّ العنصريون والمتحيزون العاملون فيها. فلا يتأتّى العلاج إلا بتحطيم القوالب والأساس الذي بني عليه النظام القائم وأعمدته.

انبثقت فكرة مجلة الفِراتْس – وشقيقتها نيو لاينز من قبلُ – من هذا التوصيف والتشخيص لمشاكل الصحافة سعياً لمعالجتها مؤسساتياً وعملياً وملء فراغ في الساحة الإعلامية. فهي تلتزم معايير الكتابة الصحفية وأدواتها ولا تُقيّد نفسها وكتّابها بالقوالب الموجودة. وتعطي الكتّابَ حرّيةَ اختيار الموضوع أينما كان؛ فقد يكون من حيٍّ في موريتانيا أو تشاد يحكي حالة اجتماعية يستشعر فيها قارئ من مصر أو السعودية أو العراق مشتركاً إنسانياً يحاكي حال مجتمعه هو. أو قصة من قرية صغيرة في الولايات المتحدة أو البرازيل يلحظ فيها ابن قريةٍ في منطقتنا عاداتٍ يشترك فيها معه أكثر من اشتراكه مع أبناء جلدته من النخب القاطنين في المدن الكبرى القريبة منه.

اصطفينا لمجلّتنا اسم نجمة في السماء تُدعى "الفِراتْس" في اللغات الأوروبية الحديثة، وقد نُحِتَ من الاسم العربي "سرّة الفرس" كما سمّاه علماءُ الفلك المسلمون الذين بنوا معارفهم الفلكية على الصور اليونانية للكواكب وعرّبوا أسماءها، تيمّناً بما يرمز له الاسم من تأثّر وتأثير مستمر بين البشر. في المرحلة الأولى، تَنشر الفِراتْس مقالة يومية تمزج فيها بين العمل الصحفي والجهد البحثي، وبين الأصالة والحداثة، ولا تَنشر مقالات الرأي ولا التقارير الصحفية السريعة اليومية ولا المدوّنات.

مقالات الفِراتْس أصيلة وليست محضَ نسخٍ عربية لمنشوراتِ شقيقتها الإنجليزية، فهي مجلة قائمة بذاتها ومستقلة في خط إنتاجها عن شقيقتها، على أنهما قد تشتركان في نشر بعض المحتوى المنتقى بين الفينة والأخرى. نحرص على إحياء أصالة اللغة ونزع ما ران عليها من تراكيب ونَظم أعجمي، دون إغفال مرونة اللغة وسعتها. نعم، نجحت الصحافة وحركة الترجمة العربية في نقل كثير من النصوص والمقالات والكتب المهمة إلى اللغة العربية، لكنها نقلت معها تراكيب لغوية أعجمية أَفسدت اللغة وأفقدتها سلاستها وجمالها. للصحافة في شتى أنحاء العالم، ولا أقصد الغرب فحسب، أثر محوري في تجويد لغةٍ رصينةٍ للنقاش تتعدى المفردات إلى التراكيب والأسلوب والمضمون ونشرها ليحاكيها الناس.

وهذا ثغرٌ مُهمَل في منطقتنا؛ إذ تعجّ الصحف بالأخطاء والتراكيب الغريبة ويتعمّدُ كُتّابٌ استخدام البديل الأعجمي لإظهار المعرفة بالشؤون الدولية وخبايا السياسة أو التباهي بسعة الثقافة. ولهذا أطلقنا أرشيف الفِراتْس الرقميّ لمجلات عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، الذي يمكّن القارئ والصحفي والكاتب من مقارنة لغة الصحافة العربية في بداياتها وتنوع مواضيعها مع ما ينشر في غالب الصحافة الحالية.

أنتجت الصحافة العربية في عصر النهضة مفرداتٍ نحَتَها روّاد الإعلام مثل أحمد فارس الشدياق، منها: الجريدة والصحيفة والمحرّر والمراسل، عوضاً عن "جورنال" وغيرها من مفردات أجنبية شاعت يومها بين كثير من المتأثرين بالثقافة والصحافة الفرنسية. فهذا الأرشيف تذكير بأن الوضع الحالي لم يكن دائماً هكذا، وأنه ثمّة بديلٌ له في الماضي، ولا مانع لتكراره. وبأننا إذ تخطينا القوالب الصحفية عربيّاً وأجنبيّاً لَم نَخرج على الأعراف الصحفية، بل اهتدينا بأصلها وتَقَيَّلْنا من سبَقَنا قبل الوثوب إلى الأمام، كما يشي اسمُ الفِراتْس.

تجلّى تصوُّرُنا للفِراتْس في بنية فريقها الذي انتخبناه بتؤدة، فكان لفيفاً من صحفيين وأكاديميين ولغويين، قسّمناهم إلى محررين بنيويين ومحرّرين بيانيّين. يُعنى البنيويون ببناء المقالة، واستيفائها شروط القصة الصحفية، وترابط أفكارها، وتماسك منطقها الداخلي في إطار الفرضية التي تريد قولها بوضوح، بما يتوافق مع معاييرنا للمقالة المطولة.

أما البيانيّون فيتجاوزون الأسلوب التقليدي الذي يكتفي بفحص الأخطاء الإملائية إلى الجمع بين الحرفة وإعادة اللغة سيرَتها الأولى أصيلةً منزوعةَ التراكيب الأعجمية والمصطلحات الدخيلة ليغدو أسلوب النص عربيّاً مبيناً لا تقعُّر فيه ولا عُجمة.

فكل قصّة ننشرها تمرّ بأربع مراحل تحريرية تقوّي بناءها الصحفي وتقوّم بيانها اللغوي وتجمّله، مع تدقيق معلوماتها والتأكد من سلامة مصادرها. وقرّرنا إلغاء قسمَي الرأي والأخبار السريعة، على ما لهما من حصة الأسد في عدد القراء. وذلك أننا رأَيْنا مقالَ الرأي مصدراً أساسياً لبثّ التحيّز والاصطفاف والتجييش و ارتداد الناس عن الصحافة. فهو يستند إلى رأي الكاتب المحض وموقفه من الحدث الذي يُعلّق عليه، معتمداً على انطباعاتٍ لا دلائلَ وبراهين. وكلّما ذاع صيت كاتب رأي اعتمدت الصحيفة عليه لجذب القراء. فأصبح لبعض كتاب الرأي حظوة خصوصاً عند المسؤولين الذين يزوّدونهم بأخبار وتسريبات فيزيدونهم انتشاراً. ارتبطت كثير من أسماء كتّاب الرأي بالحروب ونشر الروايات الرسمية أو الحزبية؛ فكثيراً ما يصبح كاتب الرأي في الصحافتين العربية والأجنبية أداة لبثّ الدعاية السياسية.

وعوضاً عن ملاحقة الأخبار اليومية تتبُّعاً وتعليقاً، تنتهج الفِراتْس صنعة الصحافة المتأنية التي تتّسم بعمق التغطية ومتانة البحث وسلاسة الأسلوب. وتُصنِّف المجلة مقالاتِها وتقاريرَها إلى خمسة أقسام: محاجّات؛ تقارير؛ قراءات؛ تاريخ ومعاصَرة؛ تجارب وشخصيات. وتشتمل مقالاتُنا أيّاً كان قِسمها على أطروحةٍ تُبنى عليها مادة المقالة، وكلّ قسم يتقصَّاها من منظورٍ مختلِف: جدلي أو تقرير صحفي أو قراءة أو تاريخ أو تجربة شخصية.

لا نقيِّد الكُتّابَ بحدث اليوم ولا الإطار الذي تعوّدوا عليه، بل بالتزام مبادئ الصحافة الأصيلة وفن الكتابة من انسجام في النص ووضوح في النقاش ومخاطبة الجمهور الواسع لا زملائهم من الكتّاب كما يشيع في الصحافات الغربية والعربية. المهمة صعبة لأن أغلب المقترحات التي تصلنا مبنية على فرضية تقديم موضوع مختصر يرتبط بحدث اليوم. يحبذ كثير من الكتّاب سعة المساحة للكتابة عن موضوعاتٍ تهمُّهم وجمهورَهم، ولكن ما أكثرَ ما يُطلَب منهم خلاف ذلك، فينساقون مع رغبة الصحف على هذا الأساس. إذ لا فرقَ بيّنٌ في الصحف العربية بين المجلات والجرائد فكلها تركز على الأخبار ومقالات الرأي بأسلوب الجريدة، بلا قصص ولا انغماس بالتفاصيل ولا استعمال للأسلوب البلاغي الذي يرتبط بالمجلات.

لسنا محكومين بمقتضيات الانتشار ولسنا ملزَمين بتوجهات سياسية وربحية ولا بتلبية متطلبات مِنَح مؤسسات أوروبية أو أمريكية. لكن يفرض علينا التحرر من هذه الالتزامات ما هو أشد منها: بمعايير الصحافة في الكتابة والتقصِّي والأمانة، ومبادئ الأصالة والإنسانية بلا خوف من الجماعات والحكومات التي لا ترضى إلا بقَوْلها، وبالحرص على إنتاج محتوى عربيّ أصيل يَخرج على عادات تأصَّلت وترَّسخت في الصحافة الغربية والعربية.

من أولى أولوياتنا البحث عن كُتّاب ومواهب جدد لا الاكتفاء بالمشاهير ومن كَثُر نشره في الصحف، خلافَ السائد في سائر المؤسسات الصحفية التي تفضّل الأسرع كتابةً والأكثر نشراً. فترى الوجوه نفسها تكتب عن الإرهاب والزلازل وانتشار الأوبئة. لا حاجة للإبداع في الأفكار والمحتوى، فما عليك إلا أن تجد زاوية أخرى لتُعلّق على خبر أو حدث اليوم. في تجربتنا الإنجليزية، التي نطمح أن نكرّرها في الفِراتْس، اكتشفْنا عدداً كبيراً من الكتّاب الجدد الذين نشروا بالإنجليزية أول مرة في مجلتنا. اكتشاف المواهب ومساعدتها في النشر يتطلب جهوداً مضاعفة في العمل، لكنه سرّ إنتاج محتوىً فريدٍ يختلف عما تنتجه بعض الوجوه القديمة التي كَتبَت حتى حفظ الجمهورُ موضوعاتِهم ووجهةَ نظرهم ومعجمَهم اللغوي.

تنضم مجلة الفِراتْس إلى كوكبة من الصحف والمجلات العربية البديلة والمستقلة التي بزغت في السنوات القليلة الماضية في مصر وبلاد الشام ودول الخليج واليمن والمغرب وغيرها من دول المهجر والشتات العربي، والتي قدمت محتوى مختلفاً ونشرت لكتّاب وكاتبات نستفيد منهم ونبني على تجربتهم.

نطمح إلى أن نحقق هذا النجاح من كسر القالب، وفتح الباب على مصراعيه لإنتاج محتوى مختلف ونهضة جيل جديد يخرج على الهيكل المستورد الجامد. ونأمل، عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، أن تساعدونا في تحقيق ذلك باقتراح أفكار تكشف شيئاً جديداً وأطروحات تنبري المقالة لإثباتها والتأصيل لها بالدلائل والحجج الرصينة أو تضيء جانباً لم يُطرَق في قضيةٍ مألوفة. نبحث دائماً عن قصص وأفكار ذات علاقة بالإنسان ومشاكله وتحدياته وطموحاته أينما كان، ونبتعد عن نقاش موضوعاتٍ موطنُها صفحات المجلات الأكاديمية المتخصصة.

اشترك في نشرتنا البريدية