الاستعمار الاستيطاني من التحليل التاريخي إلى المشروع السياسي

يفيد إطار الاستعمار الاستيطاني إلى فهم العلاقة بين أبناء المجتمعات المستوطنة وأصحاب الأرض الأصليين، لكنه يواجه عدة تحدياتٍ عند استخدامه لرسم ملامح الحلول السياسية المستقبلية.

Share
الاستعمار الاستيطاني من التحليل التاريخي إلى المشروع السياسي
أطفال مستوطنين يهود يقرأون من التوراة المقدسة، بين أنقاض منزل مستوطنة غير شرعية هدمه الجيش الإسرائيلي في 15 ديسمبر 2011 في مستوطنة شمال الضفة الغربية. تصوير مناحيم كاهانا لوكالة الصحافة الفرنسية، عبر صور غيتي

لقد عاد الإطار التحليلي التاريخي للاستعمار الاستيطاني ليَحتل موقع الصدارة في الكتب والمجلات العلمية والتحليلات السياسية الدارجة والتي تحاول فهمَ الحركة الصهيونية وتحليلَها ورصدَها بدايةً وإسرائيلَ لاحقاً. يمكن فهم هذه العودة المكثفة والتي بدأَت منذ حوالي عقدين لسببين أساسيَّين. أوّلُهما انهيار ما يسمّى عملية السلام التي بدأت في اتفاقات أوسلو والتي كانت تسعى إلى "حلّ الدولتين"، خاصّةً مع توسّع الاستيطان وتوغّله في الضفة الغربية وقطاع غزة. من ناحيةٍ ثانيةٍ يمكن الإشارة إلى تحولات عالمية في مزاج البحث الأكاديمي الذي عاد ووضع سؤال الاستعمار الاستيطاني في مركز جدول أبحاثه، ممّا أثّر على الأجندة البحثية الفلسطينية وأدوات تحليلها. 

ونقول عودة الإطار التحليلي للاستعمار الاستيطاني، لأن هذه الأداة التحليلية ليست غريبةً وليست جديدةً في تاريخ الفكر الفلسطيني. إذ أن مقالات فايز الصايغ منذ منتصف القرن الماضي وظّفت هذا الإطار التحليلي بشكلٍ خلّاقٍ. وليس الصايغ وحده، فالكثير من المؤرّخين والباحثين الفلسطينيين قد وظّفوا هذا الإطار التحليلي مثل وليد الخالدي ورشيد الخالدي وإدوارد سعيد وجوزيف مسعد وآخَرين. إلّا أن العودة مؤخّراً إلى هذا الإطار تختلف بعض الشيء عن تناوله في الفترة السابقة. 

ويرجع هذا الاختلاف لاعتباراتٍ، منها أن العودة هذه المرّة هي عودةٌ جارفةٌ ومهيمنةٌ، إذ أن معظم الأبحاث الجامعية التي يتناولها الباحثون الفلسطينيون أصبحت تدور حول الاستعمار الاستيطاني. ومنها أن هناك تَبَنّياً آخذاً في الازدياد لهذه الأداة التحليلية التاريخية في أوساط الباحثين اليهود الإسرائيليين، وكذلك في أوساط الشعوب الأصلية عموماً.

القضية الأساس هنا تتصل بالعلاقة بين الإطار التحليلي التاريخي الذي ينطلق من الاستعمار الاستيطاني، وبين المشروع السياسي المستقبلي الساعي لنزع أشكال الاستعمار والسيطرة. يسعى هذا الإطار إلى فهم العلاقة بين أبناء المجتمعات المستوطنة وأصحاب الأرض الأصليين، موضحاً طبيعة الصراع على الأرض والسلطة. ورغم أهميته، يواجه الإطارُ تحدياتٍ عند استخدامه لرسم ملامح الحلول المستقبلية. فبعض الباحثين يرونه أداةً تَفرض حلّاً واحداً، بينما يجادل آخَرون بعجزه منفرداً عن تقديم إجاباتٍ وافيةٍ بشأن مستقبل هذه العلاقات. 


إن الإطار التحليلي للاستعمار الاستيطاني مهمٌّ جدّاً ولا غنىً عنه، ويتيح قدرةً فائقةً على فهم العلاقات ورصد طبيعتها وتاريخها بين المجتمع المستوطن والمجتمع الأصلي. يقدّم هذا الإطارُ أدواتٍ عديدةً قادرةً على فهم نوعية الصراعات بين مجتمع المستوطنين ومجتمع السكان الأصليين، وذلك بسبر غور آليات عمل المجتمع المستعمِر ومنطقه المسيطر والناظم. وكما أشارت الكثير من الأدبيات في هذا المجال فإن المستوطن الاستعماري يختلف عن المهاجر. فالمهاجر يحضر إلى البلاد الجديدة وهو على استعدادٍ للانخراط في هذه المجتمعات ويقبل القانونَ والمؤسّسات التي تحكم هذه المجتمعات. لكن المستوطن يحضر ليس فقط بصفته الشخصية الفردية، إنما يحضر جزءاً من مشروعٍ وجماعةٍ، وبالتالي فإنه لا يقبل الانخراطَ في المجتمع المحلّي وقوانينه وأعرافه ومؤسساته، إنما يسعى لإقامة بديلٍ لهذه المجتمعات والمؤسسات. وبالتالي فإنه يرى تلك المجتمعاتِ الأصليةَ القائمةَ حجرَ عثرةٍ في وجه مشروعه التوسّعي والإحلالي، فيبدأ البحثَ عن طريقةٍ للتخلص منها. قد يكون هذا التخلص بالإبادة الجسدية، وقد تكون الإبادة دفعةً واحدةً وقد تكون على دفعات. وقد تكون أقلّ حدّةً وتأخذ شكلَ الإبادة الثقافية التي تسعى إلى تذويب المجتمعات الأصلية داخل المجتمع الجديد الناشئ. وقد تأخذ شكلَ التهجير والإبعاد. وقد تأخذ شكلَ تحديد النسل والولادة. وقد تأخذ شكلَ التشتيت السكاني لمنع السكان الأصليين من التواصل ثقافياً واقتصادياً وبالتالي فكّ أواصر العلاقة بين مكوّنات الشعب الأصلي. 

ويتيح لنا الإطارُ التحليلي للمشاريع الاستيطانية من هذا النوع معرفةَ أنها تعطي أولويةً لمسألة الأرض والسيطرة عليها وعملية التحكم في أنظمة البناء والتطوير والتنظيم. وليس صدفةً أن معظم المشاريع الاستيطانية كانت قد تبنّت المبادئَ القانونيةَ نفسَها حول ملكية الأرض، والتي لا تعترف بملكية السكان الأصليين للأرض، مثل مبدأ "تيرا نوليوس" أو الأرض المستباحة، وتُقيم قوانينَ وقواعدَ جديدةً لتسجيل الأراضي والاعتراف بالملكية وقوانين التقادم واستصلاح الأراضي. إضافةً إلى ذلك، هناك مَيلٌ تلقائيٌّ للتوسع الاستيطاني في هذه المجتمعات لأن هذا التوسع هو المحرك السياسي والاقتصادي والفكري لوجودها. وإضافةً إلى كلّ ذلك، فإن المبنى الدستوري في هذه المجتمعات متشابه أيضاً إلى حدٍّ كبيرٍ ويقوم على عدم الاعتراف بالسكان الأصليين مواطنين متساوين، ليتحول لاحقاً إلى الاعتراف بجزءٍ منهم بشروطٍ معيّنةٍ، بهدف تفتيت المجتمع الأصلي وشَرذَمته. أما من الناحية الأخلاقية الفكرية، فإن هذه المجتمعات تُطوِّر نظرياتٍ عرقيةً تسعى لتكريس فكرة التفوق العرقي كي تبرّر ممارساتها القمعية أصلاً. بهذا المعنى لا يَسبق الفكرُ العنصري الاستعلائي عملياتِ القمع والتهجير والاستيلاء، إنما ينمو على ضفاف هذه الممارسات ليشرعنها ويعطيها غطاءً فكرياً بأثرٍ رجعي.

لهذه الأسباب وغيرها، مثل كثيرٍ من الباحثين، أجد هذا الإطار التحليلي مهمّاً ومساهماً في فهم تلك المجتمعات وتحليلها بفرادةٍ. وأراه قادراً على المساهمة في فهم تطور تلك المجتمعات وتحوّلاتها العميقة. وأعتقد أن أيّ تحليلٍ لا يأخذ هذا الإطارَ التحليلي سيبقى ناقصاً حتماً.


ليس من المفاجئ بتاتاً أن يعارض معظمُ الباحثين والمفكرين اليهودِ في إسرائيل تبنيَّ منظور الاستعمار الاستيطاني لفهم الصهيونية بدايةً، وإسرائيل لاحقاً، إذ أنه لا أحد يرغب أن يرى نفسَه جزءاً مِن مشروعٍ استعماريٍّ، لأسبابٍ عديدةٍ منها أن هذه المشاريع أصبحت مشاريعَ سيئةَ الصيت ومدانةً أخلاقياً منذ النصف الثاني للقرن العشرين. إلّا أن معارضةَ مؤرّخين ومفكّرين إسرائيليين لتوظيف هذا الإطار التحليلي عندما يجري الحديثُ عن الصهيونية بدايةً وإسرائيل لاحقاً ليست في محلّها. إذ يشدّد هؤلاء المعارضون على خصوصية الاستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين مشيرين عادةً إلى ثلاثة أمور. أوّلها أن اليهود لا يهاجرون إلى بلادٍ جديدةٍ إنما "يعودون" إلى بلدٍ تربطهم بها علاقاتٌ نفسيةٌ ودينيةٌ وروحية. أما الثاني فهو أن معظم الذين قدموا إلى فلسطين لم يأتوها رغبةً في الربح، إذ أن مجتمع المستوطنين لم يكن يجني أية أرباحٍ من عملية الاستيطان والتي تعود بالفائدة المادية على المجتمعات الأمّ؛ لا بل أن العكس هو الصحيح، أي أن المجتمعات الأمّ هي التي موّلت مجتمع الاستيطان. وأخيراً تجري الإشارة إلى كون المستوطنين اليهود بمثابة لاجئين هاربين من المجتمعات الأوروبية التي كانت تلاحقهم، وفي مراحل معيّنةٍ سعت إلى إبادتهم جسدياً.

على فرضِ صحّة ما سبق، لا أفهم لماذا تُهمَل صلاحية الإطار النظري للاستعمار الاستيطاني في تحليل الظاهرة الاستيطانية الصهيونية وفهمها. لا شيء ممّا قيل أعلاه يشكل سبباً لاستبعاد الإطار الاستيطاني الاستعماري لفهم الظاهرة وتحليلها. في نهاية الأمر وفي واقع الحال فإن الحديث يجري عن مجموعةٍ تهاجر من مكانٍ إلى آخَر جديدٍ، ليس لأنها عبارةٌ عن مهاجرين عاديين، إنما بهدفٍ استيطانيٍّ واضحٍ فهي لا تقبل قوانينَ المجتمع الأصلي ولا تسعى للانخراط فيه، بل تسعى لإقامة مجتمعٍ ودولةٍ بديلةٍ على أنقاض المجتمع الأصلي.

إن الطرق والأدوات والممارسات نفسها التي تقوم عليها المجتمعات الاستيطانية الأخرى تسري على الحالة الإسرائيلية الصهيونية أيضاً. فنوايا المستوطنين، أو حقيقة كون بعضهم لاجئين هاربين من الملاحقة في أوروبا، أو كونهم عائدين إلى بلادٍ تربطهم بها وشائجُ دينيةٌ أو ثقافيةٌ، ليس من شأنه بأيّ شكلٍ الانتقاص من صلاحية الإطار التحليلي على الإطلاق. قد يكون لهذه المعطيات أثرٌ معيّنٌ عندما يدور الحديث عن المستقبل؛ عن الحلول الممكنة لإنهاء المشروع الاستعماري وطرق المعالجة بين المستوطِن وأهل البلاد. لكن ليس من الحكمة استبعاد الإطار النظري لأسبابٍ معياريةٍ سياسيةٍ أخلاقيةٍ، وإنما يجب عدم خلط التوصيف التاريخي الاجتماعي وكيفية تكوّن المجتمع الاستيطاني مع الجانب المعياري السياسي الذي يتناول كيف سيتعامل السكان الأصليون مستقبلاً مع هذا المجتمع، وطبيعة الطروح الممكنة التي تتيح العيش المشترك، وما هي شروط هذا العيش.

لكن، بعد أن ثبّتنا أهمّية هذا الإطار التحليلي وصلاحيته، سأنتقل للحديث عن جوانب القصور فيه ومدى إمكان تحوّله من مجرّد إطارٍ تحليليٍّ إلى إطارٍ معياريٍّ سياسيٍّ يرسم معالمَ الحلول المستقبلية.


بدايةً تجب الإشارةُ إلى أن كلّ إطارٍ تحليليٍّ هو إطارٌ واحدٌ من بين عدّة أدواتٍ وأُطرٍ تحليليةٍ أخرى. أي أن إطاراً ما لا يلغي ضرورةَ الاستعانة بأُطرٍ تحليليةٍ أخرى كالأُطر الماركسية الطبقية، أو أُطر التحليل النسويّ، أو التحليل الثقافي وغيرها من الأُطر. إن إطار الاستعمار الاستيطاني هو إطارٌ يقوم بالأساس مشدّداً على فكرة الموقع، أو التجربة الحياتية والانتماء، وأسبقيّته على الموقف السياسي والفكري. فالعالَم في هذا الإطار مقسّم ليس حسب المواقف؛ يسار ويمين، تقدّميّ ورجعيّ، تحرّريّ ومحافظ. إنما التقسيم الأساسيّ هو حسب الموقع المكانيّ؛ بين المستوطِن وأهل البلاد الأصليين. أي أنه حتى لو شاء وحاول المستوطِن أن يَخرج من عباءتِه ويتضامن سياسياً وفكرياً مع أهل البلاد الأصليين فإنه غير قادرٍ أن يخرج من الجماعة التي ينتمي إليها ويخسر الامتيازات التي تُمنح بمجرّد الانتماء للمجموعة بغضّ النظر عن المواقف. على أهمّية هذا التوجّه، إلّا أنه ليس التوجّه الوحيد الذي يصنع السياسة. ويبدو أنه يحبس الأفرادَ ضمن مجموعات انتماءٍ لا تسمح لهم بالتحرك سياسياً. عدا عن ذلك، فإن أحداً في مجتمع المستوطنين لا يقف تماماً في الموقع نفسه الذي يقف فيه مستوطِنٌ آخَر، والحالُ ينطبق على مجتمع السكان الأصليين. 

إن المنطق الذي يضع المواقع أولاً والمواقف والأفكار ثانياً، باعتبار الأوّل مؤسِّساً والثاني مجرّد ثانويٍّ، لَهُوَ منطقٌ يأكلُ نفسَه بنفسِه إذا أخذناه إلى أقصى مداه المنطقيّ كما هو الحال مع منطق الهوية عموماً. لأنه إذا كان الموقع كلّ شيءٍ والهوية والتجربة هي العامل الحاسم الوحيد، فعلينا أن نقرّ أنه ليس ثمّة موقعٌ واحدٌ مشتركٌ متماثِلٌ تماماً يقف فيه جميع المستوطنين، أو جميع النساء أو جميع السكان الأصليين. إذا قلنا مثلاً أن النساء وحدَهن من يستطِعْن تمثيل جمهور النساء لأن للنساء تجربةً خاصةً وفريدةً ومتميزةً، فإن هذا الادّعاء يمهّد لإفناء ذاته. لأنه إذا كانت التجربة والموقع هما المحكّ الأخير فبأيّ حقٍّ وبناءً على أيّ منطقٍ تستطيع امرأةٌ من المدينة أن تمثِّل امرأةً بدويةً، وكيف تستطيع امرأةٌ من الطبقة الوسطى البيضاء في أمريكا أن تمثِّل امرأةً سوداء فقيرةً من الضواحي؟ هذا هو مأزق الإيغال في سياسات الهوية إذا خضناها حتى نهاياتها المنطقية. فكلّ شخصٍ له تجربةٌ متميزةٌ، ولذلك تحديداً لا أحدَ يستطيع أن يمثّل أو يتحدّث بِاسم أيّ شخصٍ آخَر إطلاقاً، لأن حدود جلدنا هي حدود تجربتنا.

عليه، وإن كان هناك الكثير من المنطق في تقسيم المجتمعات بناءً على المواقع، إلّا أن هذا التقسيم لا يمكنه استنفاذ كلّ التقسيمات الممكنة ولا أن يستنفذ عالم السياسة. إذ ما من أداةٍ تحليليةٍ واحدةٍ ووحيدةٍ. ولا يمكن لإطارٍ تحليليٍّ واحدٍ أن يقبض على تنوّع المصالح والأفكار، لذلك ومع أهمّيته النظرية لا يمكن لأيّ إطارٍ أن يكون إطاراً واحداً ووحيداً. أي أنه بعد أن شخّصنا مجتمعاً معيّناً على أنه مجتمعٌ أو مشروعٌ استيطانيٌّ فإن ذلك لا يفصح لنا بالضرورة عن كيفية التعامل معه، ولا عن خصوصيته، ولا عن أفضل الطرق لإنهاء عملية السيطرة والتحكم.


لنتجاوز الآن قضية ضرورة تعدّد الأُطر التحليلية، ولننتقل إلى طرق توظيف هذا الإطار ومعانيه في الحالة الفلسطينية وإلى أية درجةٍ هو قادرٌ بحدّ ذاته على أن يشخّص الوضع الحالي.

في معرض إجابتنا علينا أن ننتبه إلى أن المشاريع الاستيطانية الاستعمارية نمت وتطوّرت وانتهت إلى تشكيلاتٍ مختلفة. ففي أمريكا مثلاً فإن المشروع الاستيطاني انتهى بشكلٍ أو بآخَر بإبادةٍ جسديةٍ للسكّان الأصليين أو تحويلهم إلى أقلّية بسيطةٍ هامشيةٍ جدّاً في تركيب المجتمع. بينما في إيرلندا انتهى الأمر بنوعٍ من التعادل الذي فرض تقسيمَ إيرلندا إلى دولتين؛ جمهورية إيرلندا، وشمال إيرلندا التابع للملكة المتحدة. بينما انتهى الوضع في الجزائر بطرد المستوطِنين، أو لِنقُلْ بقرار الدولة الأمّ فرنسا إجلاءَهم. وتطوّر الوضع في جنوب أفريقيا ليُصار إلى نظام أبارتهايد انتهى في نهاية الأمر بإقامة دولةٍ واحدةٍ علمانيةٍ متحرّرة.

ما يمكن استنتاجه ممّا ذُكر هو أن القدرة التحليلية للإطار محدودة. أي أن المجتمعات الاستيطانية قد تتطور بأشكالٍ مختلفةٍ في مراحل مختلفة. ولنأخذ بعين الاعتبار طبيعةَ المجتمع المستوطِن، وطبيعة السكان الأصليين، وشكل المقاومة للمشروع الاستيطاني، والظروف التاريخية وطبيعة النظام الدولي السائد في تلك المرحلة.

يحاجِج بعضُ الإخوة الفلسطينيين بشأن تقرير منظمة مراقبة حقوق الإنسان "هيومن رايتس واتش" ومنظمة العفو الدولية عن نظام الأبارتهايد أو الفصل العنصري في إسرائيل بأنه (أي التقرير) غيرُ كافٍ، وأنه كان حريّاً الإقرارُ بالطبيعة الاستيطانية الاستعمارية للمشروع الصهيوني. لكن تلك المحاجّة لم تكن في محلّها، وإن كانت محقّةً من حيث المبدأ. فالأبارتهايد واحدٌ من أشكال نظام الحكم والسيطرة الذي يقوم على المَأسَسة الدستورية لنظام الفصل العنصري ودعمِ هذا الفصل بعنف الدولة المنظَّم. الاستعمار الاستيطاني قد يقود في مرحلةٍ معيّنةٍ إلى نظام أبارتهايد، وقد لا يقود. في حالاتٍ معيّنةٍ فإن حرب الإبادة قد تُغني المستعمِرَ عن الحاجة لإقامة نظام أبارتهايد. وفي حالاتٍ أخرى، قد يقومُ نظام أبارتهايد دون أن يكون جزءاً من مشروعٍ استيطانيٍّ استعماريّ. إن نظام جيم كرو، أو الفصل العنصري، في الولايات الجنوبية في أمريكا في القرن العشرين، والذي فصل السودَ عن البِيض، هو نظام أبارتهايد مع أنه ليس جزءاً وليس نتيجةً لمشروع استيطانٍ استعماريٍّ، لأن السود ليسوا مجتمعَ البلاد الأصليَّ بل جُلبوا من الخارج عنوة. وعليه فإن الأبارتهايد شيءٌ والاستعمار الاستيطاني شيءٌ آخَر، وهما يقفان على مستوياتٍ مختلفةٍ من التجريد النظريّ، ووجودُ الواحد لا ينفي وجودَ الآخَر، لكن لا يَشترط حضورَه أيضاً.

مع وجود تلازمٍ تاريخيٍّ بين الاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد في بعض الحالات، إلا أن هذا التلازم لا يعني بالضرورة وجودَ علاقةٍ سببيةٍ دائمةٍ بينهما. لذا، ففضلاً عن تشخيص مجتمعٍ ما بأنه نتاجُ استيطانٍ استعماريٍّ، هناك دائماً ضرورةٌ لتشخيصٍ عينيٍّ محدَّدٍ للمرحلةِ التي بلغها هذا المشروعُ الاستيطانيّ وطبيعةِ المنظومة القانونية الدستورية التي يستعملها كي يحافظ على مشروعه. بالمقابل، فإن التشخيص القانوني البنيوي لنظامٍ ما كونَه نظامَ أبارتهايد كان كافياً وحدَه لفهم هذا النظام وتاريخية تشكّله. وهناك حاجةٌ إلى أداة تحليل الاستعمار الاستيطاني. إلّا أنه في حالة تلك المنظّمات عينياً، أي منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس واتش وغيرهما، فإن هذه الجمعيات تعنى بحقوق الإنسان أولاً وأخيراً، وليست مؤسسات بحثٍ تاريخيةً تحليليةً.

*****

إلّا أن أهمّ ما أودّ قوله في هذه المقالة يمسّ العلاقةَ بين الإطارِ التحليلي للمرحلة التي بلغَها مشروعٌ استيطانيٌّ ما والحلِّ الممكن والأفقِ السياسي حول إنهاء الطبيعة الاستعمارية لأيّ مشروعٍ كان. وجلُّ ما أودّ قوله في هذا السياق أن هناك دائماً هوّةً غير قابلةٍ للردمِ بين التاريخ والسياسة، بين الماضي وبين المستقبل، بين طريقة فهم المشاكل والجرائم والمآسي وتشكّل البنية الاستيطانية الاستعمارية من ناحيةٍ وبين المشروع السياسي المستقبلي الذي يجب طرحه لتجاوز هذه الحالة. أي أنه يتعذّر اشتقاق حلولٍ سياسيةٍ مستقبليةٍ من طريقة التحليل والفهم والتوصيف التاريخي لمشروعٍ معيّنٍ، وإن كانت هناك علاقةٌ بين الإثنين. وأنا حين أكتب ذلك وأشدّد على هذه المقولة فإني أريد أن أوجّهها في الوقت نفسه إلى المثقف الفلسطيني والمثقف الصهيوني الإسرائيلي. فبعض الإسرائيليين يعتقدون أن توظيف الإطار الاستيطاني الاستعماري يقود بالضرورة إلى حلٍّ لا مكان فيه لليهود، باعتبار المشاريع الاستيطانية مشاريعَ غير أخلاقيةٍ وغير شرعيةٍ. ونزع الطابع الاستعماري عن المشروع الإسرائيلي يعني حتماً إعادة العجلة إلى الوراء. ويتابع هذا المنطق ليقول علماً بأنه يرفض معظم اليهود العودة إلى بلادهم الأصلية التي هاجروا منها، فإن النتيجة المنطقية هي أيضاً رفض الإطار النظري للاستعمار الاستيطاني أداةَ تحليلٍ وفهمٍ، وبأن اختيار الأداة التحليلية يجب أن يخضع لمنطق الحلّ السياسيّ المستقبليّ وأن تُشتَقّ منه. أعتقد أن هذا الموقف هو موقفٌ خاطئٌ نظرياً وسياسياً لأنه يَحجب عن ناظرنا إمكانيةَ فهم طبيعة علاقات الإخضاع والسيطرة والقمع والمحو. ودون فهم المشكلة بعمق، لا يمكن مواجهتها وحلّها حلّاً جذرياً.

بالمقابل أودّ أن أوجّه هذه المقولة أيضاً إلى المثقف الفلسطيني الذي يميل للاعتقاد بأن التحليل التاريخي والأخلاقي من شأنه أن يقود منطقياً إلى استنتاجاتٍ سياسيةٍ تتعلق بالمستقبل وطرق الحلّ وإنهاء السيطرة الاستعمارية أو أنها تعفيه من الخوض في التفاصيل. إزاء هذا التوجّه، يجب التوضيح أن السياسة ليست جزءاً من علم المنطق، وأنه من المتعذر تحويلُ الأسئلة السياسية المستقبلية إلى أسئلةٍ منطقية. إن الإجابات على الأسئلة المنطقية جبريةٌ، لا خيار فيها ولا مجال للاختيار، وتفرض نفسها على العقل والإرادة البشرية، وما علينا سوى الامتثال لقوة المنطق. لكن السياسة التي تسعى دائمًا إلى رسم المستقبل فإنها تَفترض دائماً وجودَ الخيارات المختلفة التي تتيح للفاعل السياسيّ أن يختار من بين الحلول المتاحة تلك التي تلائم الواقع، وتخدم المصالح، وتأخذ بعين الاعتبار موازينَ القوى والاعتباراتِ الأخلاقيةَ المبدئيةَ، وتُوازي بين ضرورات الماضي ومستحقّاته وبين مستحقّات المستقبل، بين الولاء للأجيال السابقة والولاء للأجيال القادمة أيضاً.

سأَسوق فيما يلي مثالاً واحداً من عدّة أمثلة. تاريخياً وأخلاقياً فإن الاستيطان الصهيوني داخل حدود إسرائيل لا يختلف في كثيرٍ من النواحي عن الاستيطان في المناطق المحتلة عام 1967. إذ أن الاستيطان في كلتا الحالتين هو على أراضٍ فلسطينية. وفي كلتا الحالتين فإن الحديث يجري عن مشروعٍ استيطانيٍّ مستمرٍّ يَستهدف الاستيلاءَ على الأرض الفلسطينية، وتهجيرَ الشعب الفلسطيني، ومحوَ مشروعه القومي والثقافي، وأحياناً محوَ وجودِه المادّي على أرض فلسطين. بهذا المعنى التاريخيّ يمكن القولُ أن حرب 1967 هي نوعٌ من استمرار حرب عام 1948. وبنظرةٍ تاريخيةٍ فإن المشروع هو مشروعٌ واحدٌ، نواياه واحدة. وليس فرقُ العقدين (1948-1967) إلّا بمثابة استراحةٍ للمستوطِن – أي الجندي الإسرائيلي – لالتقاط أنفاسه فحسب. ومن ينظر مثلاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية اليوم لا يجد أيّ أثرٍ يذكَر للمراحل المختلفة للاحتلال الذي قام به المستوطِن الأبيض لأراضي السكان الأصليين وإبادتهم جماعياً. وكلُّ الحدود المؤقّتة بين المستوطِن الأبيض وقبائل السكان الأصليين، ما هي إلا تفاصيلُ ثانويةٌ ليس لها أية أهميةٍ تذكَر في تاريخ الاستعمار الاستيطاني لأمريكا.

حتى وإن كان هذا التحليل صحيحاً تاريخياً وأخلاقياً، فإن ذلك لا يعني مثلاً أنه لا معنىً سياسياً البتّة لحدود عام 1967. ولا يعني مثلاً أنه لا فرق سياسياً بين مستوطَنةٍ داخل حدود إسرائيل، كرميئيل التي أقيمت على أراضٍ عربيةٍ طبعاً، وبين مستوطَنةِ كريات أربع التي أقيمت داخل أراضي الضفة الغربية المحتلة عام 1967. الفرق بينهما سياسيٌّ ويتعلّق بالمستقبل. بين هذه وتلك عدّةُ قراراتٍ دوليةٍ تتعلّق بحدود إسرائيل وتعترف بحقّ الفلسطينيين في دولةٍ فلسطينيةٍ ضمن حدود عام 1967، وهناك قراراتٌ سياسيةٌ من المجلس الوطني الفلسطيني، وهناك المبادرة العربية، وهناك قراراتٌ من محكمة العدل الدولية التي تحرّم الاستيطانَ في الضفة وتعدّ الاستيطانَ هناك غيرَ قانونيٍّ، لكنها لا تقول الشيءَ نفسَه مثلاً عن تل أبيب. قد يكون هناك منطقٌ سياسيٌّ في الإبقاء على تل أبيب والإصرار على إخلاء كريات أربع، وأن هناك سبباً تاريخياً للتفريق بينهما. إلّا أن الأهمّ هو أن الحلول السياسية أو مشاريع التحرّر التي تسعى إلى تحرير المستقبل، لأنه من المتعذّر تحرير الماضي، تأخذ عدّةَ أمورٍ بعين الاعتبار عندما يجري الحديثُ عن نزع المشروع الاستعماري التوسعي وإنهائه. ولا يمكن اختزال المشروع باعتباره محو الماضي أو إعادة العجلة للوراء بنوعٍ من منطقِ نفيِ النفي. أي إذا كان الاستعمار الاستيطاني جريمةً يجب إنهاؤها فليس من الواضح ماذا يعني نفي الجريمة، أي نفي النفي. قد يأخذ الأمرُ في حالة فلسطين شكلَ الدولة الواحدة، أو شكل الدولتين، أو مزيجاً من دولةٍ علمانيةٍ لا تعترف بالقوميات. وقد يعني دولةً ثنائيةَ القومية. وقد يعني للبعض مطالبةَ اليهود الذين قدموا إلى فلسطين بعد تاريخٍ معيّنٍ العودةَ إلى بلادهم الأصلية. وقد يعني الإبقاءَ على المستوطِنين داخل الضفة شرطَ خضوعهم لسلطةٍ فلسطينيةٍ. وقد يعني حلَّ جميع المستوطنات. وقد يعني حقَّ عودةٍ إلى مجمل أراضي فلسطين، وقد يعني العودةَ إلى جزءٍ منها. 

إن الإطار التحليلي للاستعمار الاستيطاني لا يجيب عن هذه الأسئلة إطلاقاً. وستبقى على عاتق كلِّ من يتعامل بالسياسة مسؤوليةُ صياغةِ الأجوبة التي تلائم الوضع. إلّا أنّ مهمّة رجل السياسة تختلف عن رجل الدين أو الفيلسوف أو الشاعر أو المنظّر الأخلاقي. لأن جزءاً من مهامّ رجل السياسة هو قدرتُه على تحويل مشروعه إلى واقعٍ وحقيقة. أي أن نجاح مشروعه هو جزءٌ من المشروع. إن هزيمة أيّ فكرةٍ أخلاقيةٍ لا تنتقص من صلاحية الفكرة الأخلاقية أو من صوابها. لكن الأمر نفسه لا ينطبق على السياسة والمشاريع السياسية. إن النجاح في إنجاز المشاريع المقترحة سياسياً هو جزءٌ عضويٌّ من تقييمنا لدور السياسيين الذين يصوغون المستقبل. بهذا المعنى، فإن رجل السياسة يتحمّل في كثيرٍ من الأحيان أعباءَ تتجاوز رجلَ الأخلاق. لأن هدف رجل الأخلاق أن ينقِذ ضميرَه وأن يُحجِم عن ارتكاب الأخطاء الأخلاقية، وبالتالي فإن اعتكافه عن العمل والفعل قد يضمن نظافةَ يده. إلا أن السياسي مُطالَبٌ ليس فقط بإنقاذ نفسه وإنما إنقاذ شعبه والجمهور الذي يقوده، وإنجازاتُه هي جزءٌ من وظيفته ودوره.

ليس هدفُ هذه المحاجّة عرضَ أيّ تصوّرٍ عن نزع الاستعمار وإنهاء حالة الاستبداد والسيطرة الاستعمارية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. إنما هدفُها متواضع جداً وهو ادّعاء ضرورة إبقاء مساحةٍ ومسافةٍ بين التوصيف التاريخي وتحليل العلاقات بين مجتمع المستوطِنين وسكان البلاد الأصليين، وبين الطرح المستقبلي السياسي حول إنهاء الحالة الاستعمارية. وأن هذا الفصل النسبي ضروريٌّ لطرفَي المعادلة. أي أنه ضروريٌّ من أجل الحفاظ على قدرتنا على التحليل والتوصيف التاريخي دون إخضاعه لمقولاتٍ سياسيةٍ مستقبلية. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ هو ضروريٌّ من أجل تحرير مخيّلتنا السياسية عندما نقوم بصياغة التصوّر المستقبليّ لإنهاء العلاقات الاستعمارية كي نعرف أننا عندما نقوم بطرح أيّ تصوّرٍ فإننا نقوم بذلك من منطلق المسؤولية نحو المستقبل والماضي. لكننا نقوم بخيارٍ سياسيٍّ واعٍ نتحمّل مسؤوليتَه وتبعاتِه. وحين نقوم بذلك فنحن لسنا بصدد محاججةٍ منطقيةٍ بقدرِ ما نقوم بخيارٍ سياسيٍّ واعٍ.

اشترك في نشرتنا البريدية