إلا أن هناك تاريخاً معقداً للموقف من المدني الإسرائيلي عند حركات المقاومة الفلسطينية بتنويعاتها الفكرية والسياسية المختلفة. فمع أن هذه الحركات ليست عضواً في منظمة الأمم المتحدة ولا تسري عليها رسمياً اتفاقية جنيف لسنة 1949 التي تقنن حماية غير المقاتلين في الصراعات المسلحة، إلا أنّ فصائل المقاومة يُتوقع منها الالتزام بمبادئ الاتفاقية وتحتاج دوماً إلى تقديم مبررات نظرية وعسكرية وأخلاقية عند استهدافها المدنيين الإسرائيليين. فعلى طول أمد صراعهم ضد الاحتلال الإسرائيلي كانت تعريفات هذه الفصائل للمدنيين الإسرائيليين وطريقة تعاطيها معهم محل تأويل وإعادة تأويل مستمر حسب تقلّب الظرف والزمن والاتجاه العقدي ما بين التبرير والانتقائية للاستهداف وبين المواقف المناهضة له.
يُسائل عالم السياسة الألماني يورغن برانش استهداف المدنيين، أو ما يسميه "العنف العشوائي" في كتابه "قتل المدنيين في الحروب الأهلية"، قائلاً: "لماذا يقوم المتنازعون بقتل أبرياء لا يؤثّر قتلهم على مكاسب الحرب، ولا ينتج عن ذلك سوى غضب المجتمع الدولي واتهام الجنود بارتكاب مجازر حرب. يبدو الفعل في غاية السذاجة".
محاولة الجواب عن هذا السؤال تدفعنا لاختيار تعريف مبدئي نختبره في هذا المقال. ينص هذا التعريف على أن: "المدنيين هم الأفراد الذين ليس لهم قيمة آنية أو مؤجلة في حرب ما". أي أنه بدل أن يكون المدني وصفاً ثابتاً لفئة معينة يصبح مفهوماً متحرّكاً يحدده النزاع نفسه، بمعنى أن أي فرد ذي قيمة لأحد طرفي النزاع يصبح "غير مدنيّ" ويتعرّض للعنف بجميع أشكاله. بينما يصبح من لا قيمة له في الحرب بعيدا عن الاستهداف. هنا تصبح لغة الصراع موحّدة بين طرفيها، ويصبح بالإمكان فهم أسباب استهداف المدنيين من جميع الأطراف المتنازعة: لأنّ كلا الطرفين يتفقان عادة على استهداف من له قيمة تسمح له بالفوز في النزاع، سواء كانت قيمته عسكرية كالجنود أو غير عسكرية كالمبرمجين والمصورين وموظفي البنوك والسياسيين.
ينبني على محاولة التعريف الجديدة أنّه بدل أن نبحث في أسباب استهداف الفصائل الفلسطينية المقاومة المدنيين الإسرائيليين، بتعريف اتفاقية جنيف، وهو بحث مليء بالحكم الأخلاقي والسذاجة العملية، يصبح البحث عن "القيمة" التي تؤسسها الفصائل المقاوِمة في نزاعها مع الجيش والحكومة الإسرائيلية. يمكن مسك طرف الخيط ويصبح بالإمكان التخلّي عن وصف الفصائل الفلسطينية بأنها "عناصر" إرهابية "تقتل عشوائياً" تقليلا من طبيعة موقفها، وبدلاً من ذلك يصبح قراءة ما تقوم به و"معقوليته" أمراً ممكناً. وعليه فلنحاول أن نتلمس من مواقف الفصائل الفلسطينية نفسها تعريفها للمدني وإشكالاتها معه.
في بيانها الأول في ديسمبر 1987 تشير حركة حماس إلى القضية ذاتها، وإنْ بلهجة أكثر حدّة من فتح. تقول حماس: "ألا فليعلم المستوطنون المستهترون أن شعبنا عرف ويعرف طريق الاستشهاد وطريق التضحية ... وليعلموا أنّ العنف لا يولِّد إلا العنف، وأنّ القتل لا يولِّد إلا القتل ... وليعلم العالم أنّ اليهود يرتكبون الجرائم النازية ضدّ شعبنا، وأنهم سيشربون من الكأس نفسها. ولَتعلمنّ نبأَه بعد حين". جديرٌ بالذكر أنه في 2017، وفي منحى عُدّ محاولة للتأقلم مع التغيرات الإقليمية أو حالة نضوج سياسي، أصدرت الحركة وثيقة سياسية قبلت فيها بحل الدولتين، وأعادت تعريف "اليهود" في فلسطين بالسياق الصهيوني الاستعماري، مع التأكيد على أن اليهودية ديانة سماوية ولا صراع للحركة معها. أما البيان السياسي لحركة الجهاد الإسلامي فيقول: "العمل الاستشهادي في فلسطين … هو أرقى درجات الدفاع المشروع عن النفس، أمام إرهاب صهيوني يمارس الإبادة العنصرية لشعبنا … في ظلّ تقاعس العالم عن ردع المحتلّ الظالم أو توفير الحماية لشعبنا المظلوم".
فالمقاومة في تعبير قادتها والمنتسبين إليها ردّة فعل على واقع الاحتلال وخذلان العالم. واستهداف المدنيين هو الآخر ردّة فعل مماثلة، وعلى حسب طبيعة المستهدفين من السلطات الإسرائيلية سوف يكون ردّ الفصائل الفلسطينية المقاومة. أو هكذا يبدو على الأقل من بياناتهم السياسية والعسكرية. فالغاية التي ترسمها فصائل المقاومة لاستهداف المدنيين الإسرائيليين ليست "تدميرية" أو انتقامية، بل تلتزم بالأفق الذي تضعه إسرائيل. هي هكذا ردود فعل معقولة لأصحابها ومبنية على واقع ترسمه الحكومة الإسرائيلية.
هذا لا يعني أن مجموعة أيلول الأسود كانت الأكثر استهدافا للمدنيين. بل إن تتبع عمليات فصائل وحركات أخرى مثل فتح وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين سيُظهر عدداً كبيراً من العمليات ضد المدنيين أيضاً. وتفتح لنا البيانات والمقابلات الصحفية والمقالات التي تكتب في الصحف مع كلّ عملية تُنفّذ نافذة لفهم موقف هذه الفصائل من استهداف المدنيين. وبالنظر في هذه التصريحات، نجد أنه ثمة ثلاثة مواقف للفصائل الفلسطينية من مسألة استهداف المدنيين الإسرائيليين.
أولها الموقف الرافض لاستهداف المدنيين. وهو الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية، وما انتهت إليه الفصائل الفلسطينية الداعمة لعملية السلام. وكان مبدأ هذا التوجه داخل منظمة التحرير الفلسطينية مع اجتماع سنة 1974 فيما يعرف ببرنامج النقاط العشر، وهو برنامج أعدته حركة فتح وتبنّته المنظمة صيغةً استهلالية للانخراط في مشروع التسوية على خلفية تداعيات حرب سنة 1973 ومشاريع وزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر في الشرق الأوسط. استند هذا الموقف تاريخياً إلى دافعين اثنين: الأوّل ضغط الإعلام الأجنبي الذي يرى في استهداف المدنيين أمراً غير مقبول البتة، والثاني الاعتقاد بأنّ المكاسب التي تأتي من العملية السياسية ترجح أية مكاسب تأتي من الكفاح المسلّح ومنه عمليات استهداف المدنيين. وبهذا الخصوص، صرّح ياسر عرفات في مارس 1969: "إننا نرفض ونعارض كلياً مثل هذه الهجمات على الطائرات، إذ أنها تأتي في وقت بدأنا نحقق مكاسب سياسية على الصعيد العالمي".
ومع ذلك لم يخل هذا الموقف من مفارقات. ففي تقريرها المعنون "لحظة واحدة تمحو كل شيء: التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين" حاولت منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الإنسان دراسة كل ما يتعلّق بدوافع التفجيرات الانتحارية ومآلاتها في فلسطين. ومما جاء في التقرير: "وقد دأب الرئيس ياسر عرفات على إدانة هذه التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين. ففي أعقاب هجوم الثاني من مارس آذار أصدرت السلطة الفلسطينية بياناً قالت فيه إنها تدين بشدة وبلا مواربة أي عمليات تستهدف المدنيين سواء أكانوا إسرائيليين أو فلسطينيين، بما في ذلك العملية التي نفذت هذا المساء، السبت الموافق الثاني من مارس 2002 في قلب القدس". وأدان عرفات هجوم 21 مارس الذي نفذته كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة فتح، ضد "المدنيين الإسرائيليين الأبرياء"، وقال "إننا سنتخذ التدابير المناسبة والفورية لوضع حد لهذه الهجمات".
إلا أن ما يشبه التبريرات العلنية للتفجيرات جاء من عدد من الشخصيات المقربة إلى عرفات خصوصاً بعد أن بدأت كتائب شهداء الأقصى في تنفيذ التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين في أوائل سنة 2002. فعلق أحمد عبد الرحمن، وهو أحد مستشاري عرفات وأمين سر السلطة الفلسطينية، على هجوم التاسع من مارس 2002 على مقهى "مومنت" بالقدس بقوله "هذا هو الرد الطبيعي من جانب المقاومة الفلسطينية على كل ما فعله الإسرائيليون في مخيمات اللاجئين وللمدنيين الفلسطينيين والنساء والأطفال ... ويجب أن يتوقع الإسرائيليون مثل هذه العمليات متى قاموا بتصعيد اعتداءاتهم العسكرية على مدنيينا". في حين كتب مروان البرغوثي، الأمين العام لفتح في الضفة الغربية، في يناير 2002 يقول إنه "وحركة فتح التي أنتمي إليها نعارض بشدة الهجمات واستهداف المدنيين داخل إسرائيل، جارتنا في المستقبل". ولكن في أعقاب التفجير الانتحاري الذي نفذته كتائب شهداء الأقصى في 21 مارس في شارع مزدحم بالمحال التجارية في القدس والذي أدى إلى مقتل ثلاثة وإصابة ستين آخرين، علّق مروان على الحادث للصحفيين بقوله "لقد لجأ شعبنا إلى المقاومة لأننا وصلنا إلى طريق مسدود. فكلما أحكم الإسرائيليون الحصار حولنا وأمعنوا في القتل، اشتد رد فعلنا".
هذه المواقف التي تعرضها هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات تضع إيمان السلطة الفلسطينية وغيرها بجدوى العملية السياسية موضع شك، مع أنّ المواقف يمكن أن تُقرأ بأنّها رغبة من السطلة باستثمار هذه العمليات لتحقيق مكاسب سياسية ضد إسرائيل، من قبيل أنّكم في حاجة لنا إن رغبتم بتوقف هذه الهجمات الانتحارية. ويدعم هذه القراءة ما نقلته هيومن رايتس ووتش أن السلطة الفلسطينية لا تُحاكم المعتقلين الفلسطينيين بتهم مقاومة إسرائيل، بل كانوا يغادرون السجون بعد فترة، وكانوا دائما يقومون بعمليات ضد الجنود والمدنيين الإسرائيليين على السواء. بل نقلت المنظمة، وفقاً لوثائق إسرائيلية، أنّ الرئيس الفلسطيني نفسه قدّم دعماً مالياً لبعض هؤلاء المقاومين أو عائلاتهم ثم ثبت مهاجمتهم لمدنيين إسرائيليين، الأمر الذي طرح في بداية هذه الألفية مدى جدية السلطة الفلسطينية في الالتزام باتفاق أوسلو. فالذين يعلنون موقفهم الرافض لاستهداف المدنيين الإسرائيليين يجدون مخارج للتخفيف من آثاره بجعله ردّ فعل مبرَّر بعد وقوعه.
ولعل المثالَ الأوضح لهذا الموقف التبريراتُ التي قدمتها الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين لعملية استهداف الجامعة العبرية بالقدس في الحادي والعشرين من فبراير 1969. فهذا الفصيل، الذي انشق عن الجبهة الشعبية، برّر استهداف الجامعة بأنّها "مسؤولة عن تخريج الإطارات الأساسية لأجهزة الدولة الإسرائيلية من الجيش والإدارة والبوليس ... كما أن جميع أساتذتها وطلبتها ضباط احتياط في جيش الاحتلال، وقد شارك الجميع في حرب حزيران". هذا الموقف يعترض على التعريف "المصطلح عليه" للمدنيين. وبالنسبة لهم، فالمستوطنون الإسرائيليون، خاصة أولئك الذين يحملون السلاح في الأراضي المحتلة فقدوا وضعهم المدني، لأنهم يقيمون في مستوطنات غير شرعية.
نجد الموقف نفسه عند حماس أيضا. ففي أغسطس 2001 وفي أعقاب الهجمة التفجيرية الانتحارية على مطعم سبارو، قال أحمد ياسين، قائد حركة حماس آنذاك: "إن اتفاقيات جنيف تحمي المدنيين في الأراضي المحتلة، لا المدنيين الذي هم في حقيقة الأمر محتلون. إن كل إسرائيل، بما فيها تل أبيب، هي فلسطين المحتلة. لذلك فإننا في الحقيقة لا نستهدف المدنيين فهذا أمر ضد الإسلام". تصريح مماثل نجده مع القائد البارز في حماس إسماعيل أبو شنب والذي قال لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" إن "هؤلاء ليسوا مدنيين: لا لأن المستوطنات غير شرعية، ولكن لأن المستوطنين ميليشيات". مضيفا، "إنهم ليسوا مدنيين، فمعهم مسدسات وهم مسلحون. في كل بيت وعند كل مستوطن مسدس، وكل هؤلاء الناس مسلحون وأهداف، ولا يمكن أن يتخفوا في العباءة المدنية ... وإذا رأيتُ امرأة أو طفلا فيجب عليّ ألا أطلق النار، لأننا لا يمكن أن نتجرد من الإنسانية في تصرفاتنا. ولكن من حيث المبدأ فإن المستوطنين يعتبرون أهدافا مشروعة".
نجد أمثلة مشابهة لهذا التمييز بين المدني حامل السلاح وبين الطفل والمرأة عند حركة فتح. ففي مقابلة مع منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أشار حسين الشيخ، وهو أحد مسؤولي فتح، إلى نفس التفرقة عندما قال "لقد أرسلنا رسالة إلى "شهداء الأقصى" تقول: لا تلمسوا المدنيين الإسرائيليين مطلقا. ركزوا على الجيش والمستوطنين. إذ إننا لا نعتبر المستوطنين مدنيين". ويتبع وجهة النظر هذه مفهوم أنّ التجنيد في إسرائيل إجباري، الأمر الذي يعني أنّ كثيراً من المدنيين إما قاتلوا أو سيقاتلون ضدّ الفلسطينيين، ما يجعلهم على المرتبة نفسها مع الجنود المقاتلين.
وهذه النقطة المتعلقة بأن التجنيد العسكري الإجباري ينزع صفة المدني عن غير العسكري رائجة وكررها منتمون لأكثر من حركة وتيار. فقد دافع أبو همام، القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عن مسألة أنّ المدنيين ليسوا في الواقع مدنيين، بل لم يكونوا أبدا كذلك، إذ أنهم حتى وإن لم يكونوا عسكريين بالكامل، فنظام التعبئة الإسرائيلي يجعل منهم "جنود احتياط". أضف إلى هذا، تقول الجبهة، "أنّ هؤلاء المدنيين هم شريان الحياة الاستعمارية، فإنهم مسؤولون عن دعم الاحتلال والاستفادة منه، ما يجعل استهدافهم مشروعا، وعملا مقاوما". منطق مشابه تنطلق منه حركتا حماس والجهاد الإسلامي ومفاده أن نظام الاحتياط العسكري الإسرائيلي يجعل كل المواطنين اليهود بها تقريباً أهدافاً مشروعة للهجمات المسلحة عدا الأطفال وكبار السن. ففي مقابلة مع صحيفة "الحياة" عقب انتهاء عملية "الدرع الواقي"، تساءل الشيخ أحمد ياسين: "هل هناك مدنيون في إسرائيل؟ كلهم في الجيش - رجالا ونساء ... إنهم يرتدون الملابس المدنية في داخل إسرائيل، والملابس العسكرية عندما يكونون معنا ... جنود الاحتياط وعددهم عشرون أو ثلاثون ألفاً، من أين أتوا؟ أليسوا جزءا من الشعب الإسرائيلي؟ ألم يكونوا مدنيين؟"
يُشْكل على أصحاب هذا الموقف عدّة أمور: الأول أنهم لا يقدمون تفسيراً واضحاً لطبيعة مستهدفيهم. فمع ذكرهم للجنود وجنود الاحتياط والمستوطنين المسلحين وقطاعات شبه عسكرية إلا أنّه لا يوجد خطّ فاصل واضح يجعل كلّ من هو خارجه مدنياً لا يمكن استهدافه. والثاني أنّ واقع الهجمات التي تُنفذ لا تتماشى تماماً مع هذه التقسيمة، فثمة هجمات كثيرة تبنّتها حماس، كعملية تفجير فندق بارك مثلا، وكان فيها ضحايا مدنيون من فئة القصر والكبار في السن (غالب الضحايا فوق السبعين)، والتصريحات لا تفي بتبرير مقتلهم.
لا نوافق يزيد في ادعائه أنّ التنظيمات الفدائية لم تشعر بوخز الضمير، إذ نجد تصريحات متتابعة لقادة فصائل فلسطينية برفض الوسم باستهداف المدنيين، وتقديم تبريرات متعددة. أول هذه التبريرات العين بالعين والسنّ بالسنّ. قد يستغرب كثيرون من كون الردّ بالمثل واحداً من أهم التبريرات التي تقدّمها الفصائل المقاومة لاستهداف المدنيين الإسرائيليين. غير أنّ هذا الاستغراب يزول حين نقرأ بياناتهم. حيث تجمع الفصائل على ذكر غايات هذه العملية، ويكون منها، ضرورة الردّ على عدوان إسرائيلي ما. ففي انفجار سوق محانيه يهودا سنة 1968 الذي نفذه فدائيون تابعون لفتح بزرع متفجرات في السوق قتلت أحد عشر شخصاً، كتب أكرم زعيتر الأديب والسياسي العربي وسفير الأردن في عدة دول، في يومياته: "لا ريب في أن هذا العمل هو أشد عمل قام به فدائيو الضفة الغربية! ولكن قتل الأبرياء وإلقاء المتفجرات على الآمنين وذبح الأطفال والشيوخ سنن استنها اليهود أنفسهم! وما حديث "سلة مولوتوف" التي ألقيت منذ واحد وثلاثين عاماً على ساحة الخضار (الجرينة) في عكا فأدت إلى مقتل العشرات من العرب وإلى جرح المئات ببعيد، وما حادث دير ياسين الذي يفاخر به مناحم بيغن الزعيم الصهيوني بالذي يمكن أن يُنسى، وما ملحمة قبية إلا إحدى الآيات على وحشية الصهيونيين، فها هم الآن يُكال لهم بنفس كيلهم".
نجد هذا التبرير أيضاً في عملية كمال عدوان، والتي استهدفت مدنيين إسرائيليين في ساحل مدينة حيفا حيث قام فدائيو فتح باعتراض حافلة مليئة بالركاب متجهة إلى تل أبيب، وقادت العملية دلال المغربي الممرضة والفدائية الفلسطينية، سنة 1978 وقُتل فيها ستة وثلاثون إسرائيلياً وثمانية فدائيين. فقد كان تعليمات القائد أبو جهاد (خليل الوزير) لأفراد المجموعة المنفِّذة "أن تجعلوا مناحيم بيغن يبكي كما أبكانا في دير ياسين". قصة مشابهة في البيان الأول لكتائب عزّ الدين القسّام في الفاتح من يناير سنة 1998، جاء فيه: "انتقاما لشلّال الدم المتدفّق من جراحات شعبنا النازفة في كلّ مكان من أرضنا الطهور ... وليعلم رابين وزمرته بأنّ قتل الأبرياء من شعبنا سيقابل بنفس الأسلوب، وسيكون كلّ يهودي هدفا مشروعا لأبطالنا منذ اللحظة".
تستشعر الفصائل الفلسطينية دوماً أهمية الإشارة لمبدأ "هذه بتلك"، وهو مبدأ له وقع كبير في صفوف أنصارها ويؤسس لثقافة ردع تتناسب بموجبها الأفعال وردّات الأفعال. مبدأ "هذه بتلك" يجعل موقف الفصائل مشروعاً لها ولأنصارها، فدائماً هنالك مبرر للقيام بعمل ما. وعلى سبيل المثال، قال أبو عبيدة المتحدث باسم كتائب القسام في 2009، حسب ما نقلته منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها، إن "استمرار الغزو لن يؤدي إلا لزيادة واتساع مجال صواريخنا … سوف نُضاعف عدد الإسرائيليين المعرضين لنيران الصواريخ". وقال محمود الزهار القيادي بحماس، حسب التقرير نفسه: "العدو الإسرائيلي ... قصف كل من في غزة. قصف الأطفال والمستشفيات والمساجد، وبهذا فقد أعطانا شرعية الرد بالأسلوب نفسه".
إن مبدأ "هذه بتلك" لا يتماشى مع قوانين الحرب وأعرافها الذي تتبناه غالبية المنظمات الحقوقية الدولية.
ثاني التبريرات الرغبة بمواجهة الرواية الإسرائيلية والتأثير على الرأي العام العالمي والرأي العام الاسرائيلي خصوصاً. وأهم الرسائل المتكررة في هذا الصدد مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي "أننا قادرون على تنفيذ أعمال مشابهة لتلك التي تنفذها إسرائيل ضد المدنيين العرب". حضور إسرائيل وتوجيه الرسائل لها غاية شديدة الحضور في بيانات الفصائل المقاومة، بل يمكن القول إنّه يكاد يكون مبدأً مؤسساً في فكر الفصائل الفلسطينية. ربما يرجع هذا لمحاولة التأثير في خارطة الأفق السياسي داخل إسرائيل، فغالباً تتعرض المؤسسات الحكومية لتغييرات عقب حصيلة مرتفعة لاستهداف مدنيين. تحسن الإشارة إلى أنّ المقاومين الفلسطينيين منذ الستينيات كانوا على وعي كبير بأهمية تقديم رواية مناسبة للجمهور الغربي ومواجهة الرواية الإسرائيلية. فحين كان الجيش الإسرائيلي يفتخر بأنه لا يقهر وأن حدوده ومدنه آمنة أصرّت الفصائل المقاومة على ضرب هذه الرواية في بياناتهم. في البيان السياسي لحركة فتح عن عملية كمال عدوان، نبهت الحركة أن الغاية من العملية هي "رفض الحلول الاستسلامية التي تحاول القوى المستسلمة فرضها على أمتنا العربية وعلى شعبنا الفلسطيني البطل ... وفي الوقت الذي يستمر الإرهابي بيغن ببناء المستوطنات، وبتغيير معالم الأرض الفلسطينية والعربية غير عابئ بالمشاعر الدولية وساخراً من الرأي العام العالمي يثبت ثوارنا الأبطال من قوات العاصفة أنهم قادرون على خرق كافة الحواجز الصهيونية والوصول إلى هدفهم". وكان أحد تبريرات الجبهة الشعبية لعمليات اختطاف الطائرات أن "العمليات الخارجية تعيد تعريف السردية المقاومة، وتنسف روايات الاحتلال عن واقع فلسطين، وتضع المقاومة في الصفحات الأولى للجرائد". وليس خفيّاً أنّ نسبة كبيرة من العمليات الخارجية كانت موجهة لاختطاف الطائرات التي اعتبرت دوماً استهدافاً مباشراً للمدنيين.
التبرير الثالث عدم التوازن في الصراع. تعي الفصائل الفلسطينية أن صراعها مع إسرائيل غير متكافئ. الأمر الذي يعني أنّ محاولة الصراع بطريقة ندّية فضلاً عن أنها غير عملية فإنها غير ممكنة. فحركة حماس مثلاً، وجدت في العمليات الانتحارية خياراً يوازن الصراع. وفي مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست، قال عبد العزيز الرنتيسي الناطق باسم حماس: ليس لدينا طائرات إف-16 أو هليكوبتر أباتشي أو صواريخ ... إنهم يهاجموننا بأسلحة لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا أمامها. والآن أصبح لدينا سلاح لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم أمامه ... إننا نعتقد أن هذا السلاح يخلق نوعا من التوازن؛ لأن هذا السلاح مثل طائرات إف-16.
نجد كذلك عند أكثر من فصيل مقاوم أن تبرير العمليات ضد المدنيين يتمحور حول أولويات المقاومة ضمن ظروفها الراهنة. فاستهداف المدنيين بدل العسكريين خيار تمليه وقائع حربية على الأرض. فمثلا دار حديث بين قادة فتح وفيه أكدوا على أنّ المدنيين هم "نقطة ضعف" للحكومة الإسرائيلية واستهدافهم "غير مكلف ماديا" مقابل الأثر الكبير للعمليات على نتائج الصراع بشكل عام. ووجدت الجبهة الشعبية نفسها تحاجج عن الفكرة نفسها، فذكر أبو همام أنّ ضرب المدنيين يجب أن يكون خياراً إستراتيجياً للمقاومة كونه "أقلّ كلفة". وبمبدأ الربح والخسارة، سيكون استهداف المدنيين أمراً أنسب لضمان تحقيق أهداف العمليات، مقارنة بردّة الفعل التي تجدها الفصائل المقاومة في حال استهدفت الجيش الإسرائيلي مباشرةً.
أما رابع هذه التبريرات فلأسباب اقتصادية ويمكن اختصارها في إضعاف الاقتصاد الإسرائيلي، وتخويف رأس المال المحليّ والأجنبي من الاستثمار في الأراضي المحتلة. وكذلك ضرب السياحة والأهم من ذلك كلّه "منع الهجرة اليهودية وتشجيع الهجرة المضادة، والحيلولة دون ارتباط المهاجر بالأرض، وإشعار الصهيوني بأن الحياة في إسرائيل غير ممكنة". وكان للجبهة الشعبية تبرير إضافي لأنها تخصصت في ضرب مصالح إسرائيل في الخارج. فكانت ترى أنّ استهداف مصالح إسرائيل في الخارج ضرب خطوط إمداد العدوّ، التي تُبوّئ إسرائيل مكانة مركزية في العالم. وبزعزعة هذه المكانة يتحقق للمقاومة هدفان: استمرار دعم المعسكر الشرقي وزيادته وتقليل اعتماد إسرائيل على حلفائها الخارجيين ما يجعل الصراع أكثر تعادلا بين الطرفين.
بقي أن نشير إلى أن هناك من يرى في استهداف المدنيين أمراً مقبولاً كونهم أضراراً جانبية لاستهداف الجنود أو المنشآت العسكرية. ذلك أنّ هذا المبدأ يدور في فلك القانون الدولي، الذي لا يرى بأساً بوجود ضحايا مدنيين ما دامت الجهة المستهدِفة استنفذدت كلّ الوسائل في تحديد أهدافها بدقة متناهية. وفي إطار الدفاع عن النفس غالباً ما يمكن لجهة ما أن تبرر قتل المدنيين بوصفهم أضراراً جانبية لأهداف عسكرية، وهي حجة رئيسة في السردية الإسرائيلية. من وجهة نظر الفصائل الفلسطينية يتعذر هذا بشكل كبير، فمثلا، لما كانت الفصائل المقاومة تستخدم أسلحة "غير تمييزية، إذ لا يمكن مثلا توجيه صواريخ القسام بدقة، فإنّ هذا يعني أنّ المقاومة لم تتخذ كلّ الاحتياطات المقدور عليها لتجنب إلحاق الضرر بالمدنيين. في تقريرها الصادر يوم السادس من أغسطس 2009، حاججت منظمة هيومن رايتس ووتش ضد هذا التبرير مشيرة إلى أن "الغرض من قوانين الحرب ليس فرض المساواة بين أطراف النزاع، أو تقييم انتهاكاتهم على ضوء قدراتهم النسبية، بل تهدف إلى تقليل الضرر اللاحق بالمدنيين. وانتهاكات قوانين الحرب من ثم لا تُقاس بأعداد الضحايا المدنيين، بل بما إذا كان الطرف في النزاع قد اتخذ كل الاحتياطات المستطاعة لتجنيب المدنيين الخسائر. واستخدام الأسلحة غير المعقدة أو المتطورة لا يبرر الإخفاق في احترام قوانين الحرب، كما لا يعني استخدام الخصم لأسلحة متطورة تبرير تجاهل طرف النزاع الآخر لهذه القوانين. فالاختلافات والتباينات في القدرات العسكرية هي غير ذات صلة بالأمر. ويمكن تقليل الخسائر في صفوف المدنيين إذا أقر الطرفان في النزاع بمسؤولياتهم القانونية بالالتزام بقوانين الحرب بغض النظر عن مدى تعقيد أو تطور الأسلحة لدى الأطراف."