حسن الترابي وتهافت المدينة الإسلامية الفاضلة أمام التطبيق

سعى حسن الترابي إلى تأسيس نظام إسلامي ديمقراطي، لكنه خرج بتناقضات بين فكره وتطبيقه العملي، فشهدت تجربته السياسية مزيجاً من الاستبداد والفساد

Share
حسن الترابي وتهافت المدينة الإسلامية الفاضلة أمام التطبيق
تصميم خاص لمجلة الفراتس

يروي الباحث والمفكر الإسلامي الموريتاني محمد مختار الشنقيطي أنه عندما قابل المفكر والسياسي السوداني حسن الترابي، أخبره أنه مؤلف رسالة "آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير". فردّ عليه الترابي قائلاً: ولكن هذا العنوان ناقص؛ المفترض أن يكون: "آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير، وذلك أمر عسير". هذا الموقف، مع طرافته، يوضّح الجدل المحيط بحسن الترابي. فمنذ اعتزاله السياسة اختلف تقييم الناس مشروعَه فمنهم مَن عدَّه مصلحاً ومجدداً خذلته الظروفُ وتآمر عليه الآخرون، ومنهم مَن رآه مسؤولاً عن ضياع الديمقراطية في السودان.

تلقّى حسن الترابي تعليماً وثقافةً عاليين وخاض تجربة سياسية كبيرة، فترقَّى في المناصب وجلس في مقاعد المعارضة ثم وصل إلى الحكم. وتوفَّر له ما لم يتوفر لغيره من المفكرين، إذ مُد في عمره بعد انتهاء تجربته السياسية فعكف على مراجعتها ونقدها.كان عملُ الترابي السياسي مختلفاً عن تنظيراته الفكرية، لأنه والحركة الإسلامية السودانية معه لم يقدِّموا رؤية سياسية متماسكة للتعامل مع الواقع السوداني المعقَّد ومشاكله الاقتصادية والاجتماعية. تحدّثَ الترابي عن هذه الفجوة في برنامج "شاهد على العصر" سنةَ 2016 مع الإعلامي المصري أحمد منصور، إذ قال عن أسباب فشل التجربة: "لم يكن لدينا فقه سياسي معاصر لجميع نواحي الحياة".

ومع سعي الترابي إلى تأسيس نظام ديمقراطي إلا أنه أراد في الوقت نفسه تقييد هذا النظام بإطارٍ حاكمٍ مُستَمَدٍّ من الشريعة الإسلامية. وهو ما جعل أي حرية فردية أو جماعية تأتي بعد صياغة هذا الإطار أو الدستور بدلاً من أن تكون جزءاً أصيلاً من العملية الديمقراطية نفسها. هذا التوجه أثار الأسئلة عن مدى واقعية تطبيق تلك الحريات، إذ أصبح مفهوم الحرية مشروطاً بالإطار الديني الذي فرضه ومقيداً به.

هذا التناقض بين فكر الترابي وتطبيقه العملي يظهر جلياً في تجربته السياسية. فمع أنه تحدَّثَ مراراً عن حقوق المرأة والأقليات إلا أنه لم ينجح بتطبيق هذه المبادئ حين كان في السلطة. ويعكس اعتمادُه على الانقلاب العسكري لتحقيق مشروعه السياسي غيابَ رؤيةٍ متماسكة لكيفية إقامة دولة إسلامية ديمقراطية بوسائل سلمية. والأخطاء التي اعترف بها الترابي، مثل القمع الأمني وتفشي الفساد المالي داخل الحركة الإسلامية بعد وصولها إلى السلطة، تؤكد أن مشروعه السياسي لم يكن مكتملاً وأن تسرعه في تطبيقه بلا تصوّر واضح قاد إلى فشل التجربة.


شكّل الترابي أواخر الستينيات ملامحَ فكرية جديدة للحركة الإسلامية في السودان. إذ كان يرى أنَّ الحركةَ تحتاجُ إلى تغيير جذري في هيكلها وفكرها لتكون أكثر مرونة وتتلاءم مع المجتمع السوداني. فأسَّس جبهة الميثاق الإسلامي التي كانت نواة تيار إسلامي جديد يختلف في رؤيته عن الإخوان المسلمين التقليديين. ركَّزت الجبهةُ على النهضة الفكرية والسياسية بدل التركيز على التنظيم الحركي.

في السبعينيات تحالف الترابي مع الرئيس السوداني جعفر النميري، وكان هذا التحالف جزءاً من خطّته لإدخال الإسلاميين في النظام السياسي السوداني. لكنَّه أدرك في نهاية المطاف أن تحالفه مع النميري كان خطأً كبيراً، لا سيما بعد أن أعلن النميري تطبيق الشريعة الإسلامية بطريقة منفرة وعنيفة ما تسبب في توتر علاقتهما وانفصالهما السياسي.

بعد سقوط نظام النميري في 1985 استغل الترابي الفرصةَ لإعادة ترتيب صفوف الحركة الإسلامية فأسس الجبهةَ الإسلامية القومية التي أصبحت قوة سياسية مهمة في السودان. ومع أنه انتُقِدَ لموقفه من السلطة وتعامله مع الأنظمة إلا أن الترابي ظلَّ متمسّكاً برأيه أن الحركة الإسلامية يجب أن تتبنى العمل السياسي لتحقيق أهدافها.

كان الترابي مهندساً لانقلاب 1989 الذي أوصل عمر البشير إلى السلطة، لكن بمرور الوقت ظهرت خلافات بينه وبين البشير في إدارة الدولة واتجاهاتها. أدت هذه الخلافات إلى انقسام الحركة الإسلامية ثم اعتقال الترابي سنة 2000. وقد ظلَّ الترابي حتى وهو معتقل مؤثِّراً  في الساحة السياسية والفكرية في السودان حتى وفاته سنة 2016.

بدأت بذور نشاط الترابي السياسي سنةَ 1958 عندَ أوَّلِ انقلاب عسكريّ في السودان على السلطة المنتخبة بعد انقسامات بين الأحزاب. طلب رئيس وزراء السودان آنذاك عبدالله خليل من قائد الجيش إبراهيم عبود تولي السلطة، وهو الانقلاب الذي حظي بتأييد الشعبي إذ أعلن حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي دعمهما حكمَ الجيشِ في تلك المرحلة.

كان الترابي يدرس الدكتوراه في فرنسا حينئذ، وقبل عودته سنةَ 1964 انفجرتْ قضية جنوب السودان وتصاعدت حدتها بسبب سياسات عبود. فقد فرضَ اللغةَ العربية والثقافةَ الإسلامية بالقوّة على الجنوب غير المسلم وغير العربي، وطردَ المبشرِّين المسيحيين وارتكب الفظائع بالجنوبيين. ولم تكن للحرب الأهلية في الجنوب نهاية تلوح في الأفق، بل فتح عبود أيضاً جبهة أخرى في الخرطوم وباقي ولايات السودان حين قمعَ ندوةً طلابيةً كان الترابي حاضراً فيها، ممَّا وسَّعَ دائرة الاحتجاجات التي عمّت السودان وأدَّت إلى إسقاط عبود في ثورة أكتوبر 1964.

عارض الترابيُ إجراءاتِ عبود وقادَ الثورةَ الطلابية في الجامعة داعياً إلى حكم اتحادي "فيدرالي" في السودان يحترم خصوصيات الولايات المختلفة. ولكن أفعاله السياسية فيما بعد خالفتْ رأيَه بعد وصوله والحركة الإسلامية إلى الحكم. مع ثورة 1964 بدأ الترابي مشواره السياسي تاركاً العمل الأكاديمي ومتفرغاً للسياسة وعضواً في البرلمان. وصف هذه الأحداث بأنها ميلادُ الحركة الإسلامية في الشارع السوداني، إذ أخرجتها من الحيز النخبوي وأعطتها قاعدة جماهيرية كبيرة تنمو باستمرار.

لاحقاً، اختلفت النخبة المدنية الحاكمة في السودان ما أدَّى إلى انقلاب الجيش بقيادة جعفر النميري ودعم الحزب الشيوعي السوداني المعادي للترابي آنذاك. في الأيام الأولى من الانقلاب اعتُقِل الترابي وزملاؤه في الحركة الإسلامية، ثم بدأ الترابي تطوير أفكاره السياسية. لم يستمر الاعتقال طويلاً بسبب ظروف سياسية عدّة، منها اكتشاف النفط في الجنوب وسخط القوى السياسية على النميري، إذ تكررتْ محاولات الانقلاب عليه سنتي 1975 و 1976 فانقلب النميري على اليساريين وأخرج الإسلاميين من السجن وتعاون معهم. وبدأت بذلك مرحلة صعود الترابي سياسياً، ثم بلغت ذروتها فيما بعد بتعاونه مع العميد عمر البشير.


بدأ الإنتاج الفكري لحسن الترابي بعد خروجه من السجن في عهد النميري مدعوماً بتنوع تجاربه السياسية والفكرية في السودان وخارجه. لم يكن الترابي مفكِّراً سياسياً منعزلاً عن الواقع أو حالمًا بجمهورية فاضلة على النمط الأفلاطوني، بل كان مفكراً حركياً يسعى إلى تغيير الواقع. والمفكر الحركي عادةً لا يقدّم تصوّراً ثابتاً وأفكاراً سياسيةً متَّسقة منطقياً، لأنَّ إنتاجَه الفكري يتأثر بنشاطه السياسي ويؤثر فيه فتتداخل أفكاره وتتجزأ في مقالاتٍ وكتب وأفعال تتفق أحياناً وتتناقض أخرى. وقد لاحظ الباحث بيتر وودوارد في فصلٍ عن الترابي وفكره في كتاب "ذا أوكسفورد هاندبوك: إسلام أند بوليتيكس" أن الترابي "جوهر أفكاره السياسية غامضٌ إلى حد كبير".

ويمكن استنباط ثلاثة أسس فكرية رئيسة من إرث الترابي المكتوب والمرئي وهي: تبنيه حرية التفكير والتجديد، ودعوته إلى التغيير الثوري العملي، ورؤيته الشمولية للدين قوَّةً فاعلةً في الحياة. أثَّرت هذه الأسس كثيراً على سياساته وتوجهاته العملية.

أول هذه الأسس الفكرية يمكن استنباطه مما نقله عبدالله غلاب في كتابه "ذير سكند ريبابليك" (جمهوريتهم الثانية)، إذ أشار إلى أنَّ الترابي بعد عودته من فرنسا عقب دراسة الدكتوراه كان يردد عبارة "أنا ابن الثقافة الفرنسية". يقصد بذلك تبنيه حريةَ التفكير والتجديد الفرنسيين ورفض الجمود التراثي. نجد شواهد هذا الاتجاه في كتب الترابي ولقاءاته، إذ كان دائم الحديث عن أهمية التجديد والحرية في الفكر. وكان يكرر عبارة "لا نريد أن نظل حبيسين لخلافات مالك وحنيفة"، ويدعو إلى العودة إلى القرآن النبع الصافي الذي يمكن أن نستقي منه حلولًا لمشاكلنا، كما فعل العلماء المسلمون في العصور السابقة.

أما الأساس الثاني والمهم عند الترابي فهو رؤيته الصِدَامية الثورية التي قد تفسر لجوءه إلى الانقلاب العسكري. كان الترابي يدعو إلى إنكار المنكر ويتحدث عن أهمية التغيير الثوري والتحرّك على الأرض، وانتقد المُكْتفين بالتنظير من غير مقاومة السلطة أو السعي إلى التغيير. وقد عبّر عن هؤلاء بعبارته الشهيرة "هم مثل من يقول: نحن بقلوبنا مع علي وبسيوفنا مع معاوية".

والأساس الثالث الرؤية الشمولية للدين، فقد كان الترابي يرى أن الدين يجب أن يكون فاعلاً في الحياة اليومية، وأنه لا ينبغي الانشغال بالخلافات الدينية الداخلية عن الوظيفة الأساسية للدين وهي إصلاح الأرض. هذا المبدأ كان واضحاً في أول كتابه "الإيمان وأثره في حياة الإنسان" الصادر سنة 1979 بعد خروجه من السجن. يظهر من العنوان أن الكتاب حركيٌّ يهدف إلى تحويل الإيمان من عقائد إلى قوة دافعة للحركة السياسية والاجتماعية. يتجنب الكتاب مناقشة الخلافات العقدية ويركز على صياغة آراء سياسية عن قضايا الحياة المختلفة من منظور ديني، وفي مقدمة الكتاب، يقول الترابي: "الإيمان معنى يتخلل كل وجود المؤمن وينبغي أن يتمثل في كل لحظة ولمحة من حياته".

بعض منطلقات الترابي الفكرية امتدادٌ لأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، رواد مدرسة التفكير العقلاني في الفكر الإسلامي الحديث. كانت مدرستهما تهدف إلى محاربة الفكر الجبْري الاتكالي الذي ينسب تخلَّف المسلمين إلى القدر الإلهي، وأن الخلاص لن يتحقق إلا بتدخل سماوي. ربما كان انتشار الحركات الصوفية في السودان، التي تحثُّ الناس على التركيز في حياتهم الخاصة، دافعاً للترابي للتفكير في هذا الاتجاه الإصلاحي.

ظهرت هذه المنطلقات في تنظير الترابي لشكل الدولة التي أراد أن تسيطر عليها الحركة الإسلامية في السودان. سياسياً، عدَّ الترابي الديمقراطية قضية أساسية وأفرد لها مساحة كبيرة في كتبه الدينية أو السياسية. وخصَّصَ لها دراسة كاملة نُشرت سنةَ 1985 بعنوان "الشورى والديمقراطية: إشكالات المصطلح والمفهوم". ظلت الديمقراطية منذ استقلال السودان وحتى اليوم سؤالاً ملحاً على السودان وأهله. 


مع أن الترابي ناقش الديمقراطية، إلا أن رأيه ظلَّ غامضاً ومتوتراً. فمن جهة يرى أنَّ الغرب استلهم الديمقراطية من مفهوم البيعة في الإسلام، ومن جهة أخرى يرى أنَّ الديمقراطية يمكن أن تبني الكون أو تهدمه، وذلك انطلاقا من أن الأغلبية فيها هي المرجعية وأنها قادرة على تغيير أي شيء وكل شيء. أما الإسلام، فهو يؤكِّدُ أن السيادة فيه لله وليس للأغلبية، ودور البشر تحقيق تلك السيادة. 

في مواجهة هذا التوتر، لجأ الترابي إلى توفيق تعسفي بين المفاهيم. فبينما يؤكد أن السيادة لله والمسلمون يمارسون حرية مقيدة بشرع الله، يعود ليؤكد أن المسلمين لا يجمعون على ضلالة. يقول: "تسود إرادة الشعب المؤمنة بالشريعة بشكل مباشر". وبهذه الطريقة لا تناقضَ بين سيادة الأغلبية المؤمنة بالشريعة وسيادة الله، وهذه هي "الشورى الديمقراطية" عنده.

ومع ذلك، يدرك الترابي احتمال مخالفة الأغلبية ثوابتَ الدين ولذا يرفضُ التَّعدديةَ الحزبية ويرى أنَّ وجودها بدايةَ تشكيل الدولة يؤدي إلى خلافات في الأساسيات التي لا يجوز الاختلاف فيها. فهو يرى وجوبَ وضع إطارٍ حاكم للأحزاب لا يمكن الخروج عنه. ويقول بأن التعددية في أوروبا لم تنجح إلا بعد أن استقرت أوروبا على قواعد أساسية تحكم المجتمع، ضارباً المثل بالثنائيات الحزبية في الولايات المتحدة وبريطانيا.

قد يُفهم من كلام الترابي أنَّه يدعو إلى استبداد الإسلاميين، على غرار استبداد "البروليتاريا"، أي الطبقة العاملة، في النُّظم الاشتراكية. فالإسلاميّون يفرضون "إطاراً دينياً وشرعياً" كما يسميه، ثم يتيحون الديمقراطية للشعب في هذا الإطار. لكن هنا يبرز السؤال: كيف يمكن أن يتوافق الشعب على هذا الإطار من غير الديمقراطية. لكن يبدو أن فرضه من قبل فئة حاكمة بلا ديمقراطية هو الخيار الوحيد، كما يُفهم من تنظيره لهذه المسألة. وهذا الإطار قد يؤدي إلى الاستبداد ويمنع تكوّن ديمقراطية حقيقية.

يميز الترابي بين الحرية الإسلامية والحرية الغربية مشيراً إلى أن المسلم يجب أن يقيد حريته بالدين الإسلامي على أن يكون التقييد ذاتياً لا مفروضاً. يقول إن وظيفة النبي والأمير تقتصر على التذكير فقط، مستشهداً بالآية: "فَذَكِّر إنَّما أَنْتَ مُذَكِّر". وينطلق من هذا المبدأ للدفاع عن حقوق غير المسلمين والأقليات في السودان مشدِّداً على حقّهم في حكم ذاتي. في "شهادته على العصر"، يتبرَّأ من تطبيق حدِّ الردة الذي فرضه النميري، ويؤكد أن النميري طبَّقه ليربح نقاطاً سياسية ضد الإسلاميين. لكن نعيد القول أنَّ كلَّ تلك الحريات يجب أن تحدث، بنظر الترابي، في إطار أو دستور إسلامي تُبنى على أساسه الحريات الفردية وحقوق الأقليات. وهنا يتجلى توترٌ آخر في فكره، بين الإطار الإسلامي الذي يدعو لإلزام جميع السودانيين به، وبين تنظيره بأنّ حرية التعبير مكفولةٌ لكلِّ إنسان، بما في ذلك حقُّ اعتناق أي دين، ويستشهد بالآية: "فَمَنْ شَاءَ فَليُؤمِن وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر".

ويرى الترابي أنَّ السودان بلد كبير ومتعدد الأعراق ويجب أن يُحكم حكماً غير مركزيّ. لكنه لا يناقش بعمق مسألة هيمنة شمال السودان والعرب على السياسة، مكتفياً بشعارات عامة عن ضرورة مشاركة الأعراق الأخرى في الحكم. غير أنَّ تصريحات أخرى نقلها عنه الباحث السوداني سلمان محمد في دراسته "طريق جنوب السودان إلى الاستقلال: الوعود المنكوثة، الفرص الضائعة" المنشورة بالإنجليزية سنة 2013، تكشف عن توتر آخر. فقد قال الرجل في تلك التصريحات إن "الجنوب ليس لديه ثقافة، ولذلك فإن الثقافة العربية والإسلامية ستملأ هذا الفراغ"، مما يدل على أن الترابي لم يكن قد حسم إشكالية الهوية في السودان تلك الفترة.

إذا كانت أفكار الترابي السياسية اقتصرت على شعارات عمومية من غير توضيح كيفية تنفيذها، فإن آراءه في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية كانت على الحال نفسها. في المجال الاقتصادي، وبناءً على مبدأ شمولية الإسلام عنده، تحدث الترابي عن أهمية العمل والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة في الإسلام مشيراً إلى ضرورة عدم التضحية بحريات الإنسان في سبيل تحقيق النهضة الاقتصادية، في إشارة إلى رفضه النموذجَ الاشتراكي. لكنه لم يقدم تصوراً واضحاً عن كيفية تطبيق هذه القيم الاقتصادية.

أما في المجال الاجتماعي، فهو يرى أنَّ الإسلام يقدِّم حلولاً لمعظم المشكلات لأنَّه لا يقتصرُ على تنظيم حياة الإنسان في الظاهر، بل يتعداه إلى تنظيم حياته من الداخل. لكنه، وبعد تقديم نقد طويل للقوانين الوضعية في كتابه "الإيمان وأثره في حياة الإنسان"، اكتفى بصفحة ونصف فقط تحدَّثَ فيها عن أنَّ هذا النقد يُظهر أهمية تطبيق الدين وضرورته. ومع ذلك، لم يقدّم تصوراً عملياً لكيفية تطبيق الدين لحل المشكلات الاجتماعية.


يحكي اللواء عبدالرحيم محمد حسين، أحد القيادات المنفذة لانقلاب 30 يونيو 1989، أنهم تحركوا بالدبابات لاحتلال الشوارع وتعاونوا مع مدنيين من الحركة الإسلامية ليدلوهم على منازل القادة الذين سيُعتقلون. ومع طلوع الشمس، اكتملت سيطرة الإسلاميين على الدولة باستخدام الجيش، وأعلن التلفزيون السوداني سيطرة ضباط بقيادة العميد عمر البشير على السلطة. 

بدأت حينها حملة اعتقالات واسعة شملت مختلف التيارات السياسية، وكان من بين المعتقلين حسن الترابي نفسه، في خطوة تبين لاحقاً أنها كانت جزءاً من خطة تمويهية ناجحة. حيث تبنى النظام المصري الانقلاب معتبراً أن الضباط الذين نفذوه كانوا على تواصل معه، ثم اتضح للجميع بعد شهور أن الانقلاب كان بتخطيط كامل من الحركة الإسلامية وتدبير من حسن الترابي حسب اعترافه شخصياً في "شهادته على العصر". 

مع أن المشروع السياسي الذي دعا إليه الترابي لم يكن مكتملاً فكرياً في تلك المرحلة، لكن يبدو أن التطورات السياسية والاجتماعية في السودان دفعته للتحرك. فالوضع السياسي كان مضطرباً، إذ كانت حكومة الصادق المهدي المنتخبة تعاني من الانقسامات الداخلية والضعف في مواجهة التحديات الاقتصادية والصراعات المستمرة في الجنوب. وفي أوج هذه الفوضى، رأى الترابي أن الفرصة سانحة لتنفيذ رؤيته لنظام حكم إسلامي في السودان. ومع أن الترابي كان قد قدّم أفكاراً عن الديمقراطية والشورى ضمن إطار إسلامي، إلا أن التحديات العملية على الأرض جعلته يعتقد أن الحل الأمثل هو التحرك العسكري السريع.

وقد استعان الترابي بالعميد عمر البشير، ضابط في الجيش السوداني، لتنفيذ انقلاب عسكري على حكومة المهدي للسيطرة على السلطة وإقامة نظام إسلامي. لم يكن التحالف بين الترابي والبشير مجرد صدفة، بل كان نتاج تخطيط طويل من الحركة الإسلامية التي كانت تبحث عن كيفية تحقيق نفوذها السياسي في السودان. كان الترابي يدرك جيداً أن استخدام القوة هو الوسيلة الأسرع لفرض النظام الإسلامي، خاصة مع ضعف النظام المدني وقوة المؤسسات العسكرية. فقرر الترابي أن يتجاوز المبادئ التي كان ينادي بها علناً، مثل الحرية والديمقراطية، ويستعين بالجيش أداةً لتحقيق أهدافه السياسية. وقد برر ذلك لاحقاً بما يُسمى "فقه الضرورات"، فرأى أن الضرورات تبيح المحظورات وأن هذه الإجراءات كانت ضرورية لبناء نظام إسلامي ديمقراطي. شكلت هذه الخطوة مرحلة التحول من العمل السياسي المدني إلى الاستيلاء على السلطة بالقوة.

هذا التحول ظهر لاحقاً في سياسات نظام البشير الذي بدأ حكمه بإجراءات استبدادية تتناقض مع النظريات التي كان الترابي يروج لها عن الشورى والديمقراطية. فقد بدأ الانقلابُ بتعطيل الدستور وحل المجلس النيابي والأحزاب السياسية ومجلس إدارة الدولة وحكومات الأقاليم، وصُودرت أموال الأحزاب وأُلغيت رخص الصحف وحُلت جميع الجمعيات غير الدينية.

في قراءتي لهذه التجربة، أسأل: هل اختلف حكم الإسلاميين في السودان عن الأنظمة العسكرية المستبدة السابقة؟ وهل أضافت الصبغةُ الدينية مزيداً من الاستبداد لهذا الحكم، الذي وصفه الصادق المهدي، بأنه "أسوأ حكم فاشستي مر على السودان". اعتمد النظامُ الجديد على القمع الأمني وفرض التجنيد الإجباري، وهو إجراء عارضه الترابي قبل وصوله إلى الحكم، ثم عارضه بعد خروجه من السلطة سنةَ 1999. في كتابه "السياسة والحكم" المنشور سنةَ 2002، يحذِّر الترابي من خطورة التجنيد الإجباري قائلاً: "كل تسخير للبشر حاملاً على عمل لا يرضونه إنما يضرب عليهم وجهًا من الاسترقاق". لم يكن التجنيد الإجباري مطبَّقاً في السودان، وكان مرفوضاً من المجتمع حتى ذلك الوقت. 

إن ملف جنوب السودان هو الملف الأخطر الذي فشلت فيه الحركة الإسلامية. لم تختلف إدارتها لمطالب الجنوبيين عن أسلافها، إذ انتهى الأمر بانفصال الجنوب فعلياً بعدَ الحرب. ومع التنظير السياسي الذي قدَّمه الترابي عن أهمية احترام غير المسلمين وحماية حرياتهم وتأكيده أن السودان المتعدد الأديان والأعراق يحتاج إلى حكم غير مركزي يمنح الجنوب حرية حكم ذاته، إلا أنَّ الحركة الإسلامية تراجعت عن كل تلك المبادئ وأعلنت حرباً دينية ودعت إلى الجهاد ضد الجنوبيين. 

استمرَّ نظامُ الحكم على هذا النهج متفاقماً في استبداده، وأصبح الفساد المالي سمةً عامَّةً للنظام. أشار إلى ذلك الترابي نفسه في شهادته على العصر. من أمثلة الفساد مشروع الجزيرة، أحد أكبر المشاريع الزراعية في المنطقة، والذي سيطر عليه النظام بزعم أن أصحابه "تربية شيوعية"، ولكنه تعطل لاحقاً وانتهى بالانهيار. 

هذا مثال واحد للأخطاء التي وقع فيها نظام البشير، والتي تضاعفت بعد خروج الترابي من الحكم بسبب خلافاته مع البشير، واتهام الترابي البشيرَ بسرقة الثورة والاستئثار بالسلطة. ثم دخل الترابي السجن وحُلت الجبهة الإسلامية وعاد إلى صفوف المعارضة، لكن ذلك حدث في وقت متأخر بعد استقرار النظام المستبد. ومع أن الفترة التي شارك فيها الترابي شهدت بعض الإنجازات، مثل تمكين المرأة السودانية ومنحها حقوقاً كان الترابي قد وعد بها، إلا أنني أرى أن تلك الجهود ظلت هامشية بسبب تفشي الاستبداد.


لم يعتزل الترابي الفكرَ بعد خروجه من السياسة، بل استمرَّ في تقديم مراجعات فكرية لتجربته. ولكن كما يشير عبدالله غلاب في كتابه عن الترابي، فقد اتَّسمَ خطابه في تلك المرحلة بقدر من المراوغة السياسية والتهرَّب من النقد التفصيلي لتجربته. على سبيل المثال، في محاضرة ألقاها سنةَ 2012 بعنوان "تجربتي الإسلامية بين الفكر والسياسة.. مصارحة"، تحدث الترابي أكثرَ من ثلاثة أرباع المحاضرة عن مسيرته الحياتية وبعض الأفكار العامة، وخصَّصَ أقلَّ من ربع ساعة للحديث عن أخطائه السياسية.

وفي لقاءاته المطولة مع أحمد منصور تهرب من الإجابة عن كثيرٍ من الأسئلة عن أخطاء الحركة الإسلامية في الحكم. ومع ذلك، فإن هذه المراجعات توفّر مادةً مهمّة لفهم كيفية مراجعة الترابي أخطاءَه. فقد رفض تحمَّل المسؤولية وحده وأوضح أن قرارات الحركة كانت تُتخذ بالشورى، وبالتالي فإن الحركة بأكملها تتحمل الأخطاء وهو جزء منها فقط. أشار إلى أن الخطأ الرئيس كان عدم قراءة التاريخ، إذ قال مراراً: "خطؤنا الأكبر أننا لم نقرأ التاريخ ووثقنا بالعسكر". وعندما حاول تبرير الانقلاب ذكر أنَّ التجربة السودانية كانت أوَّلَ تجربةٍ إسلامية حديثة، ولم يكن لديهم تجارب سابقة للاعتماد عليها. لكنه أشار لاحقاً إلى أنَّه كان يجب الاستفادة من تجربة الإخوان المسلمين مع جمال عبد الناصر.

أما الخطأ الثاني الذي أقرَّ به الترابي فهو إطلاق يد أجهزة الأمن واستخدامها لقمع المعارضة، مما كرر منظومة القمع السياسي التي عانى منها الإسلاميون من قبل، وأوضح أنه كان من الأفضل التعامل مع المعارضة بطرق أخرى غير القمع الأمني. والخطأ الثالث الذي اعترف به كان الفساد المالي الذي ضرب الحركة بعد وصولها الحكمَ موضِّحاً أنَّ الحركة لم تتوقَّع أن السلطة والمال قد يفسدان حتى الذين تربوا عقوداً في بيئة دينية.

لم يُكثر الترابي من لوم الحركة الإسلامية، بل عدَّها تجربة أولى من نوعها في السياق السني متجنباً المقارنة بالتجربة الإيرانية على اختلاف المذهب. ممّا يعكس توجهه إلى الاعتماد على نماذج الحكم الحديثة التي تأسست في إطار الدولة القومية، متجاهلاً التجارب الإسلامية المعاصرة. وهو، فضلاً عن ذلك، لم يرجع بما يكفي إلى التراث السياسي الإسلامي الأقدم الذي سبق حقبة الاستعمار، مما جعله يعتمد على حلول وتفسيرات مستمدة أساساً من الأنظمة القومية الحديثة. فلم يستفد من التجارب الإسلامية القديمة والحديثة ولا من التجارب الغربية.

تظهر الأخطاء التي اعترف بها الترابي غياب مشروع سياسي متكامل ذلك الوقت. وعلى كثرة تنظيراته، لم يقدم تصوراً تفصيلياً لكيفية تحقيق الديمقراطية وضمان الحقوق والحريات في إطار نظام إسلامي. قد يكون سبب ذلك تسرعاً في تطبيق مشروع لم تكتمل معالمه بعد، ما أسهم في فشل التجربة. أو ربما لم يكن للترابي تصور واضح ومحدد لما يمكن أن تكون عليه الدولة الإسلامية في الواقع، باستثناء بعض الأفكار العامة عن حقوق المرأة والأقليات، والتي أخفق في تطبيقها أيضاً.

ظل الترابي صادقاً مع نفسه وتحمّل تبعات أخطائه بالسجن والتضييق، وإن لم يكن بالاعتراف الكامل والصريح بأخطائه الشخصية ودوره في نظام عرف بسياساته الاستبدادية والقمعية. لكن تجربته، مع عيوبها، تظل تجربة ثرية تستحق الدراسة بعمق، لا سيما أنها تميزت بتولي السلطة الحقيقية لفترة معقولة، وهو ما لم يُتح لمعظم منظري الحركات الإسلامية. 

اشترك في نشرتنا البريدية