الرباط.. هندسة السلطة وتمثلات الحكم في مشاريع كأس العالم

كانت الرباط منذ أن أصبحت عاصمةً للمغرب رهاناً سياسياً، وسَعت السلطة الحاكمة إلى التحكّم بها عبر العمران.

Share
الرباط.. هندسة السلطة وتمثلات الحكم في مشاريع كأس العالم
خطط السلطات المغربية لمدينة الرباط تلغي حق أهلها فيها | خدمة غيتي للصور

عندما تدخل مدينة الرباط تشعر أنّك تدخل مدينة تتهيّأ كل صباح لالتقاط صورة رسمية. الطرقات فيها نظيفة والأرصفة لامعة والحدائق مصفّفة وكل شيء في مكانه. كل شيء في المدينةِ مثاليّ. عناصر الأمن يقفون بثبات في كل دوّار، كما لو أنهم حراس لهيبةٍ صامتةٍ لا يُسمح لأحد باختراقها. وخلفَ هذا كله تختفي الهوية التي بُنيِتْ المدينة من أجلها. فهي لم تبنَ حيّزاً عمرانياً فقط، إنّما رمزاً سياسياً ومعمارياً يجسِّد هيبة النظام الحاكم وسلطته. تجليات ذلك متعددة عبر التاريخ.

تقدِّم الرباط نفسها نموذجاً للتحديث والعصرنة، لاسيما مع الاستعدادات لتنظيم كأس العالم 2030 لكرة القدم، والاشتغال على قدمٍ وساقٍ في مشروع "رباط الأنوار: عاصمة المغرب الثقافية". وهو مشروع أعلن انطلاقته العاهل المغربي محمد السادس على مرحلتين، من 2014 إلى 2018، ومن 2018 إلى 2020. يهدف المشروع للارتقاء بالمدينة إلى مصاف الحواضر العالمية الكبرى بتحديثٍ شاملٍ لبنيتها التحتية. لكن وراء هذا البريق تختفي مأساةٌ إنسانيةٌ قوامها ترحيل عدد كبيرٍ من سكّان المدينة قسرياً، وهدم الأحياء الشعبية. إضافةً إلى تكريس إقصاءٍ اجتماعيٍّ ممنهج يريد جعلَ المدينة لطبقات المرفهين والسيّاح، أي أن تكون مدينةً مثاليةً لا مكانَ للفقر فيها.

يرى عالم الاجتماع والمخطط الحضري الفرنسي هنري لوفيفر في كتابه "لو دروا أ لا فيل" (الحق في المدينة)، الصادر بالفرنسية سنة 1968، أن المدينة يُفترض أن تكون نتاجاً جماعياً لا سلعة معروضة لمن يملك القدرة على الشراء. فهي بحسب لوفيفر "نتاج عمل أشخاص وجماعات محدّدة تحقق هذا العمل ضمن شروطٍ تاريخية". وعليه يصبح ترحيل سكّان الرباط وتهميش أحيائها إنكاراً لهذا الحق، ويفكك الروابط التي تربط أبناء المدينة بفضائهم اليومي. وهو نفس الطرح الذي يزكيه أستاذ علم الإناسة والجغرافي البريطاني ديفيد هارفي في كتابه "مدن متمردة، من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر" الصادر سنة 2017.

تحوّلتْ الرباط، وتحوّل عمرانها، منذ أن جعلها الفرنسيون مركزاً إدارياً عند فرضهم الحماية على المغرب سنة 1912. تحوّلَتْ مع المدينة السلطة. تغيّرتْ رؤيتها إياها، من فضاءٍ لتحقيق رؤيةٍ استعماريةٍ أوروبيةٍ إلى فضاءٍ أمنيٍّ وجبَ فيه القضاء على كل ثورةٍ أو احتجاج في عهد الملك الراحل الحسن الثاني منذ الستينيات. مع بداية الألفية الثالثة، وفي عهد الملك محمد السادس، أضحت المشاريع الحضرية الكبرى أدوات لإعادة تنظيم الفضاءات وفق منطق السوق، أكثر من كونها استجابة لحاجات السكان.


اتخذ الجنرال هوبير ليوتي، المقيم العام الفرنسي في المغرب، الرباط عاصمةً سياسيةً وإداريةً للحماية الفرنسية سنة 1912. فأثّر هذا القرار في تخطيط مدينةٍ جديدةٍ إلى جانب المدينة العتيقة، وما رافق ذلك من تهيئةٍ عمرانيةٍ تنسجم مع دورها الدبلوماسي والعسكري والإداري والسياسي. في كتابه "مدينة الرباط التعمير العصري تحت نظام الحماية الفرنسية بالمغرب" المنشور سنة 2022، يرى الباحث في جامعة محمد الخامس خاليد يعيش أنّ ليوتي اختار الرباطَ عاصمةً لأنّ الحياةَ فيها أسهلَ وأكثر ملاءمةٍ له. ولأنّه لم يحب جفاف صيف فاس، العاصمة القديمة للمغرب في عهد الأدارسة، إذ كان الجنرال يراه "يعرقل استقدام حاجيات الإدارة من الموظفين واستقرار عائلاتهم".

وهكذا وجّه ليوتي تصاميم مدينة الرباط منذ 1914 لاستقبال مختلف الإدارات المركزية التي ستقام بالمدينة، وتوفير المناخ العام لإقامة الموظفين والعاملين في الإدارة الاستعمارية الفرنسية. خصّ المخططون الأوائل إمكانياتٍ مهمةً للمدينة الجديدة عبر الزيادة في الضرائب والرسوم على البلديات، والزيادة في الضرائب الحضرية، مثل ضريبة الذبح وحق الطرق وحقوق الأرضية والأسواق وعائدات المستودعات البلدية.

بدأت المدينة تتحوّل تدريجياً إلى ما يشبه المدينة الأوروبية بطرقها المعبدة وحدائقها وشوارعها الفسيحة الممتدة. وينقل خاليد يعيش أنّ الرباط أصبحت مدينة الموظفين. فقد "ضمت اثني عشر ألف موظف في زمن الجنرال [ليوتي]، بعد بناء الحي الإداري المركزي الكبير الذي لم يتواجد مثله في مدن المغرب، ضمّ جميع مراكز تسيير الإدارة بالبلاد. وقد تطور هذا الحي حول الإقامة العامة وقصر السلطان، حيث انتظمت مختلف الإدارات على طول شارع تواركة المنطلق من شارع دار المخزن عند مسجد السنة حتى الإقامة العامة، ضم جميع الوزارات".

اهتمت سلطات الحماية الفرنسية بالمدينة واعتنت بنسيجها المعماري العتيق. فصُنِّفتْ معالمها التاريخية، وحَمتها السلطات الاستعمارية ومَنعت البناء في بعض مناطقها، وعملتْ أيضاً على ترميمها. لكن المدينة العتيقة فُرّغت من سكّانها بعدما بدأت الأحياء السكنية الحديثة تنشأ خارجَ أسوارها وتنتقل أغلب الخدمات إليها. فقد غادر المغاربة الميسورون مدينتهم العتيقة لتستقطبهم هذه الأحياء الحديثة ويعيشون فيها، مقلِّدين أسلوب العيش الأوروبي. فتراجع دور المدينة العتيقة، وبقيتْ فضاءً ثقافياً سياحياً مفرغاً من أي قدرةٍ لسكّانِها على المشاركة في تحديدِ مصير مدينتهم.

استقلّتْ المغرب سنة 1956، وصعدَ الحسن الثاني إلى كرسي المُلك بعد وفاة والده محمد الخامس في 26 فبراير 1961. شكّلت الرباط إثرَ ذلك أكثر من مجرد عاصمةٍ إداريةٍ للمملكة المغربية. فقد أصبحت مرآةً تعكس فلسفة السلطة المركزية، وتجسيداً عمرانياً ورمزياً لمنطق الحكم الذي ارتكز على الضبط والهرميّة وشخصنة الدولة في الملك. إذ كان الحسن الثاني يرى في نفسه تجسيد الأمة واحتكار رمزيتها العليا، فهو حامي حمى الملة والدين.

يمكن القول إنّ الحسن الثاني ورث نموذج العاصمة الذي أسَّسه الاستعمار الفرنسي. فقد بنى الفرنسيون المدينةَ وفق منطق تنظيمٍ حضريٍّ متمركز حول السلطة. ويبيِّن الأستاذان بجامعة شُعيب الدُّكالي، فهد صبرو وحسن مزين، في مقالهما المنشور ضمنَ كتاب "تدبير المجالات الحضرية بالمغرب في سياق متغير" الصادر سنة 2020، كيف طبعت السياسة الوطنية مع الاستقلال "هاجس التحكم في الوضع الموروث عن الاستعمار وترسيخ النظام السياسي. ولم تشكل السياسة الحضرية استثناء، إذ سرعان ما كثفت الدولة من تدخلاتها من أجل إحكام مراقبتها للحياة الحضرية". فلم يكتفِ الحسن الثاني بإدامة النموذج الاستعماري، لكنّه أعاد تشكيله وتعميقه ليخدم مشروعه السياسي الخاص. اعتبر الملك نفسه ورث عرشاً لا يحق له التلاعب بأسسه لأنه امتدادٌ لكيانٍ سلطانيٍّ عريقٍ، وهو يجدده دون المساس بروحه.

كان هاجس الملك أمنياً في الستينيات والسبعينيات. فلم يكن لأجهزة الدولة أي تصوّرٍ للمدينة خارجَ هذا الهاجس الذي أثّر على سياساتها. وهذا ما يذكره عبدالرحمان رشيق، أستاذ علم الاجتماع الحضري بكلّية الحكامة والاقتصاد في الرباط، في مقالٍ بعنوان "السياسة العمرانية والعلاقات الاجتماعية بالمغرب" نُشِر سنة 2016. فقد تمركزت في الرباط المؤسسات السيادية الكبرى، مثل البرلمان والوزارات والمحاكم العليا وقصر الحكم، ما حوّلها إلى فضاءٍ رمزيٍّ للقرار والسيادة.

أرادت السلطات المغربية بثّ رسالةٍ مفادها أنّ الرباط ليست فقط مركز الإدارة، لكنّها مركز الشرعية والهيمنة الرمزية. تُصاغ فيها القرارات، وتُضفى عليها هالةٌ من القداسة المؤسساتية. فيقول رشيق: "أعربت السلطة من خلال أفعالها عن كراهيتها للحشد وللتجمعات وجميع فضاءات التواصل الاجتماعي اليومي، محاولةً بذلك تجنّب المخاطر المحتملة والسخط الجماعي قبل بنائه. فقد ساعد الهاجس الأمني على انكماش المجالات العامة: إغلاق المساجد بعد الصلاة [. . .] منع التجمعات في الأحياء، خصوصاً في المساء". هذا يحيلنا على ما أورده ديفيد هارفي في كتابه "مدن متمردة" بقوله: "تسعى القوى السياسية عادة لإعادة تنظيم البنية الأساسية في الحضر وحياة الحضر آخذة في الاعتبار القدرة على السيطرة على الجماهير المتمردة".


عرفت مدينة الرباط في الستينيات والسبعينيات احتجاجاتٍ شعبيةً أثَّرت على تهيئة مجال المدينة وتدبيره. شهدت الفترة الفاصلة بين 1961 و1973 مصادرةَ مقرات الصحف واعتقالاتٍ ومحاكماتٍ لم تتوقف، نتيجة احتجاجات التنظيمات السياسية والنقابية وما تخلّلها من إضراباتٍ وانتفاضاتِ السكان. عُطِّلت الحياة السياسية بإعلان "حالة الاستثناء" وحلّ البرلمان في 7 يونيو سنة 1965، بعد أحداثِ عنفٍ طالت الاحتجاجات الطلّابية في 23 مارس 1965.

زادَ من هذه الحدّة حدوث محاولتَيْ انقلاب عسكريتَيْن في 10 يوليو 1971 و16 أغسطس 1972، كانت الرباط ونواحيها مسرحاً لهما. فحُظِر النشاط القانوني للاتحاد الوطني لطلبة المغرب في 24 يناير 1973، بعد أن كانت جامعة محمد الخامس وجامعات أخرى مسرحاً لمواجهاتٍ طاحنة بين الأمن والطلبة خاصة المنتمين للتنظيمات اليسارية. ناهيك عن الهجوم الأمني الشامل والرقابة على أنشطة المعارضة. فشهدت الرباط لحظات صعبة جداً، زادها حدة الأحداث التي عرفتها مدينة الدار البيضاء مع احتجاجات 20 يونيو 1981، أو ما سُمّي "باحتجاجات شهداء الكوميرا".

انتشرتْ هذه الاحتجاجات بعد الإضراب الذي دَعت إليه نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بالمغرب، رداً على زيادة في أسعار المواد الغذائية الأساسية بضغطٍ من المؤسسات المالية الدولية. أضرب المغربيون في المدن المغربية، لاسيما في الدار البيضاء. حاولت قوّات الأمن تشتيت الإضراب وإفشاله، فاندلعت الاحتجاجات التي خلّفت ضحايا وأدت إلى إعادة تفكير الدولة في نموذج التدبير الحضري للمدن. إذ أصبح التعمير أداةَ ضبطٍ اجتماعيٍّ وتَحَكُّمٍ سياسيّ. فكان أن استحدثتْ الدولة المغربية ما يُسمّى "الوكالات الحضرية" بالمدن الرئيسية، وهي مؤسسات تابعة لوزارة الداخلية تختص في التخطيط الحضري وتنظيم المجال العمراني.

أصبحت الرباط في الثمانينيات، بعد هذه الأحداث، رهاناً سياسياً. فعلى عكس مدن كبرى، مثل فاس والدار البيضاء ومراكش والحْسِيمة والنّاظور، لم تعرف المدينة أي انفجاراتٍ اجتماعية أو احتجاجاتٍ ذات طابعٍ جماهيري. طرح الأستاذ حميد بوكرين، الباحث في جامعة ابن طفيل، في مقاله "التخطيط الحضري بالمغرب" المنشور سنة 2023 في مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل، بعضاً من خصائص هذه الفترة.

يقول بوكرين إنّ التمردات الاجتماعية سنة 1981 رسمتْ توجهات السلطة في التحكم بالمدينة وعمرانها. فقد هيأت إثرها أدوات تخطيطٍ عمرانيٍّ تتضمن مراقبةٍ أفضل للسكان، منها إحكام وزارة الداخلية قبضتها على قطاع التعمير. ولذلك يُعزى غياب الرباط عن هذه الأحداث الاجتماعية والسياسية إلى ضبطٍ أمنيٍّ صارمٍ ورمزيٍّ محسوب. فقد أرادها الحسن الثاني نموذجاً للعاصمة المطيعة والمنضبطة التي تمثّل رمزية الخضوع للسلطة المركزية. يتماشى هذا مع ما أورده رشيق، في كتابه "المجتمع ضد الدولة الحركات الاجتماعية وإستراتيجية الشارع بالمغرب" المنشور سنة 2021. يقول رشيق إنّ السلطة عملت على "تحييد الفضاءات العامة، وبالتالي تشجيع تحصّن الأسر داخل مساكنها وربط الشارع بكل ما هو لا أخلاقي".

بدأت السلطة بعد أحداث 1981 تعيد تدبير المجتمع الحضري سياسياً. كفّت عن استعمال العنف الجسدي، مثل الاعتقال والتصفية الجسدية والسجن، وسائلَ وحيدة للقمع. وأعدّت توجهاتٍ حضريةً عصريةً جديدةً، فيما يخصّ المدينة الرباطية. يحكي لي مسؤولٌ سابقٌ في وزارة المالية من سكّان المدينة، طلب عدم ذكر اسمه، أنّ السلطات بدأت بعزل الرباط عن ضواحيها. وذلك بما يُسمّى "مشروع الحزام الأخضر"، الذي أنشأه الحسن الثاني سنة 1984. يقول الرجل بشأن هذا المشروع: "لم يكن الغرض الأساس منه بيئي، بقدر ما كان عزل الرباط عن الهامش، ومنع زحف القرى المجاورة التي كانت تهدد شخصية وشكل العاصمة، مع تزايد الهجرة القروية نحوها. إذ استوحى الملك الراحل [يقصد الحسن الثاني] الفكرة من إحدى دول أمريكا اللاتينية لمنع الأحياء الهامشية عبر هذا 'السور البيئي الواقي'، من الاختلاط بالأحياء التي تقطنها الطبقة الوسطى والراقية".

في نفس الفترة، ظهر ما يمكن تسميته سياسة عمرانية جديدة قائمة على الضبط والتحكّم. فقد قررت الدولة آنذاك محاربة ما أسمته "الفوضى الحضرية"، عبر سلسلةٍ من الإجراءات المرتبطة بالرقابة الاجتماعية والسياسية والتخطيط الحضري. وهذا ما كتبته سناء الجيم، أستاذة الجغرافيا في مركز جاك بيرك، في مقالها "حدود التخطيط كأداة للعمل العمومي في صناعة المدينة" بالفرنسية في مجلة العلوم الاجتماعية المغربية سنة 2019، عن هذه الإجراءات. تقول سناء إنّ السلطات قررت إحداث الوكالات الحضرية بالمدن الكبرى، مثل هيئةٍ لضبط ملفات التعمير والإسكان، وتدبيرها خاضعة لوصاية وزارة الداخلية. كانت البداية بإنشاء الوكالة الحضرية للدار البيضاء في 9 أكتوبر 1984.

أنشأت السلطات وزارة خاصة بالسكن بتاريخ 11 أبريل 1985، بعد أن كانت في السابق ضمن وزارة التعمير والسكن والسياحة والبيئة. في حين ألحقتْ قطاعَي التخطيط العمراني والتعمير من جديد بوزارة الداخلية التي عمدت إلى إحداث مديريةٍ للتعمير وإعداد التراب الوطني والبيئة، لتعمل على تهيئة المجالات والمساحات وتخطيطها لإقامة المشاريع العمرانية. تحولت هذه فيما بعد إلى مديريةٍ عامةٍ للتعمير والهندسة المعمارية، بهدف تحديد سياسة التعمير والتخطيط العمراني. واستحدثت الدولة المغربية الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق بتاريخ 10 يناير 1984،عملاً بتوصيات المخطَّط الخماسي للفترة من 1981 إلى 1985. وقد دمجت مع الشركة الوطنية للتجهيز والبناء وشركة التشارك للتهيئة والبناء والإنعاش العقاري في "مؤسسة العمران" عند إنشائها سنة 2007.

يمكن أن يفسّر هذا كيف أصبح هناك توازنٌ مضبوطٌ بين التقليد والحداثة، إذ إنّ العمران في الرباط اختير بعنايةٍ ليكون تجسيداً مادياً لخطاب السلطة. فالمباني الحكومية صُمّمت لتكون فخمةً بلا إسراف، في إعادة تشكيلٍ لهوية المغرب العمرانية التقليدية. تعكس هذه المباني فكرة الدولة القوية لا الدولة الثرية. فقد حافظت السياسات العمرانية على المدينة العتيقة وأبوابها التاريخية، لتكونَ رمزاً لاستمرارية الدولة المغربية. فتهيئة ساحة "المِشْوَر" أمام القصر الملكي لتكون ساحةً رمزيةً للولاء تؤكد هذا التوظيف السياسي للمجال. تحتضن الساحة كل سنة ما يُسمّى "حفل الولاء"، وهو تقليدٌ سنويّ في المغرب يجدد فيه المغاربة الولاء والبيعة للملك. يتميز الحفل بمشاركةٍ واسعةٍ من مختلف الفئات والجهات، بما في ذلك الوزراء والولاة والعمال ورؤساء الجهات والمُنتخَبون وشخصيات أجنبية من دبلوماسيين وأصدقاء الملك، ما يبرز العلاقة بين الحاكم والمحكوم عبر النصوص والفضاءات العامة.

ومع وجود مجالس منتخبة وتعدد حزبي ظاهري، إلا أن أدوات الحكم الفعلية خارج هذه الهياكل. فالعرف والأمر الواقع يبرزان أن من يدير الرباط هو الوالي (المحافظ) ذو الصلاحيات الواسعة والتابع لوزارة الداخلية. ما يجعل دور المجالس المنتخبة هامشياً، وتستبعد من صنع قرارات المدينة. وهو ما فصّل فيه بوكرين في مقاله: "صحيح أن لهذا القطاع [التعمير] وزارة خاصة به، غير أن سلطاتها محدودة بالمقارنة مع وزارة الداخلية التي تقرر في كل ما له صلة بالمدينة. والأكثر من ذلك هو أن هذه القرارات ذات طبيعة سياسية وليست مبنية على أسس تعميرية صرفة". ويفسَّر هذا النموذج بالإطار الفكري الذي تبناه الحسن الثاني. فلم تكن المؤسسات المنتخبة مصدراً للشرعية، بقدر ما كانت البيعة والتقاليد المخزنية هي الركائز الأساسية لاستمرارية الحكم.


انتهت فترة حكم الحسن الثاني مع وفاته نهاية القرن العشرين، وبدأت بعدها مرحلة جديدة مع تنصيب محمد السادس ملكاً. عرفَ العهد الجديد موجةً من المشاريع الكبرى أعادت تشكيل بنية الرباط ومظهرها العام، تحت شعارات "التأهيل الحضري" و"التنمية المستدامة" و"تثمين الرأسمال الرمزي". خاصةً بعد إدراج الرباط سنة 2012 ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، نظراً لموروث المدينة الثقافي والعمراني. غير أن هذه المشاريع في كثيرٍ من تجلياتها لم تخلُ من عمليات إقصاءٍ اجتماعيٍّ وإعادة ترتيبٍ طبقيٍّ للفضاء العمراني. فاستُخدمت أداةً لإعادة صياغة المشهد الاجتماعي والرمزي للعاصمة.

بدأت مشاريع التحديث سنة 2001. وقد صرّح الملك محمد السادس في خطابٍ له يوم 12 ديسمبر 2006، مؤكداً ضمان توفير ظروف سكنٍ كريمةٍ بما يراعي الطابع الاجتماعي للساكنة. قال العاهل المغربي: "غايتنا المثلى، ليس فقط تحقيق مدنٍ بلا صفيح، ولا استبدالها بمساكن أشبه بعلب الإسمنت عديمة الروح الاجتماعية، وإنما بالأحرى جعل مدننا ترتقي إلى فضاءٍ للتساكن والعيش الكريم، ومجال للاستثمار والإنتاج، في حفاظ على طابعها الحضاري المتميز". غير أنّ المناطق الجديدة افتقرت إلى الحد الأدنى من التجهيزات. فلم توجد بها مدارس كافية ولا مراكز صحية ولا وسائل نقلٍ عامةٍ فعّالة، كما حدث مع مدينة تامسنا التي حُدِّثتْ سنة 2007. إذ لم يكن الهدف معالجة الفقر أو تحسين شروط العيش، لكن إزاحته من المركز وعين السلطة والصورة الرسمية للمدينة. وقد مثّل هذا الترحيل سياسةً حضريةً ناعمةً تجعل من غياب الفقر بصرياً غاية.

رُحِّل إثر هذه المشاريع عددٌ كبير من الأسر القاطنة في أحياءٍ هامشيةٍ، أو ما سمّتهم السلطات المغربية "الساكنة غير المهيكلة"، نحو أطراف مدينتَي سَلا (التي تبعد عن الرباط ثمانية كيلومترات) وتمارة (التي تبعد اثني عشر كيلومتراً). أدى هذا إلى انخفاض عدد سكّان الرباط من ما يقارب 620 ألفَ نسمة سنة 2004 إلى ما يقارب نصف مليون نسمة سنة 2024، حسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط. ويجسّد مشروع تهيئة ضفتَي وادي أبي رقراق، المنطلق سنة 2006، نموذجاً بارزاً لهذا التوجه. فحسب الورقة التقديمية الرسمية له، يمثل المشروع تنمية حضرية جديدة، إذ يمتد على مساحة 6000 هكتار (الهكتار يساوي ألف متر مربع)، على طول نهر أبي رقراق بين العاصمة الرباط ومدينة سلا. ويُعدّ أكبر مشروع إعادة تطوير حضري في تاريخ المغرب، وجزءاً من رؤيةٍ أوسع يقودها النظام الملكي لتحويل الرباط إلى "مدينة الأنوار" و"العاصمة الثقافية للمغرب".

بينما رُوِّجَ للمشروع رافعةً ثقافية وسياحية عبر إنشاء مرافق، منها المسرح الكبير ومارينا سلا على ضفة نهر أبي رقراق، جرت في خلفيته عمليات هدمٍ وترحيلٍ لأحياءٍ عريقةٍ بلا توفير بدائل سكنيةٍ لائقةٍ أو تعويضاتٍ عادلةٍ للسكان. المفارقة تجسّدت في بناء "المسرح الكبير" رمز الحداثة الثقافية فوق أنقاض بيوتٍ هشّة طُرد سكانها قسراً. وقد انتقد عبدالله حمودي، الباحث في علم الإناسة في جامعة برنستون وأحد قاطني المدينة، في كتابه "الرهان الثقافي وهم القطيعة" المنشور سنة 2011 الطريقة التي تعاملتْ بها السلطات مع السكان للعمل على المشاريع. اعتبر حمودي أن كل هذا "تم في إطار الهيمنة والاستلاب مع برنامجٍ لعزل الأهالي والاستجابة بشكلٍ غير ملائم لمطالب واحتياجات الساكنة، خصوصاً الأفواج التي حملتها موجات الهجرة القروية".

صحيح أن هناك أحياء لم تُهدَم، إلا أنها عرفت شكلاً آخر من الإقصاء يمكن تسميته "التهميش غير المعلن". من جهة، لم تستفد هذه الأحياء من برامج التأهيل الحضري بشكلٍ متكافئٍ مع مناطق أخرى. ومن جهة ثانية، طُوِّقَتْ بمشاريع ضخمة تتحكم الدولة في شكلها ومضمونها. ما أدى لنوع من التهميش غير المعلن عبر عملية تهذيبٍ عمرانيٍّ أو خلق فضاءاتٍ لا تنتمي لها الطبقات الفقيرة، مثل مراكز التسوق الضخمة والمشاريع السكنية الموجهة للطبقة الراقية. وحتى الفضاءات التي قد تبدو من شكلها موجهة لعامة النّاس، لن تتاح إلا لفئةٍ قليلةٍ من الأغنياء، كما هو الأمر بالإعلان على تشييد ملعب للهوكي على الجليد على أنقاض سوق خضار وسط حي "يعقوب المنصور" الشعبي سنة 2024، ومن المرتقب افتتاحه أواخر سنة 2025. يُحدث هذا الأمر هوةً مجاليةً رمزيةً، ويرسّخ شعور سكان هذه الأحياء أنهم يعيشون في جزيرةٍ منسيةٍ داخل عاصمةٍ تتجه نحو واجهاتٍ براقةٍ وفاخرة.

لا يخلو التركيز على بناء المراكز التجارية الضخمة وتشييدها من رسائل طغيان الهاجس الأمني وعملية الضبط على طبيعة المشاريع وشكلها. يقول ستيفان تونيلا، الباحث بالمركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا، في مقال "سوسيولوجيا الفضاءات الحضرية العامة" الذي نُشِرت ترجمته في مجلة إضافات سنة 2019، إنّ هذا التحكم في شكل البناء الجديد يمنع أي نزعةٍ للتمرد. وذلك "من خلال التركيز والاهتمام ببناء وتشييد مراكز التسوق الكبرى كأمكنة عامة جديدة، نظراً إلـى كـون تكنولوجيات المراقبة في المراكز التجارية ترصد السكان، وتضطرهم إلى التصرّف بطريقةٍ توجّه جميعهم نحو النزعة الاستهلاكية". فإذا كانت الرباط مدينةً تجذب الاستثمار والعيش وتنظيم التظاهرات الثقافية، فإنّها – كما يصفها عبدالإله باحمو، الأستاذ في جامعة ابن طفيْل، في مقالةٍ في مجلة جيل سنة 2024 – خط المواجهة. إذ تنشئ الدولة باستمرار "أساليب حكومية جديدة لإنتاج وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي والسياسي".

على المنوال، وُسّعتْ شوارع بعض الأحياء وبُلِّطتْ أرصفتها وزُرعت فيها الأشجار، لكنّ البنية التحتية الاجتماعية لم تُمَس. إذ لاتزال المؤسسات التعليمية تعاني من الاكتظاظ، والمرافق الصحية تفتقر إلى الحد الأدنى من الجودة، ويواجه عددٌ من المراكز الصحية بالرباط وسلا وتمارة ضعفَ البنية التحتية وقلّة الأدوية ومشاكل النظافة والصيانة وسوء تدبير الموارد البشرية. وقد قدّم نشطاء في فبراير 2025 عريضةً لرئيسة مجلس الرباط، لتدارك الأمر بضرورة إنشاء مرافق صحية في مختلف الفضاءات العامة بالعاصمة بعد تغييبها، رغم التحولات الهيكلية التي طالت البنية التحتية. هنا تبدو الرسالة واضحة، الأهم هو الصورة لا الواقع، والواجهة لا المضمون. ولهذا يقول عبد الإله باحمو إن "الأحياء "العشوائية أكثر من مجرد مكانٍ للإيواء، بل مجتمعاتٍ قوية تدعم سبل عيشها بإبداع استراتيجياتٍ خاصةٍ لإثبات وجودها في المكان الذي ترغب الاستقرار فيه، سواء كانت هذه الاستراتيجيات ظاهرة أو كامنة".

يندرج هذا في منطق استخدام مشاريع التنمية الحضرية الكبرى، وأحياناً حتى تظاهرات دولية مثل كأس العالم، ذريعةً لإعادة تشكيل المدينة عمرانياً واجتماعياً. تعمل السلطات المغربية على ذلك عبر تفكيك الأحياء الشعبية وترحيل الساكنة الهشة وبناء نموذج لمدينة "عصرية راقية"، ولكن مقطوعة عن جذورها الاجتماعية وشبه خالية من الفقراء. وهذا ما حدث بترحيل سكان حي "السَّانْيَة الغربية" بمنطقة "المحيط" في شهرَي أبريل ومايو 2025، لتشييد مشروع للسكن الراقي وفندق للمستثمرين. وقد أرغمت السلطات المغربية السكانَ على بيع ممتلكاتها بتهديدٍ من رجال السلطة التابعين لوزارة الداخلية.

أما مشروع التهيئة الجديدة لمدينة الرباط، فارتكزت خطوطه العريضة على تغيير أسلوب التعمير في الكثير من أحياء المدينة. سيُسمح بإنشاء عماراتٍ عاليةٍ خاصةٍ على طول المحيط الأطلسي، وهو ما لم يكن مسموحاً به قبل مخطط التهيئة الجديد، ما يفرض هدم مناطق سكنيةٍ واسعةٍ داخل الأحياء الشعبية لتحويلها إلى مراكز تجارية وإقامات سكنيّة عالية الجودة. وطرح عبد الله حمودي بنوع من الاستنكار قائلاً إنّه "لا يمكن التنكر لمستلزمات العصر، إذ من الضروري تسهيل حركة السير وإنعاش السياحة، وتقوية النسيج التجاري والصناعي. ولكن هل كان من تسليم هذه المواقع الخلابة المحيطة بقَصْبَة الوُدَايَةِ [حي سكني تاريخي بالرباط]، نتاج سلالات وأجيال من الحضريين لحركة سير مسعورة لا تقف ولا تتوقف؟". ذلك أنّ رمزية قصبة الوداية تقتضي وضع صيانتها والحفاظ على محيطها الأصيل وأهميتها التاريخية أولوية قصوى، ولا يجب تحديث البنية التحتية للطرق على حساب أصالة المكان وعراقته.

تشمل تساؤلات حمودي مشاريع عقارية أخرى شُيّدتْ دون مراعاة المكان، مثل أسوار مدينة سلا التاريخية وأبوابها. إذ شيّد مشروع للسكن الراقي وميناء للقوارب الفاخرة في مارس 2008، ولم تراعَ الحمولة التاريخية للحي. كاد الأمر أن يستفحل لولا تدخل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" سنة 2019 وتهديدها بسحب شعار "تراث إنساني" من الرباط، بسبب المشاريع المعمارية التي غيّرت من وجه المدينة. وأبرز مثال برج "محمد السادس" المحاذي نهر أبي رقراق، ومحطة القطار "الرباط المدينة" التي شُيّدت على حساب السور التاريخي للمدينة.

أعلن الديوان الملكي المغربي في 4 أكتوبر 2023 اعتماد مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) قراراً بالإجماع لصالح "ملف المغرب، إسبانيا، البرتغال" لاستضافة كأس العالم 2030. دخلت مدينة الرباط دوامةً متسارعةً من المشاريع الحضرية تحت لافتة التجهيز والتحديث. وقد شملت عدة مشاريع تطويرية كبرى، بما في ذلك مشاريع البنية التحتية وتحديث المرافق الحضرية وتطوير قطاعات النقل والسياحة.

من أبرز هذه المشاريع تطوير الشاطئ الشمالي ومشروع "نافذة المحيط"، وهو مشروع عمراني يضم مرافق لسياحة الترفيه والتنشيط والسكن. كذلك مشروع المرافق الحضرية الكبرى وتطوير شبكة النقل وإنشاء قاعة رياضية كبرى على ضفاف نهر أبي رقراق. هذا عدا عن مشاريع تأهيل الملاعب ورفع الطاقة الإيوائية الفندقية.

هذا الأمر جعل المدينة تعيش مفارقةً واضحة. فالمدينة العريقة تتجه نحو التحديث المعماري والبنية التحتية العصرية، لكنها تنحو أيضاً نحو الإقصاء الطبقي وطمس الذاكرة الجماعية بعمليات الترحيل الواسعة للسكان الأصليين إلى خارجها، مقابل التركيز على مشاريع البنية التحتية المخصصة للسياح والعابرين.

في ظلّ غياب شراكةٍ حقيقيةٍ في القرار، تبقى التنمية العمرانية في خدمة الصورة لا المواطن، ويظلّ الحق في المدينة مهدداً بمبادرات تقدَّم على أنّها فرصٌ وطنية. وقد حاول عبدالوافي لفتيت، وزير الداخلية، تبرير عمليات الهدم في جوابٍ داخل البرلمان في مايو 2025 على أنها "في إطار مجموعة من البرامج الوطنية والعمليات القطاعية كمشروع 'مدن بدون صفيح' وبرنامج 'معالجة الدور الآيلة للسقوط' وعمليات التجديد الحضري للمدينة". لكن الوزير تجاهل الكلفة الإنسانية والاجتماعية لعمليات الترحيل التي تحولت لمآسٍ محلية بسبب عمليات الترحيل التعسفي. إذ يمكن أن تلك العمليات "ترقى لعمليات إجرامية" كما وصفها الكاتب مصطفى الذهبي، التقني السابق في قسم التعمير بجماعة الرباط، والذي كان مشرفاً على عمليات هدمٍ في المدينة سابقاً. ما يجعل هذه المشاريع حسب ديفيد هارفي بهدف "امتصاص فوائض رأس المال [. . .] ولكن على حساب تزايد عمليات الهدم الخلاق التي تستلزم حرمان سكان الحضر من أيِّ حقٍّ في المدينة على الإطلاق".

بهذا المنطق شكّل مشروع "رباط الأنوار" لحظةً مفصليةً في إعادة تشكيل الفضاء الحضري للعاصمة. فهناك توسعة خطوط النقل داخل المدينة، التي أعلنت شركة "الرباط الجهة للتنقل" عن طلب عروضه في يوليو 2023. وكذلك تجميل الساحات الكبرى، مثل مشروع ساحة "مولاي الحسن" الذي انتقدته المعارضة بشدة في مجلس المدينة نظراً لتكلفته المقاربة أربعة ملايين دولار ولتنفيذه بلا علم المجلس المنتخب أو مناقشته، بما في ذلك عمدة المدينة المنتمي لحزب العدالة والتنمية الذي سبقَ وقاد الحكومة المغربية من 2011 إلى 2021. كذلك هناك مشاريع تطوير بعض المناطق الخضراء ومشاريع تقوية الإنارة وفضاءات الترفيه، إذ بدا وكأن المدينة تُصاغ لتلائم رؤيةً جماليةً موجهةً بالأساس نحو الاستثمار والصورة الدولية. لكن هذه المشاريع ظلّت انتقائية تكرّس التفاوتات بدل معالجتها. فتأهيل أحياءٍ راقيةٍ، مثل أَكْدال وحي الرِّياض وحَسّان والسُّوَيْسِي، رافقه تهميشٌ ممنهجٌ لأحياءٍ شعبية مثل التَّقدّم ويَعقوبَ المنصور واليوسُفِيَّة والعَكَّارِي.


تعيدنا هذه الصورة لإحياء النقاش عن الحق في المدينة، المفهوم الذي يتجاوز مجرد السكن أو التنقل ليطال الحق في اتخاذ القرار، وتشكيل المدينة وفقاً لحاجيات السكان لا وفقاً لمنطق السوق. فالتسارع العمراني الذي تشهده الرباط، وإن لبس لبوس الحداثة، يخفي في طياته نزعة نيوليبرالية ترى في الفضاء الحضري مجالاً للاستثمار لا مجالاً للعيش المشترك.

هذا الأمر جعل المستشار الجماعي (الاسم الرسمي للمسؤولين المنتخبين عن السكان) عمر الحياني عن حزب "فيدرالية اليسار" بالمدينة يوجّه في مارس 2025 انتقاداتٍ لاذعةً للسلطة بسبب تجاوزها المنتخبين بإقرار مشاريع بلا مناقشة المجلس المنتخب ولا تداوله وموافقته. من هذه المشاريع مشروع إحداث طريق جديد يتطلب هدم مقار إقامة آلاف الطلبة بأحد المعاهد العلمية، وهو ما أشعل احتجاجات طلبة المعهد. وقد استنكر الحياني ذلك في تدوينة على صفحته في موقع فيسبوك: "آخر حسنات المونديال: سيتم إحداث طريق جديدة تربط مقاطعتي أكدال الرياض والسويسي، تستلزم تدمير جزء كبير من مقار إقامة الطلبة بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة. أهذه أولوياتكم؟ ألا يوجد حل آخر لإنشاء هذا الطريق؟ هل هذه الطريق ضرورية لهذا الحد؟". ورغم الاحتجاجات والمعارضة الشديدة، قررت السلطات الشروع في إنجاز الطريق دون اعتبارات تأثير ذلك على مصير أكثر من ألف وخمسمئة طالب يقطنون تلك المساكن.

عمّقت سياسات التهيئة الحضرية التي اعتمدت مع مشاريع كأس العالم، وقبلها مشروع "رباط الأنوار"، منطقَ الإقصاء ودفعت بالفئات الفقيرة خارج المشهد. فقد هُجّرَ سكان الأحياء الصفيحية والهامشية، مثل دُوّار الكَرْعَة وسط المدينة الذي أفرغ من سكانه سنة 2019 لتشيّد السلطة مكانه مدينةً لصناعة الألعاب والترفيه مكوّنة من ثلاثة أبراج. وقد طالب السكان قبل ذلك باستغلال المساحة لمصلحة من تبقى من أهالي الحي الشعبي. وذلك بخلق مناطق خضراء وتشييد مصالح إدارية وأمنية، كون الحي يشهد ارتفاعاً في معدل الجريمة، إلا أنّ تلك المطالب لم تجد أي صدى.

ذات الأمر يسري على منطقة الوَلْجَة المحاذية لنهر أبي رقراق. فقد رُحِّلَ كل تجار القرية التي تأوي مئات الصناع التقليديين فجأةً، بلا إيجاد بدائل مناسبة لأنشطتهم الحرفية، وبلا تعويضٍ مناسبٍ لقيمة الأراضي والمحلات. فقبل قرار الهدم، كانت أسعار العقارات في المنطقة لا تقلّ عن ألف دولار للمتر، لكن التعويض الذي تحصل عليه الصنّاع بعد الإفراغ لم يتجاوز خمسة وعشرين دولاراً حسب تصريحات بعض المتضررين. أما مبررات الإفراغ، فكانت إعادة تأهيل المنطقة وإقامة مشروع سياحي كبير. والشأن ذاته لمنطقة "عَنْق الجْمَل" المحاذية أيضاً لنهر أبي رقراق، إذ أفرغت السلطات المنطقة من سكانها بداية 2025 بالقوة وبلا تعويض مناسب، مع امتلاكهم سندات الملكية وسلامة وضعهم القانوني.

أما دَوَّار العَسْكَرِ الذي رحلت السلطة سكانَه قسرياً، فالأمر لا يقلّ شططاً. إذ أخرجتْ السلطات السكانَ وهدمت البيوت في شهر رمضان 2025 في وسط الموسم الدراسي، لتوزّعهم على مناطق تبعد أكثر من أربعين كيلومتراً عن الأحياء التي كانوا بها. هذا الحي تناسلت الشائعات حول تحويل أراضيه إلى ملعب غولف، ما اعتبره حزب فيدرالية اليسار بالمدينة – ببيانٍ له في مارس 2025 – فضيحةً عمرانيةً كبرى في العاصمة إن حدث.

وصل الهدم إلى الأحياء التي تقطنها الطبقة المتوسطة، مثل حي "المحيط". ففي حديث مع أحد شباب الحي اسمه خليل، حكى كيف أنه وعائلته يعيشون كل يوم على أعصابهم انتظاراً لقرار الهدم. فالأحياء المجاورة لهم هُدمت ورُحِّل أصحابها، مع أنهم يقطنون عماراتٍ وشققاً سكنية حديثة بُنيْت سنة 2001. مع ذلك قررت السلطة إخلاء الحي إتاحةً المجال لإقامة فنادق وشقق سكنية راقية خاصة لمستثمرين. وما كشفه المحامي والمستشار المنتخب، فاروق المهداوي، في إحدى تدويناته في إبريل 2025 يؤكد أنّ البنية السلطوية للنظام تنزع إلى تحييد المؤسسات المنتخبة وتغييب الإرادة الشعبية في تدبير الشأن العام. فقد قال المهداوي إنّ القرارات المصيرية للسكّان تُتخذ خارج أي إطارٍ ديمقراطيٍّ، ودون احترام الإجراءات التي يصادِق عليها مجلس المدينة. كما لو أن التخطيط الحضري صار رهينةً لمصالح غير معلنة تُدار خلف الأبواب المغلقة.

تزداد خطورة هذا التوجه حين تصبح السلطة المحلية أداةً لإرغام السكان على التنازل عن حقوقهم بالتهديد والترهيب، كما أشار المهداوي. تضغط السلطات المحلية للمدينة على المواطنين عبر أعوان السلطة، وهم عناصر شبه أمنية يُسَمّون في المغرب "المقدم"، لدفعهم إلى تسليم ممتلكاتهم بلا سندٍ قانونيٍّ واضحٍ ولا تقديم أي وثيقةٍ تبرّر عمليات الهدم أو المصادرة. ويؤخذ المواطنون لتوقيع وثائق مجهولة لدى موثق تختاره السلطة نفسها، في غيابٍ تام لأي شفافيةٍ أو ضماناتٍ قانونية. 

هذا السلوك السلطوي لا يعكس فقط تغوّل الدولة على حساب السكان، بل يؤشر إلى تحالف بين السلطة ورأس المال. تُختزل المدينة في مجرد مجالٍ للربح العقاري، ويُنظر إلى السكان عائقاً يجب إزاحته بأي وسيلة، ولو عبر الإخضاع والإكراه. هكذا تتقوّض الحقوق الاجتماعية، ويُفرّغ العمران من معناه الإنساني، لصالح منطق التملك والربح السريع.

يؤكد هارفي أن "الحق في المدينة" ليس امتيازاً فردياً، بل حقاً جماعياً مركزياً يتجاوز الأفراد ليشمل جميع من يشاركون في إعادة إنتاج الحياة اليومية. إلا أنّ الواقع الحضري في المغرب، وتحديداً في مدينة الرباط، يكشف عن مسارٍ مناقض لهذا التصور. فكما شرح السيد حكيم سيكوك، رئيس فرع الرباط للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في حديث معه فإن "أبناء الأحياء الشعبية والهامشية يُستثنون منهجياً من هذا الحق، في إطار سياسةٍ ممنهجةٍ تتبناها السلطة، تهدف إلى إفراغ المدينة من فئاتها الفقيرة".

هذا يعني أنّ سياسات السلطة ليست مجرد سياسات عمرانية معزولة، بل تصوّر طبقيّ للمدينة يرى في فقرائها قُبْحاً بصرياً يجب إخفاؤه. فالمشاريع الحضرية لا تُصمَّم لتلبية حاجات الجميع، بل لترسيخ منطقٍ إقصائيٍّ يُعاد به تشكيل المجال العام ليعكس رغبات النخب الاقتصادية والسلطوية، وتُستثنى حاجات الأغلبية الاجتماعية. فيصبح "الحق في المدينة" مجرد شعارٍ أجوَف، بسبب ممارسات ترى الفضاء الحضري مجالاً للربح العقاري والمضاربة.

تشهد الرباط ارتفاعاً حاداً في أسعار العقارات وتكاليف المعيشة، على نحوٍ يفوق قدرة شرائحَ واسعةٍ من سكانها. فبحسب تقرير ديسمبر 2023 لمؤشر "أسعار العقار" الذي يصدره موقع "نامبيو"، المخصص لتتبع أسعار المعيشة ومستواها في العالم، تقارب نسبة سعر الإيجار بالمقارنة مع الدخل في المدينة 19.59 بالمئة. وبينما تحظى مناطق مثل الرياض والسويسي بكافة التجهيزات، تعاني أحياء أخرى من هشاشة عمرانية وخدماتية صارخة، ما يعكس غياب العدالة المجالية ويقوّض إمكانيات العدالة الاجتماعية.

في الوقت الذي تُقدَّم فيه الرباط عاصمً ذكيةً عصريةً ومشعةً بالمشاريع الكبرى، لا يمكن إغفال الوجه الآخر لهذه الصورة، وهو وجه مدينةٍ تنزلق شيئاً فشيئاً نحو واقعٍ حضريٍّ غير عادل. لم يعد السكن حقاً اجتماعياً، بل امتيازٌ طبقيٌّ لا تحققه سوى فئة محظوظة. ويحوّل من حق دستوري إلى سلعة فاخرة لا تطالها إلا أقلية ميسورة. فحتى يشتري المواطن الرباطي المتوسط شقة متواضعة، عليه أن يخصص قرابة خمس دخله السنوي فقط لتغطية قيمة العقار، من غير احتساب باقي مصاريف العيش. وهو ما يعكس خللاً عميقاً في التوازن بين سوق العقار والقدرة الشرائية.

تسير الرباط لتكون مدينة الأغنياء فقط. ففي سنة 2025 صُنفت أغلى مدينة مغربية في الإيجارات. يبلغ متوسط النفقات الشهرية لفرد واحد حوالي 5456 درهم (ما يقارب ستمئة دولار)، في حين تصل تكلفة إيجار شقة بثلاث غرف في مركز المدينة إلى حوالي عشرة آلاف درهم شهرياً. وترتفع الأسعار في ضواحي الرباط بنسبةٍ تصل إلى 60 بالمئة، أكثر من نظيراتها في مراكش وطنجة. بل إن شقق الأحياء الراقية، مثل الرياض والسويسي، تُعرض بأسعارٍ تتجاوز عشرين ألف درهم شهرياً، وقد تصل إلى ثلاثين ألف درهم لشققٍ فاخرةٍ بمساحاتٍ تفوق 150 متر مربع. بالمقابل، فإن حتى الأحياء المتوسطة مثل أَكْدال وحسّان، لم تعد تتيح شققاً بأقلّ من خمسة آلاف وأربعمئة إلى ستة آلاف درهم شهرياً. وهذا يجعلها خارج متناول أسرة متوسطة لا يتجاوز دخلها الشهري ستة آلاف وخمسمئة إلى ثمانية آلاف درهم، ناهيك عن الأسر الفقيرة أو المعيلين المنفردين.

لا يقف الأمر عند حدود السوق، بل يمتد إلى السياسات الحضرية نفسها. فكلما زادت الاستثمارات في البنية التحتية ترتفع معها أسعار السكن والعقارات. فتضطر فئات واسعة للانتقال للضواحي والنواحي التي لا توفر نفس الشروط والمستوى في البنية التحتية والخدمات، وهي السياسة التي باتت تنتج الفوارق بدل أن تعالجها. إذ توجَّه الاستثمارات العامة نحو مشاريع كبرى للنخبة والسياح، بينما تُهمل الأحياء الشعبية والهامشية التي تعاني من هشاشةٍ عمرانيةٍ وخدماتيةٍ واضحة. لتطرح المحاجّة الكبرى نفسها: هل يُبنى مستقبل مدينةٍ على إقصاء من يُعيد إنتاج حياتها اليومية. إذ أن المفارقة المؤلمة أن الحق في المدينة، كما صاغه ديفيد هارفي، لم يعد مضموناً حتى لأولئك الذين يسهمون في إعادة إنتاج الحياة اليومية للمدينة كالأساتذة والممرضين وعمال الخدمات. 


ينصّ القانون المغربي على إشراك المواطنين في إعداد السياسات الحضرية، إلا أن هذه المشاركة ظلّت شكلية تُستدعى زينةً ديمقراطيةً أكثر منها ممارسة فعلية. إذ ينظّم القانون التنظيمي رقم 113.14 عمل مجالس الجماعات الترابية كمجالس المحافظات، لكن المجالس المنتخبة تفتقر في الغالب إلى الصلاحيات الفعلية، والقرارات الكبرى تُتخذ في مراكز النفوذ بعيداً عن النقاش مع المواطنين.

لاتزال السلطات الفعلية مركزة في يد الوالي ممثلاً لوزارة الداخلية. وهو ما أشار إليه المستشار عمر الحياني في تدوينة في أبريل 2025 بقوله: "مجلس جماعة الرباط تحول مع الأسف إلى شبه ملحقة إدارية لولاية الرباط، بعد أن تم تفويت جل اختصاصاتها لشركات التنمية المحلية التي يترأس معظمها الوالي". مع أن المفترض أنه المجلس الذي انتخبه سكّان الرباط ليعبّر عن إرادة المواطنين عبر وضع برنامج عمل الجماعة. ويحدد المجلس أولويات التنمية المحلية على مدى ست سنوات، وذلك بالتصويت على الميزانية السنوية. بل ومن المفترض أن يقرّ الصفقات الكبرى ومشاريع البنية التحتية، وهذا ما لا يحدث، ما يفرّغ مفهوم الديمقراطية الحضرية من مضمونه.

خصوصية الرباط عاصمةً إداريةً وسياسيةً تجعلها خاضعة لنسقٍ سلطويٍّ متجذر. إذ تهيمن الأجهزة المركزية على صناعة القرار، ما يُفرغ أية محاولة لإشراك السكان من فعاليتها. هذا التمركز السلطوي المقترن بمنطق السوق يضاعف هشاشة المدينة "ويحوّلها إلى مسرح لسياسات فوقية تُدار بأوامر شفوية، كما في حالات الهدم والترحيل دون وثائق أو سند قانوني"، كما جاء في أحد بلاغات حزب فيدرالية اليسار بالمدينة. تخرق سلطات المدينة الفصل 35 من الدستور الذي يضمن الحق في الملكية وحماية الدولة له. وهكذا تتحوّل الرباط من مدينة المواطن إلى مدينة المستثمر، ومن مجال للتفاوض العمومي إلى مجال لفرض الأمر الواقع.

إن الحديث عن التحديث العمراني لا يمكن أن يُختزل في تحسين البنية التحتية أو تجميل الواجهات فحسب، كما يرى حكيم سيكوك في حديثه معي. يقول حكيم سيكوك: وجب أن نطرح سؤالاً جوهرياً، "تحديث لمن؟ وعلى حساب من؟". تتطلب الإجابة بناء مدينةٍ عادلةٍ مع إدماج فعليٍّ للفئات المهمَّشة، وضمان دخولٍ ديمقراطيٍّ للخدمات الأساسية واحترام التعدد المجالي والاجتماعي. فالتوزيع العادل بين السكّان ليس ترفاً، بل ركيزة العيش المشترك. إذ تقف الرباط أمام خيارَين حاسمَين. إما أن تستمر واجهة عمرانية تُدار بمنطق الربح وتُقصي ساكنتها، أو أن تتحول إلى مجالٍ ديمقراطيٍّ فعليٍّ يجسّد قيم المواطنة ويُكرّس المدينة حقاً للجميع. ولذلك فإن إعادة التفكير في سياسات المدينة لم يعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة ملحّة. ليس فقط لتحقيق الإنصاف، بل لاستعادة المدينة فضاءً للكرامة والحرية والتضامن.


ما تشهده مدينة الرباط هو انعكاس لتحولات أعمق في معنى "الحق في المدينة". من يُرحَّب به في المجال الحضري ومن يُدفع خارجه، ومن تصمَّم المشاريع لأجله ومن يُختزل حضوره في أنه عائقٌ بصريّ. في ظلّ هذه السياسات، تتحوّل المدينة إلى مرآةٍ للنظام الاجتماعي السائد، وتُعاد هندستها على مقاس من يمتلكون القرار والصورة.

لم تتغير علاقة المدينة بالسلطة المركزية، حتى مع التحولات التي شهدتها في عهد محمد السادس، خصوصاً على مستوى مشاريع التهيئة الحضرية وتحديث البنية التحتية. ما تغيّر هو أسلوب التعبير. فالرباط لاتزال تُدار من الأعلى وتُستثمر رمزياً لإبراز استمرارية النظام، وإن كان ذلك بأساليب أكثر استثماراً في الصورة والنموذج التنموي الجديد. وهكذا تصبح العاصمة عتبة لفهم النسق السياسي المغربي. فالرباط فضاءٌ معماريٌّ وسياسيٌّ ورمزيٌّ تقدِّم مدخلاً لفهم طبيعة السلطة في المغرب. فهي ليست مجرد مدينة، بل "نصّ سياسي" تُكتب فيه سردية الدولة وتمارَس فيه السلطة بمزيجٍ من التقليد والحداثة والطقس والإدارة والرمز والسيطرة.

اشترك في نشرتنا البريدية