يتشارك هذان الاقتباسان من روايتين مختلفتين وكاتبين مختلفين، أحمد المديني وعبد القادر الشاوي، التعامل مع الماضي السياسي لمدينة الدار البيضاء المغربية. وبالأخص ما هو معروف باسم "انتفاضة الدار البيضاء 1981"، أو "انتفاضة 20 يونيو 1981"، التي أضحت مكوناً أساساً ومساحةً من الغبن التاريخي لا تزال تخيّم على الذاكرة الجمعية المغربية.
في ذلك العام وقّع المغرب اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وافق بموجبها على خطة خفض دعم المواد الأساسية. فأعلنت الحكومة زيادة أسعار المواد الغذائية بنحو 50 بالمئة. وفي 20 يونيو، شارك آلاف المغاربة بإضرابٍ احتجاجاً على زيادة الأسعار. فاعتدت قوات الأمن على المشاركين، ما دفع الأمور نحو انتفاضةٍ شعبية في مختلف أنحاء مدينة الدار البيضاء. تدهورت الأمور مع تدخل الجيش المغربي في اليوم التالي لقمع المظاهرات، وإطلاق قواته النار على المدنيين، ليتسبّب هذا بسقوط المئات بين جرحى وقتلى.
حاول المغرب مطلع الألفية الاعتراف بما جرى من أحداثٍ مأساوية في زمن الملك الحسن الثاني. وعمل على تحويل بعض السجون السياسية إلى متاحف، وأسّس هيئة الإنصاف والمحاكمة سنة 2004 آليةً للعدالة الانتقالية في البلاد. مع ذلك، فإن هذه الجهود هدفت إلى الصفح فقط بلا الإنصاف، لطوي صفحة الماضي نهائياً. ما يعني عدم تدوين ما جرى وطمس قصص مئات الضحايا.
ومن هنا تأتي أهمية أعمال بعض الروائيين المغاربة في السنوات الأخيرة، والتي استطاعت تخيّل ما جرى ورسم يوميات وقصص عن حياة من قتلوا في انتفاضة 20 يونيو 1981 بهدف ضمان تحقيق عدالة انتقالية منصفة، على صعيد الكتابة على أقل تقدير. جاءت روايتهم زاخرةً بلوحاتٍ سرديةٍ متنوعةٍ عن ماضي مدينة الدار البيضاء وأحوالها، في السياسة والمجتمع والمعمار والاقتصاد والعلاقات والتحولات. وكشفت عن معانٍ مجهولة في السرد لا يصلها بالضرورة المؤرخ أو عالم الاجتماع.
الأهم، وهو ما يتوافق مع سياق روايتَي أحمد المديني وعبد القادر الشاوي، أن السرد الروائي يتجاوز جمود التاريخ الرسمي. فيكشف ويوثق للمنسي والمسكوت عنه والمتجاهَل في الواقع الاجتماعي. فالسرد الروائي، كما يقول الناقد العراقي عبد الله إبراهيم، "يكشفُ التاريخ الاجتماعي للمناطق المنسية [. . .] التاريخ غير المدوّن والمتعذر تدوينه، وغالباً التأريخ المسكوت عنه". وعن هذا أيضاً يقول ألكسندر دوما الأب –والد الكاتب المسرحي الفرنسي ألكسندر دوما– كما يورد أمبيرتو إيكو في كتابه "اعترافات روائي شاب"، المترجمة إلى العربية في 2014: "من ميزات الروائيين أنهم يخلقون شخصيات في الوقت الذي يقتلون شخصيات التاريخ. والسبب في ذلك أن المؤرخين يستدعون أشباحاً من التاريخ، أما الروائيّ فإنه يخلق شخصيات من لحم ودم".
كان نجيب محفوظ يرى أن الكتابةَ عن الحارة المصرية تقتضي معرفة دقائقها وخباياها. ليس بغاية استنساخ المجتمع، ولكن من أجل ابتكار مجتمعٍ سرديٍّ موازٍ له. فالروائيّ لا يبحث عن مطابقة أحداث السرد على الواقع، لأن مقتضيات الخطاب السردي لا تقوم على الدقة والموضوعية والتوثيق، بل تتوارى الأحداث الحقيقية وراء المجازات والرموز. فالرواية أحداثٌ متخيّلة تتصل بأحداث العالم الواقعي على سبيل الإيهام، ولا يشترط التمثيل السردي تطابقاً بين العالمين.
لهذا حينما يذهب الروائيّ إلى المدينة فإنه يَحمل معه صنعته، أي سرده التخييلي. هو هكذا يعلن أن خطابَه خطابُ جمال، لا خطاب حقيقة. وفي هذه الحالة يتراجع رهان الواقع والمطابقة وتحلّ محله محاولة إعادة كتابة المدينة وابتكارها. فالروائيّ يصنع الحقيقة السردية وليس الحقيقة التاريخية، وإن اعتمد عناصر من وقائع التاريخ. بهذا المعنى توفر النصوص الأدبية فهماً أوسع وأعمق لجوانب من الحياة الاجتماعية، وتساعد في فهم عوامل التطور التاريخي والقيمي لبلد أو مدينة ما.
الدار البيضاء هي المدينة الأكثر سكاناً التي تعكس المغرب المعاصر بتنوعه وتناقضاته. وفيها تتجسّد كل تحولاته الاجتماعية التي ولّدتها صدمة اللقاء مع الآخر منذ مطلع القرن العشرين، والشروط الجديدة للاستقرار المديني الهش. وعلى إثر ذلك، تشكلت صورة في المخيال الشعبي عن الدار البيضاء بأنها "المدينة الغول". أنها مدينة بلا روح، ومجرد ميدان للافتراس والصراع من أجل البقاء. ويتضح الافتقار للروح والتغوّل في ثناياها أثناء انتفاضة 20 يونيو 1981.
يستحضر أحمد المديني، وهو من أغزر الروائيين المغاربة إنتاجاً، في روايته "رجال الدار البيضاء" انتفاضة 20 يونيو 1981 في الدار البيضاء، حدثاً وقفَ على تفاصيل وقوعه. بدأت الأحداث بدعوة نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التابعة للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية –أكبر أحزاب المعارضة آنذاك– لإضراب على إثر الزيادة في أسعار المواد الأساسية. فتصدت لها السلطات بالدبابات والمروحيات وشاحنات الجنود، وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين والعابرين.
يرِد على لسان بطل الرواية، الصحفيّ في جريدة المُحرر الذائعة الصيت، الذي أوفد لتغطية الأحداث يومها، ما يلي: "ووصَلَنا من جهة غير بعيدة صدى أعيرة نارية، فتنادى الهاربون والراكضون. النساء كنّ يجمعن أطفالهن من الأبواب. بضع دكاكين نصف مفتوحة فزعت فأغلقت [. . .] اتجه إلى شارع آيت يفلمان دونه ساحة أرى حافلتين ينزل منهما فرقة من رجال القوات المساعدة، بأيديهم البنادق لا العصي. هرولت عكس ناحيتهم ومثلي فعل الآخرون".
تتابع الرواية أن الصحفي أكمل طريقه متجاهلاً تحذير الأهالي له بضروة الحذر، ومضى مخترقاً زقاقاً ضيقاً يفضي إلى المدرسة المحمدية. وهناك وجد "عشرات يرددون شعارات تندد بالزيادة وتشتم الحكومة". حتى تلك الساعة لم يكن هناك عنف. فواصل بطل الرواية في الزقاق إلى نهايته حتى ينفتح على طريق اسمه مديونة عند جنوب منطقة كراج علال. "طق طق طق [. . .] طلقات رصاص، من أين؟ الثالثة بعد الزوال، الوقت يجري مثل شباب يجرون أمامي يحملون بينهم شاباً دامي الجسد. الوقت يجري مثلما أراني أفعلُ مع عشرات كل في اتجاه".
يَلْمح البطل شاحنة قادمة لحمل المصابين والقتلى، فيأخذنا إلى مسارٍ آخر عبر أحياء الدار البيضاء. ويقول: "أمامي عند تقاطع حي بوسبير مع كاريان كارلوطي وصلت شاحنة أولى نزل منها جنود مدججون بالسلاح. فهؤلاء جنودٌ مغاربة. في تاريخ 20 يونيو 1981 [. . .] الساعة الثالثة والنصف عصراً نزل جنودنا الأشاوس من الشاحنات، وفتحوا بنادقهم يطلقون النار بلا تعيين في كل ناحية".
يضيف وقد بدا أن الحبكة الدرامية ازدادت تعقيداً ومعها تسارعت دقات قلب السارد: "قفزت ودخلت مهرولاً بين ممرات سوق الجزارة البلدي. وإذا بي أمام فرقة من العسكر تكسر أبواب الدكاكين المغلقة إضراباً، وترصد المارة تقودهم تحت كعوب البنادق على الرؤوس إلى شاحنات مغطاة".
يحْمَل السارد في واحدة من عدة شاحنات مغطاة تتزاحم فيها الأجساد قبل أن تتحرك في مسارها، الذي يواصل وصفه بينما تتحرك بين أحياء المدينة: "سارت بنا الشاحنة إلى شارع 2 مارس بعد أن عبَرت درب مارتيني وشركة التبغ. في طريقها على الرصيف جنود بخوذات انتهوا للتو من إطلاق النار، التقطتُ عبور شكل جثتيْ رجل وفتى، وثالث يجر ساقاً مجروحة".
وفي وسط هذا المشهد المضطرب، يواصل بطل الرواية عرض المشهد في الدار البيضاء. "عبَرنا شارع عبد المومن ومنه انعطفت الشاحنة لتخوض في شارع الزرقطوني على يساره. بدأت أقلق، فهل مستقرها هنا حيث يوجد شبه مستوصف صحي عبارة عن معزل يرمى فيه المدمنون والمشردون، أم تتجه إلى شاطئ عين الدياب أو سيدي عبد الرحمن؟ وإذن ستتغذى وتتعشى بنا الأسماك كما تغذت في مارس 1965 بتلاميذ الدار البيضاء"، في إشارة لقمع حركة الطلاب في تلك السنة ضد سياسات الملك الحسن الثاني والتي راح ضحيتها نحو ألف قتيل.
يكمل السارد برسم صورة إفراغ الشاحنة العسكرية المعتقلين مثل كومة قمامة، فصاروا كما يصف "جيفة بروائحنا العطنة [. . .] حُشرنا في جناح واحد، يختلط جوعنا بعطشنا ببولنا بالاستغاثة بالوالدين والشكوى لرب العالمين".
في فصل تالٍ من الرواية نعرف مصير بعض الموقوفين. فقد انعقدت لهم جلسة حكمٍ في المحكمة الابتدائية بالقاعة "أربعة"، بتهمة الإخلال بالنظام العام وتخريب الممتلكات، حسب القانون الجنائي. لكن ماذا عن الآخرين؟ مئات من الموقوفين اختفوا. يتركنا السارد في "رجال الدار البيضاء" لا نعرف لهم مصيراً. لقد عرفنا متى بدأ إطلاق الرصاص وأين أُطلق الرصاص ومن أطلق الرصاص ومن أصابه الرصاص وبعض من سقطوا جرحى أو صرعى الرصاص. وعرفنا الطريق الذي سلكته الشاحنة تخترق أحياء الدار البيضاء وصولاً إلى لافوار، وظلوا محتجزين فيه يومين كاملين. ثم لم نعد نعرف شيئاً عنهم. فهل أطلق سراحهم؟ حوكموا جميعهم أم بعضهم؟ سجنوا؟ قتلوا؟ دُفنوا؟ وأين وكيف دفنوا؟
يخبرنا السارد في الرواية أن كثيراً من البيضاويين توفوا أثناء انتفاضة 20 يونيو 1981، بعضهم في فترة احتجازهم داخل مخافر الشرطة والمقاطعات وثكنات الجيش والمعرض الدولي. نعم، في المعرض الدولي أيضاً حيث تركنا بطل رواية "رجال الدار البيضاء". قرر السارد أن يزور مستشفيات الوافي وابن رشد وسيدي عثمان ويبحث في السجلات القديمة المتكوّمة على بعضها، التي وُضعت أمامه يعلوها الغبار. وزارَ أيضاً المقاطعة 46 بحي البرنوصي حيث أزهقت أرواح العشرات اختناقاً. "قال الشهود إن المختنقين في المقاطعة 46 كانوا يطلبون الماء وسط الغرفة الضيّقة التي لا تكاد تسع عشرة أفراد، وقد حشر فيها العشرات".
دخلَ السارد الغرفة الضيقة وطلبَ أن يُقفل الباب عليه وهو بالداخل. فقد أراد تقدير "حجم الهلع الذي كان يستبد بالموقوفين وهم يشعرون بدنو أجَل هذه الميتة المريعة". استبدت بالسارد رغبة مؤكدة في ضرورة البحث عن المقبرة أو الحفرة، أو الحُفر التي لا يعرف أين تقع في هذه المدينة الغول. المدينة التي استفاقت على أصوات الموت قبل الإنذار بعد انتفاضة 20 يونيو 1981. حتى إن الجثث في بعض الأحياء "بقيت إلى أن انتفخت ثم اختفت أو أخفيت".
اقتفى السارد المقابر الجماعية التي ألقيت فيها جثث المتظاهرين في ذلك "السبت المشؤوم"، الذي قالت فيه السلطة إن من قُتلوا لم يتجاوز عددهم ستة وستين من "المشاغبين". في حين قالت المنظمات الحقوقية، استناداً إلى شهود، إن عدد القتلى فاق ستمئة. كيفما كانت المبالغة، فالدولة اختصرت العدد إلى 10 بالمئة من الدماء التي سالت في أحياء "البرنوصي ودرب السلطان وسيدي عثمان وحي مريم". لقد كان ذلك اليوم المشهود في الدار البيضاء دموياً فاجعاً لم تشهد المدينة مثيلاً له منذ سنة 1907. وهو العام الذي شهدت المدينة في الفترة بين 5 و7 أغسطس هجوماً بحرياً فرنسياً تسبّب بمقتل ما يقدّر بين سبعمئة وألف وخمسمئة شخص.
شاهدٌ واحد يعرف مكان مقبرةٍ من المقابر أسرّ بها إلى صحفيين. فقرر السارد أن يأخذنا إلى موقعها في الدار البيضاء. يقول السارد: "شاب بيضاوي من حي درب الكبير صرّح لنا بشهادته. في أوقات الفراغ كنا متعودين على القفز فوق الجدار الذي يفصل مركز التكوين [مكان دراسته] عن ثكنة الوقاية المدنية لنلعب في الملعب التابع لها. وقَعَت الأحداث يوم السبت 20 يونيو 1981. وفي صباح الغد، الثلاثاء 23 يونيو 1981، حاولنا كالعادة أن نقفز السور ونلتحق بالملعب لكننا مُنعنا من ذلك. أثارت انتباهنا آثار التربة وقد تمّ تقليبها وسط الملعب. كانت التربة تبدو طرية".
وجدوا المقبرة وليس كل المقابر، فقد سمع السارد عن وجود مقابر جماعية أخرى، منها واحدة في حي سباتة. لكن فريق "المجلس" الذي كان يشرف على عمليات البحث لم يتحمّس لمزيدٍ من البحث، "ورفض الإشارة إلى المقابر الجماعية المحتملة". فالمجلس بدا أن همّه "الصفح لكي تُطوى صفحة الماضي بصورة نهائية"، و"جعل المكان فضاء للذاكرة وحفظها"، كما قال كاتبه العام.
أقيمت مراسم الحفر لانتشال الرفات والعظام. ويقول السارد: "أزفت ساعةُ الحفر. ربما كان هناكَ انتظار وتوقعٌ وصمت. ما أن أدرك الواقفون برتَبِهم المختلفة أن الزمن الثقيل قد امتدّ لأزيد من ساعة ونصف والحفر لا يتوقف، حتى صرخ أحدهم وهو لا يصدق ما كانت عيناه تريانه: كفى كفى".
وجد الحفارون القطعة الأولى وكانت ثوباً بلون أديم الأرض. وبدأ بعدها استخراج سيل من عظامٌ "تُرمى هكذا كأنها من البقايا التي احتوتها الأرض [. . .] عظامٌ تكسرت على بعضها عندما استفاقت في لحظة الحفر وهي تندب حظاً لم يسعفها بالتعرف على جثثها المتحللة".
كان حَفْراً على مرأى السلطات الأمنية والقضائية ومسمعها. قُلّب التراب عشوائياً بالجرافة بلا انضباط وبلا اتباع للقواعد المعروفة، بعرضِ العظام على تحليل الحمض النووي والتأكد من نسبها لقتيل بعينه. سُحقت المعالم والآثار و"تدحرجت الجماجم بدون صوت". لحق ذلك حفل تدشين المدفن الجديد، وتشييد القبور الرخامية البيضاء ونقش الأسماء كيفما اتفق على الشواهد الصخرية داخل سور حصين مَطلي بالجير. مأتمٌ جماعي عاطفي وفرِحٌ ما كان للضحايا أن يتصوّروه أو يفرحوا به حتى في الحلم.
خمّن السارد أن "الاحتفال لم يكن في سبيل العظام"، بل من أجل فريق المجلس بحكم العمل الذي قاموا به. ورغم العثور على المقبرة وتدشين المدفن الجديد، بقيَ في نفسه شيء من الحيرة والأسى. ولعلّه أراد أن يسجل موقفاً تاريخياً عن عدالةٍ غير مكتملة ومرحلةٍ من مسلسل مصالحة في طريقه إلى الطيّ وكتابة الفصل الأخير من أطواره. فأعلن في آخر مقطع على لسان إبراهيم الكندي، أحد شخصيات الرواية، أن "السرّ لم يكشف بعد [. . .] رغم أن الجريمةَ والمقبرةَ والعظامَ التي عادت إلى باطن الأرض حقائق مذهِلة".
ومن هنا، قد لا تترك لنا كثافة الأمكنة بمسمّياتها والشخصيات بتاريخها وأفكارها أي فرصةٍ لتأويل الماضي وسرد الأحداث وتحقيقاتها. هي الأمكنة نفسها التي نعرفها اليوم في الدار البيضاء، بنمطيتها ورتابتها، حيث نخطو يومياً على أقدامنا وبسياراتنا فيها. والآن بفضل السارد وأبطال روايتَي أحمد المديني وعبد القادر الشاوي، ندرك أن ذلك المكان والطريق كانا على شاكلة أخرى، أو استعملا على نحو آخر. خيال الروائيّ وحده قادر على فعل ذلك، والاستعادة البعدية العابرة التاريخَ والجغرافيا لما غفل عنه المؤرخون وأهمله الشهود المُفردون.
هذه المرحلة من تاريخ المغرب لم تتحدث عنها الصحافة حينذاك، ولا وجود لصورٍ عن الأحداث. فيما عدا صورة واحدة لجثث مرمية في شارع واسع عرضتها أسماء المدير في فيلمها الوثائقي "كذب أبيض" الصادر سنة 2023. والشهود لم يجرؤوا على الإدلاء بشهاداتهم. وما ظلّت إلا ذاكرة الروائيين عما عاشوه وشاهدوه بأنفسهم، أو حكاه لهم شهود عاديون خفية وبعيداً عن الأنظار والأسماع.
بفضل الرواية الأدبية، أضحت بين أيدينا تفاصيل انتفاضة 20 يونيو 1981 وما بعدها. تفاصيل عن مسار الشاحنة التي عبَرت أحياء الدار البيضاء في طريقها لِرَمي الموقوفين في أقبيةٍ وثكناتٍ، وفي كل مكان مجهول في جغرافيا المدينة فوق الأرض وتحتها. وأصبحنا نعلم حيثيات العثور على مقابر الضحايا أو جزء من الضحايا. هي أماكن معلومة في مدينتهم. لكن ظلوا زهاء ثلاثين سنة "محشورين في بؤر معينة في نواحي الدرب الكبير والكريان ودرب السلطان والمناطق المجاورة للحزام الطويل. هذا الحزام الذي كانت تمتدّ إليه هوامش تلك المدينة الغول" بعدما ظلوا في أرض خلاء، في مربّع الغرباء.
ولولا القص الروائي، من أين لنا أن نعرف إذن عن "المرأة التي أقبلت تحمل بين ذراعيها وليداً مولولةً أعباد الله راهم كيقتلوا" [أيها الناس إنّهم يقتلون]؟ وعن "الجري مع العشرات في كل في اتجاه وسماع أصوات: القرطاس [الرصاص] بْدَا…ردوا البال!"؟ ومن أين لنا أن نعرف عن "تلاميذ الدار البيضاء سنة 1965 الذين قُذف بهم في البحر لتتعشى بهم الأسماك"؟ وحال الموقوفين "في المعرض الدولي، المحشورون فوق بعضهم البعض، يختلط جوعهم بعطشهم ببولهم بالاستغاثة بالوالدين والشكوى لرب العالمين"؟ من أين لنا أن نعرف ونعيش كلّ ذلك بغير خيال الرواية وألاعيب السرد؟
وبهذا جعلنا نشمّ الروائح في تكدّس أجساد الماشين، ونرى الدموع على خدود الباكين، ونسمع الهتاف يعلو من حناجر الفقراء الصامتين، ونلمس الكفوف الباردة أو الدافئة للبعيدين. ووسط كل هذه التفاصيل، نظلّ متيقنين أن الرواية عالَمٌ تخييلي لا تقول الحقيقة. وفي الوقت نفسه، كما يقول الباحث المغربي سعيد بنكراد، لا تكذب أبداً.
