وهنا ما يمكن تسميته "الميكنة" في هذا السياق الأسطوري يحمل في طيّاته بعداً فلسفياً لطالما عبّر عن سعي البشر إلى إحالة رغباتهم ومخاوفهم إلى كائناتٍ امتلكت قدرات اصطناعية. سعى كتّاب وساسة وتجار، كلٌ حسب سرديته وزمنه وأسلوبه ورغباته، لتصميم آلاتٍ وتصوّر كائناتٍ أسطوريةً شبيهةً بالبشر تمنحهم القدرة على التوقع وحساً بالسيطرة على واقعهم.
ربما تكون الأفكار المتداولة عن الذكاء الاصطناعي ليست وليدة اللحظة. إذ هيمنت فكرة توقع المستقبل على إنتاج نماذج الذكاء الاصطناعي اليوم لما لها من سلطة تضعها بأيدي من يدّعون القدرة على تلك التوقعات، أفراداً وشركات، لاستخراج الربح في الحاضر أو محاولة السيطرة على ما هو آت سياسياً واجتماعياً. فقبل أن تأخذ الحواسيب دورها الحالي في محاولة توقع المستقبل عبر خوارزميات تحليل البيانات، أخذ مفهوم "التوقّع" معاني مختلفة تمتدّ بعض جذورها من أثينا القديمة حتى ما عرف بالثورة العلمية عقب بداياتها منتصف القرن السادس عشر وما تلاها من "ميكنة" الاقتصاد والمعيشة وحتى الثورة الرقمية في وقتنا الحاضر.
حسب غايل رودجرز في كتابه "التوقع: تاريخ ثقافي من أرسطو إلى الذكاء الإصطناعي" المنشور سنة 2021، عرّف بوثيوس المصطلح اللاتيني في سياقٍ ديني استمر حتى القرون الوسطى. فصار التعريف يتجاوز المشاهدات المادية ليعني "القدرة على ربط الأفكار للوصول إلى الحقائق والاتجاه نحو الذات الإلهية للتماس معها".
ولكن مع بدايات القرن السادس عشر، تبلورَ سياقٌ ديني جديد. احتدم الصراع على المعاني مع الجدالات والحروب الدينية التي رافقت حركة الإصلاح البروتستانتي، وهي حركة عارضت سلطة الكنيسة الكاثوليكية البابوية لما اعتبرته انحرافاً عن النهج القويم للكتاب المقدس. لم ترُق معاني التأمّل لاثنين من أبرز وجوه حركة الإصلاح البروتستانتي في أوروبا، الراهب الألماني مارتن لوثر وعالِم اللاهوت الفرنسي جون كالفن. هاجم لوثر التأملَ وركز في أطروحاته على أهمية العمل وممارسة طقوس التعبد. بعدها بعقودٍ قليلة، تُرجِمَت إلى الإنجليزية خطب جون كالفن وظهر فيها نقده التأملَ معلناً ألا صبر لديه لمن يمضون أوقاتهم في "التأمل والخمول" على حساب بذل الجهد العملي.
قبل حركة الإصلاح البروتستانتي بثمانية قرون وعلى الجانب الآخر من العالم، ترافقت حركة علمية في المدن الإسلامية مع حركةٍ أخرى لترجمة النصوص إلى العربية. في علم الفلك، أخذ التأمل معاني متعلقة بحركة الكواكب. تَرجم عالِما الفلك والرياضيات الفارسي يعقوب بن طارق ومحمد بن إبراهيم الفزاري، المولود في الكوفة، أحد النصوص الفلكية الهندية أثناء زيارة أحد الفلكيين من الهند بلاطَ الخليفة العباسي المنصور في القرن الثامن. في الترجمات العربية لابن طارق والفزاري يظهر تنوع في الأساليب والعناصر الحسابية التي تعود أصولها إلى اليونانية والفارسية والهندية.
يشير أحمد دلّال في كتابه "الإسلام والعلم"، المنشور سنة 2010، لهذا الأمر مسلطاً الضوء على الحركة العلمية والترجمة اللتين استمرتا قروناً. ويشير دلّال كذلك لإعطاء عالم الفلك مؤيّد الدين العرضي الرياضيات مساحةً واسعةً للتوقع في "كتاب الهيئة". وفي انزياحٍ واضح عن مبادئ أرسطو، برر العرضي استخدامه الوافر للطرق الرياضية للحساب بوصولها لتوقعات دقيقة. فبعد أن قدّم الفلكي والرياضي الإغريقي بطليموس قبل أكثر من ألف عام نموذجه للحركة الدائرية للأجسام الفلكية وأعطى كوكب الأرض دور المركز، عكس العرضي في مراجعاته اتجاه الدوران وعدّل سرعته لتلائم النظرية المشاهدات المتوفرة حينها، معطياً مع تلك التعديلات وزناً أكبر للرياضيات في عمليات التأمل والمشاهدة في علم الفلك.
مع هذه التبدلات والتركيز على التجريب والقياس الكمّي، أي القياس بالأرقام والإحصائيات، انتقل التأمل نسبياً من الأبعاد الدينية إلى الدنيوية الزمنية. وهكذا بات التأمل مرادفاً عملياً للتوقّع الذي يمكن إثباته أو دحضه بمحاولة إنتاج المعارف أو تحقيق الربح الاقتصادي.
انشغل الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز بعد الحرب الأهلية الإنجليزية في منتصف القرن السابع عشر بالتنظير لسلطة الحاكم المهيمن على المجتمع الذي سمّاه "السيد". تحدّث هوبز عن دور التجارب والأحداث العملية في تشكيل الواقع متمنياً أن تقع نظرياته في يد ذاك "السيد" المتخيَّل ليحوّلها من حالة تكهناتٍ وتوقعاتٍ لجدوى التجارب العملية، أي لواقعٍ مادي. اختار الفيلسوف والطبيب الإنجليزي جون لوك منحى فلسفياً مختلفاً عن هوبز، فركز على حقوق الأفراد وحريّتهم ومعارضته الملكيّة الشمولية. لكنه تقاطع مع هوبز في مسألة ربط التوقع النظري مع التجارب العملية، واعتبر المعارف طريقة لردم المسافة بين الاثنين.
في القرن الثامن عشر عزّزت كتابات الاقتصادي والفيلسوف الإنجليزي آدم سميث عن الرأسمالية دور التوقع في التقديرات الاقتصادية الكميّة، وساهمت في فتح مجالات جديدة له. ربط سميث بين أفكار التجارب العلمية الحديثة ودور الخيال في صناعة التوقعات مع مفاهيم اقتصادية صاعدة، مثل الأسهم التجارية والتأمين والتسعير والعقود التجارية الحديثة. وسّعت هذه النظرة حدود التوقعات. فلم تعد مقتصرة على "الانتظار" لإثبات صحة أفكارٍ علميةٍ أو نظرياتٍ فلسفيةٍ ما، بل باتت تحرك تعاملات تجارية وأساليب احتيالية تعيد رسم حدود العلاقات الاقتصادية. أي أن التوقع بات مقنناً وأداة تحكم بالمآلات الاقتصادية مستقبلاً، بدل أن يكون فعلاً سلبياً يتوقع الأحداث ولا يكون المرء فيه سوى مشاهد غير قادر على السيطرة على المستقبل.
يسرد رودجرز في كتابه الآنف الذكر "التوقع" تلك التحولات، وينتقل بعدها للحديث عن مساحاتٍ إضافية هيمن عليها ظلّ التوقعات كوثائق التأمين الحديثة والسجالات القانونية عنها. دارت إحدى أبرز القضايا التأمينية سنة 1766 عن قلعةٍ بَنَتها شركة "الهند الشرقية" البريطانية أثناء هيمنتها الاستعمارية على شبه القارة الهندية. كان الجدل حينها في المعلومات التي توفرت لدى حاكمٍ بريطاني في جزيرة سومطرة ترَأس الشركة، ومدى تمكنه من توقع تعرض القلعة لهجومٍ فرنسي، وتأثير تلك التوقعات على قراره بشراء وثيقة تأمين. عند وقوع الهجوم، رفض الطرف المؤمِّن التعويض على الشركة بحجة ترجيح رئيسها المسبق وقوعَ الهجوم وعدم كشفه عن تلك المعلومات عند الاتفاق على التأمين.
نتج عن تلك القضية التي دارت في سياقٍ استعماري، وللمفارقة، مبدأ "النوايا الحسنة". يقضي المبدأ بافصاحِ طرفَي اتفاقيات التأمين عن كل المعلومات التي يحوزانها عن موضوع الاتفاق عند التوقيع. وهذا المبدأ محاولة للتقليل من احتمالات الاحتيال والتوافق في التوقعات عما قد يتعرض له موضوع اتفاق التأمين مستقبلاً. صار لمفهوم التوقع مع هذا المبدأ القانوني وزناً اقتصادياً هائلاً، وكان حينها على موعد لاكتساب المزيد من السلطة مع تبدلاتٍ تقنيةٍ مقبلة.
تضاعفَ عدد الآلات لدى إحدى شركات البورصة في نيويورك بين عامَي 1867 و1878، حسب رودجرز، أكثر من خمسين مرة. فأصبحت تملك 1342 جهازاً بدلاً من خمسة وعشرين جهازاً، ليصل العدد إلى حوالي ثلاثةٍ وعشرينَ ألفاً مع بدايات القرن العشرين. مهّدت النقّارة ومعها آلات رقمية أخرى، الطريق لإنتاج بياناتٍ تسلب بغزارتها وسرعة إنتاجها البشرَ من بعض قدرتهم على التوقع. ونقلت معها سلطة التوقّع للآلة، ثم للخوارزمية كما هو الحال اليوم مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
وفق لاغرندور كان أرسطو أول من أشار لإمكانية استخدام آلاتٍ ذكية لاستبدال المجهود البشري بالفعل. بنى الفيلسوف طرحه على فكرة هوميروس في الإلياذة وأخذها من حيز الأسطورة للاقتراح العملي ضمن حدود التقنية المتوفرة حينها. أشار أرسطو في كتابه عن فلسفة السياسة المعنون "السياسة" إلى احتمال استغناء "السادة" عن البشر المستعبَدين حينها في حال استعملت آلات ذكية لممارسة ذات المهام. وبهذا تصبح الآلة امتداداً "لسيّدها البشري" وتعزيزاً لقدراته وحواسه وسلطته.
بعدها وفي عصر النهضة الأوروبي، من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر، بُنيت كتاباتٌ على أفكار أرسطو عن إمكانية إنتاج مخلوقاتٍ ذكيةٍ وهجينةٍ، أي بشرية خارقة. يذكر لاغرَندور في الكتاب اعتقاد أرسطو أن للحيوان المنوي الدور الأوحد في تشكيل الجنين، وأن الرحم ليس سوى وعاء لتغذية الجنين وتأمين نموه. وهي الفكرة التي سادت في بدايات القرون الوسطى. فقد اعتبر بعض العلماء أن ما يحتاجه الحيوان المنوي "ملجأ" لتأمين نموه ليس إلا، وليس رحماً طبيعياً بالضرورة. انتقلت بعض هذه الأفكار لعصر النهضة بعد أن تُرجمت أعمال فلاسفة وعلماء كجابر بن حيان وأبو بكر الرازي عن العربية.
تحدّث جابر بن حيان، الذي عاش معظم حياته في القرن الثامن، في "كتاب التجميع" عن طرق إنتاج مخلوقاتٍ بشرية حيوانية هجينة. بينما تحدّث الرازي عن وصفة إنتاج مخلوقاتٍ مماثلة بعد ترك مستوعبٍ من الحيوانات المنوية أو خلطها مع كميةٍ من الدماء، في فضلاتٍ حيوانيّة لتوفير التدفئة اللازمة لنمو جنينٍ هجين. كان للكيميائي والعالم السويسري باراسيلسوس في القرن السادس عشر النظرة نفسها. فقد اعتبر باراسيلسوس وعلماء آخرون في تلك الفترة، التي اختلطت فيها بدايات العلوم التطبيقية الحديثة مع الكيمياء والسحر، أن لتلك المخلوقات الهجينة قوى خارقة تشبه ما يُحكى اليوم عن الآلات ونماذج الذكاء الاصطناعي والإنسان الهجين. ويُقصد بالإنسان الهجين البشر الذين تكون الآلة الذكية جزءاً من أجسامهم، وما يُثَار عن نتائج زرع شرائح ذكيّة في أدمغة بشرية.
خسر باراسيلسوس بسبب أفكاره عملَه مدرّساً للطب في جامعة مدينة بازل السويسرية وطرد منها في تلك الفترة. ارتدّت بعض التيارات المجتمعية في غرب أوروبا باتجاهات محافظة خوفاً من التغيّرات الناتجة عن بدايات الطور الحديث للعلوم، ودعم المحافظون من منتجي المعرفة الأساليبَ التقليدية على حساب الجديدة منها كالتنظير والتجريب والاختبار.
يتنقل أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة ليفربول البريطانية ويل سلوكومب في الفصل التاسع من "سرديات الذكاء الاصطناعي" بين نص كارليل وأعمالٍ أدبيةٍ أخرى ليقدّم عرضاً لوجهات نظرٍ مختلفة حذرت من تنامي سلطة الآلات أو احتفت بها. فبعد أكثر من قرن على نص كارليل، كتب الأديب البريطاني إدوارد فورستر في سنة 1909 قصته "الآلة تتوقف" من الخيال العلمي أو بالأحرى أدب "الديستوبيا" (مجتمع غياب الفضيلة) العلمي، عن مجتمعٍ يعيش تحت الأرض ويتواصل حصراً عبر الهاتف والشاشات المرئية.
لم يعش فورستر سنوات فيروس كورونا في بداية العقد الثالث للألفية، لكن محور قصته عن تأثير التقنية على طرق التواصل بين البشر قد يبدو لوهلة توقعاً دقيقاً لنتائج تلك الفترة. في القصة تدور جدالات عن الثمن الذي يدفعه البشر نتيجة الاعتماد على الآلة. ولا يخفي فورستر عبر إحدى الشخصيات ميلَه الواضح لرفض تلك العلاقة التي أتاحت للآلة محو تفاصيل الأمكنة وقلّصت دور الحواس عبر التواصل البارد عبر الشاشة.
كتّاب آخرون عاصروا فورستر ومجّدوا دور الآلة ذهبوا بعيداً بانحيازهم لها. في الأربعينيات ولعقود تَلَت، كتب الأمريكي إسحاق أسيموف المئات من قصص الخيال العلمي القصيرة والروائية ونال شهرةً واسعةً في الولايات المتحدة. تناول أسيموف دور الآلة في عددٍ من تلك النصوص، ورسم عوالمَ متخيَّلة تسيطر فيها آلات على الاقتصاد والسلطة. وقبل الأخبار التي بدت طريفة في منتصف سنة 2024 عن اقتراح مرشحٍ في ولاية وايومنغ الأميركيّة استعمال نموذج ذكاءٍ اصطناعي لتسيير حكم الولاية، كتب أسيموف في قصة عنوانها "الدليل" سنة 1946 عن مرشحٍ سياسي في سياقٍ مشابه، دون الإشارة إذا كان الأخير إنساناً أو آلة.
كتب أسيموف سنة 1950 قصةً أخرى عنوانها "صراع يمكن تجنبه"، وفيها أحالَ الحكم في عالمٍ متخيَّل لأربع آلاتٍ ضخمة. تَستبعد إحدى شخصيات القصة البشرَ من القدرة على الحكم وفرض الاستقرار وتحيل تلك القدرة للآلة لعدم إمكانية تورطها في الفساد أو التمييز أو الاستبداد. وقد أثرت أعمال أسيموف على نظرة مديري شركات تقنية تسعى باستمرار لتبسيط التغيرات في العالم وتقديم التقنيات التي تنتجها شركاتها على أنّها حلول جاهزة. كان أبرز هؤلاء الأمريكي إيلون ماسك الذي تحدث عن تأثره بقصص أسيموف عن تأثير التقنية على ما أسماه ماسك "إطالة عمر الحضارة البشرية ومنع العصور المظلمة".
بدت تلك الخوارزميات مفاجأة لا أصل لها وسعى منتجوها أفراداً وشركات لمراكمة الربح، وتالياً السلطة، عبر الدفع بتلك الصورة الثنائية: ما قبل الذكاء الاصطناعي وما بعده. برسم خطوط فاصلة يجهد أفرادٌ وكياناتٌ سياسية وتجارية عملاقة لاحتكار سرد تاريخ التقنية وتجاهل تنقل الأفكار واستمراريتها، من توقّع المستقبل لنماذج آلات بقدرات تفوق تلك البشرية. مع محو الماضي ثم خلق الدهشة، كيف لا يبدو الذكاء الاصطناعي أداةً للسيطرة؟
