ظهور وسائط تصويرية جديدة، ضمن ما يعبِّر عنه الفيلسوف الأمريكي وليام ميتشل بمصطلح "المنعطف التصويري"، يؤدِّي إلى تغيّر في طبيعة ظهور اللوحات القرآنية وحضورها. فالوسائط الجديدة، مثل إنستغرام، لا تقدّم إمكانيةً تصويريةً مختلفةً نوعياً عن المنعطفات التصويرية السابقة مثل اللوحة الزيتية والصورة الفوتوغرافية والسينما فحسب. بل تتيح إمكانية مضاعفة اللوحة وتحويلها إلى شكلٍ من "الميتا تصويرة"، أو "الصورة المضاعفة"، حسب تعبير ميتشل الذي يستخدمه الكاتب وأستاذ الفلسفة محمد شوقي الزين في كتابه "الثقافة والصورة" الصادر سنة 2025. وهكذا تصبح الصورة داخل مساحاتٍ أوسع وأكثر انتشاراً فيما عجزت عن رسمه الطرق التقليدية.
تبرز أشكال هذه المضاعفة في اللوحات القرآنية التي ترسمها الفنانة الكندية المسلمة صالحة، وفي طريقة عرضها على موقعها الرسمي وعلى صفحتها على إنستغرام. تقول صالحة على موقعها الرسمي إنها جاءت من خلفيةٍ متواضعة. لا تعلن عن أصولها، بل تكتفي بالإشارة إلى ولادتها في كندا، وأنها اكتشفت الإسلام من جديدٍ في مراحل لاحقةٍ في حياتها. ومن إعادة اكتشافها للدين موضوعاً ولنفسها ذاتاً، انطلقت صالحة تنغمس فنّياً في التعبير عن الدين وما له من أبعاد وتجليات وتعبيرات. والأهمّ أن هذا الانغماس في الصورة الافتراضية والجمال البصري المرتبط بالقيم الدينية وترويجها يستحضر كثيراً من السمات مع ما يسمّى "إسلام السوق"، كما حدّده الباحث السويسري باتريك هايني في كتابه المُعنون بالاسم ذاته.
على هذا التشابه العامّ مع سمات إسلام السوق، فإن لوحات صالحة تبرز في وظيفتها اختلافاً عنه. إذ تمثّل لوحاتها ما يمكن تسميته "الارتباط الجمالي"، فيبدو مؤسساً لحضور القرآن في علاقته بالعالم وبالأمة المؤمنة. تربط هذه اللوحات المسلمين تاريخياً وتكرِّس حضورهم، لاسيما في أوروبا وأمريكا. وصالحة من ضمنهم، ضمن النسيج الإسلامي التاريخي والجغرافي والروحي الأشمل. واستناداً لأعمال بعض الدارسين المعاصرين حول الصورة والجسد والمقدس، يظهر أن هذه اللوحات القرآنية ليست محض نسخٍ باهتةٍ في سوق الصور المعاصر. وإنما تحمل أصالةً تبرز في خصائصها الفنية واللونية، وفي قدرتها على استكشاف الطبيعة العميقة للكلمة الإلهية ذاتها صورةً أو لوحة.
من المغري تفسير صالحة وفق نموذج هايني. فقد باتت مفاهيمه نموذجاً إرشادياً لتفسير كثيرٍ من الوقائع ضمن الحقل الديني. وحسب هذا النموذج، نستطيع التقاط معظم سمات "إسلام السوق" في نمط حضورها على موقعها الرسمي أو على صفحاتها على مواقع التواصل. بل يمكن تفسير لوحاتها ذاتها من داخل المنظور نفسه. فنستظهرها إعادةَ إنتاجٍ جماليةً أو بصريةً للقيم والمعاني الدينية، وإعادة تعريفٍ للهوية الدينية، وعولمةً لها. إلّا أن نظرةً أعمقً في أعمال صالحة ربما تدفعنا لتغيير نظرتنا قليلاً. إذ يظهر التنافر بين النموذج الجاهز الذي يعتمد على مفاهيم هايني، والواقع الذي تحمله أعمال صالحة هذه.
تبدو أعمال صالحة منطويةً على بعض القيم الأُخروية (الغيبية). فترسم في لوحاتها مثلاً رحلة الروح في الآخرة، كذلك تؤكّد على قيمة الشهادة. وتتمثّل مسألةً مثل "فتنة الدجال" في آخِر الأيام، ما يستعيد قيم الترهيب التي تغيب عن إسلام السوق الذي يركّز على القيم الإيجابية والفردانية. كذلك تهتمّ صالحة بالطابع الأمّتي للإسلام. وتُعَدّ لوحاتها لبنةَ أساسٍ في خلق الترابط بين المسلمين أمّةً روحيةً تتجاوز الزمان والمكان الحاليَّيْن.
هذا يعني أن صالحة لا تتموضع تماماً داخل مفاهيم إسلام السوق بالضرورة، مع انطباق كثيرٍ من سماته عليها، أو على الأقل فإن لوحاتها لا تُفسَّر انطلاقاً من هذا المنظور وحسب. بل تحتاج منظوراً مغايراً لتفسيرها، ضمن نطاق سلطة النصّ القرآني وقدرته على التصوير.
وما انفكّ العالم الإسلامي يرسم القرآن صورةً في كلّ عصرٍ من تاريخه، وإن كان الإسلام بالغالب قد أخذ موقفاً فقهياً تحريمياً تجاه مسألة التصوير. انحصر هذا التحريم في رفض التصوير محاكاةً للخلق، ممّا فتح الباب لتصوير الكلمة نفسها. وهكذا فُضّلت الكلمة على الصورة، والسمع على البصر. لذا نجد في التراث الإسلامي الكثير من اللوحات القرآنية التي ترسم آياته وحروفه. سواءً تلك اللوحات المعلقة أو المبثوثة زخارفَ داخل صفحات المصاحف، أو المنقوشة على جدران المساجد ومنابرها وأسقفها، أو تلك المبروزة في المنازل. ومن ذلك مثلاً سورة الرحمن، فهي واحدةٌ من السور التي كثيراً ما تُرسم صورةً بالخطّ العربي مع الزخرفة المصاحبة.
وتمثل هذه اللوحات القرآنية في ذاتها إمتاعاً بصرياً مباشراً لما فيها من مهارةٍ في السبك، واستحضاراً ابداعياً مصوراً لنصٍّ مكتوب. في الوقت ذاته تمثِّل اللوحة بوابةً لما وراءها. فباستحضار الكلمة يستحضر جلال الكلمة الإلهية، الخالقة والمصوِّرة. هذا الطابع اللوحي المصور للكلمة، كما يعبّر شوقي الزين، يضمن لها الوجود داخل النسق الإسلامي. وهو ما ينقذ الصورة من التحول إلى وثنٍ، أي أن تصبح الصورة بحدّ ذاتها جسماً مقدساً.
وإذا كان سرد الصورة عبر "الميتا صورة"، فإن الصورة القرآنية هي ميتا صورة بدايةً. فالكلمة داخل القرآن ليست صورة بلاغية فحسب، بل لوحة. إننا لا نقرأها ونسمعها فقط، بل نراها. وهكذا تتكشف الكلمة الإلهية من خلف صورٍ شديدة التركيب ترسم البحر مداداً والشجر أقلاماً. كما في الآية 109 من سورة الكهف "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي [. . .]"، والآية 27 من سورة لقمان "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [. . .]". وهكذا تتضاعف بهذا طبقات الجمال في اللوحات القرآنية، ومنها إلى المعنى وفائضه. أي أن الصورة لا تمثِّل مجرّد التقاطٍ للجمال في عالمنا، بل أيضاً تمديداً للجمال ونسجاً له في سياقاتٍ أوسع وأعمق.
زخر التراث الإسلامي برسم السرد والقصص القرآني. إذ نجد في الهند وإيران خصوصاً كثيراً من اللوحات والمنمنمات التي تصوّر قصصاً دينيةً مركزيةً، مثل قصة نزول الوحي على النبيّ محمد وقصة النبيّ موسى والخضر وقصة النبيّ يوسف وامرأة عزيز مصر زليخة.
ومن هذا المنظور، تؤدّي الصورة وظيفة شبيهة بوظيفة المدونات السردية. أي أنها تستكشف الكون رمزياً أو تستكشف حضوره داخل النصّ، فيتحول النصّ صورةً تعكس العالم أو الكون. وفي حالة اللوحات القرآنية، يكون هذا الاستكشاف أكثر كلّيةً وعبر استخدام حواسّ أخرى مثل البصر. فتتجاوز الانحصار في السمع كونَه أكثر الملَكات تشريفاً في التوحيد. ومن هنا، فاللوحة القرآنية التي ترسمها صالحة ليست زينةً أو زخرفاً، بل بوابةً للسردية الإسلامية. ففيها استحضار الجلال الإلهي وسُكنى في عالمٍ لا تخفى قوّة جماله، يتشابك فيه السرد والمكان.
تخبرنا صالحة على موقعها الرسمي، وكذلك على صفحتها على منصة إنستغرام، عن قضية الربط. فهي تعبّر عن اهتمامها الشديد بقضية التواصل بين المسلمين. تواصلهم في أوروبا وأمريكا مع بعضهم ومع المسلمين خارجهما، وكذلك تواصل المسلمين المعاصرين مع التاريخ الإسلامي الطويل. هذا يعني أن هدف الربط والتأسيس لذاكرةٍ جمعيةٍ عند صالحة هو دافعٌ أساسٌ في عملها الفنّي.
تعتمد صالحة أيضاً على ما توفّره لها الوسائط الحديثة من وسائل تواصلٍ اجتماعيٍ وتقنيةٍ إلكترونيةٍ من أجل مضاعفة عملية الربط هذه. والوسائط الجديدة بقدرتها على نشر الصور تحوّلت إلى ترسيخٍ للذاكرة ومقاومةٍ للنسيان وإمعانٍ في التاريخ الروحي وتمديدٍ له. تضع صالحة لوحاتها بمعالمها التاريخية في الواقع الافتراضي، فتخلق على امتداده ما يمكن تسميته "افتراضية مقدسة" على غرار "الجغرافيا المقدسة" عند المؤرخ الفرنسي موريس هلبفاكس.
تضاعف صالحة الصورَ باستخدام الفيديو كذلك. فهي تصور تقريباً كلّ مراحل إنجاز اللوحة: من اختيار الموادّ الخام ورسم القوالب والخطوط الأولية وضربات الفرشاة الأولى. أحياناً تعرض صالحة لوحةً مع خلفية موسيقية وتعليق صوتي يبدأ من اللحظة الأولى مستمراً إلى اكتمال اللوحة جزءاً من مشهدٍ أوسعَ مركَّبٍ بعنايةٍ، على مستوى الديكور أو الإضاءة، أو حركة الجسد والزيّ. يبدو هذا مشهداً سينمائياً متكاملاً ينخرط فيه المشاهد، أو "يتورط فيه مشاركاً"، حسب تعبير أستاذ الفلسفة المغربي عبد العالي معزوز. ويبدو هذا التوريط جزءاً من استراتيجية الربط التي تقدّمها اللوحة.
ولا يظهر هدف الربط في استخدام الصورة نفسها مجرّداً والصورة المضاعفة أو في التوريط الذي يحمله الفيديو. بل تتجاوزه صالحة باستخدام الحروف العربية والإنجليزية داخل اللوحة. ويبدو أن لهذا الاستخدام هدفاً إخبارياً يسهِّل فهم اللوحة وموضوعها. تستخدم الحرف المزخرف فعلاً، لكن في سياقٍ أبسط بكثيرٍ ممّا اعتدنا رؤيته. كذلك تحيط به نصوصاً كتبتها كتابةً مستقيمةً واضحةً كما هو الحال في الكتب. ونجد إصراراً من صالحة على ردف كلّ لوحةٍ مصوّرةٍ على صفحتها بتعليقٍ طويل. هدف التعليق ليس الشرح –وهو الدارج في الأعمال الفنّية المعاصرة– بقدر ما هو هدف اللوحة نفسها باستثارة وغرس اهتمامٍ روحيٍّ أو اجتماعيٍّ بعينه. وفي هذا السياق، تُظهر اللوحة الدين فضاءً مانحاً للمعنى.
ومع ذلك فإننا نجد بعضاً من الاهتمام بجمالية القرآن في الأعمال الروائية والمسرحية والسينمائية. استطاعت هذه الأعمال خلق استمراريةٍ معقولةٍ مع الرموز الدينية الإسلامية وخلق ارتباطٍ إنسانيٍّ بقصص القرآن. أعادت هذه الأعمال استخدام القصص الديني في أعمالٍ سرديةٍ جديدة. الأمثلة كثيرة. ومنها روايات نجيب محفوظ، مثل "أولاد حارتنا" و"اللص والكلاب". وبعض مسرحيات توفيق الحكيم، مثل "سليمان الحكيم" و"أهل الكهف". وبعض روايات ثروت أباظة، على غرار "خشوع" و"غفران". أو كما يظهر في فيلم داود عبد السيد "أرض الخوف".
ويبدو أن أعمال صالحة تتوازى مع عمل هؤلاء الكتّاب، فتصبح جزءاً من التلقّي الجماليّ الحديث للقرآن. هذا باعتبار أنّ كليهما نوعٌ من "الميتا صورة" التي تستغل القدرة التوليدية للصورة الأصل، أي "القصة القرآنية"، في خلق تواصلٍ واسعٍ بين المشاهد والمشهد. وفي حالةِ صالحة "اللوحة". كذلك توفِّر الوسائط الحديثة لصالحة قدرةً مضافةً إلى الإمتاع البصري الثابت والرزين الذي يتمايز عن الإمتاع البصري المتحرك وأحياناً السريع للسينما. وبالتالي تمكِّنها من توفير تواصلٍ جسديٍ وروحيٍ أشمل مع العالم الذي يخلقه القرآن. وتوفِّر لها طبيعة لغتها الفنّية والطابع الافتراضي لعرض لوحاتها في خلق ارتباطٍ كونيٍّ أشمل.
وكما أن كتابة الصورة الدينية روايةً ومسرحيةً لم يحصل بلا صراع مع هذه الوسائط الحديثة فكذلك رسم صالحة القرآنَ صورةً. وصراع صالحة لم يكن مع التصوير الحديث فحسب أو مع ملامح الفنّ المعاصر، وإنما مع الشكل النمطي من "تصوير" الشرق والإسلام وقصصه وشخوصه وأناسه أيضاً. تواجه صالحة هنا تاريخاً استشراقياً يصوَّر فيه الشرق غرائبياً وسحرياً وبعيداً. وهذا التصوير اتخذ القرآن قطعةً من أثاث اللوحة، فيبدو ساكناً جامداً في منتصف مساحةٍ لونيةٍ ممتدةٍ في هذه المساحة. فلا يُتخذ القرآن حينئذٍ كلمةً ولا صورةً، بل محض خطٍّ ولونٍ، أو عنصراً بصرياً فنياً مجرّداً. على النقيض من هذا، يظهر القرآن في لوحات صالحة حيّاً نابضاً. فهي تصور كلماته وتسرد صوره وفق معنىً يحتوي الغرب والشرق. هو معنىً شاملٌ –أو رابطٌ– يتجاوز النمطيات والتقسيمات الجغرافية والعرقية والدينية. فيجمع المؤمنين على اختلافاتهم، لسماع الكلمة ذاتها والمعنى ذاته.
ومن هنا تبرز محدودية النظرة الأولى لأعمال الفنانة صالحة باعتبارها إعادة تعريفٍ للقيم الدينية في ظلّ متطلبات العالم الحديث، أي استجابةً لدوامة الاستهلاك والتسليع والواقع الافتراضي. إلّا أن أعمال صالحة تقف شاهداً على التنوع الذي تشهده السلوكيات الدينية عموماً في عصرنا اليوم. وتعبّر عن التعقيد الكبير في هذه السلوكيات وأنماط ظهورها وأهدافها. والأهمّ أن لوحاتها ليست سوى نموذجٍ من نماذج كثيرةٍ للتفاعل المعاصر الجمالي والجسدي والشخصي واليومي مع القرآن.
تتشارك كلّ هذه التفاعلات في قدرتها على استكشاف مساحاتٍ داخل القرآن، ربما ستبدو وهلةً أولى إعادةَ تشكيلٍ له. لكن بتدقيقٍ أكبر ستظهر استعادةً لمساحاتٍ أصيلةٍ غُيّبت فيه.
