التدين الرقمي.. ملمحٌ جديدٌ في حياة المسلمين

برز نمطٌ جديدٌ للتدين في العالم الإسلامي يعتمد على الفضاء الرقمي، ووسائله هي شبكات التواصل الاجتماعي.

Share
التدين الرقمي.. ملمحٌ جديدٌ في حياة المسلمين
لا تُعدّ ظاهرة اندماج الدين بالإنترنت أمراً طارئاً | تصميم خاص بالفِراتْس

بقدر التغييرات الكبيرة التي اجتاحت المشهد السياسي والاقتصادي والتقني في عديدٍ من الدول العربية في السنوات الأخيرة، طرأت حالة تغيّرٍ موازيةٌ عند الأفراد والمجتمعات ومنظوماتهم القيمية، طالت حتى أنماط تديّنهم. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تجلّت المظاهر الدينية في ملامح من الحياة العامة في كثيرٍ من الدول العربية. مَثَّل ذلك ترسيخاً لنمط صعود مظاهر التدين وسيادتها في المجتمع في العالم العربي.

بدأت هذه المظاهر مع ما عُرف بالصحوة الإسلامية في السبعينيات. فقد تصدرت ظواهر انتشار الحجاب المشهد العامّ. وتَبِع ذلك ظهور "الدعاة الجدد"، وهم جيلٌ جديدٌ من الدعاة جاؤوا من خارج المؤسسات الدينية الرسمية بخطابٍ دينيٍ قريبٍ من الشباب. استخدم هؤلاء الدعاة مفرداتٍ تختلف عما في اللغة الرسمية من خطابٍ تقليدي. وكانوا أقرب في ملامحهم وأدائهم والقضايا التي طرحوها إلى أبناء الطبقة الوسطى المصرية في ذلك الجيل، جيل الألفية.

مع تصاعد ثورات الربيع العربي سنة 2011، شهد التدين والتصورات بشأن الدين وموقعه في الحياة العامة توسعاً ملحوظاً. تمثَّل هذا في طرقٍ جديدةٍ للتفاعل مع الدين وقيمه والتدين ومظاهره. وبسبب التطورات التقنية في عالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، برز ما صار يطلَق عليه "التدين الرقمي". تجسّد التدين الرقمي بصعود شخصياتٍ جديدةٍ في وسائل التواصل تمثل طرقاً جديدةً لتعاطي الشباب مع المحتوى الديني والشعائر الدينية. وتعمق ذلك بعد فترة اضطرابٍ ديدنُها الصدام السياسي بين حكومات دولٍ عربيةٍ وتيارات الإسلام السياسي، فنتج عنها تراجعٌ في ظاهرة الدعاة الجدد أيضاً. عزّز هذا التراجعَ مشاهدة الشباب التناقضَ بين القيم التي يدّعيها بعض الدعاة الجدد وأفعالهم التي كان دافعها المصلحة، كالتحالف مع السلطة أو تأييدها.

صار التدين الرقمي سمةً من سمات فترة ما بعد الربيع العربي. ولكن مع جائحة كورونا بنهاية 2019، اهتز العالم واهتزت منظوماته القيمية. فدفعت الجائحة بالتدين الرقمي إلى القمة ليصبح ملمحاً أساساً في حياة الكثيرين، لاسيما بين أوساط جيل الشباب من "مؤثرين" و"صانعي محتوى" ممن وُلدوا بين سنتَيْ 1994 و2010. أدّت الأزمة إلى عودة كثيرٍ من الناس إلى التدين بحثاً عن الملاذ الروحي الذي يقدمه الدين. ومن ناحيةٍ أخرى وفّر التواصل عن بعدٍ وسائل رقميةً جديدةً لربط المتدينين مع مجتمعاتهم وتأدية شعائرهم ومناقشة أفكارهم ومبادئهم.


أشارت استطلاعات رأيٍ تُتابع التوجهات الدينية لدى الشباب بالمنطقة العربية إلى تراجعٍ ملحوظٍ في مظاهر التدين بعد سنة 2014. فوفقاً لاستطلاع رأي الشباب العربي الصادر من أصداء بي سي دبليو في 2019، يرى 49 بالمئة من الشباب بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن تأثير الدين يتضاءل في العالم العربي. ورأى 50 بالمئة من الشباب في الاستطلاع نفسه أن القيم الدينية في العالم العربي تعيق تقدّمه. وأشار تقرير الباروميتر العربي الصادر لسنتَيْ 2019 و2020 إلى أن ثمّة تراجعاً في التدين في العالم العربي مقارنةً بالدورات السابقة. فقد صرّح نحو 13 بالمئة من المستطلَعين أنهم غير متدينين، في ارتفاعٍ ملحوظٍ مقارنةً بالدورة السابقة في 2013 التي أشار فيها 8 بالمئة فقط إلى ذلك. وتزداد النسبة لدى شريحة الشباب، إذ ارتفعت من 11 إلى 18 بالمئة.

ومع تواضع الزيادة في نسبة الذين وصفوا أنفسهم أنهم غير متدينين، إلّا أنها تظلّ نسبةً ذات دلالة. وكأن الشباب في هذه الآونة يعلنون موقفاً متمرداً على "الرمزية الدينية" وتدنّي ثقتهم في نمط التدين الذي ساد في العقد السابق، خاصّةً في الدول التي شهدت تجربة الإسلام السياسي في الحكم. ففي تونس مثلاً، وصلت نسبة الشباب الذين يرون أنفسهم غير متدينين إلى 46 بالمئة. وقد نشر الباروميتر تقريراً بعنوان "هل أصبح الشرق الأوسط أقلّ تديّناً؟" أشار فيه إلى انحسار الثقة في رجال الدين بين الشباب العربي. ومن أهم النتائج التي خلص لها التقرير أن ثمّة "فراغ ديني" يتشكل، انحسرت فيه قوّة بعض الشخصيات المتدينة ونفوذهم ممّن كان لهم تأثيرٌ على الشباب آنذاك. فتصاعدت التكهنات عن سؤال من الذي سيملأ هذا الفراغ.

وفي محاولةٍ لإعادة تعريف التدين، والبحث عن نقطةٍ بعيدةٍ من ملامح التدين السابق، ظهرت ملامح لتوجّه بعض الشباب نحو نمط التدين الصوفي. ذلك النمط الذي يبتعد عن جدالات الشأن العام وأسئلة الدين والسياسة، والمغالاة في أداء العبادات وخطاب التخويف والتهويل. وتحول نمط التدين إلى التركيز على الشعائر الدينية وحوار الأخلاق والابتعاد عن رؤية الدين والمجتمع من منظور ثنائية الحلال والحرام. وازداد الميل إلى تبنّي نمط تدينٍ فرديٍّ قائمٍ على ثنائية الفرد وربّه.

يشير مارك سيدجويك في مقالته "إيكليتيك سوفيزيم" (الصوفية الانتقائية) المنشورة سنة 2017 أن هذا التحول، الذي بدا محموداً من بعض الدول العربية، انعكس في تصاعد إحياء الأدب الصوفي وانتشار الروايات وكتابات رموز الصوفية مثل ابن عربي وجلال الدين الرومي. ليس هذا فحسب، حسب تعبير خالد محمد عبده في مقالته "صحوة الصوفية" سنة 2020، بل قدمت بعض المسلسلات العربية أعمالاً مستمدةً من أدبيات التصوف تُظهر الإسلام في صورةٍ أخلاقيةٍ متسامحةٍ تبتعد عن جدالات الطائفية وخطاب التطرف. ونذكر من ذلك مسلسل "العاشق" المنتَج سنة 2019، والذي يتناول حياة المتصوف المسلم الحسين بن منصور الحلاج.

في تلك المرحلة أصبحت تجربة التدين الروحية تحظى باهتمامٍ أكبر. تقوم تلك التجربة على تهذيب الذات وتنقية النفس وإعلاء قيم المحبة والسلام والبعد عن الجدال المادّي. وبسبب التفاعل بين الأجيال الجديدة المتعلمة مع إرث الصوفية التقليدي، ظهر ما سمّاه سيدجويك "الصوفية الانتقائية" أو "الصوفية المختارة" التي تشير إلى إعادة تفسير تقاليد الصوفية ودمج تصوراتٍ اجتماعيةٍ عالميةٍ لا تقتصر على الخبرة المحلية للطرق الصوفية. ومن الأمثلة على ذلك رواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية أليف شافاق، التي تُرجمت إلى خمسٍ وثلاثين لغةً، وانتشرت بين شباب العالم الإسلامي.


أثّر انتشار جائحة كورونا من نهاية سنة 2019 حتى بداية 2023 في مجالات الحياة كافّةً، وتغيّرت معها ملامح الحياة اليومية عند كثيرٍ من الناس. فتراجعت التفاعلات الجسدية مقابل تصاعدٍ غير مسبوقٍ من التفاعلات الرقمية عبر الإنترنت. لم تكن الشعائر الدينية بمعزلٍ عن هذا التحول. خاصّةً وأن الأزمات تدفع الأفراد نحو الدين والتقرب من المجتمع الديني الذي ينتمي إليه الفرد في منطقته أو محيطه، سواءً الجغرافي أو الإلكتروني. نتحدث هنا عن جماعات التضامن الديني التي يتشارك أفرادها اتجاههم الديني بحثاً عن الطمأنينة. فإذا كان اللجوء للدين يرتفع في الأزمات عادةً، فقد ازداد مع هذه الأزمة وكثرت آنذاك التوترات بين الحكومات والجماعات الدينية. ففي حين يحاول الأفراد اللجوء نحو أماكن العبادة وتأدية الصلوات والتحصن بالروحانيات الدينية، فرضت الدول إجراءاتٍ مشدّدةً على التجمعات كافّةً بما في ذلك الصلوات الجماعية وأغلقت أماكن العبادة. أشار تقرير لمركز بيو الأمريكي سنة 2022 إلى اضطرار حوالي ربع الحكومات حول العالم إلى استخدام القوة لتقييد التجمعات الدينية. دفع هذا السياق المجتمعات إلى البحث عن بدائل رقميةٍ لأداء الشعائر الدينية والتواصل الروحي.

يشير نيكولاس ماثي في دراسةٍ بعنوان "تووردز آن أندرستاندينغ أوف إيمبوديمنت إن ديجيتال سبيس" (في سبيل فهم التجسد في الفضاء الرقمي) سنة 2021 إلى أن أزمة كورونا خلّفت تحوّلَيْن أساسيَّيْن لظاهرة التدين. أولهما كان العودة مرّةً أخرى للدين، خاصّةً بعد موجةٍ من التمرد والتشكك والنفور. أما التحول الثاني، فتجسّد في نمطٍ آخَر من التدين تطوّر وانتشر وسُمّي "التدين الرقمي"، متضمّناً مفاهيم مختلفةً وشخصياتٍ ليست من النمط التقليدي. لم تعد الشعائر التي كانت تتطلب الأداء الجسدي في دور العبادة تؤدّى بالطريقة الجماعية ذاتها، بل أصبحت تؤدّى عبر الإنترنت. اندمج الجسد مع الفضاء الإلكتروني، ما أطلق عليه "الجسد الرقمي". ويشير المصطلح لطبيعة الممارسات الدينية والتغيرات التي تغشاها في العصر الرقمي. كأن تقام الصلوات الجماعية والاحتفالات الدينية الكبرى عبر الفضاء الإلكتروني.

ومع انتهاء جائحة كورونا، إلّا أن بعضاً من الشعائر الدينية ما زالت تؤدّى على الإنترنت. فقد اختارت عديدٌ من دور العبادة في عدّة مناطق مواصلة بثّ الشعائر عبر الإنترنت حتى بعد رفع بعض القيود. إذ ظهرت إمكانيات التدين الرقمي في التوغل المجتمعي والوصول إلى أعدادٍ كبيرةٍ لم تكن مطروحةً من قبل. ووفقاً لماثي، تصاعد عدد مستخدمي التطبيقات الدينية الإسلامية بمعدلٍ يقرب من 40 بالمئة. ظهرت ملامح عودة التدين في العالم العربي في الدورة الأخيرة من الباروميتر العربي. فقد تراجعت نسبة الذين وصفوا أنفسهم أنهم غير متدينين في استطلاعات 2021 و2022. برز في الإحصائية تصدّر الشباب تلك العودة إلى الدين والتدين. 


قد لا تعدّ ظاهرة اندماج الدين بالإنترنت أمراً طارئاً. ففي أواخر التسعينيات، ظهر في الأدبيات الغربية مفهوم "التدين الرقمي" أو "التدين الرقمي"، ويُعرف أنه حضور الدين على الإنترنت. وحسب كتاب "ديجيتال ريليجِن" (التدين الرقمي) الذي حرّرته الباحثة الأمريكية هايدي كامبل وصدر سنة 2013، أصبح هذا المفهوم في قلب الجدل بين تفسيراتٍ مثاليةٍ وأخرى متحفّظةٍ عن حالة التدين مع المتغير الجديد. وقد عرّفت كامبل "التدين الرقمي" بأنه "مزيج من الدين ووسائل الإعلام الرقمية".

أتاح الإنترنت مجالاً لتحرير الشعائر الدينية من أيّ قيودٍ تفرضها عليها المؤسسات التقليدية في الحياة الواقعية. وأعطى هذا النمط الجديد مجالاً لإعادة تصوّر الدين من خلف الشاشات. وأظهر مفهوم التدين الرقمي وانتشاره أن ثمّة تحالفاً جديداً يتشكل بين الدين والتقنية. لم تنتشر هذه الأفكار والمفاهيم كثيراً حينها، خاصّةً في المنطقة العربية، فقد كان عالم الإنترنت يُرَى عالماً غير حقيقيٍ، والتفاعلات فيه تُرى غيرَ منعكسةٍ بالضرورة على العالم الواقعي.

في العقد الأول من الألفية الجديدة أصبح مفهوم التدين الرقمي أكثر انتشاراً بين المفكرين وعلماء الاجتماع الديني، وظهرت محاولاتٌ مختلفةٌ لفهم الظاهرة وملامح التفاعل بين الدين والتقنية. غير أن معظم المحاولات حصرت ذلك التفاعل في مجرّد نقل المعرفة الدينية إلى العالم الافتراضي، وكأنها نسخةٌ إلكترونيةٌ مطابقةٌ لمثيلتها في العالم الواقعي وحسب. بينما أشار مورتن هوجسجارد، مؤلف كتاب "ريليجِن آند سايبرسبيس" (الدين والفضاء الرقمي) الصادر سنة 2005، أن التدين الرقمي ليس مصطلحاً معزولاً أبداً، بل هو أقرب لإطارٍ نظريٍّ كلّيٍ يتماشى مع ثقافة ما بعد الحداثة الرقمية (وهي تقاطع قيم عهد ما بعد الحداثة والتقنية الرقمية). ومن أهم أبعاد هذا الإطار المفاهيمي أنه على الناحية المناقضة للشكل المؤسّسي للتدين، وهو بعيدٌ عن الهياكل الجامدة وتراتبية السلطة الدينية. غير أن ظاهرة التدين الرقمي كانت لاتزال تناقش الأسئلة الكبرى ذاتها التي يناقشها الخطاب والمؤسسات الدينية التقليدية.

حسب كامبل، تطوّر التفاعل بين الدين والتقنية مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ليُعاد تشكيل الشعائر والخطابات الدينية عبر الإنترنت، وفي بيئاتٍ تقنيةٍ أخرى. لم يعد الأمر مقتصراً على نقل الشعائر التقليدية إلى الوسائط الرقمية، بل تجاوزه إلى تطوير أشكالٍ جديدةٍ من الأداء والخبرات الدينية التي تتكيّف مع السياقات الرقمية. أي أن التدين الرقمي ليس مجرّد امتدادٍ تقنيٍّ للدين التقليدي، بل هو مساحةٌ يُعاد فيها تشكيل الدين والشعائر الروحية لتتناسب مع الثقافة الرقمية. فالتدين الرقمي مزيجٌ من عناصر الثقافة الرقمية، مثل التفاعل والتقارب وقدرة الجمهور على إنتاج المحتوى من جهةٍ، وبين الدين الذي يختصر تقليدياً في الطقوس والشعائر والعبادات من الجهة الأخرى.

لم يكن المسلمون في العالم العربي بمعزلٍ عن تلك التحولات في الظاهرة الدينية. كانت المنطقة في القلب منها، خاصّةً في ظلّ واقعٍ سكّانيٍّ يحتلّ فيه الشباب النسبةَ الأكبر مقارنةً بالغرب. ترتبط هذه التطورات بالشباب لقدرتهم على استخدام الأدوات التقنية الحديثة، ولأنها الأدوات الحصرية التي نشؤوا في ظلِّها. كان لأبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين في أوروبا شيءٌ من الفضل في نقل بعض التجارب الغربية للمجال الديني الإسلامي الرقمي. وقد صدرت عديدٌ من الكتابات لدراسة ما يسمّى "بيئة الإسلام الرقمي"، في محاولةٍ لفهم شكل الخطاب الديني الجديد وملامح ظاهرة التدين الإسلامية الرقمية والتعرف على المؤثرين الجدد في هذه البيئة.


يُعدّ غاري بانت من أهمّ الباحثين الدارسين لظاهرة الإسلام الرقمي. قدّم عدداً من المؤلفات في هذا الشأن، على رأسها "هاشتاغ إسلام" سنة 2018، و"آي مسلمز" (مسلمو الإنترنت) سنة 2009. يناقش بانت مفهوم الإسلام الرقمي بكونه يشير إلى الفضاءات الرقمية التي يستخدمها المسلمون للتعبير عن هويتهم الدينية، وممارسة شعائرهم، وتبادل معارفهم الدينية عبر الإنترنت. وهي المساحات الرقمية والتفاعلية التي تُستخدم لنقل القيم الإسلامية ومناقشتها، ونقل النصوص المقدسة والشعائر الدينية بالأدوات الرقمية المختلفة. تشمل البيئات الرقمية المواقعَ الإلكترونية، مثل المنصّات التي تقدّم تفسيراتٍ للقرآن الكريم والفتاوى والدروس الدينية. وتشمل كذلك التطبيقات الدينية، مثل تطبيقات الصلاة وتحديد القبلة والقرآن الصوتي. وتتضمن البيئات الرقمية وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يناقش المسلمون قضايا الدين والهوية. وأخيراً المنتديات والمجموعات، مثل المنتديات الحوارية التي تجمع مسلمين من خلفياتٍ متنوعةٍ لنقاش القضايا الدينية.

ازداد الاهتمام العربي بظاهرة الإسلام الرقمي في منتصف العقد الثاني من الألفية. وانصبّ التركيز على استخدامات الجماعات المتطرفة للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لجذب الشباب وتجنيدهم من المنطقة والعالم. وذلك بعدما أظهرت تلك الجماعات إمكاناتِ تلك الوسائل في نشر الأفكار والتفاعل مع جمهورٍ عريضٍ مباشرةً. بدا أن التقنيات الجديدة بأدواتها البصرية ذات تأثيرٍ لا يقارَن بالوسائل التقليدية للخطاب الديني.

انحسرت ظاهرة الجماعات المتطرفة ونجاحها في التجنيد والدعاية على الإنترنت ومواقع التواصل بعد الضربات العسكرية والسياسية التي تلقّوها. وكذلك بعد الإجراءات التي بدأت تفرضها إدارات مواقع التواصل لرصد النشاط الإلكتروني العنيف ومكافحته. لكن ظاهرة التدين الرقمي عند القطاعات الأوسع من المسلمين كانت تتقدم وتكبر بعيداً عن هذا الخطاب المتشدد، ووصولاً إلى جمهورٍ واسعٍ بعيداً عن العنف. وهكذا فرضت ظاهرة التدين الرقمي نفسها نمطاً جديداً للتدين في ظلّ الإسلام الرقمي.


يميل التدين الرقمي إلى الفردانية، إذ يتمتع كلّ فردٍ بالحرية في الوصول إلى شكل التدين الملائم له بغضّ النظر عن المحيطين وتجاربهم الدينية. ومن الدراسات التي صدرت في رصد التدين الفردي وتحليله ما تقدّم به الأستاذ المغربي في علم الاجتماع، رشيد جرموني، سنة 2021 تحت عنوان "في دينامية التحولات الدينية". سلّطت الدراسة الضوء على صعود نمط التدين الفردي بين الشباب، وهو النمط الذي عرّفه جرموني "بأن يصبح الفرد مرجعاً لنفسه في الاستمداد والتلقي والممارسة والتوجيه والسلوك والتمثل". ومن هذا المنطلق يُسقط الفرد كلَّ المرجعيات والسلطة الدينية. سواءً كانت تقليديةً كالمسجد والأسرة والزاوية، أو حركات الإسلام السياسي، أو مثلها من المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية التي كانت تُنتِج وتعيد إنتاج القيم الدينية. وهو مفهومٌ جاء ليحلَّ محلَّ التدين الجماعي المرتبط بالولاء للأمّة وللجماعة.

يبتعد نمط التدين الرقمي عن الأطر الموجهة الجامدة، ويتّسم بالتفاعل مع الدين واتخاذه صيغةَ الحوار التشاركي مبتعداً عن التلقين والتصنيف داخل أطرٍ جامدة. وكذلك يبدو التدين الرقمي أكثر مرونةً وانفتاحاً من التدين التقليدي. فمن ناحيةٍ يميل الخطاب الديني في الفضاء الرقمي إلى الانفتاح على التفسيرات والآراء والفتاوى المختلفة، ويترك لكلّ فردٍ الالتزام بالأقرب إلى قلبه. ومن ناحيةٍ أخرى يبدو متجاوزاً المحلية، فنراه متأثراً بأنماطٍ عابرةٍ متمثلةٍ بشخوصٍ دينيةٍ من مناطق مختلفةٍ حول العالم.

ولا ينتهي الأمر عند حدّ المحلّية، بل يتخطّاه للطبيعة التطبيقية للتدين. فعلى عكس الخطاب الديني الذي ساد في عهودٍ سابقةٍ، والذي كان يركز على قصص التاريخ، وعلى طريقة ممارسة العبادات مثل كيفية تأدية الصلاة والصوم وغيرها، يركز خطاب التدين الرقمي على الحياة اليومية وقضايا تحسين جودة حياة الأفراد. لذلك نجد كثيراً من هذا الخطاب ممتزجاً بمفاهيم التنمية البشرية والتجارب الإنسانية الناجحة التي لا تتعارض مع الدين. ويركز جزءٌ كبيرٌ من المحتوى على تقريب الفجوة بين الدين والحداثة والتقدم، وتجاوز أنماط التدين التي تدعو إلى التشبه بالماضي، تلك التي عدّها كثيرون عائقاً أمام تحقيق التقدم في المنطقة العربية.

وبما أن خطاب التدين الرقمي أوسع، فهو يميل نحو الحرية في طرح الأسئلة، خاصّةً الأسئلة الكبرى التي أصبحت محلَّ اشتباكٍ فكريٍ وجدالٍ بين المجموعات الدينية الافتراضية، ويبتعد الخطاب عن المفردات المعقدة. تُنقَل المعرفة في الفضاء الرقمي بطرقٍ مبسّطةٍ، يَصِفها بعض المتخصّصين بأنها مُخِلَّةٌ أحياناً. ولا تقتصر تلك النزعة على المواضيع الفكرية وصيغ التعبير عنها لغوياً، بل تنحو لخلق أنماطٍ جديدةٍ من التفاعلات الدينية. فمع صعوبة أداء بعض الشعائر، كالعمرة والحجّ أو زيارة المسجد الأقصى، وفّر التدين الرقمي "محاكاة الشعائر" بتقنيات الواقع المعزّز. إذ تُمكّن هذه التقنية الأفرادَ من التجول افتراضياً داخل أركان المسجد الأقصى أو المسجد النبوي أو الكعبة.

ومع عدم الاعتداد بهذه الأفعال، إلّا أنها وفّرت بديلاً روحياً لغير القادرين على أداء بعض الشعائر في الواقع. وهنا تشير سناء الخوري في "بي بي سي" العربية إلى أن تقنية "الميتافيرس" (أي ما وراء العالَم) فتحت الباب أمام تطور هذا النمط. ظهرت مثلاً تجربةٌ من المغرب تُعرف بِاسم "ميتا كَوْن"، تحاول تطوير كونٍ افتراضيٍ موازٍ للشباب والشابات المسلمين الذين يرون الإسلام ديانةً منفتحةً ومتسامحةً، ولا يشعرون بالرضا عن طريقة الإعلام في تصويرهم. يحاول المشروع إيجاد طريقةٍ لربط المسلمين من كلّ الأعراق ليفعلوا أشياء مشتركةً في مكانٍ مشترَكٍ، في الواقع الافتراضي.


أعاقت أنماط التدين الرقمي الممارسةَ التقليدية للدين والطرقَ التقليدية التي يُتواصل بها مع الدين واستهلاكه ومشاركته والانخراط فيه. في الإطار التقليدي تُنقَل الأفكار والمعاني الدينية الإسلامية من السلطات الدينية القائمة عليها في سياقاتٍ رسمية، إذ كان يعتمد مفهوم السلطة الدينية التقليدية على التخصص الشرعي والفقهي. غير أن هذه المقومات لم تعد فارقةً بالقدر ذاته في منظومة التدين الرقمي. ولذلك ثمّة تحولٌ في السلطة الدينية وإعادة تشكيلها في الواقع الرقمي. فلم تعد متمثلةً في المؤسسات الدينية التقليدية، بل أصبحت موزعةً على عددٍ من المؤثرين وتحكمها أبعادٌ مختلفةٌ لا ترتبط بعمق المعرفة الدينية والشرعية.

يشبّه غاري بانت الخطاب الديني في الفضاء الرقمي بسوقٍ مفتوحٍ للأفكار يتنافس فيه المؤثرون والجهات المختلفة لجذب الجمهور باستخدام وسائل متعددة. بالمقابل، تشير دراسة جرموني المذكورة آنفاً إلى أنّ من أهمّ الملامح الكبرى التي ظهرت في طبيعة التدين بالمنطقة بروز "النزعة الاستهلاكية الدينية". يتصدر المشهدَ ما سيوفّره السوق الاقتصادي من أدوات تسويق المنتجات الثقافية والرمزية، بما فيها الدين، عبر منصات الإعلام الديني المختلفة. ومن ثم يُكيَّف "العرض الديني" مع توقعات الجمهور المستهدَف.

عرضت هذه المجتمعات الرقمية الناشئة تنوعاً دينياً فريداً يشمل رجال الدين والصوفيين ومناصري النسوية وعشاق الموضة والفنانين والناشطين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. ولقد برزت تصنيفاتٌ وتوصيفاتٌ متعددةٌ للمؤثرين الجدد حسب خلفياتهم وطريقة نشاطاتهم وتأثيرهم. ولعلّ من أهمّ تلك التوصيفات "الإمام الرقمي" و"الإمام الهجين" و"المؤثرون الدينيون" الذين لا ينتمون لطبقة رجال الدين.


يشير مفهوم الإمام الرقمي إلى الشخصيات الدينية التي تَستخدم الفضاء الرقمي حصرياً لنشر التعاليم الدينية وتقديم الفتاوى والتفاعل مع الجمهور. يستطيع الأئمة الرقميون الوصول إلى جمهورٍ واسعٍ وبناء علاقاتٍ شخصيةٍ مع المتابعين بالبثّ المباشر والمنشورات التفاعلية. وخلافاً لصورة الإمام النمطية، عَرَضَ جيل الشباب أيضاً بعضَ المؤثرين الدينيين على الإنترنت بهيئةٍ وخطابٍ مشابهٍ لقطاعٍ عريضٍ من الجيل نفسه. يبرز من بين الأسماء المعروفة بين الشباب، المصري يوسف علي فاروق، الذي يقدّم في حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرةً عن طرق تأدية العبادات. تكون المقاطع في العادة قصيرةً ومركّزةً ويمزج فيها بين اللغة العربية الفصحى بلغةٍ معاصرةٍ قريبةٍ لأسلوب جيل الشباب وتعبيراته.

أمّا الإمام الهجين، حسب سناء باتيل في كتاب "هايبرد إمام" الصادر سنة 2022، فشخصيةٌ دينيةٌ تجمع بين الحضور التقليدي في المجتمع الإسلامي –مثل المساجد أو حلقات التعليم الديني– والحضور الرقمي على منصات التواصل الاجتماعي. والإمام الهجين أقرب إلى جمهور الشباب المسلمين من جيل الألفية الذين يجمعون الجانبQين التقليدي والرقمي. ومن أوضح الأمثلة عليه المصري مصطفى حسني. بدأ حسني في المسجد ثم انتقل إلى شاشات التلفزيون، واليوم له حضورٌ واسعٌ على وسائل التواصل الاجتماعي. يصل عدد متابعيه على منصة إنستغرام إلى أكثر من ثلاثة وعشرين مليوناً.

في العقد الماضي ظهر أيضاً المصري عبدالله رشدي، خرّيج الأزهر الذي جذب أعداداً كبيرةً من الشباب لمتابعته. هو من الأسماء المؤثّرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد ارتبطت شهرته بالجدال والمناظرات مع المنتمين إلى التيارات الملحدة والعلمانية.

هناك أيضاً المؤثّرون الذين يختلفون عن النمطَين السابقَين بأنهم أكثر تنوعاً. فالقضايا التي يعرضونها تتجاوز المعرفة الدينية المباشرة وتركز على نمط حياةٍ عصريٍّ ملتزمٍ بصورةٍ أو بأخرى بتعاليم الدين الإسلامي. ومنهم المؤثّرة المعروفة بِاسم "الفتاة المسلمة المسافرة" (اسمها الحقيقي إيلينا نيكولوفا) التي تعيش في المملكة المتحدة. تستهدف نيكولوفا بمحتواها مساعدة جيل الألفية المسلم على "السفر الحلال والاستمتاع بالعالم"، على حدّ تعبيرها. يتابعها حوالي ثلاثةٍ وثلاثين ألف شخصٍ على إنستغرام وثلاثين ألفاً على فيسبوك. قدّمت وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً فرصةً لانتعاش المحتوى الديني النسائي. فظهرت كثيرٌ من الفتيات المسلمات اللاتي يتحدثن عن الدين الإسلامي في قضايا تهمّ المرأة المسلمة، ويقدّمن طرازاً إسلامياً يبرز فكرة العيش نفسها في إطارٍ دينيٍّ وعصريٍّ في الوقت ذاته. ومثال ذلك البريطانية التي اعتنقت الإسلام عائشة روزالي، وعندها على منصة يوتيوب أكثر من سبعمئة ألف مشتركٍ، كثيرٌ منهم عرب.

بالتوازي مع ذلك زادت المؤسسات التقليدية في المجال الافتراضي، في محاولةٍ لإحداث توازنٍ والحفاظ على دورها في إنتاج الخطاب الديني ونشر القيم الدينية التقليدية. فمازالت تحرص دور العبادة على بثّ الصلوات الجماعية وكذلك الاحتفالات الكبرى عبر الإنترنت، فضلاً عن محاولتها دعم جيلٍ جديدٍ من الدعاة على الساحة الافتراضية أيضاً.

يعتمد المؤثرون والدعاة الرقميون على العروض المرئية والوسائل البصرية الحديثة لجذب الشباب. ويحرصون على تنوّع وسائل التواصل التي يظهرون عليها. فمثلاً يظهر مصطفى حسني على سبع منصّات تواصلٍ اجتماعيٍّ. فلديه حساباتٌ على فيسبوك وإكس وإنستغرام وتيك توك وبنتريست. وله أيضاً قناةٌ على يوتيوب، فضلاً عن بودكاست خاص به على منصّتَيْ أنغامي وساوندكلاود.

يعتمد المؤثّرون وصنّاع المحتوى والدعاة على الأسلوب القصصي في تناولهم المحتوى الديني. أمّا تواصلهم مع جمهورهم، فمباشرٌ بفضل التقنيات الرقمية. ما يجعلهم أكثر قرباً وتأثيراً على جمهورهم من الشباب. أمّا محتوى الخطاب الديني الرقمي فيتضمّن إرشاداتٍ عن التحديات اليومية، مثل الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية وضغوط العمل، ويربطون هذه القضايا بالقيَم الإسلامية.

ولأنه يتجاوز المحلية، ينتشر الخطاب الديني الرقمي في مساحاتٍ أبعد من حدود الدولة التي ينتمي لها أو تعيش فيها الشخصية المؤثرة صانعة المحتوى. فيحاول الجيل الجديد من المؤثّرين توجيه رسالتهم إلى المسلمين في مناطق جغرافيةٍ مختلفةٍ، ويشاركونهم الاهتمامات والأهداف ذاتها. ولذلك انتشر خطاب عديدٍ من الأئمة المسلمين من غير العرب في المنطقة مؤخراً. على غرار مفتي مينك، وهو إمامٌ مسلمٌ من زيمبابوي، والإمامين الأمريكيين صهيب ويب وعمر سليمان.


يبدو أن انجذاب الجماهير من المسلمين للمؤثّرين الجدد يرتبط بمدى قدرتهم على استخدام تقنيات الوسائل الرقمية. وقد يأتي ذلك على حساب جودة المعرفة الدينية ذاتها في بعض الأحيان. فقد بدأت بعض الدراسات تتحدث عن مفهوم الخوارزميات المؤثرة، في إشارةٍ إلى اتساع أبعاد التأثير في الظاهرة الدينية إلى ما هو أبعد من المضمون ذاته.

ولأن ظاهرة التدين الرقمي لاتزال قيد التشكل، ولأنها تمثل استجابةً مزدوجةً من المسلمين لعوامل كبيرةٍ أبرزها التطورات السياسية والأزمات الروحية والصحية والتطور التقني، فمن المرجح أن تكون في حالةِ حركةٍ دائمة. لكن ما بات ثابتاً هو أن التدين الرقمي أصبح ملمحاً واضحاً في حياة الكثيرين في الشرق الأوسط وحياة الشرق أوسطيِّين في المهجر.

اشترك في نشرتنا البريدية