تحالف "لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً"، المعروف اختصاراً بأول حرف من كلماته الأنجليزية الأربع "ماغا"، لم ينشأ من العدم. كان تطويراً لحركةٍ سياسيةٍ سبقت ظهوره، اسمها حركة "حزب الشاي". تغذى خطاب حركة حزب الشاي على معاداة تضخم الحكومة الفيدرالية، وتعاظم دورها، وزيادة إنفاقها وضرائبها. ولما تشكّل تحالف ماغا، استعار من خطاب هذه الحركة واستقطب كثيراً من المنتمين لها. بل إن التحالف ضمّ تيارات أخرى من مسيحيين إنجيليين وقوميين ونخبٍ سياسيةٍ تابعةٍ للحزب الجمهوري، وأعطى أهميةً لقضايا أخرى كملف الهجرة ومعاداة الصين.
لم يفقد هذا التحالف زخمَه حتى بعد خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية سنة 2020 لصالح منافسه جو بايدن، والهجمات التي نفذها مناصرو ترامب على مبنى الكونغرس في يناير 2021 بعد أسابيع من إعلان نتيجة الانتخابات. بل استطاع توسيع دائرة المنتمين لحركته، وأضاف لقائمة قضاياه معاداة اليسار ورفض سياسات الاحتواء والمساواة والإنصاف الموجّهة للفئات من غير البِيض، ما مكّنه من تحقيق الفوز في انتخابات سنة 2024.
وبعد مرور أقلّ من عامٍ على وصول ترامب للرئاسة، بات تحالف ماغا يعاني من تفاقم الانقسامات، والتصدعات الحادة داخل صفوفه. أوّل هذه الانقسامات كان اقتصادياً يتصل بمشروع "القانون الكبير الجميل"، وما تضمّنه من ميزانية إنفاقٍ حكوميةٍ كبيرةٍ وتخفيف الإنفاق على برامج اجتماعيةٍ حيوية. أما الانقسامات التي أعقبت ذلك، فتركزت على إسرائيل ودورها في السياسة الأمريكية: سواء دخول الولايات المتحدة الحربَ الإسرائيلية الإيرانية، أو قضية ملفات رجل الأعمال جيفري إبستين الذي كان يدير شبكة دعارة من القاصرات. وإن كان الرئيس الأمريكي لا يزال قادراً على احتواء الانقسامات، إلا أن تعاظمها المتسارع يهدد مستقبل تحالف ماغا وينذر بتشظٍّ قد يغيّر شكل اليمين الأمريكي في السنوات القادمة.
أدّت مؤسسات سياسية تابعة لشركات كبيرة دوراً في وضع البذور الأولى لحركة حزب الشاي الجديدة. ففي سنة 1984 تظافرت شركتا التبغ "فيليب موريس" و"آر جي رينولدز"، مع الأخوين تشارلز وديفيد كوش، مالكَي شركة "كوش" التي تعدّ ثاني أكبر شركة خاصة في الولايات المتحدة، وأسّسوا جميعاً مؤسسة غير ربحية اسمها "فاونديشن فور أ ساوند إيكونومي" (مؤسسة الإصلاح الاقتصادي) معنية بالمطالبة بتقليص دور الحكومة وخفض الضرائب.
سنة 2002 نحتت هذه المؤسسة مصطلح "حزب الشاي" وأسست موقعاً على الإنترنت بهذا الإسم. وبعد سنتين، وعلى إثر خلاف بين القائمين عليها، انقسمت هذه المؤسسة إلى مؤسستين: "فريدوم وركس" و"أميركانس فور بروسبيريتي". وفرت هذه الكيانات الموارد المالية والبنية التنظيمية وشبكات الاتصال لتدريب الناشطين من حزب الشاي ودعم منصاتهم الإعلامية والسياسية وتنسيق أنشطتهم الاحتجاجية. منح هذا الدعم الحركةَ حضوراً سريعاً وساعد على تحويل غضب بعض الفئات الاجتماعية إلى حركة منظمة لها خطاب متماسك وقدرة على التأثير في التوجهات السياسية للحزب الجمهوري.
دور الشركات الكبيرة في صعود حركة حزب الشاي لا يعني أنها حركة مفتعلة، بل لها بعد شعبي أيضاً. برزت الحركة في المشهد السياسي الأمريكي بعد إعلان الرئيس أوباما، بعد شهر من توليه الرئاسة، عن حزمة مبادرات اقتصادية ضخمة لمعالجة آثار أزمة الرهن العقاري التي كانت تعصف بالاقتصاد الأمريكي آنذاك. نتجت أزمة الرهن العقاري عن تهافت البنوك على منح قروض عالية المخاطر، وتراكمت تدريجياً لتهدد سوق العقارات في الولايات المتحدة سنة 2008، وامتدت لتصبح أزمة مالية عالمية. انتقد حينها صحفيٌ في شبكة سي إن بي سي اسمه ريك سانتيلي قرارَ أوباما في بث حي من البورصة التجارية بشيكاغو. ودعا أثناء البث لإقامة حزب شاي للمضاربين في البورصة وجمع المخلفات وإلقائها في نهر شيكاغو، على غرار إلقاء سكان بوسطن الشاي في المحيط قبل أكثر من قرنين. وبعد ساعات قليلة من دعوات سانتيلي بدأت تظهر مواقع إلكترونية لتنظيم احتجاجات ضد سياسات أوباما، وصفحات فيسبوك لحشد الناس، وباتت قنوات مثل فوكس نيوز تتحدث عن "حركة حزب شاي جديدة".
ولا أدلّ على هذا التداخل بين الدور الذي أدّته كبرى الشركات والمبادرات الفردية من قصة الناشط اليميني تشارلي كيرك وبداياته. ففي سنواته الأخيرة في الثانوية بين سنتي 2010 و2012، تطوّع كيرك في حملة انتخابية لمرشح جمهوري في مدينته شيكاغو، ثم كتب مقالة في شبكة "بريتبارت" اليمينية التي تأسست سنة 2007 ينتقد فيها التحيز الليبرالي في مناهج المدارس. وبسبب هذه المقالة استضافته شبكة فوكس نيوز يمينية التوجه. ومنها تلقى دعوة للحديث في جامعة بيندكتين الخاصة الواقعة في إحدى ضواحي شيكاغو.
لم يعلم تشارلي كيرك أن هذه الكلمة التي ألقاها في الجامعة ستكون نقطة تحوّل في حياته. فقد لفتت انتباه ناشط يميني سبعيني في حركة حزب الشاي ومتخصص في الدعاية السياسية اسمه بيل مونتغمري. نصح بيل كيرك أن لا يكمل دراسته الجامعية وأن يؤسسا معاً مؤسسة "تيرنِنغ بوينت يو إس إي" (نقطة تحول الولايات المتحدة) المتخصصة بجذب طلاب الجامعات الأمريكية لليمين الأمريكي عموماً وحركة حزب الشاي خصوصاً.
كان أكثر تمويل المؤسسة في بداياتها من المؤسسات التابعة للأخوين كوش. بعد عدة أعوام تحوّلت هذه المؤسسة إلى واحدة من أكبر المؤسسات الفاعلة في حركة ماغا، ونشر كيرك كتاباً بعنوان "ذا ماغا دوكترين" (عقيدة ماغا) سنة 2020.
تنوُّع الفاعلين داخل حركة حزب الشاي حوّلها حركةً غير متجانسة فكرياً، يجمع المنخرطين بها مجموعةٌ من المطالب والمرتكزات. تمحورت هذه المطالب بادئ الأمر حول خفض الضرائب والحد من الإنفاق الحكومي وتقليص دور الدولة والالتزام بنصوص الدستور الأمريكي. كذلك شددت على الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام ورفض السياسات التي عدّتها تعدياً على الحريات الفردية. حرصت الحركة على الابتعاد نسبياً عن الانخراط في القضايا الاجتماعية المثيرة للانقسام حفاظاً على وحدة صفها إزاء الأهداف الاقتصادية والسياسية.
سعياً لهذه الأهداف المشتركة، أنتجت الحركة عدة شخصيات أدت دوراً مهماً في السياسة الأمريكية في السنوات اللاحقة. من هذه الشخصيات سارة بيلين، حاكمة ولاية ألاسكا، التي كانت مرشحة لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الجمهوري سنة 2008. كذلك شملت نواباً من الكونغرس، منهم ميشيل باكمان عن ولاية مينيسوتا وراند بول عن ولاية كنتاكي وتيد كروز عن ولاية تكساس وماركو روبيو عن ولاية فلوريدا. وسوى ذلك ضمت ناشطين محليين أدّوا أدواراً قيادية في الولايات.
ومع توسع الحركة ظهرت خلافات بين من أراد الحفاظ على استقلالها حركة ضغط شعبية، ومن سعا لدمجها في المؤسسة الجمهورية التقليدية. ونشأت توترات بين أجنحة متشددة تميل إلى الخطاب الشعبوي الصدامي وبين تيارات فضّلت العمل عبر القنوات التشريعية والحزبية.
جاءت مرحلة صعود حركة حزب الشاي في انتخابات الكونغرس النصفية سنة 2010. دعمت الحركة 138 مرشحاً جمهورياً، وأحدثت انقلاباً في الكونغرس وجعلته تحت سيطرة الجمهوريين بثلاثة وستين مقعداً إضافياً. وهو أكبر مكسب يحققه حزب واحد في انتخابات نصفية منذ أكثر من سبعين عاماً. مثّل هذا التحول انقلاباً في موازين القوى داخل الكونغرس، إذ رجحت كفة الجمهوريين في السيطرة على مجلس النواب، ما أتاح لهم عرقلة كثير من سياسات إدارة أوباما الديمقراطي.
بعد أن أصبحت قوةً داخل الكونغرس الأمريكي، ركزت الحركة في مهاجمتها سياساتِ أوباما على أمرين. الأمر الأول خفض الإنفاق، وجاءت أولى المواجهات في هذا الصدد سنة 2011 حين رفضوا التصويت على رفع سقف الدين الفيدرالي العام ما لم تتضمن الموازنة الفيدرالية خفضاً حاداً في الإنفاق. اضطر حينها البيت الأبيض للموافقة على قانون "ضبط الموازنة"، ففرضت تخفيضات تلقائية في الإنفاق الحكومي بمعدل تريليون دولار على مدار عشرة أعوام في قطاعات متعددة من الدفاع إلى البرامج الاجتماعية.
بعد هذه المعركة اتجهت أنظار الحركة للأمر الثاني، وهو قانون "أوباما كير" للرعاية الصحية. صدر القانون في سنة 2010 بهدف توسيع التغطية الصحية لتشمل محدودي الدخل. كذلك منع القانون شركاتِ التأمين من رفض تغطية المرضى بسبب حالاتهم الصحية السابقة. حاول أعضاء حزب الشاي إلغاءه أو تقليصه حتى لا يصبح جزءاً من الموازنة العامة. استمرت المحاولات حتى سنة 2013، وأدى تمسكهم بربط إقرار الموازنة بإلغاء أوباما كير لإغلاق الحكومة الفيدرالية ستة عشر يوماً، لكن القانون لم يُلغَ.
ومع أن الحركة أثبتت قدرتها على مواجهة العملية التشريعية وتعطيلها من الداخل، إلا أن افتقارها إلى القيادة أو الرؤية الشاملة جعل من محافظتها على زخمها ونفوذها أمراً صعباً. ومن ثم ظلت تحالفاً يجمع شخصيات متفرقة لا تربطهم مظلة سياسية أو تنظيمية واحدة، ما بعثر جهد أعضائها الذين تفرقوا في مجموعات محلية. تبنى بعضها خطاباتٍ قومية وأخرى خطاباتٍ دينية، أو مواضيع مثل "الدفاع عن القيم الأمريكية التقليدية". وبدأت تفقد الزخم الشعبي وانخفضت فعاليتها السنوية مقارنة بالفترة من 2009 وحتى 2011.
كذلك قلّ اهتمام وسائل الإعلام بها، بل أعلنت بعض الوسائل الإعلامية عن نهاية الحركة في بعض الأحيان. وطالها النقد من داخل الحزب الجمهوري. ففي 2013 انتقد جون بينر، رئيس مجلس النواب حينها، نشطاء الشاي ووصف تحركاتهم أنها ضللت الجمهور ودفعت باقي أعضاء الحزب لاتخاذ مواقف لا يريدونها. تصاعد الخلاف في الفترة من 2013 وحتى 2014. فبينما رفض ناشطو حزب الشاي التنازل في مسائل الإنفاق العام وإعادة تمويل الدين، طالب مسؤولون جمهوريون مثل بينر بالتوازن بالحذر، خوفاً من انعكاسات سياسية سلبية على صناعة القرار. وبذلك دخلت الحركة مرحلة من الركود.
لم يدم الركود طويلاً، فقد عاد حزب الشاي ليكتسب زخماً مع ظهور دونالد ترامب على الساحة السياسية وصعوده للرئاسة.
بدأت هذه النظرية بالتشكل مع اقتراب الانتخابات الرئاسية سنة 2008. وانطلقت الشرارة الأولى من موقع "وورلد نت ديلي" الذي خصص سلسلة تقارير زعمت أن شهادة ميلاد أوباما مزيفة وأنه ولد في كينيا. سرعان ما تناقلت تلك الادعاءاتِ مدوناتٌ وبرامج إذاعية محافظة قدمتها على أنها قضية لم تحسم بعد. ومع تكرار تداولها في وسائل الإعلام المحلية والمنتديات الرقمية اكتسبت النظرية طابعاً من المصداقية، فصارت تنتشر في أوساط مؤيدي حزب الشاي الذين رأوا فيها وسيلة للتعبير عن رفضهم سياسياً واجتماعياً الرئيسَ الجديد. ومع نهاية سنة 2010 كانت النظرية قد أصبحت إحدى الموضوعات المتداولة في الإعلام اليميني، وتستخدم لتقويض شرعية أوباما.
ربما ما كان لهذه النظرية أن تنتقل من الهامش السياسي والإعلامي إلى واجهة النقاش العام لولا دونالد ترامب. ففي مارس 2011، على برنامج "غود مورنينغ أميركا" (صباح الخير أمريكا) الذي تذيعه قناة "إي بي سي"، وهو أحد أكثر البرامج الصباحية مشاهدةً في ذلك الوقت، استضيف دونالد ترامب في حوار عن نيته الترشح للرئاسة ورأيه في أوباما. ذكر ترامب في المقابلة أنه متشكك بشأن مكان ولادة أوباما، وهاجم من يعد هذا التشكيك نظرية مؤامرة. بعد عدة أيام، طالب ترامب في برنامج "ذا فيو" (وجهة نظر) الذي أذيع أيضاً على نفس القناة، بنسخة كاملة من شهادة ميلاد أوباما. بعد ذلك تنافست كبرى البرامج التلفزيونية الأمريكية، في قنوات "إن بي سي" و"سي إن إن" وفوكس نيوز، على استضافة ترامب وإتاحة المساحة له للترويج لهذه النظرية. ولم تكتف قناة فوكس نيوز بهذا، بل خصصت له مساحة أسبوعية سمتها "مونداي مورنينغز وذ دونالد ترامب" (صباحات الاثنين مع دونالد ترامب) ليستقبل ترامب اتصالات المشاهدين ويتحدث معهم.
حاول أوباما إنهاء هذه الحملة التي يقودها ترامب ضده بنشر شهادة ميلاده، لكن جاءت النتيجة عكسية. ففي نهاية أبريل 2011 نشر البيت الأبيض نسخة مطولة من شهادة ميلاد أوباما تثبت أنه ولد في ولاية هاواي. لم يتوان ترامب عن الإفصاح عن تسببه في ذلك الإعلان، قائلاً: "يشرفني أنني حققت ما لم يستطع أحد غيري فعله". وبعد عدة أيام من نشر الوثيقة، دعا البيت الأبيض مجموعة من الشخصيات في عشاء رابطة مراسلي البيت الأبيض الذي يعقد كل عام، وكان ترامب من بين المدعوين. افتتح أوباما حديثه في هذا العشاء بتعليقات ساخرة عن ترامب، ومن بين ما قاله أن البيت الأبيض نشر النسخة المطولة من شهادة الميلاد بهدف تفريغ ترامب للمواضيع الأهم مثل ما إذا كانت قصة الهبوط على القمر مزيفة، وهي نظرية مؤامرة أخرى رائجة.
كان هذا العشاء نقطة تحوّل حاسمة في مسيرة دونالد ترامب. إذ تذكر الصحفية الأمريكية ماجي هابرمان في السيرة التي كتبتها عن ترامب المعنونة "كونفيدينس مان: ذا ميكينغ أوف دونالد ترامب آند ذا بريكينغ أوف أميركا" (رجل الثقة: صعود ترامب وتهشّم أمريكا) الصادر سنة 2022، أن ترامب لم يكمل العشاء وأن تعليقات أوباما تركت في نفسه أثراً كبيراً. وبعد عدة أيام من هذه الحادثة أعلن عن عدم نيته للترشح في انتخابات سنة 2012. مع ذلك، لم يتوقف عن الاستمرار عن استخدام تويتر للتشكيك في شهادات أوباما الجامعية، حتى أنه قدّم عرضاً بالتبرع بخمسة ملايين دولار لأوباما إذا ما نشر شهاداته من الجامعات التي التحق بها.
ومع أن ترامب رفض دخول الانتخابات في 2012، إلا أن اهتمامه بالسياسة تنامى خصوصاً بعد تعرّفه على وسائل التواصل الجديدة وتحديداً تويتر. وعاد بعدها بثلاثة أعوام مرشحاً للرئاسة وفي جعبته عداوته لأوباما وسياساته، مضافاً إليها قضايا أخرى كثيرة.
لخّص ترامب رسالته السياسية في شعار حملته "لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً"، الذي تضمن رسائل عديدة تلامس المظالم التي حارب لأجلها المنتسبون لحركة حزب الشاي. على رأس هذه الرسائل أن أمريكا في مأزق وفقدت احترامها، وأن أعداءها مثل الصين والمكسيك باتوا أقوياء. اتهم ترامب النخب السياسية بالأداء الضعيف غير القادر على الإصلاح، وهو ما دفعه للترشح للانتخابات. وتعهد بتمويل حملته ذاتياً لضمان الاستقلالية من تأثير جماعات الضغط والمصالح.
وبينما كان خطاب حزب الشاي يركّز على مسائل تضخم الحكومة وزيادة الإنفاق، صعّد ترامب من قضايا أخرى من هامش الخطاب السياسي وجعلها في صلب حملته. واحدة من أهم هذه القضايا كانت مسألة الهجرة غير الشرعية لأمريكا، إذ تعهّد ببناء جدار حاجز وتحدث عن المهاجرين بلغة عنصرية. ومن القضايا التي وظفها ترامب خطاب معاداة المسلمين ومنع دخولهم الولايات المتحدة والتعهد بالقضاء على داعش في الشرق الأوسط.
ولم يقتصر هجوم ترامب على الحزب الديمقراطي، بل وضع نفسه أنه مرشح الناس ضد "الدولة العميقة". وهو المصطلح الذي كثف من استعماله، ويعني شبكة من الأفراد والمؤسسات ذات النفوذ القوي في الدولة تعمل خارج الأطر الرسمية لصناعة القرار، بكافة ممثليها من ديمقراطيين وجمهوريين. استغل ترامب في خطابه رفض أعضاء الشاي ما أسموه التدخل الحكومي المفرط في الاقتصاد. يبدو أنه استفاد من كونه رجل أعمال يعرف كيف يقلل الإنفاق ويزيد الموارد، ومستقل عن أموال كبرى الشركات ومن خارج منظومة واشنطن السياسية.
تقابلت تصورات ترامب لدولةٍ أفضل مع تصورات حركة الشاي، فأصبحت الحركة وتدريجياً حركة ترامب تحت مسمى ماغا. ففي مقابلة مع الصحفي تيم ألبيرتا في نهاية 2019، كما نقلت الواشنطن بوست في يوليو ذلك العام، صرح ترامب أن "هؤلاء الناس [يقصد أعضاء حركة الشاي] لا زالوا هنا ولم يغيروا آراءهم". ثم أضاف: "حزب الشاي لا زال موجوداً، ولكنه الآن يسمى 'لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً' [ماغا]".
بهذا رفض ترامب أن يكون مجرّد قائد بين قيادات حركة حزب الشاي أو الحزب الجمهوري، إنما سعى إلى توحيد هذه القوى في حركة واحدة هو زعيمها الأوحد. فسعى لإقصاء عددٍ كبيرٍ من القيادات المحافظة التي لم تنحز له أو وقفت ضده في فترة حكمه الأولى. منهم مثلاً عضوة مجلس النواب ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس ديك تشيني في فترة جورج بوش الابن. رفضت تشيني ادعاءات ترامب أنه لم يخسر انتخابات سنة 2020 وترأست بالشراكة لجنة الكونغرس المعنية بالتحقيق بأحداث الهجوم على الكونغرس في السادس من يناير وصوتت لعزله. لم يقف ترامب مكتوف الأيدي، بل هاجمها واتهمها بانعدام الولاء ودعَم مرشحاً منافساً لها في الانتخابات التمهيدية لسنة 2022 وانتصر المرشح الجديد.
آخرون انتقدوه بدايةً لكنهم انضووا تحت حركة ماغا. أشهرهم نائب الرئيس الحالي جي دي فانس. ففي سنة 2016 وصف فانس ترامب أنه "خطر على الحزب الجمهوري". لكنه غيّر موقفه لاحقاً، وأصبح من المدافعين عن سياسات ترامب وحصل على دعمه في انتخابات 2022 لمجلس الشيوخ، ثم اختاره ترامب ليكون نائباً للرئيس. أمر مشابه حدث مع وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو، فقد خاض منافسة شرسة ضد ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري سنة 2016 ووصفه حينها بأنه "محتال". لكنه تحول لاحقاً إلى أحد مؤيديه في انتخابات 2024 ومن ثم وزيراً لخارجيته.
ومع أن ترامب خسر انتخابات سنة 2020 وظن كثيرون أن الحزب الجمهوري لفظه بعد أعمال العنف والهجوم على الكونغرس في السادس من يناير، إلا أن حركة ماغا ازدادت قوة وأصبحت مشروعاً متكاملاً. ولعل أهم التغيّرات التي طرأت عليها زيادة التركيز على "العدو الداخلي" بالتوازي مع "العدو الخارجي". فعوضاً عن التركيز على الصين والمهاجرين والمسلمين، صارت الحملة توجه كثيراً من طاقاتها لمجابهة "اليسار المتطرف والنخب المسيطرة على أجهزة الدولة"، وضد سياسات الهوية وتعزيز التنوع العرقي التي تتبناها الجامعات والمؤسسات العامة والخاصة.
لذا عندما فاز ترامب بانتخابات سنة 2024، دخل للبيت الأبيض وهو يقف على رأس تحالف ماغا كبير بتوجهات داخلية وخارجية واضحة وراسخة.
أولى هذه التحديات "القانون الكبير الجميل". تقدّم بهذا القانون بعض الجمهوريين بمجلس الشيوخ في مايو 2025 وشارك في دعمه عدد من أعضاء مجلس النوّاب. ضم القانون، المكوّن من ألف صفحة تقريباً، حزمة ضخمة من الإجراءات المالية. على رأس هذه الإجراءات رفع سقف الدين العام إلى خمسة تريليونات دولار. وقد جرت العادة أن يوضع سقف للدين أو المبالغ التي يمكن للحكومة اقتراضها لدفع فواتيرها. عُدّل هذا السقف عدة مرات على مدار السنوات للتكيف مع المتطلبات المالية المتزايدة. تضمنت الإجراءات وفق القانون الجديد توفير إعفاءات ضريبية كبيرة بخفض الإنفاق عن برامج أخرى مثل برنامج "الميديكيد"، وهو برنامج للرعاية الصحية يعتمد عليه الملايين. وتضمنت كذلك الاستمرار في التخفيضات الضريبية التي فرضت منذ ولاية ترامب الأولى، مع زيادة الإنفاق العسكري والحدودي وتقليص الإنفاق الفيدرالي في مجالات أخرى.
ومع أن الحزب الجمهوري لديه غالبية المقاعد في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، إلا أن المقترح قوبل برفض من عدّة تيارات داخل الحزب ولأسباب مختلفة. أهم كتلة مانعت القانون هي كتلة "الحرية" المكونة من بعض النوّاب الملتزمين بخفض الإنفاق وتقليص حجم الحكومة ومن يوافقهم في هذا التوجه، مثل عضو مجلس الشيوخ من كنتاكي راند بول. وينطلق اعتراض هؤلاء من أن القانون سيزيد الإنفاق وسيرفع حجم الدين العام. فقد كان الدين العام عند مباشرة ترامب السلطة في 2025 حوالي ستة وثلاثين تريليون دولار. وقدّر مكتب الميزانية المستقل في الكونغرس أن القانون سيضيف للدين العام ثلاثة تريليونات دولار في الأعوام العشرة القادمة.
الكتلة الأخرى من المعترضين تمثلت بأعضاء رأوا في خفض الإنفاق عن برامج حيوية ضرراً على قواعدهم الانتخابية. فعلى سبيل المثال صوتت عضوة مجلس الشيوخ الجمهورية سوزان كولينز عن ولاية مين ضد المشروع لأنه يخفض الإنفاق عن برنامج "ميديكيد" ويهدد استدامته، خصوصاً أن عدد من يعتمدون عليه يقرب من أربعمئة ألف شخص وسيكلف الولاية قرابة ستة مليارات دولار في عشرة أعوام.
وبسبب هذه الاعتراضات مرّ القانون عبر الكونغرس بعدة تغييرات وتنازلات كبيرة حتى يكسب تأييد عدد كاف من الأعضاء. من هذه التنازلات تمويل إضافي للمستشفيات الريفية بقيمة خمسة وعشرين مليار دولار، لضمان دعم عدد من النواب بالدوائر الريفية. كذلك التركيز على تحصيل فوائد من تمديد التخفيض الضريبي والمنح الاجتماعية لتصل لفئات معينة، مثل توزيع دفعة واحدة قدرها ألف دولار لكل مولود جديد حتى سنة 2028. وعندما صوّت عليه مجلس النوّاب في مايو 2025، جاءت النتيجة مئتين وخمسة عشر صوتاً مؤيّداً مقابل مئتين وأربعة عشر صوتاً معارضاً. أي أن الفرق كان صوتاً واحداً، إذ اختار اثنان من الجمهوريين التصويت ضده، واختار ثلاثة الامتناع عن التصويت.
يبدأ أي قانون للميزانية في مجلس النوّاب ثم ينتقل بعد ذلك لمجلس الشيوخ. وكانت التحديات التي واجهها هذا القانون في مجلس الشيوخ أصعب. إذ طرأت عليه عدة تعديلات لإرضاء أكبر عدد ممكن من الأعضاء الجمهوريين. ومع ذلك لجأ الجمهوريون من أنصار ترامب لاستخدام "المصالحة القانونية"، وهو إجراء تشريعي أُنشئ بموجب قانون ضبط الميزانية سنة 1974 بهدف تسهيل تمرير القوانين المالية والضريبية. تسمح هذه الآلية للأغلبية الحزبية في مجلس الشيوخ بتمرير مشاريع قوانين الميزانية أو الضرائب بأغلبية بسيطة بدلاً من الحاجة إلى الستين صوتاً المطلوبة. إلا أن النتيجة جاءت متساوية. فقد صوّت ضد القانون كل الأعضاء الديمقراطيين السبعة والأربعين ومعهم ثلاثة جمهوريين. وفي حالة تساوي أصوات مجلس الشيوخ يتدخل نائب الرئيس للترجيح، وهذا ما فعله فانس إذ صوّت لصالح القانون. ولأن مجلس الشيوخ عدّل عليه، عاد مجدداً لمجلس النوّاب ليمر بفارق أربعة أصوات.
خارج الكونغرس جاءت المعارضة الأكبر على قانون الميزانية من إيلون ماسك، رجل الأعمال ومالك شركة السيارات الكهربائية تيسلا ومنصة إكس للتواصل الاجتماعي، وحليف ترامب وأحد كبار المساهمين بحملته. عارض ماسك مشروع القانون منتقداً تكلفته المالية المرتفعة وعدّه مليئاً بالإنفاق البرلماني غير الضروري. وحذّر من أنه سيؤدي إلى خسارة ملايين الوظائف. هذه الانتقادات التي وجهها ماسك جاءت بعد عدة أشهر قضاها مسؤولاً عن برنامج الكفاءة الحكومية، المعروف اختصاراً باسم "دوج"، إذ كُلّف بتخفيض الإنفاق الحكومي ما أدى لتسريح عشرات الآلاف من الموظفين الفيدراليين وإغلاق عدد كبير من البرامج والمؤسسات الحكومية.
تحولت هذه الانتقادات إلى مواجهة علنية بين ماسك والرئيس الأمريكي. فقد صوّر ترامب أن ماسك معترض على القانون لأنه منزعجٌ من إلغاء الحوافز المخصصة لدعم السيارات الكهربائية. ثم لوّح ترامب مهدداً ماسك أنه سيستخدم دوج للتحقيق في تعاملات ماسك المالية. وبعد تعديلات مجلس الشيوخ القانونَ، جدد ماسك اعتراضاته عادّاً القانون انتحاراً سياسياً للحزب الجمهوري، وأعلن نيته تأسيس حزب سياسي جديد سماه "الحزب الأمريكي". فرد ترامب بتهديد ماسك بأنه سيلغي عقوده الحكومية وسينظر في قانونية حصوله على الجنسية الأمريكية وألمح إلى أنه قد يطرده (ماسك من مواليد جنوب أفريقيا وحصل على الجنسية الأمريكية سنة 2002). فردّ ماسك بدعم عضو الكونغرس الجمهوري الناقدِ ترامب، توماس ماسي الذي صوّت ضد القانون. بعدها صعّد ماسك من لغته وأعلن أن السبب في عدم إفصاح ترامب عن وثائق المتاجرة بالفتيات والمتهم فيها جيفري إبستين هو أن اسم ترامب موجود فيها، لكن ماسك نشر بعدها اعتذاراً.
عكَسَ هذا القانون التوتراتِ والانقسامات داخل تحالف ماغا. سألت الفراتس الصحفي بيتر رووف، وهو أحد الأصوات ذات التوجه المحافظ، وشغل في السابق مناصب داخل مؤسسات مرتبطة بالحزب الجمهوري، عن رأيه في هذا الانقسام. فأجاب بأن الانقسام حول القانون الكبير الجميل يعكس الانقسام بين من يفهمون الاقتصاد ومن لا يفهمونه. وأشار إلى أن بعض أتباع ترامب يعتقدون أن التخطيط المركزي يجدي نفعاً، "أما البقية منا، فنحن نعلم أنه لا يجدي. لم يُبذل ما يكفي من الجهد لخفض الإنفاق، هذا مؤكد. ولكن أحرز تقدم في الحد من معدل نمو الحكومة، وهذا يمنحنا أملاً في المستقبل".
وأشار رووف أن الانقسامات التي أصابت ماغا في السياسة الاقتصادية متعددة وليست محصورة بالقانون الكبير الجميل. فبعض المنتمين لماغا يريدون رفع معدل ضريبة دخل الشركات لتمويل التحويلات المالية إلى العائلات العاملة التي تقع عند خط الفقر أو تحته. في مقابل آخرين، يؤمنون أن الضرائب المنخفضة على الشركات تسهم في تعزيز النمو الاقتصادي أكثر من الضرائب العالية، وأن النمو الاقتصادي أفضل وسيلة لدعم العائلات على مختلف مستويات الدخل.
قسمت الحرب تحالف ماغا بين مطالبين بدخول أمريكا الحربَ لصالح إسرائيل وبين من يطالب بالتمسك بمبدأ أمريكا أولاً وعدم التدخل. وتعبيراً عن عمق هذا الخلاف داخل الحركة، كتب تشارلي كيرك عبر منصة إكس: "لا توجد قضية تقسم اليمين في الوقت الحالي بقدر ما تفعل السياسة الخارجية". وأضاف أنه قلق للغاية من أن الانقسام الكبير داخل حركة ماغا قد يعطل زخم ترامب ورئاسته التي كانت ناجحة للغاية.
برز الإعلامي الأمريكي ومذيع قناة فوكس نيوز السابق تكر كارلسون أحدَ أقوى الأصوات في المعسكر الرافضِ دخولَ الحرب. أجرى كارلسون أربعة لقاءات في برنامجه "تكر كارلسون شو" أثناء الحرب حصدت ملايين المشاهدات. أوّل هذه اللقاءات في مارس 2025، أذيع بينما كانت طبول الحرب تقرع، وكان مع أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا، جيفري ساكس. وكان ساكس منذ فترة يروّج لفكرة أن حروب أمريكا في الشرق الأوسط ضد العراق وسوريا وليبيا والسودان وراءها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. أعاد ساكس تأكيد نظريته وحذر من أن دعاة الحرب من حلفاء نتنياهو قد يدفعون باتجاه الحرب فعلاً.
ولما اندلعت الحرب، استضاف كارلسون مستشارَ ترامب السابقَ ستيف بانون الذي قال إن تورط أمريكا في صراعات الشرق الأوسط وحروبه سيؤدي لتقويض القاعدة السياسية التي بناها ترامب. وأضاف أن هذا الأمر لن يؤدي فقط لتدمير ماغا بل يمتد لأهم ما يقوم به ترامب وهو ترحيل المهاجرين غير الشرعيين. كانت هذه الحلقة مؤثرة لدرجة أن ترامب اضطر للتعليق على كارلسون قائلاً: "ليخبر أحدكم المجنون كارلسون بأنه لا يمكن لإيران أن تمتلك سلاحاً نووياً".
بعد ذلك انتقل كارلسون من استضافة شخصيات رافضة الحرب إلى استضافة شخصية مدافعة عن الحرب ومواجهتها. ففي 18 يونيو استضاف كارلسون السيناتورَ الجمهوري تيد كروز من ولاية تكساس الذي بدأ حياته السياسية ضمن حزب الشاي ثم ناقداً لترامب، قبل أن ينضوي تحت حركة ماغا. كروز من أشرس المدافعين عن إسرائيل ومن أكثر متلقي التبرعات من الجماعات المؤيدة إسرائيل. شاهد هذا اللقاء 4.5 مليون شخص، إذ واجه كارلسون ضيفه كروز وانتقد كل التبريرات التي قدمها للدخول في الحرب إلى جانب إسرائيل. ولعل من أهم هذه التبريرات التبرير الديني، إذ استشهد كروز بالكتاب المقدس لتسويغ دعم إسرائيل. لكن كارلسون رفض إسقاط الفقرات التي تتحدث عن إسرائيل في الكتاب المقدس على دولة إسرائيل الحالية.
هذه الحملة، التي تزعَّمها كارلسون وآخرون من داخل ماغا ضد الحرب، حشدت أغلبية مؤيدي ترامب ضد الحرب. فاستطلاع الرأي الذي رصدته مجلة الإيكونوميست ومؤسسة يوغوف، بين 13 و16 يونيو 2025، وجد أن 53 بالمئة ممن صوتوا لترامب يرفضون الحرب، مقابل تأييد 19 بالمئة منهم. ولعل هذا الضغط من القاعدة الاجتماعية أدى إلى أن يكون تدخل ترامب في 22 يونيو محدوداً باستهداف البرنامج النووي الإيراني، ورفض ضغط الإسرائيليين لاغتيال خامنئي وإسقاط النظام. ولعله أيضاً ما يفسر ضغط ترامب في إنهاء الحرب فوراً بعد تنفيذ عمليته ضد المنشآت النووية الإيرانية.
فريق من رافضي الحرب عدّوا الطابع المحدود لتدخل ترامب في الحرب انتصاراً لهم. التقت الفراتس المحلل السياسي جون جيزي، القريب من مراكز صنع القرار في الحزب الجمهوري، وأحد الأصوات البارزة ذات التوجهات المحافظة. قال جيزي إن الضربة الأمريكية جاءت بردود متناقضة، مشيراً إلى أنه لا أحد يدعم خيار الحرب على إطلاقه. لكنه يرى أن الضربة الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية كانت محسوبة ومحدودة، ولم تصل إلى حد الحرب الشاملة أو التورط طويل الأمد، ولذلك فهي لا تناقض وعد ترامب بإنهاء الحروب الأبدية. وأشار إلى أنه لم تكن ثمة "قوات على الأرض"، وعليه فهذا لا يشبه البتة مشروع "بناء الأمة" طويل الأمد الذي خاضه بوش في العراق. وأضاف جيزي، أنه لا بد من التفريق بين الغضب الذي بدا واضحاً بعد الضربة الأمريكية، والغضب الذي جاء بسبب التسرع في القرار، ولكنه في الوقت نفسه ليس معارضة لقرار المشاركة في الحرب نفسها. وهو ما يفسر أيضاً أن عدداً من أعضاء ماغا، عارضوا الضربة بالفعل، ولكن دون ردود فعل أبعد.
ومع أن ترامب أعلن عن انتهاء الحرب في 24 يونيو، إلا أن هذا التكتل المناوئ النفوذَ الإسرائيلي داخل الحكومة الأمريكية استمر بالنمو والتعاظم. فبعد انتهاء الحرب، أجرى تاكر كارلسون عدة لقاءات في هذا الاتجاه. أحد هذه اللقاءات كان مع اليمينية وعضوة مجلس النواب عن ولاية جورجيا، مارجوري تيلور غرين، للحديث عن تأثير اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس. وقد أبدت تيلور غرين امتعاضها من نفوذ "إيباك"، لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، داخل أروقة القرار الأمريكي. وبعدها أجرى كارلسون مقابلة مع الرئيس الإيراني مسعود بازرشيان. حصد مقطع فيديو المقابلة المختصر أكثر من 4.6 مليون مشاهدة على منصة إكس، وتجاوز مليون مشاهدة على يوتيوب في عشرين ساعة فقط من نشره. ولم يحدث مسبقاً في حروب إسرائيل أن تعطى منصة جماهيرية مثل هذه لخصوم إسرائيل.
صعد نجم إبستين في الثمانينيات في قطاع التمويل، وكوّن شبكة علاقات كبيرة مع كبار رجال الأعمال من بينهم ترامب. في سنة 2005 اشتكت إحدى الأمهات لشرطة مدينة بالم بيتش في فلوريدا أن ابنتها ذات الأربعة عشر عاماً تلقت أموالاً مقابل أعمال جنسية في قصر إبستين. بعد فتح التحقيق، وجدت الشرطة أن هذه ليست حادثة وحيدة بل أن هناك عدداً من الحالات المشابهة لقاصرات استغلهن إبستين بأعمال دعارة. انتهى التحقيق في سنة 2008 بعد أن عقد إبستين صفقة مع حكومة فلوريدا يسجن بموجبها ثمانية عشر شهراً قضى منها ثلاثة عشر.
عادت قصّة إبستين للواجهة ثانية سنة 2019 عندما قبضت السلطات الفيدرالية عليه بعد أن تكشّف أن شبكته للدعارة كانت أكبر مما كان متصوّراً قبل ذلك. إذ تبيّن أنه كان يستخدم القاصرات لمجموعة من العملاء يضمون شخصيات مشهورة، بينهم الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وشقيق ملك بريطانيا الأمير أندرو ورئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود باراك. لم يكمل إبستين شهراً في السجن، إذ وُجد منتحراً في زنزانته الانفرادية الخاضعة لحراسة مشددة في العاشر من أغسطس سنة 2019. استمرت تفاصيل شبكته بالانكشاف بعد وفاته، واعتقلت مساعدته جيسلين ماكسويل في 2020 وحكم عليها بالسجن عشرين سنة.
تزامن تكشّف تفاصيل قصة إبستين و"قائمة عملائه" مع نمو خطابات في أوساط اليمين تعادي النخب السياسية والاقتصادية أثناء جائحة كورونا. من هذه الخطابات نظرية مؤامرة روجتها فئة تدعى حركة "كيو آنون" تقول إن أفراد النخب السياسية والإعلامية في "الدولة العميقة" الأمريكية منخرطون في تهريب الأطفال واستغلالهم جنسياً. ولمّا ظهرت قصة إبستين بدت تأكيداً لهذه النظرية. خطاب آخر يصرّ على أن إبستين عميل لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد، وأن ما كان يعمله هدفه التقاط صور تفضح كبار الشخصيات حول العالم وابتزازهم بها، وأنه لم ينتحر بل مات مقتولاً. وأثناء رئاسة بايدن صار أحد أهم مطالب قطاع كبير من ماغا الإفصاح عن "قائمة عملاء" إبستين، وهو ما وعدهم ترامب بأنه سيكون على رأس ما سيقوم به بعد فوزه بالانتخابات.
ارتفعت آمال جمهور ماغا بعد عدة إشارات من إدارة ترمب في الأسابيع الأولى عن قرب الإفصاح عن وثائق إبستين وقائمة عملائه. ففي 21 فبراير 2025، سأل مذيع في قناة فوكس المدعيةَ العامةَ بام باندي عن وثائق إبستين، فأجابت "إنها الآن على مكتبي تنتظر المراجعة، وهذا بعد توجيه من الرئيس". في 27 فبراير 2025، دعا البيت الأبيض مجموعة من مؤثري وسائل التواصل اليمينيين. وكانت المدعية العامة في استقبالهم ووزعت عليهم ملفات كتب عليها "وثائق إبستين: المجموعة الأولى".
لم يكن في هذه الملفات وثائق جديدة أو قوائم بالعملاء، بل أغلبها وثائق سبق أن فتحت أو معروف محتواها. في اليوم نفسه، نشرت المدعية العامة رسالةً وجهتها لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كاش باتيل، الذي كان من مؤججي نظريات المؤامرة حول الموضوع، تخبره أنه نما إلى علمها أن فرع المكتب في نيويورك يحتفظ بمجموعة كبيرة من وثائق إبستين ويرفض تسليمها لوزارة العدل، وحددت يوم 28 فبراير موعداً لاستلام الوثائق كافة. وبعد عدة أيام صرحت لقناة فوكس نيوز أن "حمولة شاحنة من الوثائق وصلت".
أصيب قطاع كبير من جمهور ماغا بخيبة أمل في السابع من يوليو سنة 2025 عندما أعلنت وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفدرالية أنها لم تعثر على دليل على أن إبستين ابتز شخصيات كبيرة أو أن لديه "قائمة عملاء" سرية وأنه مات مقتولاً. انفجر التكتل الذي كان رافضاً التأثير الإسرائيلي على السياسة الخارجية الأمريكية، موسعاً نقده ومعتبراً أن سبب عدم إفصاح إدارة ترامب عن القائمة هو حماية إسرائيل. أما الديمقراطيون فروجوا أن سبب عدم الإفصاح وجود اسم ترامب في الوثائق. شخصيات بارزة مثل ستيف بانون وتشارلي كيرك طالبوا علناً بالكشف عن الملفات. كذلك ذكرت تقارير أن نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي كان من مروجي فكرة أن إبستين مات مقتولاً، تغيَّب عن العمل خمسة أيام بعد خلافات مع المدعية العامة بوندي. وبعد أسبوع، دعا تشارلي كيرك تكر كارلسون ليلقي خطاباً عن الموضوع في واحدة من فعاليات مؤسسة كيرك ذات الجمهور الكبير. تحدث كارلسون فيها أربعين دقيقة عن ما عدّه تضليلاً وإخفاءً متعمداً وترهيباً وإسكاتاً لكل صوت ناقد.
أمام هذه الموجة الغاضبة، ظهرت مجموعة من ماغا يدافعون عن إسرائيل وهوّنوا من شأن الموضوع واتهموا من يطالب بالإفصاح عن ملفات إبستين أنه مروّج لنظريات مؤامرة. أحد هؤلاء هو بِن شابيرو أحد مؤسسي شبكة إعلامية يمينية اسمها "ذا ديلي واير" ومقدم بودكاست "ذا بن شابيرو شو". عدّ بن شابيرو تصريح وزارة العدل كافياً لحسم المسألة عن وجود قائمة عملاء وأن على الجميع القبول بهذه النتيجة.
في الكونغرس تحالف عدد من الأعضاء الجمهوريين مع أعضاء ديمقراطيين في استجواب مسؤولين من إدارة ترامب ومطالبتهم بالإفصاح عن وثائق إبستين. إذ صوتوا معاً لطلب الوثائق من وزارة العدل، واستدعاء معاونته المسجونة لتدلي بشهادتها أمام الكونغرس. وفي 22 أغسطس، سلمت وزارة العدل سلسلة دفعات من الوثائق للكونغرس لكن كثيراً من محتواها كان مشطوباً.
كذلك اشترك العضو الجمهوري توماس ماسي من كنتاكي مع العضو الديمقراطي رو خانا من كاليفورنيا بتقديم مقترح قانون يلزم وزارة العدل بإتاحة كل وثائق القضية للعلن. وكان من المقرر أن يصوّت مجلس النوّاب على القانون في 24 يوليو، لكن رئيس مجلس النوّاب الجمهوري مايكل جونسون أجّل التصويت في كل القوانين المقترحة عبر تبكير موعد إجازة الكونغرس الصيفية. وعند عودة الكونغرس في بداية سبتمبر 2025، عاد توماس ماسي لجمع مئتين وثمانية عشر صوتاً لإجبار مجلس النوّاب على التصويت على القانون، واستطاع جمع مئتين وستة عشر صوتاً (كل الديمقراطيين مع أربعة جمهوريين). في التاسع من سبتمبر، انضم عضو ديمقراطي جديد للمجلس، ليصبح العدد مئتين وسبعة عشر. وفي 23 سبتمبر، انضمت عضوة ديمقراطية جديدة للمجلس في أريزونا لتملأ مقعد عضو توفي هناك، لكن رئيس المجلس أجل ضمّها لأن انضمامها سيجبر المجلس على التصويت للقانون. وفي مطلع أكتوبر فشل الكونغرس والحكومة في التوصل لاتفاق في موضوع الميزانية، فأغلقت الحكومة (فيما عدا الخدمات الأساسية كالشرطة والبريد والجيش والمطافئ مثلاً). فأوقف الرئيس المجلسَ بوقف أعماله إلى أجل غير مسمى.
أما ترامب فقد واجه تصاعدَ الانتقادات في تصريحات يؤكد أن ما حدث خدعة دبرها الديمقراطيون. وكتب منشوراً عبر منصته "تروث سوشيال" جاء به "الاحتيال والخدع هي كل ما يجيده الديمقراطيون. هذا كل ما لديهم. لا يجيدون الحكم، ولا يجيدون وضع السياسات، ولا حتى اختيار مرشحين قادرين على الفوز. خدعتهم الجديدة هي ما سنسميه إلى الأبد خدعة جيفري إبستين. وقد ابتلع بعض من كانوا يدعمونني سابقاً هذا الهراء بأكمله، دون تفكير".
ومع ذلك لم تسلم حادثة اغتيال كيرك من تثبيت الانقسامات داخل الحركة. ففي حين حاول ترامب لوم اليسار، انتقد تلميحاً نفس الأصوات التي رفضت الحرب على إيران وعدم الإفصاح عن وثائق إبستين وزعمت أن إسرائيل وراء مقتل كيرك. ومع أن كيرك كان مدافعاً شرساً عن إسرائيل، إلا أن أصحاب هذه النظرية يشيرون إلى تغيّر طرأ عليه تجاه إسرائيل في أيامه الأخيرة نتيجة تغيّر آراء القواعد الشبابية لحركة ماغا بسبب تأثرهم من الإبادة في غزة وموضوع ملفات إبستين. قاد هذه الحملة كانديس أوينز، وهي مذيعة يمينية سوداء كانت تعمل في مؤسسة بِن شابيرو (ذا ديلي واير)، قبل أن تُطرد نتيجة مواقفها من حرب غزة. جمعت أوينز علاقة صداقة متينة بتشارلي كيرك، وبعد موته استخدمت منصتها لنشر تفاصيل كثيرة عن علاقته المتوترة مع إسرائيل في أيامه الأخيرة.
قد لا يمكن تجاهل أن الخلاف الاقتصادي حول القانون الكبير الجميل أعاد رسم الحدود داخل التحالف، إلا أن الحرب وملفات إبستين جعلت العلاقة مع إسرائيل ودورها في السياسة الأمريكية نقطة خصام محورية لا تكفّ عن التعاظم أو الظهور للسطح من وقت لآخر. ومع كل هذا الخلاف إلا أن الإجماع حول ترامب لا يزال قوياً مع حاجته المستمرة لرأب الصدع بين وعوده وسياساته. والسؤال الذي يظل مفتوحاً هو إلى أي درجة يستطيع ترامب الحفاظ على هذا التوازن في السنوات الثلاث الباقية من رئاسته.

