كتب في مواجهة النيران.. دمار مكتبات سوريا وإنقاذها إبان الثورة

أصاب الدمار والحريق مكتبات سورية خاصة وعامة في سنوات الثورة والحرب، وسعى كثيرون لإنقاذ هذه المكتبات بطرق خطرة.

Share
كتب في مواجهة النيران.. دمار مكتبات سوريا وإنقاذها إبان الثورة
كانت جهود إنقاذ المكتبات السورية فرديةً أو أهليةً بمعظمها في مواجهة الحرب أو النهب والتجارة السوداء | تصميم خاص بالفراتس

يحفل تاريخ العالم بالحروب التي قتلت البشر ودمّرت الحجر، وأحرقت الكتب ودمّرت والمكتبات أيضاً. لعلّ أقدم مكتبةٍ دمّرت في التاريخ المعروف هي مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال التي دمّرها تحالف الغزاة البابليين والميديين والسكوثيين سنة 612 قبل الميلاد، وعثر المنقّبون البريطانيون على أنقاضها وبقايا ألواحها الطينية.
ثمّة تاريخٌ لتدمير المكتبات يطابق تاريخ المكتبة نفسها. في كتابها "ليبريسايد" (إبادة الكتب) المنشور سنة 2003، اختارت أستاذة علوم المكتبات الأمريكية ريبيكا نوث مصطلح الإبادة في وصف تدمير الكتب منهجياً بأيدي أنظمةٍ سياسيةٍ في القرن العشرين ضمن إطار إبادةٍ بشريةٍ أوسع. تميّز نوث بين هذا التدمير المنهجي لأسبابٍ عقدية وسياسية، وبين دمار المكتبات عَرَضاً بسبب القصف والحرب، مثلما فعل الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
لكنّ ثمّة نوعٌ آخر من تدمير المكتبات ترتكبه الأنظمة السلطوية، وهو منع الكتب ابتداءً وتحريم اقتنائها. في رواية جورج أورويل ذائعة الصيت "1984" المنشورة سنة 1949، كانت "وزارة الحقيقة" هي المسؤولة عن تدمير الكتب والتفتيش عمّن يخالف حظر اقتنائها. وفي رواية "إل نومي ديلا روزا" (اسم الوردة) المنشورة سنة 1980، وضع أومبيرتو إيكو سلسلة جرائم غامضةٍ توصلنا في النهاية إلى هدف إخفاء صفحةٍ من كتاب. في سوريا ودولٍ أخرى حَكمَتْها أنظمةٌ سلطويةٌ، كانت هذه المهمة موكلةً بالمخابرات التي تفتّش عن الكتب الممنوعة وتدفع القرّاء لإخفائها أو إتلافها خوفاً.
كانت الكتب في سوريا قبل الثورة السورية سنة 2011 تخضع لرقابة المخبرين وعناصر الأمن، وقد تتسبب حيازة بعضها بزج صاحبها في غياهب السجون. ثم جاءت الثورة لتفتح الباب على ما كان ممنوعاً. إلا أن الصواريخ والقذائف والبراميل المتفجرة كانت في حربٍ مع الكتب أيضاً، فلَم تنجُ المكتبات السورية من نيرانها.
تعدّدت أوجه دمار الكتب في سوريا خلال مرحلة الثورة. بين حرائق مقصودةٍ أبرزها جمع الكتب وحرقها في الساحات، كما فعل تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، الذي كانت أضخم هجماته ضدّ الكتب تدميرَ مكتبة جامعة الموصل في العراق سنة 2015. أو الأضرار الجانبية للقصف الواسع الذي شنّه نظام بشار الأسد والطيران الروسي على مناطق الثوار. أو الإخفاء والملاحقة والاعتقال على شبهة الكتاب.
ومع تعدد أشكال التدمير تعددت حكايات إنقاذ الكتب والمكتبات. حَوَت بعض هذه المكتبات مخطوطاتٍ أثريةً وكتباً نادرةً، واحتاج إنقاذها فرقاً منظمةً تنقلها مرّةً بعد مرّة. أما مكتباتٌ أخرى فدَفَنَها أصحابها تحت الأرض خوفاً من المخبرين، أو نقلت في طرق النزوح بين الثياب والحقائب القليلة. وتجمعت مكتباتٌ أخرى بجهودٍ جماعيةٍ من تحت الأنقاض لتصبح مساحةً واسعةً داخل الحصار الضيق.


بدأت حكاية مكتبة محمود السلوم من غرفةٍ صغيرةٍ في منزله داخل بلدة التِبْني الصغيرة على كتف نهر الفرات غربي مدينة دير الزور. في سنة 1999 ضمّ أوّلَ كتابٍ إلى مكتبته الشخصية، وما لبثت أن تحوّلت مكتبةً عامرة. كان ذلك حين لمح مرّةً كتاب "رياض الصالحين"، فاستوقفه جمالُ إخراجه، فاشتراه بمئةٍ وخمسين ليرةً سوريةً (نحو ثلاثة دولاراتٍ أمريكيةٍ حينها). قرأه مراتٍ وأدرك، كما يقول، أن الكتب هي العالم الذي يريد أن يتبحَّر فيه.
بدأت رحلة اقتناء الكتب لدى السلوم تتسع. ويروي أنه كان يتردّد صباحاً، قبل ذهابه إلى المدرسة، على مكتبةٍ صغيرةٍ اسمها "دار الأرقم". وكان صاحبها المدرّس في الثانوية الشرعية فيصل الأبقع، الذي كان يفتحها من السابعة إلى الثامنة صباحاً قبل أن يتوجه إلى تعليم طلابه، وكانت ساعةً كافيةً ليوجّه السلومَ إلى أمهات الكتب.
يقول السلوم إن طريقه لم يكن سهلاً، وهو القادم من عائلةٍ متوسطة الدخل. اتفق مع والده على مصروفٍ يوميٍ قدره خمسون ليرةً (نحو دولارٍ واحدٍ حينها)، وبعد اقتطاع أجور النقل منها، يبقى له ثماني عشرة ليرةً يدّخرها للكتب. وكثيراً ما استعان بالأستاذ فيصل، الذي سلّمه كتباً على التقسيط، وصبر على تأخره في السداد.
وبحلول نهاية المرحلة الثانوية، ضمّت مكتبته نحو ثلاثمئة كتابٍ متنوّعٍ في التاريخ واللغة والأدب والعلوم الشرعية، مع ميلٍ إلى علم الحديث. ومع دخوله الجامعة، توسّعت مكتبته أكثر. كان يلاحق معارض الكتب، ويجمع من بسطات دمشق ما تيسّر من العناوين النادرة. فقد عثر عند جسر الرئيس بدمشق، وهو موقع تكثر فيه بسطات بيع الكتب المستعملة، على نسخةٍ من رسالة الدكتوراة لعالم الحديث النبوي عمر فلاتة "الوضع في الحديث" موقّعةٍ بخطّ يده، واشتراها بثمنٍ بخس. ومع الوقت صار عدد الكتب في مكتبته يقارب ألفين.
لكن القراءة في سوريا لم تكن آمنة. كثيرٌ من الكتب كانت محظورةً، خصوصاً مؤلفات المشايخ السلفيين، مثل ابن تيمية وابن القيم والألباني، وكتب الإخوان المسلمين. يقول السلوم إنه قضى سنتين يبحث عن كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" لابن تيمية، حتى وجده عند بائع كتبٍ شيعيٍ يملك بسطةً قرب جسر البعث في دير الزور. وتبيّن له أن معظم تلك الكتب صودرت من أصحابها، ثم أعيد بيعها عبر شبكةٍ مرتبطةٍ بالأمن العسكري، حسب ما قال.
لم يبدأ السلوم دفن كتبه مع الثورة. فبين سنتي 2007 و2008، قاد رئيس فرع المخابرات العسكرية في دير الزور اللواء جامع جامع حملاتٍ أمنيةً في المحافظة، بحثاً عن خلايا التيار الجهادي هناك. اقتحمت عناصر الأمن البيوتَ ومزَّقوا الكتب عشوائياً. وفُتِّشت مكتبة السلوم أيضاً، ولكنه لجأ قبلها إلى دفن الكتب في براميل يحضرها والده من شركة النفط التي يعمل فيها. وكثيراً ما اضطر لإخراج برميلٍ كي يبحث عن كتابٍ يحتاجه. ولكن البراميل بالمحصلة أنقذت مكتبته من المصادرة كغيره.
بعد الثورة السورية، وتحديداً بعد سيطرة فصائل الثورة المسلحة على بلدة التبني في الرابع من ديسمبر 2012، استعاد السلوم مكتبته المدفونة. ولكن لم يدم ذلك طويلاً، فقد دخل تنظيم "داعش" المنطقةَ منتصف 2013، وأصبح المسيطر الوحيد عليها منتصف 2014. مُنع صاحب المكتبة من الخطابة والإمامة والتدريس، وفتّش عناصر التنظيم مكتبتَه، وجادله أحدهم حول كتابٍ للشيخ السلفي المصري محمد حسّان. حينئذٍ، عاد السلوم إلى دفن الكتب.
في أكتوبر 2015 بدأت قوات النظام المدعومة من روسيا وإيران معركةً للسيطرة على محافظة دير الزور، وانتهت بسيطرتهم على مدينة دير الزور وريفها الغربي في نوفمبر 2017. ومع اقتراب هذه القوات من بلدة التبني قرر السلوم النزوح ودفن الكتب مرةً أخرى. بدأ العملَ متخفياً ليلاً خوفاً من عناصر التنظيم، يحفر الأرض وتساعده زوجته أحياناً بنقل دلاء التراب إلى أشجار الزيتون لتضليل أيّ عينٍ متطفلة. أما والدته فكانت تراقب وتنذره إن قدم أيُّ غريب. وحين اكتملت الحفرة جهّزها بأغطية نايلون عازلةٍ ودفن فيها ثلاثين علبة كتب، ووضع فوقها أغراضاً منزليةً أخرى لحفظها من السرقة، ثم غطّاها بأربعين سنتيمتراً من التراب.
لم تترك الغارات الجوية العنيفة على القرية وقتاً لإكمال تغطية الحفرة وخشب المكتبة، فاضطر للنزوح مع عائلته متنكراً في هيئة رعاة غنمٍ بصحبة مهرّب. فشلت محاولته الأولى فنصب خيمةً على ضفة الفرات، إلى أن وجد طريقاً للخروج من سوريا إلى تركيا. ومع عمليات التفتيش والنهب الواسعة التي نفذتها قوات نظام الأسد في المناطق التي تسيطر عليها، نُبش مكان الدفن. ولكن الجنود عثروا فقط على خشب المكتبة في مكانٍ آخَر وأخذوه معهم.
عاد السلوم إلى قريته في يوليو 2025، وبعد يومين فقط بدأ استخراج مكتبته المدفونة. بقيت نحو ثلاثة أرباع كتبه على حالها، وأتلفت الربعَ الأخير جذور نباتٍ شوكيٍ وصلت علب الكتب. وبين كتبه التالفة نسخةٌ نادرةٌ من كتاب "نَكْت الهمْيان في نُكَت العُمْيان" لمؤلفه الأديب صلاح الدين الصفدي الذي عاش في القرن الرابع عشر. وكانت هذه النسخة قد صدرت برعاية الخديوي عباس حلمي الثاني في مصر سنة 1911.
عادت إلى السلوم مكتبته شاهدةً على رحلة صاحبها، مذ بدأ اقتناءَ الكتب طفلاً، ثم دفنها مرّتين، بينما يدفن الإنسان مرةً واحدة. متأثراً بمداهمات النظام السابق ضدّ التيار الجهادي، ثمّ مداهمات التيار الجهادي نفسه، ثمّ القصف والنزوح في حرب الطرفين، حتى عودته واستخراج مكتبته التي بقيت بعد رحيلهما.
وكما تأثرت مكتبة السلوم الخاصة بالأحداث السياسية والعسكرية في محيطه، فإن مكتبةً تاريخيةً عامةً مثل المكتبة الوقفية في حلب عاشت أثر الحرب نفسه.


بدأت قصة المكتبة الوقفية في حلب سنة 1926، حين أَسّست دائرة الأوقاف الإسلامية بالمدينة "دار الكتب الوقفية الإسلامية" في المدرسة الشرفية في حلب القديمة. جمعت الدار الكتبَ المطبوعة والمخطوطات من المكتبات الموقوفة في حلب، حسب علاء الدين الزعتري في مقاله "دار المكتبات الوقفية الإسلامية بحلب" المنشور في مجلة "آفاق الثقافة والتراث" سنة 2003. بعد تأسيس "مكتبة الأسد الوطنية" في دمشق سنة 1984 نقلت مخطوطات المكتبة إليها لتبقى المطبوعات فقط في المدرسة الشرفية. وقد عادت مديرية الأوقاف في حلب إلى مشروع إحياء المكتبة بعد اختيار حلب عاصمةً للثقافة الإسلامية سنة 2006. ففي سنة 2008 كلّفت وزارة الأوقاف السورية الأستاذَ في معهد التراث العلمي العربي وكلية الشريعة في جامعة حلب محمود المصري بإدارة المشروع وتشكيل فريق إدارته، حسب ما يروي لنا أحد أعضاء الفريق الشيخ عمار طاووز.
انتقل إلى عهدة الفريق الجديد نحو خمسمئة مخطوطٍ كانت في عهدة مدير المكتبة الوقفية القديمة في المدرسة الشرفية الشيخ أحمد سردار، وقد وصلت إليها بعد نقل المخطوطات القديمة إلى مكتبة الأسد بدمشق. جُمعت هذه المخطوطات في دار رجب باشا عند ساحة السبع بحرات لتكون نواة قسمٍ لترميم المخطوطات.
ولتنفيذ مشروع ترميم المخطوطات بدأ الفريق دورةً تدريبيةً مع مكتبة الإسكندرية شملت ترميم أربعين مصحفاً مخطوطاً جُمعت من مساجد حلب ومكتبتها. وتلتها دوراتٌ أخرى في المكتبة الوطنية بدمشق ومركز جمعة الماجد في دبي، حتى أصبح الفريق متمرساً في الترميم.
يقول عضو الفريق الشيخ عمار طاووز إن مبنى المكتبة الجديد افتتح أواخر سنة 2009 في قبوٍ أسفل الساحة الشمالية للجامع الأموي الكبير. وبدأت مجموعة المكتبة بألفي كتابٍ مطبوعٍ، إلى جانب المخطوطات في قسم الترميم. كان الإهداء أوسعَ مصدرٍ لزيادات مقتنيات المكتبة حتى بلغت نحو ثلاثين ألف عنوان. شملت الهدايا مكتبات وجهاءٍ ومثقفين وعلماء دين أهداها الورثة إلى المكتبة الوقفية، ومنها مكتبة معروف الدواليبي، رئيس الوزراء السوري بين سنتي 1961 و1962.
قبيل بداية الثورة السورية، كانت المكتبة الوقفية في أوج عطائها. أقامت دوراتٍ متقدمةً في الترميم والتحقيق وعلوم المكتبات، وتوسّع مخزونها من المخطوطات والمطبوعات، وأَمَّها مئات الباحثين والطلّاب. تسبب هذا النشاط بطابعه الديني برقابة أجهزة الأمن عليها بعد الثورة. يروي طاووز أن مدير أوقاف حلب قال له "أنت عامل المكتبة وكر"، تلميحاً لعلاقة هذه التجمعات بالتنسيق للمظاهرات. وعند اعتقال أجهزة الأمن طاووز في مايو 2011، حضر رئيس قسم الإرهاب في الأمن العسكري ومعاونه إلى المكتبة لتفتيشها. ويظنّ طاووز أنهم زادوا عدد المخبرين فيها بعد ذلك.
مع وصول فصائل الثورة المسلحة إلى حلب في يوليو 2012، انقسمت السيطرة في المدينة القديمة بين الثوار والنظام. تحوّل الجامع الأموي ساحةَ معارك، وأصبح الوصول إلى المكتبة الوقفية مغامرةً خطرة. عند ذلك طلبت الأوقاف من إدارة المكتبة تسليمها إلى كتيبةٍ مسلحةٍ تابعةٍ لحزب البعث، كما يقول طاووز. ولكن قبل تسليمها نقلوا مخطوطاتها إلى جزءٍ آمنٍ في المستودع لحمايتها، وكان لهذه الخطوة أثرٌ كبيرٌ في حفظها.
بعد سيطرة فصائل الثورة السورية على الجامع الأموي في نهاية فبراير 2013، انسحبت "كتائب البعث" من المكتبة الوقفية، وبقيت تحت مرمى القناصين المتمركزين في قلعة حلب الأثرية وأسطح الأبنية العالية المحيطة بالجامع الأموي. كان الطريق الوحيد إلى المكتبة من الباب الشمالي للجامع الأموي، ولكنها وُجدت رماداً كاملاً. احترق خمسون ألف كتابٍ، ولم يبقَ سوى المستودع الذي نقلت إليه المخطوطات.
جُمعت المخطوطات ونقلت إلى صحن الجامع الأموي تحت تغطيةٍ ناريةٍ من الجيش الحرّ حتى لا يستهدف قنّاصو النظام السابق عملية النقل، ثم وضعت في الرواق الشرقي. بعد ذلك نقلت إلى مجلس محافظة حلب الحرة في منطقة الشيخ نجار بريف حلب، بموجب وثيقةٍ رسميةٍ وقّع عليها قائدا "لواء التوحيد" عبد القادر الصالح وعبد العزيز السلامة، إضافةً إلى ممثلين عن مديرية الأوقاف ودار الإفتاء في حلب ومنظمة الهلال الأحمر. نصّت الوثيقة على أن المخطوطات ستُحفظ مهما اشتدت الحرب، وأن حماية التراث لن تقلّ أهميةً عن المعارك.
ولكن المكان لم يبقَ آمناً بعد قصف منطقة الشيخ نجار وتقدّم قوات النظام في نوفمبر 2013. نقلت المخطوطات إلى مواقع جديدةٍ، مرةً بعد مرةٍ، تجنباً للقصف أو تهديد تنظيم داعش الذي أصبح يهاجم مناطق الثوار في حلب منذ بداية 2014.
خلال تلك السنوات، انهالت العروض لإخراج المخطوطات واللُقى الأثرية إلى خارج سوريا، ولكن القائمين على المكتبة تمسكوا بإبقائها في البلاد. تعاون الفريق مع جهاتٍ محليةٍ ودوليةٍ لتأمين صناديق خاصةٍ لحفظ المخطوطات، ونقلوها لأماكن جديدةٍ سرّاً مع تغيّر الوضع الأمني، حتى أن من ساهموا في عملية النقل لم يعلموا ما الذي يحملونه.
بعد سقوط نظام الأسد، يجري اليومَ العمل على تجهيز مبنى المكتبة الوقفية الجديدة، حيث ستعود المخطوطات، شاهدةً على نزوحٍ وصراعٍ طويلٍ مع النار والرماد ومحو الذاكرة.
لم تكن المكتبة الوقفية وحدها في حلب التي عاشت أثر الحرب. فكذلك تأثرت مكتبة المدرسة الخسروية.


في فبراير 2014 أعلنت "الجبهة الإسلامية"، وهي تحالف فصائل مسلحةٍ معارضةٍ تشكَّلَ في نوفمبر 2013، عن بدء معركة "زلزال حلب" في حلب القديمة. وفجّرت خلالها نفقاً تحت فندق الكارلتون الذي كان مركزاً لقوات النظام. ويظهر أن النفق كان يمرّ تحت المدرسة الخسروية التي تضررت من التفجير، وتهدمت أجزاءٌ كبيرةٌ منها. وبقيت المنطقة خطّ اشتباكٍ حتى سيطرة النظام على مناطق حلب الشرقية وتهجير الثوّار في ديسمبر 2016.
بقيت ثمّة كتبٌ هناك، كما قال لنا محمد صبحي سرحيل، مدرس الرياضيات في المدرسة الخسروية والعامل في مجال البناء. تلقى سرحيل اتصالاً سنة 2017 من أمين سرّ المدرسة، الشيخ علي ولي، وأخبره أن بعض الكراسات الأساسية ما زالت مطمورةً تحت الأنقاض ويمكن إنقاذها إن تيسّر الأمر. يقول سرحيل: "ذهبنا أربعة أشخاصٍ، وكان السقف منهاراً يغطي غرفة أمانة السرّ، حيث المكتبة الصغيرة. الكتب هناك كانت مراجع للمنهج الدراسي، تعار للطلاب عند الحاجة. استطعنا إخراج نحو مئتي كتابٍ في تلك المرّة".
بعد أيامٍ عاد سرحيل إلى المكتبة وأخرج أربعين كتاباً آخَر، قبل أن يلتقي عميد كلية الشريعة سابقاً في جامعة حلب والمدرّب في الهلال الأحمر بلال صفي الدين، الذي قال له إنه يستطيع إخراج بقيّتها لأن لديه ورقةً أمنيةً من المسؤول الأمني في حلب تخوّله دخول المكان. حضر بعدها صفي الدين مع مجموعةٍ من ثمانية شبّان. وتولّى سرحيل إدارة وصول الفريق لتجنّب أماكن الخطر واحتمالات تهدّم الأنقاض فوقهم. كانت الكتب موزعةً على الجهات الشمالية والشرقية والغربية، ولكن الجهة الغربية مهدمة تماماً، فركّزوا على الجهتين الشرقية والشمالية. يقول سرحيل: "بدأنا الحفر، وأخرجنا نحو ألفٍ وأربعمئة كتاب".
لم يكن الدخول إلى المدرسة الخسروية مهمةً سهلة. يقول صفي الدين إنه خاطب فريقَ استخراج الكتب قبل الدخول محذّراً: "نحن الآن كمن يحفر نفقاً إلى قلب الخطر. السقف فوق رؤوسنا مائلٌ والأعمدة بالكاد تستند إلى حجارةٍ مهدمة. أيّ حركةٍ خاطئةٍ قد تعني انهيار كلّ شيء. إن وقع السقف فلن تُخرجنا الدولة بعشر سنوات". حفر الفريق نفقاً مستقيماً عبر الجدار اليميني للمكتبة، في حين استبعد الحفر من الجهة الأخرى خوفَ الوصول إلى النقطة التي تسند فيها الأسقف المنهارة. وخلال الحفر ظهرت الرفوف المدفونة تحت الركام. وكان عليهم أولاً اقتلاع الرفّ العلويّ، ثم سحب الكتب واحداً تلو الآخَر، قبل أن يخلعوا الرفّ ليصلوا إلى الذي يليه. وبإيقاعٍ متكررٍ أشبه بعمليةٍ جراحيةٍ، سحبوا الكتب من بين طبقات الخزائن واحدةً بعد الأخرى، حتى أخرجوا كلّ الكتب التي أمكنهم بلوغها.
لم تنتهِ المهمة بإخراج الكتب من تحت الأنقاض. إذ لا بدّ من نقلها عبر طريقٍ لا تضع فيه قوات النظام الحواجز العسكرية. يقول صفي الدين: "لم يكن خوفنا على الكتب وحدها، بل على أنفسنا أيضاً. الحواجز لا قوانين لها، ولا أحد سيتفهم أننا خاطرنا بحياتنا من أجل إنقاذ مكتبة. مجرد توقيفنا على حاجزٍ قد يفتح علينا أبواباً من الشبهات، وربما يكلّفنا كلّ ما نملك رشوةً لنتابع طريقنا". ولأن سرحيل ابن المنطقة، فقد سار أمامهم في طرقاتٍ يعلم أن لا حواجز فيها، وليكشف أيّ تغيراتٍ طارئةٍ فينبّههم.
خرجت كتب المدرسة الخسروية من بين الركام سالمةً من موتٍ محققٍ تحت الحجارة، لتكمل مسيرتها خارج أسوار المدرسة المدمرة إلى مبنى الأوقاف القديم في قبو جامع أصحاب الكهف في حي الزبدية. وهناك، أحضر صفيُّ الدين طالباتٍ تولَّين تنظيف الكتب من الغبار وإعادة أرشفتها.
كانت خريجة كلية الشريعة، فاطمة النعساني، ضمن الفريق المشرف على عمل الطالبات. وقالت إن الجزء الأكبر من الكتب جاء من المدرسة الخسروية، وجاءت دفعاتٌ أخرى من مدارس ومساجد متفرقة. تقول النعساني: "مرَّ العمل بمراحل أوّلها تنظيف الكتب من الغبار والأتربة. بعضها كان متضرراً وفقدت أجزاءٌ منها فكنّا نضعها جانباً، ثم نفرز البقية حسب حالتها. الكتب التي احتاجت إلى ترميمٍ خصّصنا لها وقتاً وجهداً إضافياً. فقد وجدنا كتباً نادرةً، بل حتى جزءاً من مخطوطٍ قديم".
بعد التنظيف والفرز جاء دور التوثيق وفهرسة الكتب. أنجزت هذه المرحلة على الورق، قبل تحويلها إلى ملفاتٍ إلكترونيةٍ لضمان حفظها. وتقول النعساني: "لاحقاً افتتحت مكتبة مركز رشاد للتأهيل التخصصي، وكان مشروعاً مستقلاً عن عملنا الأول. بدأت هذه المكتبة بنواةٍ صغيرةٍ، ضمّت جزءاً من الكتب التي وصلتنا، بينها كتبٌ أخرجت أيضاً من تحت الأنقاض بمبادراتٍ فرديةٍ، ولكنها اجتمعت لتؤسس رصيداً جديداً من المعرفة".
ومن تحت الركام والغبار، ومن جدران المدارس والمساجد المهدمة، بدأت رحلةٌ طويلةٌ لإنقاذ ما تبقّى من الكتب، وتحويلها إلى مكتبةٍ حيّةٍ تحفظ ذاكرة العلم في المدينة.


لم تقتصر رحلة إنقاذ الكتب على استخراجها من المدرسة الخسروية، بل تخلّلتها حوادث أخرى. يروي صفي الدين أنه أوصى قبلها أصحابَ محالّ شراء الكتب أن يتواصلوا معه إن ساورهم الشكّ في مصدر أيّ كميةٍ كبيرةٍ تعرض عليهم. وقبل اتفاق التهجير في حلب الشرقية أخبره أحد التجار أنَّ جندياً من قوات النظام السابق جاءه بكميةٍ كبيرةٍ من الكتب. أخبره الجندي عن مستودعٍ للكتب على خطّ القتال بين الثوار والنظام، هدمه القصف وصارت محتوياته عرضةً للمطر والتلف، ولا قدرة للوصول إليه إلا للعسكريين. عندها أخبر صفي الدين التاجرَ أن يتفق مع الجندي على جلب الكتب مقابل "أجرة طريق"، على أن تودع في المدرسة الشرعية بإدارة الشيخ علاء قصير. كان الاتفاق بين صفي الدين وقصير أن تعدّ هذه الكتب وقفاً ما لم يظهر أصحابها، وإن طالب بها أحدهم تعاد إليه. وبالفعل، بعد مدّةٍ تواصل صاحب المكتبة مطالباً بكتبه فأعيدت إليه.
وبعد اتفاق التهجير نهاية 2016، وصل صفيَّ الدين اتصالٌ من الشيخ عبد الباسط شاكر، الذي يعمل في مديرية الأوقاف بحلب، يخبره أن الأوقاف شكّلت لجنةً لجمع الكتب من المناطق الشرقية. عندها بدأ صفي الدين البحث عن مكتباتٍ مهددةٍ بالضياع يرشد الأوقافَ إليها، في محاولةٍ لتقليل السرقات وحماية ما يمكن إنقاذه. ولكنه فوجئ بسطحية التعامل مع هذا الإرث، كما قال لنا. ففي إحدى جولاته مع الهلال الأحمر برفقة أحد موظفي الأوقاف، شاهد عاملاً ينقل الكتب في سيارةٍ صغيرة. وحين وصلا إليه، سأل العامل إن كان ثمة داعٍ لإحضار مجموعة كتبٍ قديمةٍ من الطابق العلوي. كان بين تلك الكتب مخطوطاتٌ نادرة.
توسعت جهود الجمع لاحقاً، وقررت الأوقاف تشكيل لجنةٍ لفهرسة الكتب وأرشفتها. لكن معظم أفرادها افتقدوا الكفاءة اللازمة. طُلب من صفي الدين أن يرفد اللجنة بمتطوعين، فاستقدم طلاباً من أقسام الدراسات العليا. بدأت اللجنة في قبو مبنى الأوقاف عملاً شاقّاً استمر أياماً لفهرسة آلاف الكتب المكدسة في دكانٍ صغيرٍ، وسجّلوها يدوياً، وبعضها كانت مخطوطاتٍ نادرةً وضعت في صناديق خاصة.
بقيت الكتب في صناديقها مرقّمةً داخل المخزن، إلى أن عيّن الشيخ أمين خيّاطة مديراً للمكتبة الوقفية. يقول صفي الدين إنه اقترح أسماءً أخرى ليكونوا معاونين له من الشبّان الأقدر على الحركة والتعامل مع الكتب، ولكن مدير الأوقاف لم يأخذ برأيه حينها. بعد فترةٍ تلقّى صفي الدين اتصالاً من خيّاطة يطلب نسخةً من الفهرس. وعندما سئل عن مصير الكتب، أجابه أنها نقلت إلى أحد ممرات الطابق العلوي، وفتحت صناديقها وأُخذ بعضها وأضيفت إليها كتبٌ غير مفهرسة. ظلّ مصير الكتب لاحقاً مجهولاً له، إلا أنه عَلِمَ أن إدارة المدرسة الهلالية، وهي التي فَهْرسوا كتبَها الناجيةَ، قد تواصلت مع مديرية الأوقاف بعد سقوط نظام الأسد واستعادت كتبَها.
لم تنج جميع الكتب من الحرب والفوضى والتجار، فقد ضاعت مكتباتٌ قديمةٌ وتوزّعت كتبها، كحال مكتبة الفقيه محمد روّاس قلعجي الذي توفّي في أبريل 2014.


بدأت القصة عندما قرر قلعجي أن يعود إلى سوريا بعد سنوات عملٍ طويلةٍ في الخارج. أنهى عمله في جامعة الكويت، ثم استمر مدّةً مستشاراً في الموسوعة الفقهية الكويتية، قبل أن يتوقف عن عمله لأسبابٍ صحية. ومع عودته إلى حلب سنة 2008، نقل مكتبته التي تضمّ أربعة آلاف كتابٍ من الكويت لتضاف إلى مكتبته في حلب.
يقول ابنه معتز إن والده أراد أن يتبرع بمكتبته للمكتبة الوقفية، لكنه اقترح أن تجمع في مكتبٍ خاص. خصّص معتز قسماً من مكتبه الهندسي في حيّ السريان الجديدة ليكون مكتبةً لوالده، ووظّف إحدى قريباته من طالبات كلية الشريعة لتساعد والده في ترتيبها بعد أن ضعفت صحته وأخذت ذاكرته تتراجع مع بدايات إصابته بمرض الزهايمر. مع ذلك بقي الشيخ منشغلاً بالتأليف وتحقيق كتبٍ جديدةٍ بمساعدة طلابه، وأضيفت إليها مكتبة البطاقات التي كانت خلاصة عمله خلال أربعين سنةٍ، إذ كانت ملخصاتٍ مرتّبةً يعتمد عليها في تأليف كتبه.
مع تصاعد الصراع في سوريا غادر معتز البلاد في فبراير 2012 إلى الإمارات، وعهد بمكتبه إلى أحد الأشخاص. ولكن في بدايات سنة 2014 وصلت فصائل المعارضة المسلّحة إلى حدود حيّ السريان، وأطلقت قذائف سقطت قرب مكتبه، فتكسرت النوافذ والأبواب. هرب المسؤول عن المكتب، وأعلن النظام المنطقةَ منطقةً عسكريةً، واتخذ من المكتب نفسه نقطةً عسكرية. حين حاول العامل العودةَ أُهين ومنع الدخول، وعندما عاد لاحقاً في مايو 2015 وجد المكتب فارغاً بعد نهبِه بالكامل، حتى من بلاط الأرضيات والتمديدات الصحية.
يقول معتز إنه طلب قبل ذلك من الأمين على المكتب إخراج الكتب، ولكنه خشي إخراجها لأنها كتبٌ دينيةٌ وستمرّ من حواجز المخابرات. ولكن الكتب وبطاقات الملخّصات العلمية نهبت بيد خبيرةٍ تعرف قيمتها، إذ وصله اتصالٌ لاحقاً من عميد كلية الشريعة السابق بحلب بلال صفيّ الدين يخبره أن بعض الكتب الموقّعة بخطّ والده موجودةٌ في مكتبةٍ معروفةٍ بحلب. ولكنّ الابن يعتقد أن قسماً كبيراً منها بِيعَ إلى خارج سوريا.
يقول معتز: "بعد سقوط النظام زرت المكتب، ولم أستطع احتمال المشهد بسبب الخراب وفقدان ذكريات الوالد وتعبه". ما يزال معتز يتواصل مع مكتباتٍ عربيةٍ تهتمّ بالتراث لتتبّع أثر المكتبة، ولم يتخلّ عن مشروع استعادتها. ولكنه لم يحسم بعد إن كان سيعيدها في مكتبٍ مستقلٍ، أم ينتظر إعادة افتتاح المكتبة الوقفية ليَفِيَ برغبة والده الراحل بإيداعها فيها. كان هدفه من وضعها في مكتبٍ خاصٍ أن تساعد والده على مقاومة المرض بالانشغال بالتأليف والإنجاز. ولكن رحل والده والمكتبة بعده.
كان مصير مكتبة الفقيه الحلبي نور الدين عتر المتوفّى سنة 2020 أفضل، إذ نجت المكتبة مع أنها على خطّ النيران.


تقول أستاذة كلية الشريعة في جامعة دمشق، راوية عتر، إن مكتبة والدها "كانت بالنسبة له كالعمر الثاني"، وبالنسبة لها فإنها تحمل حياته منذ طفولته حتى وفاته. بدأت مكتبة العتر مع خطواته الأولى في طلب العلم بالأزهر الشريف، ثم نَمَت وتوسّعَت، إذ كان لا يتوقف عن اقتناء الكتب، غير ما يصله من الكتب هدايا.
احتوت المكتبة نفائس نادرةً، بينها مخطوطاتٌ قديمةٌ وكتبٌ من مطبعة بولاق المصرية في القرن التاسع عشر، وأوراقٌ بخطّ الفقيه الحمصي وعالم قراءات القرآن الشيخ عبد العزيز عيون السود، وأوراقٌ بخطّ جدّها الحاج محمد عتر فُقدت بعد ذلك.
كانت المكتبة في منزل العائلة في حيّ الإذاعة بحلب. ومع تحوّل المدينة إلى ساحة معركةٍ في يوليو 2012، قرّر الشيخ أن يبقى في دمشق وألا يسافر إلى حلب كعادته كلّ عام. تفاقمت الأحداث سريعاً، وأصبح الحيُّ تحت سيطرة الجيش الحرّ وبنايتُهم أولى المباني في مرمى النيران، فاضطرت العائلة إلى المغادرة دون أن يمكنها أخذ الكتب. ولكنهم نقلوها لاحقاً عن طريق معارفهم حتى استقرّت في جامع زين العابدين في حيّ حلب الجديدة، الذي كان في مأمنٍ من قصف النظام السابق لوقوعه في مناطق سيطرته.
لم يكن إنقاذ الكتب دائماً بأخذها نحو مناطق آمنةٍ، ففي المناطق المحاصرة أنقذ القرّاء الكتبَ من تحت الأنقاض وجمعوها لتكون سلوى لهم في الحصار.


لم تكن فكرة المكتبة ترفاً في جنوب دمشق المحاصر، بل استجابةً لحاجة الإنسان المحاصَر إلى متنفسٍ يخفّف عنه الحصار وضيق الأرض. يقول المحامي محمد شوربة إن مكتبة الحصار بدأت حين جمع مقاتلون كتباً متناثرةً من تحت أنقاض المباني المهدمة، بين ما تبقّى من مكتباتٍ شخصيةٍ وأخرى مدرسيةٍ أو عامة. واختاروا لها صالةً في مبنى السجل المدني في بلدة يلدا.
لم يكن الهدف مجرد جمع الكتب، بل بناء فضاءٍ يتيح للناس، وسط الحصار والجوع والخوف، مساحةً طبيعيةً ولو كان الخارج كلّه خراباً. يتيح لهم أن يقرؤوا ويناقشوا ويشاهدوا فيلماً أو يحضروا ندوةً ومسابقات.
بدأ العمل بإمكاناتٍ ضئيلةٍ وبلا دعمٍ مؤسّسيٍ، معتمداً على جهودٍ ومساهماتٍ فردية. بعض الكتب انتشلت من الأنقاض، والأخرى اشتُريت أو جاءت هِباتٍ وتبرعات. تزايدت التبرعات من مكتبات الأهالي في جنوب دمشق، وكأنهم وجدوا في المكتبة أملاً مشتركاً. وضعت الرفوف، وتعاون الفريق على أرشفة الكتب وتصنيفها.
بين سنتي 2017 و2018 أصبحت المكتبة موئل المحاصَرين. قبل أن ينهيَها اتفاق التهجير في بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم في مايو 2018، والذي نصّ على خروج الثوار ومن يرغب من الأهالي الرافضين البقاءَ تحت سيطرة النظام نحو مناطق سيطرة الثوار في الشمال السوري. ومع خروجهم نقلوا جزءاً من الكتب معهم. إذ أُودعت في مكتبة "رقيم" في مدينة الباب شرق حلب، أمانةً عند مهجَّرين آخَرين. ولكن استمرار العمل لم يكن ممكناً، فقد تفرّق أعضاء الفريق في جهات النزوح واللجوء.
بعد سقوط نظام الأسد، وجد الفريق الصالةَ ما تزال قائمةً في بلدة يلدا، ببعض رفوفها وطاولاتها، وكأنها بقايا ذكرى تنتظر أن تستعاد. يقول شوربة: "في زمن الحصار كان الحصول على مكانٍ مجانيٍ ممكناً، أما الآن فكلّ شيءٍ يحتاج إلى مالٍ ودعمٍ لا نملكه".
تتقاطع قصة مكتبة يلدا مع مكتبة رقيم التي سلّم مهجَّرو جنوب دمشق كتبَهم المهجَّرة إليها، فهي أيضاً مكتبةٌ مهجَّرة من حمص.


بدأت قصة رقيم سنة 2013، حين تأسست مؤسسة قِيَم في حي الوعر المحاصَر بمدينة حمص. تضمنت المؤسسة مكتبةً فيها أركان قراءةٍ ومحاضراتٍ وجلساتٍ ثقافيةٍ وندوات نقاشٍ، إضافةً إلى مركزين للتدريب والتعليم عن بعدٍ، ومدرسةٍ خاصةٍ لتعليم الأطفال.
جاء تمويل المكتبة ودعمها من الأهالي، بالتبرعات الفردية وإهداء المكتبات الشخصية، بحسب إحدى مؤسِّسات المشروع الكاتبة والروائية نور الجندلي، التي عرفت في وقتها بِاسمها الحركيّ "إيمان محمد" بسبب الثورة والظروف الأمنية. في البداية كان التحدي تأمين ما تحتاجه المكتبة من رفوف وقاعات قراءة وأجهزة قراءة إلكترونية. لم يكن العثور على الخشب أو النجّارين أمراً سهلاً في المنطقة المحاصرة. ومع ذلك، حين انتشرت الفكرة بدأ الناس يتبرعون. أحد المغتربين سلّم مكتبته كاملةً، وجمعت كتبٌ أخرى من مكتباتٍ شخصيةٍ في الأحياء، في حين تولّى بعض "المجازفين" مهمة تهريب كتبٍ من مناطق النظام في كلّ مرةٍ يمكنهم عبور الحواجز دون أن يكشفوا. هذا إضافةً إلى بعض الكتب التي أخفاها أصحابها منذ ثمانينيات القرن العشرين خوفاً من الملاحقة الأمنية. وكثيرٌ منها أنقذ من الإحراق في المواقد خلال ليالي البرد القاسية.
وسرعان ما تحوّلت المكتبة إلى فضاءٍ نابضٍ بالحياة، تُعقد فيها دوراتٌ إعلاميةٌ ولقاءاتٌ للأهالي وأمسياتٌ للقراءة. وفي الفترة بين سنتي 2014 و 2016، أقامت المؤسسة "مهرجان ربيع حمص الثقافي"، وتضمّن مع الكتب ندواتٍ ومعارض فنّيةً، تضمّنت لوحاتٍ للأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وسياراتٍ مقصوفةً حُوّلت إلى لوحةٍ فنية. وأصدرت المؤسسة مجلةً شهريةً اسمها "الميزان".
ولكن القصف لم يرحم المكتبة. فقد أصابتها الغارات مرّتين في سنتي 2015 و2016، فتهدّمت جدرانها وبعض غرفها، وفقدت كتب الأطفال ورسوماتهم تحت ركامها. ومع اتفاق التهجير في مارس 2017 واجه الفريق سؤالاً صعباً حول إمكانية إخراج مكتبةٍ كاملةٍ مع حقائب لا يتاح لكلّ عائلةٍ منها سوى اثنتين. وضعت الكتب أمانةً لدى جمعيةٍ إغاثيةٍ في الوعر، فيما وزّع أربعمئة كتابٍ بين المهجّرين من الأهالي والمقاتلين ليحملوها في حقائبهم، وتركوا آلاف الكتب الأخرى خلفهم. قالت لنا الجندلي إن أحد حواجز النظام السابق سألهم مستغرباً "لماذا تحملون كتباً؟ ماذا ستفعلون بها؟".
وصل الفريق إلى مدينة الباب، حيث استُؤجر بيتٌ عربيٌ قديمٌ له نافورةٌ في الوسط، وهناك وضعت الكتب المهجَّرة وأسّس المهجّرون مكتبة "رقيم". كان تنظيم داعش قد استخدم المكان سجناً، لكن تحوّله إلى مكتبةٍ بدا إعلاناً رمزياً أن الكلمة يمكن أن تنتصر على الرعب.
انتقلت المكتبة لاحقاً إلى مكانٍ جديدٍ في المدينة نفسها، وتوسّعت بشراء كتبٍ من تركيا وتبرعاتٍ من دور نشر. وأضيفت إليها كتبٌ وصلت مع مهجّري جنوب دمشق.كانت هذه المكتبة المهجّرة أول مكتبةٍ عامةٍ في ريف حلب الشمالي والشرقي أسّست بعد خروج تنظيم داعش، وجسراً ثقافياً من حمص وجنوب دمشق إلى الشمال.


أصاب الدمار منذ سنة 2011 التراث الثقافي السوري، كما أصاب الناس، ما بين المتاحف والمواقع الأثرية والمكتبات. ومع فقدان آلاف الكتب المطبوعة أو المخطوطة وتلفها فإن جهود إنقاذ المكتبات السابقة تمنح بارقة أملٍ في استعادة التراث الثقافي المفقود.
تضيء هذه التجارب على أهمية الكتب والمكتبات للناس حتى في سياق الحرب والدمار والرهان الصعب على الحياة البشرية، حين بادر قرّاءٌ ومهتمّون بالتراث للمغامرة بحياتهم لإنقاذ الكتب، أو حين أصبحت الكتب مساحةً لتعافي المجتمع في ظروف الحصار والقصف والنزوح.
كانت جهود إنقاذ المكتبات السورية فرديةً أو أهليةً بمعظمها، في مواجهة الحرب أو النهب والتجارة السوداء. ولمّا تتحول هذه الجهود بعدُ إلى مشروعٍ رسميٍ وشاملٍ في سوريا الجديدة ليمكنها إعادة إعمار التراث، أسوةً بإعادة إعمار الحجر.

اشترك في نشرتنا البريدية