المظليات العرب.. شاهدات على التحوّلات السياسية والاجتماعية

خرج القفز المظلي من بين جدران الأكاديميات العسكرية إلى رحاب الحياة المدنية رياضةً وترفيهاً. وكان لممارساته من نساء عربيات، رياضة تحرّر وانعتاق من قيود الأرض.

Share
المظليات العرب.. شاهدات على التحوّلات السياسية والاجتماعية
المظليات العرب: نساء يطرن في السماء تحرراً | تصميم خاص بالفِراتْس

في ذكرى حرب السادس من أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل، اعتاد بعض مستخدمي الشبكات الاجتماعية في مصر مشاركة صورةٍ يبدو عليها القِدم، ويغشاها لونٌ أصفر معروفٌ بين محبّي التصوير بِاسم "السيبيا". تُظهر تلك الصورة، وسط سيلٍ من صورٍ أخرى، التحايا للراحل الفريق سعد الدين الشاذلي الذي شغل منصب رئيس أركان القوات المسلحة المصرية إبان الحرب، قبل أن يترك منصبه في ديسمبر من ذلك العام.
لا يظهر وجه المقاتل الراحل في الصورة، بل وجه ابنته شُهدان التي تبدو في مقتبل العمر. تظهر مبتسمةً بينما يميل والدها بجسده الفارع تجاهها، ليطبع على خدّها قبلةً حانيةً فخورة. التُقِطَت الصورة بعد ثوانٍ من هبوط الشاذلي وابنته على الأرض، بعدما نجحا في القفز معاً في أول عرضٍ عسكريٍّ لاستعراض كفاءة فرقة المظلات بالجيش المصري. وهي الفرقة التي أسّسها الشاذلي نفسه.
وفي مقابلةٍ صحفيةٍ معها في أكتوبر سنة 2014، بعدما انتشرت صورتها مع أبيها في الفضاء الرقمي، قالت شهدان الشاذلي لموقع "مصراوي" إنها في ذلك اليوم كانت واحدةً من ستّ فتياتٍ شاركن في العرض العسكري. أصرّ والدها الفريق الشاذلي على ضمّهن مؤقتاً إلى فرقة المظلات، مع ما واجهه داخل صفوف الفرقة من رفضٍ لمشاركة نساءٍ في فرقةٍ قتالية. ردّ عليهم الشاذلي وقتئذٍ بقوله: "البنت زيّ الولد مفيش فرق".
بدأ القفز المظلي في العالم العربي حكراً على الرجال، كغيره من الرياضات. وبعد سنواتٍ من قفزة شهدان وفي مناطق أخرى من العالم العربي، خرجت رياضة القفز بالمظلات وما تطوّر عنها من رياضاتٍ جوّيةٍ – على رأسها السقوط الحُرّ "سكاي دايفينغ" – من بين جدران الأكاديميات العسكرية وفُكّ ارتباطها الحَصري بالرجال. وقد أتى ظهورها في كل بلدٍ عربيٍّ مصاحباً لتحولاتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ، تَبِعَها تحولاتٌ اجتماعية. من رضوى الغمري وندى عطية في مصر، لبسمة بوسيل ومليكة لحمر بالمغرب، ورزان العجمي بالسعودية، وفريق القفز النسائي بالإمارات، وغيرهن كثيراتٌ في بلدانٍ أخرى. بات هناك نساءٌ يقفزن من السماء إلى الأرض، فيسجّلن علامةً على طريقٍ طويلٍ من نضال مواطناتهن من أجل المساواة والطير مع الرجال على أجنحة الحرية.


مع أن القفز المظلي نشأ رياضةً ترفيهيةً في القرن الثامن عشر، تحديداً مع أول تجربة قفزٍ مظليٍّ بما يشبه المظلة الحديثة "الباراشوت" سنة 1783، إلّا أن تطبيقها وانتشارها ارتبط لاحقاً بالعمليات الحربية إبان الحرب العالمية الأولى. وتورد الموسوعة البريطانية المفتوحة "إنسايكلوبيديا بريتانيكا" أن المظليين استخدموا المناطيد الحربية للقفز، لا الطائرات التي كانت حينئذٍ اختراعاً حديث العهد. لكن تطوّر الطائرات نفسه أسهم في أن يصبح القفز المظلي جزءاً أساساً من تدريبات الطيارين والعسكريين عموماً. وأثناء الحرب العالمية الثانية، أصبحت القدرة على القفز المظلي لازمةً للمقاتلين لاسيما الألمان، الذين أظهروا تفوقاً في هذا المجال مقابل أعدائهم من قوات الحلفاء.
تشكلت أول مدرسةٍ عسكريةٍ للمظلات في العالم العربي في مصر، بعدما سافرت فرقةٌ قوامها أربعة ضباطٍ للتدريب في إنجلترا سنة 1951. عاد هؤلاء الأربعة بعدها ليؤسسوا مدرسة المظلات المصرية التي استقبلت ضباطاً من الجيوش العربية في الخمسينيات للتدريب فيها. تخرّج في المدرسة سعد الدين الشاذلي، وسافر بعدها للحصول على فرقةٍ (دورة تدريب) متقدمةٍ في الدفاع الجوي والمظلات في الولايات المتحدة. ثم عاد ليؤسس الكتيبة "75 مظلات" سنة 1954، وهي أول فرقة مظلاتٍ بالجيش المصري.
لاحقاً وفي أول عرضٍ عسكريٍّ عامٍّ للفرقة (مسموح للجمهور ووسائل الإعلام حضوره) أقيم في السنة نفسها، أمسك الشاذلي بيد ابنته شهدان التي كان عمرها ستة عشر عاماً وقفز معها من طائرةٍ أمام رئيس الجمهورية حديث العهد وقتئذ، جمال عبد الناصر، وقيادات الجيش. التُقِطَت الصورة التي احتفت بها الصحف والمجلات، وعَدَّتها علامةً على مصر جديدةٍ تسهم فيها النساء بالعمل والقتال والبناء.
غير أن تلك الصورة لم تُظهر حقيقة اقتصار دور النساء في الجيش حينئذٍ على أعمال التمريض والرعاية الصحية. لكن بعدها بعامين فقط، حملت النساء السلاح ليسهمن في صفوف الدفاع الشعبي إبان العدوان الثلاثي، المعروف في الوثائق الغربية بِاسم حرب السويس. شنّت العدوانَ بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، إثر تأميم عبد الناصر قناةَ السويس.
وخارج ميادين القتال، بدأت الدولة المصرية التحديث من أعلى. وذلك بتبنّي "نسوية الدولة"، حسب تعبير باحثاتٍ نسوياتٍ منهن هالة كمال، الباحثة في العلوم الاجتماعية بجامعة القاهرة.
في بحثها المُعَنوَن "آ سينتشري أوف إيجيبشن وِمن ديماندز" (قرن من مطالب النساء المصريات) المنشور في أغسطس 2016، تتتبع هالة كمال أربعَ موجاتٍ للنسوية المصرية صعوداً من ثورة 1919. وتفرّق الباحثة بين الموجة الممتدة من سنة 1919 إلى 1950 حركةً نسويةً "من الجذور" عمادها نساءٌ لم يكنّ مرتبطاتٍ بالسلطة أو بجزءٍ منها، وإنْ تبنّتها ورَعَتها بعض النساء المحسوبات على السلطة (أميرات أو بنات عائلات ذات نفوذ سياسي). أما الموجة الثانية التي تبدأ في أعقاب سنة 1952، على وقع حركة الضباط الأحرار وإعلان الجمهورية، فتسمّيها الباحثة "نسوية الدولة والنساء العاملات".
تستند كمال في توصيفها ذلك إلى البحث المطوّل الذي أعدّته الأستاذة المساعدة في التاريخ بجامعة جورجيا للتكنولوجيا، لورا بير، عن أوضاع النساء في مصر خلال حقبتَي الخمسينيات والستينيات، ونشرته في كتابها "ريفولوشنري وِمنهود" (المَرْأَوِية الثورية) الصادر سنة 2011. وجدت بير في كتابها أن الدولة في عهد عبد الناصر انتقلت من تجاهل النساء أو قمع تحركاتهن المطالِبة بالحقوق السياسية والاجتماعية إلى استيعاب تلك المطالب وتبنّيها ضمن مشروع التحديث "القومي الاشتراكي" الذي تبنّاه عبد الناصر.
ضمن هذا المشروع، أصبحت صور العاملة والفلّاحة والطالبة تجاور صور أقرانهن الذكور. وفي خضم تلك التحولات، ظهرت صورة قائد كتيبة الجيش الذي يقبّل ابنته أمام الكاميرات في استعراضٍ عسكريٍّ جعل منها أول مظلّيةٍ عربية.
تضيف بير، وتشاركها هالة كمال الرأيَ، أنه منذ عهد عبد الناصر شابَ التردّد علاقة الدولة ومشروعاتها التحديثية بالنساء ووجودهن في المجال العام. تبدلت القوانين وتغيرت تكراراً، لكن ظلّت القوانين المتصلة بالتعليم والعمل والحقوق السياسية "قوانين علمانية" – في إشارة للقوانين المدنية – في حين بقيت قوانين الأحوال الشخصية محافظة.
ويبدو أن القوانين المدنية لم تنجح في أحوالٍ كثيرةٍ، رغم موادّها التي تُظهر المساواة بين الرجال والنساء، في تحقيق تلك المساواة تطبيقاً واقعياً. يظهر ذلك في تقارير المساواة التي يستمر تراجع ترتيب مصر على قوائمها، حتى باتت في 2025 من الدول العشر الأخيرة على مؤشر تجسير فجوة اللامساواة الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
هذا التردد انعكس جليّاً في علاقة المصريات برياضة القفز بالمظلات. فبعد شهدان الشاذلي، توارت أخبار النساء اللائي مارسن القفز المظلي وصورهنّ تحت اللواء العسكري أو المدني، طوال عهد أنور السادات وثلثي عهد حسني مبارك الذي دام نحو ثلاثين عاماً. أي إن علاقة النساء بالقفز المظلي توارت منذ سنة 1970 وحتى مطلع الألفية. ثم عادت صورهن وأخبارهن تظهر مرةً أخرى مع صعود طبقةٍ وسطى جديدةٍ في العقد الأخير من حكم مبارك، وظهور رياضة القفز الحرّ. لتظهر صور فتياتٍ يبتسمن بينما تقترب مظلاتهن من الأرض في المجلات الترفيهية الشبابية التي كثر صدورها في العقد الأول من الألفية، مثل "تين ستف" و"كليو" و"آيدنتيتي". وهي الآونة التي تعرّفت فيها رضوى الغمري على شغفها هذا، لتكون أوّلَ مدربةٍ مصريةٍ أنثى لرياضة القفز بالمظلات.


أنقذت حرب الخليج في مطلع التسعينيات مصر من أزمةٍ اقتصاديةٍ طاحنةٍ بإسقاط معظم ديونها أو إعادة جدولتها. نفذت مصر بعدها ما سُمّيَ "برنامج الإصلاح الاقتصادي" الأول بمعاونة جهات تمويلٍ دوليةٍ على رأسها صندوق النقد الدولي. أعقب ذلك الاتفاقَ عدّة اتفاقاتٍ أخرى قادت لتحولاتٍ اقتصاديةٍ محليةٍ، ترافقت مع حيازة طبقة المصريين العاملين في دول الخليج على ثرواتٍ جيدة.
قادت تلك الظروف إلى ميلاد طبقةٍ وسطى جديدةٍ لم تحظَ بالنظرة الفاحصة إلا من دراساتٍ قليلة. منها دراسة الباحثة الاقتصادية عبير رشدان بعنوان "ذا بَزل أوف ميدل كلاس آند غروث إن إيجيبت (1990 - 2008)" (لغز الطبقة الوسطى والنمو [الاقتصادي] في مصر 1990- 2008) المنشور في يوليو 2021. في الدراسة، تُراجِع رشدان وضعَ الطبقة الوسطى في مصر في العقدين الأخيرين من حكم الرئيس السابق حسني مبارك، على ثلاثة مؤشراتٍ لقياس الفقر وأوضاع الدخل.
المؤشر الأول توزيع الدخل الكلّي على عدد السكان. والثاني مقياس رافاليون لتحسّن الأداء الاقتصادي وقياس الفقر، الذي حدّد "خط الفقر العالمي" عند 1.25 دولاراً (سنة 2005) حدّاً أدنى للدخل اليومي المقبول للفرد. حُدّث المقياس بعد ذلك بسنواتٍ ليصبح 2.15 دولاراً. والثالث مؤشر بيردسال الذي يرصد إحصائياً علاقة النمو السكاني بالنمو الاقتصادي والدخل القومي، لاسيما بالبلدان النامية.
وجدت رشدان في كلّ مرّةٍ نتيجةً مختلفة. فقد تَراوح حجم الطبقة الوسطى في المجتمع المصري بين 85 بالمئة على المؤشر الأول، وصفر بالمئة على المقياس الأخير. هذا التفاوت، إضافةً إلى غياب تعريفٍ واضحٍ للطبقة الوسطى في مصر، جعل عبير رشدان تصنّف تلك الطبقة لغزاً عصيّاً على القياس القاطع. ولهذا تضع الباحثة قياساً خاصاً لدراستها تقسِّم فيه الطبقة الوسطى لشريحتين. شريحة عليا وأخرى دنيا تُحسب بمجرد تجاوز خط الفقر المحدد، ومعدّله سنة 2024 عند 1400 جنيه شهرياً للفرد. وتظلّ هذه الشريحة الدنيا عرضةً للسقوط والعودة إلى براثن الفقر.
تشكلت الشريحة العليا من أبناء كبار الموظفين ورجال الأعمال وأبناء العمالة الماهرة التي كوّنت ثرواتٍ جيدةً من العمل خارج مصر. كذلك تضم عدداً من أبناء المنتمين إلى الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى. لكنهم حصلوا على مهاراتٍ علميةٍ أو عمليةٍ أتاحت لهم العمل مع الشركات الكبرى والشركات متعددة الجنسيات، التي وجدت موطئ قدمٍ في مصر منذ انتصاف التسعينيات، بعد التغيّرات الاقتصادية التي أعقبت حربَ الخليج الثانية.
وتتتبّع رشدان في بحثها بعض أنماط الاستهلاك التي مالت إليها تلك الشريحة العليا، إذ اتجهت إلى السكن في المجتمعات المسوّرة التي كانت حديثة العهد وقتئذ. وأقبل أبناؤها على الرياضات وأنماط الرفاهية الموحية بالتميز والاختلاف. لم تحدد رشدان القفز المظلي واحداً من أنماط الاستهلاك والرفاهية الجديدة لهذه الطبقة.
تتفق سحر محسن محمد في دراستها "ماريتال إيكونوميز" (اقتصاديات الزواج) الصادرة عن الجامعة الأمريكية في القاهرة سنة 2018 مع استنتاجات عبير رشدان. ومثل رشدان، تحدّد سحر محمد العقدين الأخيرين من حكم مبارك أواناً لظهور أنماط الرياضات التي تستلزم قدراً من الرفاه الاقتصادي ورواجها. مثل القفز المظلي الذي كان متاحاً فقط في نوادٍ خاصةٍ تلاصق المجتمعات المسوّرة خارج القاهرة.
قبل بداية هذين العقدين مباشرةً، تأسس الاتحاد المصري للقفز بالمظلات التابع للمجلس الأعلى للشباب والرياضة بموجب القرار رقم واحد لسنة 1988. تغيّر اسمه لاحقاً إلى "الاتحاد المصري للمظلات والرياضات الجوية". لم تزل الرياضة حينئذٍ ملتصقةً بالقوات المسلحة، التي تأسس الاتحاد تحت رعايتها ودعمها. وكانت الدفعات الأولى التي درّبها الاتحاد من الذكور. ولايزال الاتحاد إلى الآن ينفذ أنشطته ومسابقاته بالتعاون مع القيادة العامة للقوات المسلحة وقوات المظلات والقوات الجوية، إضافةً إلى وزارة الطيران المدني.
في أواخر التسعينيات، وبعد عقدٍ كاملٍ من تاريخ تأسيس اتحاد المظلات، بدأت أسماء مثل رضوى الغمري وندى عطية ويارا ماجد يتوالى ظهورها. لتكسر صاحباتها احتكار الرجال الذي طال لتلك الرياضة في مصر. وبعدها بسنواتٍ في بداية الألفية، بدأت أسماء نسائية تلمع في رياضة القفز بالمظلات في أنحاءٍ أخرى من العالم العربي.


مشاركة المصريات في رياضة القفز بالمظلات كانت في بداياتها خفيفةً، ممارسة هاوياتٍ لرياضة السقوط الحر بغرض المغامرة والتجربة، وإن طمح بعضهن للاحتراف. وتتدرب هؤلاء صحبة مدرّبين غالبيتهم ذكورٌ في نوادٍ مغلقةٍ خارج القاهرة. وقد ظهرن مراراً على صفحات مجلات المنوعات القاهرية التي كثر صدورها باللغة الإنجليزية، مخاطبةً شريحة الشباب والمراهقين من قرّاء الإنجليزية الذين ينتمون في الغالب لشرائح عليا من الطبقة الوسطى. ولكن تدريجياً تغيّر الوضع.
تقول رضوى الغمري، أوّل مصريةٍ تحترف التدريب على رياضة السقوط الحرّ والقفز المظلي المفتوح (في الأجواء المفتوحة)، إنه آنذاك في بداية الألفية كان على كل مَن تقرِّر الإقدامَ على تلك الخطوة التفكير فيما هو أكبر من تحدّي القفز: "التحديات كبيرة والموانع كثيرة".
تحكي الغمري للفراتس أن أوّل ما جذبها لحرفتها الحالية هو "مجرد حلم بلمس السحاب".
فُتح الباب لتحقيق الحلم أثناء زيارةٍ عائليةٍ من أحد أصدقاء والدها إلى بيتهم. تحدث الضيف طويلاً عن تدريبات القفز المظلي التي تلقّاها مع قوات الصاعقة في الجيش. أصغت رضوى باهتمامٍ لحكايته عن قفزته من الطائرة أمام الرئيس السادات وإصابته في قدمه، ووقوفه ثابتاً رغم الإصابة حتى انتهاء العرض العسكري. تقول رضوى الغمري: "كان عمري أربع عشرة سنة، ولم أتوقف يومها عن السؤال. سألته سؤالاً ساذجاً: 'هل لمست السحاب؟'".
شجّعتها عائلتها على أداء العديد من الرياضات منذ الصغر، لكن إقناعهم بالقفز المظلي لم يكن سهلاً. خصوصاً وأنها رياضة، في نظر العائلة، مرتبطةٌ بالحياة العسكرية الخاصة بعالم الرجال. اقتنع والدها دون مقاومةٍ كبيرةٍ، أما الأم فكان رفضها قاطعاً. لذا عندما بدأت رضوى أخيراً رياضتها التي اختارتها سنة 1999، كان الأب وحده من يعلم بمواعيد القفز. ولكن بمرور الوقت كان لابدّ من إشراك الأم في التجربة. ومع خوفها الشديد، حضرت إحدى القفزات.
اضطرت رضوى الغمري التخلّي عن حلمها لبعض الوقت أثناء مرحلة الجامعة، إذ لم تشمل الأنشطة الرياضية في الجامعة القفز المظلي. وامتدت فترة التوقف بسبب ما تَعدّه "عقبات حياتية" دفعتها بعيداً عن القفز، ما بين الزواج والسفر ومتطلبات الالتزام "بتدريب عسكري صارم"، خاصةً بعد إنجاب طفلها الأول وانتقالها للحياة في دبي في الإمارات من أجل العمل.
بعد انتقالها إلى مدينتها الجديدة، اكتشفت رضوى أن دبي مدينةٌ نشطةٌ في رياضة القفز المظلي. فتقدمت بشهادات القفز الحر التي تثبت مزاولتها النشاط في مصر، واستكملت عدد القفزات المطلوبة لتحصل على رخصة التدريب.
تغيّرت حياتها بعدما أصبح شغفها هو مهنتها. تردف رضوى للفراتس: "عندما وجدت فريقاً للشباب تساءلت، لِمَ لا يصبح هناك فريق لفتيات القفز المظلي؟". علمتْ رضوى الغمري أن صاحب القرار في تلك المسألة هو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، وليّ عهد دبي منذ 2008. أصرّت على إبلاغه الرسالة، خاصةً في ظلّ وجود فتياتٍ يمارسن القفز بالفعل. جاءت الاستجابة سريعةً بالقدر الذي دفعها لتعلية سقف الطموح، وأصبحت هي قائدة الفريق بحكم الخبرة والسن.
شكّلت رضوى الفريق النسائي المدني الأول بالإمارات للقفز الرباعي سنة 2012. لذا تتحدث بفخرٍ شديدٍ عن ارتباط اسمها بتشكيل ذلك الفريق الأول من نوعه في العالم العربي، والذي تشكلت من بعده فرقٌ مماثلةٌ في مصر والمغرب. وكذلك في السعودية، التي بدأت النساء فيها يطرقن أبواب تلك الرياضة في السنوات الأخيرة.


قادت رضوى الغمري أثناء سكناها في دبي فريقاً إماراتياً شارك في أربع عشرة بطولةً دولية. لكنها لم تكن هي من فتح الباب لنساء الإمارات ونساء منطقة الخليج العربي كي يَلِجْن رياضة القفز بالمظلات. إنما كانت صاحبةَ المبادرة في الدفع لتنظيم مشاركات النساء الإماراتيات، والمقيمات مثلها في الإمارات، كي يصبحن أكثر احترافية.
استغرقت دبي نحو عشرين عاماً، منذ اتخاذ دولة الإمارات قرار الاعتماد على السياحة مصدراً من مصادر الدخل سنة 1989، حتى تشكِّل ناديها للرياضات الجوية "دبي سكاي دايفينغ كلوب" سنة 2009. وهو النادي الأكبر إمكانات عربياً.
عقب إطلاق النادي، بدأت بعض الإماراتيات وكثيرٌ من المقيمات في الالتحاق والتدرب فيه. فتشكَّل أول فريقٍ نسائيٍّ إماراتيٍّ سنة 2012، ومدرّبته رضوى. كذلك تشكّل في النادي نفسه فريقٌ للقفز المظلي الداخلي (في الصالات) تتولى تدريبه المغربية هند صالح، التي استطاعت بالإمكانيات التي يوفرها النادي الإماراتي أن تصبح أول مدربةٍ أنثى لهذا النوع من القفز المظلي في العالم.
وبين قرار الإمارات في 1989 وتشكيل أول فريقٍ نسائيٍّ فيها للقفز المظلي، خُطَّ طريقٌ من التغيرات الاقتصادية والسياسية التي غيّرت وجه المدينة وفتحت الباب لنساء المجتمع الإماراتي المحافظ كي يشاركن في بطولاتٍ دوليةٍ في رياضةٍ كانت حكراً على الرجال.
في أبريل سنة 2018، نشرت صحيفة "ذي آراب ويكلي" الأسبوعية تقريراً حمل عنوان "نيو جنِريشن أوف إماراتي وِمن بريكنغ داون سوشيال نورمز" (جيل جديد من النساء الإماراتيات يكسرن العرف الاجتماعي). وتقول كاتبة التقرير، كالين مالك، إن جيلاً جديداً من نساء الإمارات "صرن وحدهن من يضع الإمارات ودول الخليج على الخارطة". لا يحدد التقرير أيّ تفاصيل عن تلك العادات الاجتماعية والحدود التي كسرها الجيل الجديد، مكتفياً بالاحتفاء بفتياتٍ إماراتياتٍ يعملن في مهنٍ هندسيةٍ وعلميةٍ متقدّمة. لكن تلك الحدود والخلفيات التي تفادى التقرير الحديثَ عنها، تَرِد في دراساتٍ اهتمّت برصد التحولات الاقتصادية والسياسية في الإمارات العربية المتحدة وانعكاساتها على النساء فيها.
من تلك الدراسات "إماراتي وِمِن: جنِريشنز أوف تشينج" (نساء الإمارات: أجيال التغيير) الصادرة سنة 2013 للباحثة في جامعة أبو ظبي، جين بريستول رايس. تتتبّع الباحثة في دراستها ثلاثة أجيالٍ من النساء. أولئك اللائي عشن في مرحلة الضوائق الاقتصادية قبل اكتشاف النفط. ثم جيل النساء اللائي مررن بالتحول الاقتصادي في الستينيات والسبعينيات. وأخيراً جيل الشابات الجامعيات اللائي "تربّين في الثراء الواسع الناتج عن الوفرة النفطية".
اعتماداً على مقارنةٍ بين روايات النساء التي استمعت الباحثة إليهن من الأجيال الثلاثة، وما ترسمه المصادر التاريخية من صورةٍ لحياة نساء الإمارات قبل النفط، تجادل رايس بأن الوفرة الاقتصادية – وإن منحت النساءَ فرصاً في التعليم والعمل والرفاه – إلا أنها انتقصت من نفوذهن الاجتماعي والأسري. وأفقدتهن هذه الوفرة بعضاً من استقلالهن وحرّيتهن. وتقصد الباحثة بذلك النساء اللاتي فقدن مكانتهن في صناعة القرار، رغم تحدّرهن من الأسر الحاكمة للإمارات المختلفة التي تتشكل من اتحادها الدولة. أما غيرهن من النساء، فقد فقدن مكانتهن في إدارة دخل الأسرة وسيطرتهن على الأراضي والحصاد. إذ كن مسؤولاتٍ عن حصاد التمر حين يغادر الرجال لصيد اللؤلؤ في مرحلة ما قبل البترول.
تلفت دراسة رايس إلى أن الرفاه الناجم عن الوفرة النفطية الذي تتمتع به الأجيال الشابة في الإمارات خاصةً وفي دول الخليج عامةً كلّف النساء – خصوصاً من الأجيال الأكبر – كثيراً من نفوذهن واستقلالهن المادي. بعد أن تغيّرت أنماط العمل وتغيّر معها شكل علاقة الرجال بالبيوت. لكن الدراسة لا تنفي أن الوفرة ذاتها منحت النساء من الأجيال الشابة فرص تعليمٍ وتوظيفٍ ورفاه. وهي فرصٌ لم يكنّ ليحصلن عليها لولا القفزة الاقتصادية التي تجلّت آثارها المالية في السبعينيات، ثم تبلورت آثارها الاجتماعية في الثمانينيات والتسعينيات وما تلاها.
لكن تلك الفرص لم تنجُ من قيودٍ تحاصرها. وربما يفسر هذا كون من يَقدن الفِرق الرياضية للقفز المظلي وينضممن إليها في الإمارات، غالباً من المقيمات غير الإماراتيات، أمثال المصرية رضوى الغمري والمغربية هند صالح.
تتسق النتائج التي خرجت بها رايس في دراستها مع ما وجدته الباحثة نيلوفر مارغريت روحاني في دراستها "وِمِنز سبورت بارتيسيبيشن إن ذا يونايتد آراب إميريتس" (مشاركة النساء الرياضية في الإمارات العربية المتحدة) الصادرة سنة 2018. تناولت الدراسة تأثير العوامل الدينية والاجتماعية والثقافية على الإماراتيات وممارستهن الرياضة. وانتهت إلى وجود قيودٍ مفروضةٍ على ملابسهن، بالإضافة للنظرة التقليدية لدورهن، ونقص الدعم الأسري والمجتمعي الذي يتلقّينه. تلك التحديات نفسها ساقتها أكثر من بطلةٍ في القفز الحرّ تحدّثن إلى الفراتس، وعبّرن عما واجهنه قبل التحولات الاجتماعية التي شهدتها عدّة دولٍ عربية.
ومن هذه الدول التي قادت التغييرات السياسية فيها إلى تغيراتٍ اجتماعيةٍ فتحت الباب أمام النساء لممارسة القفز المظلي، تأتي المملكة العربية السعودية. شكلت المملكة فريقاً نسائياً للقفز المظلي سنة 2021. تكوّن الفريق من ثلاث سعودياتٍ تلقَّين تدريباً خاصاً في القفز. أشهرهن رزان العجمي، أول شابةٍ سعوديةٍ تحصل على الرخصة الدولية للقفز المظلي.
ولتفسير هذه النقلة، أشار الباحثان خالد إبراهيم أبو وردة وأحمد حسن رخا في دراسةٍ بعنوان "واقع الرياضة النسائية في ضوء رؤية المملكة العربية السعودية 2030" نشرت سنة 2022، إلى "نقاط القوة" التي مُنِحت للمرأة السعودية لتعزيز الرياضة النسائية. ومن تلك النقاط إزاحة "بعض المعوقات التي قد تواجه رؤية المملكة وتطلعاتها الانفتاحية". وأوضح الباحثان أن تلك الفرص باتت متوفرةً للنساء السعوديات بسبب نقاط قوةٍ، عمادها الأوامر الملكية التي استهدفت تمكين المرأة. لكنهما يشيران إلى الدور الفاعل للعادات والتقاليد المتوارثة في السعودية للحد من وصول النساء لتلك الفرص. ويعدّ الباحثان هذه التقاليد "تهديداً للمسار الجديد".
وإن كانت العادات والتقاليد المتوارثة هي ما يحدّ من قدرة النساء في السعودية والإمارات على التمكن من أداء رياضة القفز أو غيرها من الرياضات، فإن نساء مصر يجتمع عليهن التقاليد المتوارثة وضعف إتاحة النشاط الرياضي عموماً. ويعود هذا الضعف إلى قلّة الإمكانيات وتناقص الساحات التي كانت توفرها الدولة شبه مجانيةٍ، والمتمثلة في مراكز الشباب (نواد رياضية حكومية كانت حتى سنة 2018 شبه مجانية).
وتبيّن إحصائيةٌ رسميةٌ للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (وكالة الإحصاء الرسمية في مصر)، أن عدد المسجلات في الرياضات المختلفة بمراكز الشباب لا يتخطى 12.3 بالمئة من إجمالي الرياضيين المسجلين. وتوضح ورقة سياساتٍ نشرها منتدى "سياسات للحلول البديلة" بالجامعة الأمريكية في القاهرة في أغسطس 2024، بعنوان "مصر.. ميدالية أوليمبية في التخلي عن الرياضة"، أن معظم المسجلين في مراكز الشباب هم من لاعبي الرياضات الفردية من الجنسين. وخصوصاً ألعاب القوى ورفع الأثقال، لأنها ألعابٌ قليلة التكلفة وتناسب ذوي الدخل المنخفض. أما رياضة القفز المظلي، فتحتاج إلى إمكاناتٍ ماليةٍ عالية.


عدد الحاصلات على رخصة القفز المظلي في العالم العربي لايزال قليلاً. والحاصلات على رخصة التدريب أقلّ، بفعل العراقيل في طريق النساء إلى الرياضة عموماً والرياضات الجوية خصوصاً. إلّا أن رضوى الغمري لاتزال تصلها رسائل من نساءٍ في العالم العربي يتساءلن عن شروط رياضة القفز المظلي والطريق إلى أدائها. وتعدّ رضوى هذا دليلاً على اتساع الوعي والاهتمام بالرياضة بين النساء، على قلّة ممارساتها.
أحياناً تندهش رضوى الغمري من هذا الاهتمام الواسع وهي تتذكر التحديات الكبيرة التي واجهتها خارج إطار اللعب. فبينما كان فريقها يتألق، توفّي زوجها بعد صراعٍ مع السرطان. وبعدها أُلغيت رعاية الفريق التي كانت أشبه بمصدر دخلٍ لها. وتضيف: "إلى جانب استمرار التحديات التي أصبحت معتادة، مثل السخرية من سيدة عربية تمارس هذا النشاط أو التعجب من قيام مسلمة بالحجاب بمثل هذا الإنجاز".
ومع تلك التحديات، إلا أن رضوى وجدت طريقاً للاستمرار في شغفها بالحصول على فرص تدريبٍ أخرى، بعد أن أصبحت أول مدربةٍ مصريةٍ معتمَدةٍ للقفز المظلي وتقدِّم الدورة التدريبية المكثفة في السقوط الحرّ المتسارع للراغبين. وباتت أوّلَ امرأةٍ عربيةٍ تحوز شهادة "تاندوم ماستر"، وهي شهادةٌ تمنحها المنظمة الدولية للقفز المظلي، تخوّلها القيام بالقفز المزدوج، أي القفز مع متدربٍ بمظلةٍ واحدة.
ونظراً لحجم المسؤوليات المالية الملقاة على كاهلها، عادت رضوى الغمري لعملها في مجال تقنية المعلومات الذي امتهنته قبل انتقالها إلى الإمارات. أصبح هذا العمل مصدر دخلها الأساس، إلى جانب الممارسة الأسبوعية لعملها في القفز الحر بالمظلات. واستمرت على هذا المنوال إلى أن انتقلت للولايات المتحدة سنة 2019، وظَلّ القفز شغفها الذي لا تتركه حتى مع انشغالها في عملها الخاص.
تتذكر رضوى عوائق أخرى واجهت من يراسلنها من محبّات الرياضة والراغبات في أدائها. وتتمثل هذه العوائق في وجود بعض الرجال في حياتهن ممّن منعوهن من حلمهن في القفز المظلي. وتقول إنها كانت محظوظةً بتشجيع أبيها وأخيها وزوجها، وهو ما لا تحظى به عربياتٌ أخريات.
واختتمت رضوى حديثها مع الفراتس بأنها وجدت في انفتاح المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة "مصلحة لرياضة القفز". وأضافت أن كلّ المضايقات أو القيود التي كانت تواجه المرأة العربية، لمجرد الرغبة في القفز المظلي، تراجعت كثيراً عمّا كانت عليه.
ما تقوله رضوى الغمري عن "ما قبل وما بعد" التغيرات السياسية تكرّر على لسان بطلاتٍ عربياتٍ أخرياتٍ في رياضة القفز بالمظلات. ومنهن السعودية رزان العجمي، وهي أكثر النساء اللاتي عبّرت تصريحاتها عن التطور الذي شهدته رياضة القفز المظلي في العالم العربي.
ففي مقابلةٍ تليفزيونيةٍ في برنامج "صباح الخير يا عرب" أذيعت على يوتيوب في 2022، سألها المذيع عن صعوبة القفز قائلاً: "ما تخافين رزان [. . .]؟ بدها قلب قوي". فردّت بثقة: "هالحين ما فيه خوف، أبداً ما فيه".
ومع تأكيدها على شعور اعتزاز المجتمع السعودي وفخره بإنجازها، إلا أنها لا تخفي الصعوبات التي واجهتها. منها اضطرارها للسفر خارج السعودية لأماكن أخرى تتوفر فيها رياضة القفز المظلي، في حين لم تُتح تلك الرياضة لنساء السعودية قبل 2021.
لاحقاً حلَّت رزان ضيفةً على بودكاست "هور فويس" (صوتها) في نوفمبر 2023. جاء حديثها هذه المرة بنبرةٍ واثقةٍ متحمسةٍ عن قفزاتٍ قفزتها في عدة مناطق بالسعودية. وقالت إنها لا تستطيع المفاضلة بين مناطق الهبوط بالمظلة في المملكة، لشدة جاذبية كلّ منطقة. أنهت حديثها معبّرةً عن فخرها بما آلت إليه المملكة العربية السعودية، وبما تحقق للمرأة "التي أصبحت في معيّة المملكة ودائرة اهتماماتها ودعمها".
أشارت المصرية يارا ماجد، لاعبة رياضة القفز المظلي، في حديثها للفراتس إلى الاعتبارات الأمنية وأنها من المعوقات التي حالت دون إقبال مزيدٍ من النساء على رياضة القفز بالمظلات. إذ اقتصر أداء القفز المظلي على الساحات العسكرية وبعض النوادي الخاصة المغلقة.
تقول إنها ظلت تتابع خُطى تطوّر القفز المظلي ومراحل انتشاره، وتحفظ عن ظهر قلبٍ الفارقَ بين قواعد "الباراشوتينغ" أي الهبوط بمظلة، و"السكاي دايفينغ" أي القفز الحرّ الذي يسبق فتحَ المظلة. وأضافت إن القفز المظلي، حتى بعد تشكيل الاتحاد المصري (المدني) للرياضات الجوية، ظلّ فترةً طويلةً غير متاحٍ لراغبي تعلّمه وممارسته. وتبيّن أن "الارتفاع الكبير الذي يسقط منه القائم بالقفز، وعدم إمكانية توجيه المظلة للنزول في مكان محدد [بسبب عدم تخصيص ساحات للهبوط المظلي] كانت أسباباً كافية لعدم السماح به".
تغيّر الأمر سنة 2018 عندما سمحت مصر بالقفز الحرّ بالمظلات، وخصصت له مهرجاناً سنوياً في منطقة الأهرامات، بعد إدراك التأثير الإيجابي لتلك الرياضة على تنشيط السياحة. تعتقد يارا، وفقاً لرصدها الشخصي، أن خارطة رياضة القفز في العالم العربي بأكمله قد تغيّرت بعد ذلك المهرجان. وتؤكد على تأثيره في زيادة أعداد الفتيات المصريات اللاتي قرّرن خوض التجربة. وحتى الفتيات العربيات اللاتي قرّرن استغلال ميزة استمرار نشاط القفز الحرّ بالمظلات في مصر طوال العام، وبِتْن يأتين إلى مصر للمشاركة فيه. لذلك ترى في الانفتاح، الذي تشهده الدول العربية في السنوات الأخيرة، كسراً للقيود ومواجهةً لمخاوف كثيرة.
في عملها التدريبي، استمعت يارا إلى متدرباتٍ يتحدثن عن القفز المظلي والسقوط الحر. كثيراتٌ يعربن عن شغفهن به، "لأن القفز كان تحدي الذات والآخرين، وفرصة التخلص من إحساس سلبي مسيطر، بل وحتى التحرر من فوبيا المرتفعات". تصمت لحظاتٍ، ثم تقول بنبرةٍ حاسمةٍ وكأنها تذكرت شيئاً، إن بعض الأمهات بدأن مشاركة أولادهن القفز من أجل "الشعور بأنهن أنجزن شيئاً لأنفسهن".
يظهر هذا في حديث حسناء جمال، أخصائية التخاطب المصرية، للفراتس عن قرارها القفز بعد سنوات من التفكير والتردد. وذلك "رغبةً في الحصول على فاصلٍ قصيرٍ من الحياة والعمل"، أو ربما بدايةً جديدةً "أبحث عنها ووجدتُها في الرحلة بين السماء والأرض". حكت حسناء لنا عن الإحساس الذي سيطر عليها مع أول قفزة: "كان عندي إحساس لو قدرت أعمل خطوة القفز، كل حاجة هتتغيّر".
ما تحدثتْ عنه كل أولئك المظليات العربيات، شرحته الكاتبة جو ماكفارلين في مؤلفها "سكاي دايفينغ فور بيغينرز.. جيرني أوف رِكفري آند هوب" (السقوط الحر للمبتدئين.. رحلة التعافي والأمل) المنشور في 2014. تحكي جو في الكتاب تجربتها الشخصية في ممارسة السقوط الحر. وتقول إنها خاضت تلك التجربة وسط ظروفٍ قاسيةٍ و"حصار صدماتٍ من الماضي"، تحدّتها لتقفز على كلّ لحظة يأسٍ ومحاولةٍ لإنهاء الحياة. وأن السقوط الحرّ أصبح "إعادة اكتشافٍ للذات وحالة تحرّرٍ وانطلاقٍ نابعةً من ثقةٍ بالنفس في الهواء، تؤدّي إلى ثقةٍ في الحياة على الأرض".


يُترجَم مصطلح "سكاي دايفينغ" حرفياً إلى العربية بالغوص السماويّ. وتتّسق تلك الترجمة مع ما وصفته المظليات اللائي كتبن عن تجاربهن، أو تحدثن عنها للفراتس ولمنصّاتٍ أخرى. فإلقاء أجسادهن من الطائرات في الهواء، بمظلاتٍ مغلقةٍ، يشبه الغوص في صفاء السماء للتحرر من كلّ قيودٍ تحاصرهن على الأرض حتى تنتهي رحلة انعتاقهن المؤقت دوماً بالعودة إليها. لكنهن يختزنّ تلك المشاعر، ويتأهّبن من فورهنّ للقفزة القادمة.
تترافق قفزاتهن مع خطواتٍ بطيئةٍ تخطوها مجتمعاتهن نحو تمكينهنّ من لحظة الانعتاق تلك. وكأن الأرض في العالم العربي تودّ، بما تخوضه دولها، الاقترابَ من تحولاتٍ اجتماعيةٍ تواكب طموحَ المرأة العربية التي لم تَعد تَهاب تجربة سقوطٍ اختياري. وكأنها على يقينٍ أن سقوط الجسد يقابله تغييرٌ جوهريٌ ستشعر به، ما إن تلمس الأرض.

اشترك في نشرتنا البريدية