مبادرات شبابية توثّق معالم المدن المصرية بوجه الجرافات

حوّل موثّقو التراث في مصر التوثيقَ ومبادراتِ السيرة إلى فعل مقاومة مدنية لحماية معالم المدن المهددة.

Share
مبادرات شبابية توثّق معالم المدن المصرية بوجه الجرافات
شبابٌ من الجنسين ومن خلفياتٍ اجتماعيةٍ متباينةٍ يصرّون على أن مدنهم ليست ملكاً للسلطة بل فضاءاتٍ حيّةً لأهلها | تصميم خاص بالفراتس

في سنة 2022 تردّدت أخبارٌ عن قرارٍ محتملٍ من السلطات المصرية لإزالة مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين في منطقة الخليفة وسط القاهرة، من أجل تنفيذ محورٍ مروريٍ جديدٍ للتغلب على أزمة الزحام في العاصمة. ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصورٍ للمقبرة مكتوبٌ على جدارها بطلاءٍ أحمر كلمة "إزالة"، وهي العلامة التي تضعها السلطات المعنيّة على المَعلَم المقرّر هدمه. نشرت صفحة محافظةِ القاهرةِ الرسمية بياناً تنفي فيه نيّتَها هدم المقبرة، وحجبت لاحقاً كلمة "إزالة" بطلاءٍ أصفر. إلّا أن هذا لم يمنع تحوّل الخبر لقضية رأيٍ عامٍّ استجلبت الاستهجان والغضب بين كتّابٍ ومثقفين مصريين، وتُدُووِلَتْ وسماً على منصّة إكس.
وعلى وقع ردّة الفعل الشعبية لا يزال مدفن طه حسين اليوم بعيداً عن أسنان جرّافات الهدم، التي اجتاحت منذ 2020 مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة وباب النصر ومقبرة المماليك الأثرية. إلا أن حادثة مدفن طه حسين كانت نقطة تحوّلٍ كشفت عن ولادة فعل مقاومةٍ مدنيةٍ في مواجهة خطط الحكومة لتسليع معالم مدن مصر. وقد تجاوز فعل المقاومة مقابر قلب القاهرة التاريخية ومدافنها إلى تراث العاصمة العمراني كلّه. ومن القاهرة توسعت المقاومة إلى الإسكندرية والإسماعيلية وبورسعيد، حيث طالت معاول الهدم أيضاً معالمَ تراثيةً شكّلت زمناً طويلاً جزءاً من هوية هذه المدن. تبلورت الجهود المقاوِمة مبادراتٍ عملت على توثيق التراث وأرشفته، فصارت أدوات توعية. وسرعان ما ألهمت مجموعاتٍ أخرى لتتشكل بذلك أوسع موجة عملٍ مجتمعيٍ في السنوات الخمس الأخيرة لحفظ التراث، رغم القبضة الأمنية المحكمة.
هكذا برزت مقاومةٌ حضريةٌ تواجه الروايةَ الحكومية الرسمية بذاكرةٍ بديلةٍ تحفظ المكان وتمنحه معنىً مغايراً. وهو ما يجسد ما صاغه عالم الإناسة المختصّ بالجغرافيا المدنية، البريطاني ديفيد هارفي، عن "الحق في المدينة". إذ يراه صراعاً يومياً بين سكّانٍ يسعَوْن إلى حياةٍ أعدل، ونظامٍ سياسيٍ واقتصاديٍ يعيد تشكيل المجال العمراني لخدمة الربح والاستثمار. هذا ما يتجلّى اليوم في مشروعات الخصخصة والتسليع التي تطال المساحات العامة ونيل القاهرة، فتضيّق على حقّ الناس في مدينتهم، وتعيد رسم ملامحها لمصلحة قلّةٍ على حساب الأغلبية.


حلّل ديفيد هارفي الرأسمالية الاستهلاكية مستنتجاً أنها تعيد إنتاج المدن أدواتٍ استثماريةً ومراكز للتسوق والترفيه، بدلاً من كونها فضاءً عاماً مشتركاً. تطرّق لهذه المسألة في مجموعةٍ من كتبه الصادرة منذ سنة 1989، لاسيّما كتابه "مدن متمردة" المترجم للعربية سنة 2016. بمنظور هارفي فإن التحالف الرأسمالي المهيمن، بقيادة القوى السياسية الحاكمة، يعيد تنظيم المدن على نحوٍ يضمن السيطرة على الجماهير. فالمدينة مركزٌ دائم للثورة على النظام السياسي الاقتصادي القائم في العصر الحديث، ومن هنا كان هدف السلطةِ المستمرُّ مصادرةَ المساحات العامة وإعادةَ تخطيط المجال الحضري بما يخدم الهيمنة الاقتصادية للنخبة ويعزّز قبضتها الأمنية.
هذا المنطق يبدو حاضراً في السياسات الحضرية المصرية. فالقاهرة التي عاشت مناخاً ثورياً في يناير 2011 تشهد اليوم، في ظلّ نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الحاكم منذ 2014، مشروعاتٍ تعيد صياغة فضاءاتها العامة وفق منظورٍ استثماريٍ أمنيّ. فقد أعلن رئيس الحكومة مصطفى مدبولي أكثر من مرّةٍ عن خططٍ لطرح الأراضي على ضفاف النيل أمام المستثمرين في قطاعَي السياحة والفنادق، ما يعني حرمان المواطنين من أحد أهمّ متنفّساتهم الطبيعية. وعلى النهج ذاته، تحوّل "مشروع ممشى أهل مصر"، وهو ممشىً طويلٌ على شاطئ النيل، إلى نموذجٍ للتسليع. خُصّصت مساحات الممشى لمقاهٍ ومطاعم مرتفعة الأسعار لا يرتادها إلا ميسورو الحال والسياح، بينما لا يملك معظم المصريين سوى شراء تذكرةٍ للتجوّل في الممشى بلا هدف.
وأعلن مدبولي في ديسمبر سنة 2024 عن خططٍ لإخلاء منطقة وسط البلد من الوزارات وتحويلها إلى فنادق، في إطار ما سمّاه "تطوير القاهرة الخديوية". لكنه لم يفصح عن أبعاد هذه المشاريع بوضوحٍ، ما عمّق مناخ الضبابية والقلق. وبينما سبق وأكّد في أكتوبر سنة 2024 أن الحكومة لن تهدم مزيداً من المقابر، واصلت الجرافات إزالة مقابر تاريخيةٍ بارزةٍ مثل مدفن محمود باشا الفلكي، وزير الأشغال في حكومة محمود سامي البارودي سنة 1882، وقد دُفن في مقبرة قبّة الإمام الشافعي. وفي أغسطس 2025، تحدّث مدبولي عن الحفاظ على الطابع المعماري لوسط البلد، لكن ذلك تزامن مع الإعلان عن هدم مبنى الهيئة الهندسية للسكك الحديدية الذي يتوسط القاهرة منذ إنشائه سنة 1910، وسوق محطة مصر التاريخي المجاور. وكلاهما من النماذج القليلة ذات الطراز العمراني الفريد المتبقية من المباني العامة في القاهرة.
المنطق الاستهلاكي نفسه طال فضاءاتٍ أخرى. فحديقة قصر عابدين، التي أنشأها الخديوي إسماعيل في سبعينيات القرن التاسع عشر ضمن حدود قصره متنفساً للأسرة الحاكمة قبل أن تفتح للجمهور سنة 1917، تحولت إلى حديقةٍ مسوّرةٍ تملؤها المتاجر والمطاعم. فيما أُزيلت أشجارٌ وشوارع تاريخيةٌ بحجّة التوسعة المرورية، مثل شارع عبد العزيز فهمي في مصر الجديدة وشارع أحمد عرابي في الجيزة.
مع استمرار الطمس تصاعدت مخاوف عشاق القاهرة على هويتها. من إزالة حديقة أم كلثوم المطلّة على النيل بدءاً من يوليو 2025 ومسرح فاطمة رشدي العائم في أكتوبر 2024، إلى مشروعاتٍ ضخمةٍ في الفسطاط (القاهرة القديمة) أجريت دون حفرياتٍ أثريةٍ كافيةٍ، مع أن المنطقة كانت أول عاصمةٍ لمصر الإسلامية قبل ألفٍ وأربعمئة عام. ويبرز هنا كذلك مشروع مجمع سور مجرى العيون السكني في القاهرة القديمة شاهداً على فلسفة الهدم والاستبدال. إذ أزيلت أحياء تاريخيةٌ بكاملها، وطُرد سكانها لإقامة مجمعٍ سكنيٍ فاخرٍ مخصّصٍ لشريحةٍ صغيرةٍ من المجتمع. وليبقى المشروع حتى كتابة هذا المقال متعثراً في الترويج، ما اضطر الحكومة للاستعانة بشركاتٍ خاصةٍ لتسويقه.
هذه السياسات مجتمعةً عمّقت شعور الغربة لدى كثيرٍ من سكان القاهرة والمدافعين عن تراثها، وبدا أنها رسّخت قناعةً بأن المدينة تدار بمنطقٍ استهلاكيٍ يحوّل الحيّز العامّ إلى سلعةٍ، تُفتح أبوابه فقط لمن يملك ثمن الدخول. وهنا تتجسد أطروحة هارفي التي عبّر عنها في كتابه المذكور آنفاً عن المدينة ساحةً للصراع بين المواطنين والسلطة.
وبالتوازي مع هذا المسار الرسمي الموجَّه نحو التسليع والهيمنة، أخذت تتشكل مبادراتٌ مجتمعيةٌ لمقاومة الطمس عبر التوثيق والتوعية. وكان هدمُ مقابر القاهرة الشرارةَ التي فجّرت موجةً واسعةً من المبادرات المدنية هدفت لتوثيق التراث والدفاع عنه.


منذ أن بدأت الجرافات تقتحم صحراء المماليك (مقابر المماليك) الأثرية شرق القاهرة سنة 2020 لشقّ طريق "محور الفردوس"، بدأ يتبلور وعيٌ جمعيٌ بضرورة حماية ما تبقى من ذاكرة المدينة من المحو. حينئذٍ، انخرط شباب وباحثون ومرشدون محليون في سلسلة مبادراتٍ متنوعةٍ، لكنها التقت جميعاً عند هدفٍ واحدٍ، ألا وهو إيقاف الطمس وصون حقّ الناس في مدينتهم.
من بين هذه المبادرات برزت تجربة الباحث شريف هاشم، الذي أسّس سنة 2021 مع مجموعةٍ من أصدقائه مبادرةَ "سراديب" لتسليط الضوء على المعالم المجهولة التي كان الهدم يلتهمها بصمت. يقول هاشم في حديثه للفراتس: "عمليات هدم المقابر داخل المدينة كانت تتمّ دون أصداءٍ أو اهتمام. ووقتها أدركتُ أن القاهرة تحتاج إلى جهدٍ لنشر المعرفة بتراثها والتوعية به. فالكثير من الأماكن في المدينة مهمَلةٌ ولا يعرف عنها الغالبية أيّ شيء". مضيفاً أنه وزملاءه أطلقوا صفحةً على فيسبوك بالاسم نفسه. وكان التحدي الأبرز أن يعرف الناس أن القاهرة ليست فقط شارع المعز أو القلعة، بل هي مدينةٌ أوسع وأغنى بكثير.
بعد "سراديب" انتقل هاشم وزملاؤه إلى مبادرةٍ جديدةٍ بِاسم "إيوان"، مستلهمةً من الإيوان، وهو قاعةٌ مستطيلة المسقط الأفقي وغير مسدودة الوجه، بحسب تعريف أستاذ الآثار الإسلامية حسن الباشا في كتابه "مدخل إلى الآثار الإسلامية" الصادر سنة 1990. ويشكل الإيوان عنصراً معمارياً يزين كثيراً من عمائر القاهرة التاريخية. ركزت المبادرة التي أطلقها هاشم وزملاؤه سنة 2022 على توثيق المعالم المهدّدة بالإزالة بعد إعلان الحكومة عن خططٍ لتطوير أحياء القاهرة القديمة. مثل الحطابة التي تضمّ مبانيَ تعود إلى القرن التاسع عشر، وعرب آل يسار القريبة من قلعة صلاح الدين التي أزيلت بالكامل من أجل إنشاء مجموعةٍ من المطاعم والكافيهات. وفعلوا الأمر نفسه مع الفسطاط، إذ نجحوا في توثيق المنطقة قبل أن تغيّرها المشاريع الحكومية للأبد.
وإلى جانب التوثيق، قاد هاشم وزملاؤه جولاتٍ ودوراتٍ تدريبيةً لنشر الوعي العامّ بتراث القاهرة في الحقب التاريخية المختلفة. وقد تعاونوا في ذلك مع متحف غاير أندرسون، وهو عبارة عن منزلَيْن في منطقة الصليبة التاريخية بالقاهرة القديمة يعودان للعصر العثماني في القرنين السادس عشر والسابع عشر، سكنهما الضابط البريطاني غاير أندرسون بين 1935 و1942، وأثّثهما بمقتنياتٍ أثريةٍ إسلاميةٍ وفرعونيةٍ وآسيوية. وبعد مغادرته مصر تحوّل المنزلان إلى متحفٍ يحمل اسمه.
أسفر التعاون بين المبادرة والمتحف عن تدريب الشباب على توثيق أحياء القاهرة القديمة، مع التركيز على فهم العلاقة بين النسيج العمراني والتطورات الاجتماعية والثقافية عبر القرون، خصوصاً في المقابر التاريخية التي تشهد منذ سنة 2020 أكبر موجة هدمٍ في تاريخها، متجاهلةً ما تمثله من تراكمٍ تراثيٍ يمتدّ نحو أربعة عشر قرناً، يضم آثاراً من عصور الطولونيين والإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين وأسرة محمد علي، لتغدو متحفاً مفتوحاً فريداً في العالم الإسلامي.
وفي موازاة هذه الجهود التوثيقية، برز الشاب القادم من محافظة سوهاج في جنوب مصر، إبراهيم طايع، الذي أدرك منذ زيارته الأولى مقابرَ القاهرة سنة 2021 أنه وقع في غواية عالمٍ شديد الثراء والتعقيد، تحرسه طبقاتٌ من الجمال الفنّي المهجور، فيما لا تكفّ جرافات الدولة عن تجريفه لصالح شقّ الطرق والمحاور المرورية. ولمّا تزامنت تلك الزيارة مع انطلاق موجةٍ غير مسبوقةٍ من الهدم، قطع طايع على نفسه، كما أخبرنا، عهداً ألا يترك هذا التراث للفناء وأن يسخِّر جهده وطاقته لتوثيقه قبل أن يطويَه الغياب.
طايع عضوٌ بالجمعية المصرية للدراسات التاريخية، يوثّق بعدسته عمليات المحو. وقد أطلق صفحةً على منصّة فيسبوك بِاسم "جبّانات مصر"، التي تحولت إلى أرشيفٍ بصريٍ حيٍّ ومرجعٍ للمهتمين بالتراث. وكذا أضحت منبراً للغاضبين من هدم مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة وباب النصر. وعرض طايع في الصفحة صوراً لمقابر مهدَّدةٍ ليس في القاهرة وحدها، بل في محافظات مصر المختلفة، خصوصاً المقابر المنسية التي تحوي كنوزاً فنيةً ومعماريةً وقد تُهدم قريباً.

ومع اتساع حركة التوثيق، انتقلت الجهود إلى إنتاج كتبٍ وموسوعاتٍ شكّلت رافداً مهماً في الدفاع عن مقابر القاهرة. ففي سنة 2024 صدر كتاب "كنوز مقابر مصر" لأستاذ الطبّ والمهتم بتاريخ المقابر وتراثها مصطفى الصادق. وصدرت في نوفمبر من العام نفسه موسوعة "القرافة: التوثيق قبل الاندثار" في ستة أجزاءٍ بجهودٍ ذاتيةٍ للباحث التراثي حسني جعفر والمرشدة السياحية آية إبراهيم. وقد كتب المؤرخ أبو العلا خليل في مقدمتها محذراً من اندثار ما بقي من آثارٍ، منوّهاً بدَور التوثيق في حفظها. يقول: "هذا الكتاب يوثّق الشواهد ويقرأ النصوص كما هي، ثم يترك دراسة الخط والمضمون والزخرفة وعوامل التلف للباحث الأكاديمي. نحن مضطرون إلى التوثيق قبل الاندثار، نهرول أمام الحداثة خوفاً من أن تلتهم الآثار. أما الدراسات المتخصصة العميقة، فلها وقتها ورجالها، ويمكن إنجازها ما دام قد جرى توثيق ما نرغب في دراسته".
وإلى جانب هذا الجهد العاجل، تُرجمت في العام نفسه الدراسة التأسيسية لأستاذة التخطيط العمراني بجامعتَي القاهرة وباريس جليلة القاضي، "جبانة القاهرة التاريخية: 1400 عام"، بعد أن كانت قد نشرت بالفرنسية سنة 2002 وبالإنجليزية سنة 2007. وفي مقدمتها لطبعة كتابها العربية كتبت القاضي: "منذ سنة 2021 تفرغتُ تماماً لحملة الدفاع المدني عن الجبّانات، وخضنا معارك على عدّة مستوياتٍ، نجحنا في إيقاف عملياتٍ كبرى للإزالة وتعطيل أخرى. وكان توثيق المواقع من أهمّ أهداف المجموعة، حفاظاً على ذاكرة المكان من الاندثار، وتوريثها للأجيال المقبلة".


لم يتوقف التعدّي الحكومي على تراث القاهرة عند حدود المقابر التاريخية، بل امتد إلى قلب القاهرتين التاريخية والخديوية تحت شعارٍ فضفاضٍ هو "التطوير". ومن هنا برزت مبادرة "سيرة القاهرة" التي أسّسها الناشط عبد العظيم فهمي في سبتمبر 2020، بهدف توثيق تراث المدينة بمختلف أشكاله وصوره، وخلق فضاءٍ للتوعية يعيد ربط المواطنين بمكانهم، لاسيّما الأجيال الشابة، بأدواتٍ حديثةٍ مثل الفيديو.
بدأَت المبادرة عملَها حين نظّم القائمون عليها حملاتٍ لتنظيف عددٍ من الآثار المهمَلة، مثل قبّة الحصواتي بمنطقة ترب الإمام الشافعي جنوب القاهرة. وهو ضريحٌ يعود إلى العصر الفاطمي، شُيّد بين عامَيْ 1126 و 1150. وتدور حول هوية صاحبه رواياتٌ متباينةٌ، إذ ينسبه بعض الباحثين، ومنهم المدير السابق لآثار القاهرة والجيزة عادل غنيم، إلى إحدى حفيدات الإمام علي بن أبي طالب. بينما يرجّح أهل منطقة الإمام الشافعي أن النسب يعود لشيخٍ عُرف برفع الحصى عن الطريق لإماطة الأذى عن الناس بالمنطقة.
وشملت الحملة تنظيفَ سبيل شيخو المملوكي القائم منذ سنة 1354 قرب قلعة صلاح الدين. وهو من أقدم الأسبلة المستقلة في القاهرة، أنشأه الأمير سيف الدين شيخو الناصري (شيخون كما يعرف شعبياً)، أحد أبرز أمراء السلطان الناصر محمد بن قلاوون. كذلك عملت المبادرة على تنظيف سبيل حسن أغا العثماني وكتّابه في شارع سوق السلاح بالدرب الأحمر، الذي أنشأه الأمير حسن أغا كوكليان سنة 1694.
سرعان ما اتسع نشاط "سيرة القاهرة" ليشمل إنتاج سلسلةٍ من الأفلام التوثيقية التي رصدت معالم أحياء القاهرة القديمة وحواريها المنسية. يقول عبد العظيم فهمي للفراتس: "أدركنا أن تراث المدينة يتعرض للتهميش والهدم دون أيّ جهدٍ لتعريف الأجيال الجديدة به، لذلك لجأنا إلى وسائط الفيديو التي يُقبِلون عليها عادة".
وقد أنجزت المبادرة نحو عشرين فيلماً قصيراً، تناولت أحياءً مثل الحلمية القديمة والسيوفية وسكة الحبانية والمغربلين والحطابة وسوق السلاح بما تزخر به من مساجد وقصورٍ وأسبالٍ وقباب أضرحة. كذلك أنتجت المبادرة فيلماً بعنوان "ذاكرة الحجر: الأطلال الحيّة في ثنايا المدينة" سنة 2021. ثم "نجيب محفوظ ودرب قرمز" سنة 2022، الذي استعرض علاقة الأديب العالمي بمسقط رأسه، حيث لا يزال بيته قائماً بجدرانه المتهالكة. وقد شارك الفيلمان في مهرجان القاهرة للفيلم القصير.
ولم تقتصر الجهود على الأفلام، إذ أطلقت المبادرة في عامها الخامس مشروع "توثيق الأمكنة" لتأكيد حقّ سكان القاهرة في رواية قصّتهم عن مدينتهم بوسائط إبداعيةٍ مختلفة. فالمكان، كما يقول عبد العظيم للفراتس، "لا يقتصر على المباني الأثرية المسجَّلة، بل يشمل النسيج الحيّ المليء بالتفاعلات. وكانت البداية من منطقة قلعة الكبش في حي السيدة زينب، وهي منطقةٌ شعبيةٌ فقيرةٌ لكنها تحمل تراثاً مملوكياً عريقاً". وتعاونت "سيرة القاهرة" مع "ستوديو" القاهرة للعمران، وهي مبادرةٌ معنيةٌ بالتوثيق العمراني، من أجل وضع رؤىً بديلةٍ لإعادة تصميم الفراغات الحضرية بما يحسّن حياة السكان في الأحياء ذات الكثافة العالية، في محاولةٍ لتقديم نموذج تطويرٍ من أسفل يشارك فيه الأهالي بدلاً من إقصائهم.
توّجت المبادرة جهودَها بالمشاركة في إنتاج فيلم "مجاذيب القرافة: تحفة الأحباب وبغية الطلاب" في أكتوبر 2024. لم يكن الفيلم مجرد عملٍ وثائقيٍ، بل فعل مقاومةٍ مدنيةٍ هدفه بناء "أرشيف بديل" يحفظ ذاكرة المقابر في مواجهة محو الجهات الرسمية لها. فمِن آلات التصوير ووسائط النشر الرقمي، أعاد الفيلمُ الاعتبارَ للجهود الفردية والجماعية التي انخرطت في توثيق المقابر، محوِّلةً التوثيقَ نفسه إلى أداة احتجاجٍ ووسيلة لمساءلة السلطة.
نجحت هذه الجهود في تعبئة الرأي العامّ والضغط على الحكومة للتراجع عن هدم قبر طه حسين سنة 2022، أو على الأقلّ الادعاء بأنه لم يكن للحكومة نيّةٌ لفعل ذلك. لكنها كشفت في المقابل عن محدودية تأثير المجتمع المدني أمام موجة الإزالات والهدم الواسعة التي طالت ما لا يقلّ عن 1170 مدفناً يعود تاريخ بعضها إلى تسعة قرونٍ في مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة وباب النصر، بحسب حصر نائب محافظ القاهرة. جاءت الإزالة لمصلحة مشروعاتٍ مروريةٍ، رغم إدراج هذه المواقع على قوائم التراث العالمي لليونسكو.


لم يقف القلق على التراث عند حدود العاصمة، بل تمدّد إلى الإسكندرية. هناك انطلقت مطلع سنة 2025 مبادرة "سيرة الإسكندرية" على يد الناشط مينا زكي، الذي راكم خبرة سنواتٍ في تنظيم جولاتٍ تعريفيةٍ بمعالم المدينة المنسية. ففي مدينة تُعَدّ غالباً "مصيفَ المصريين" حيث تسرَّع مشاريع التطوير والاستهلاك وتخصخَص أغلب شواطئها، جاءت المبادرة لتعيد الاعتبار إلى الإسكندرية حاضرةً ثقافيةً وتاريخية. فالمبادرة تسعى لفتح نقاشٍ عامٍّ عن الإمكانات السياحية والثقافية المهدَرة التي تتطلب صون ما تبقّى من معالمها التراثية. ويأتي ذلك امتداداً لحركة التوثيق فعلَ مقاومةٍ، إذ تواجه منطق الاستهلاك الرسمي بإنتاج رواياتٍ بديلةٍ تعيد ربط السكان بذاكرتهم الجمعية، وتؤكد أن المدينة ليست مجرد فضاءٍ للاستثمار، بل هي كيانٌ حيٌّ يختزن تاريخاً وهويةً تستحق الدفاع عنها.
لم يقتصر جهد زكي على الجولات الميدانية، وإنما عمل على إعادة اكتشاف مسارٍ سياحيٍ مهمَلٍ في شارع السلطان حسين كامل بوسط الإسكندرية، يضمّ أكثر من ثلاثين موقعاً أثرياً وتراثياً ظلّ غائباً عن أيّ ترويجٍ رسمي. وانخرط في مبادراتٍ مجتمعيةٍ بالجهود الذاتية، أبرزها مشروع تحويل منزل فنّان الشعب سيد درويش في حيّ كوم الدكة إلى متحفٍ حيٍّ يخلّد سيرته ويستعيد لحظة الازدهار الفنّي في الإسكندرية.
اصطدمت هذه المبادرات الأهلية بغياب الدعم الرسمي، في حين فضّلت السلطات سنة 2021 تحويل فضاءاتٍ رمزيةٍ مثل حديقة الخالدين (حديقة فريال سابقاً، نسبةً للأميرة فريال فاروق) وسط الإسكندرية، التي كانت تضمّ تماثيل نصفيةً لشخصياتٍ بارزةٍ من تاريخ المدينة، إلى مجمع مقاهٍ ومطاعم للوجبات السريعة.


الخوف على معالم المدن المصرية امتدّ من القاهرة والإسكندرية إلى مدنٍ أصغر مثل الإسماعيلية، الواقعة في قلب المجرى الملاحي لقناة السويس. هناك أطلق محمد حزين في مايو سنة 2025 مبادرة "سيرة الإسماعيلية"، مستلهماً اسمها من "سيرة القاهرة".
يوضح محمد حزين في حديثه للفراتس أن المدينة، التي ساهمت في كلّ فصول التاريخ المصري منذ القرن التاسع عشر، تُهمَّش معالمها وتُطمَس في غياب أيّ جهدٍ رسميٍ للتوثيق. ويؤكد: "بدأنا بجمع الكتب والمجلات والصور القديمة وكلّ ما يتعلق بتاريخ الإسماعيلية". ثم يضيف إن الهدفَ من المبادرة تأسيسُ فضاءٍ مفتوحٍ يعرض هذا التراث أمام الجمهور ويشجع الأهالي على المساهمة بمقتنياتهم، تعويضاً عن غياب أيّ مؤسسةٍ تحفظ هوية المدينة العريقة.
وبالاتجاه شمالاً على خط القناة وصولاً إلى البحر المتوسط، تطالعنا بورسعيد بمبادرةٍ أخرى. اسم المبادرة "بورسعيد على قديمه"، وأسّسها محمد حسن مع مجموعةٍ من المتطوعين دفاعاً عن تراث المدينة المهدَّد. فقد كانت بورسعيد معروفةً بمبانيها ذات الواجهات الخشبية، خصوصاً في الحيّ الإفرنجيّ الذي سكنته الجاليات الأجنبية منذ تأسيس المدينة سنة 1859. لكنها اليوم تواجه موجة هدمٍ عشوائيةً من أجل أبراجٍ إسمنتية. عملت المبادرة على توثيقٍ شاملٍ لهذه المباني وإطلاق حملاتٍ لوقف هدمها، محذّرةً من ضياع ملامح معماريةٍ فريدةٍ، في حين تبرّر السلطات غياب تدخّلها بأن هذه العقارات "ملكية خاصة".
لم تكتفِ المبادرة بحملات الدفاع، بل أطلقت مشروع "فين في العرب؟" لإحياء حيّ العرب، أقدم أحياء بورسعيد ومركز الحياة التجارية فيها، بتوثيق نسيجه المعماري والاجتماعي وتنظيم جولاتٍ تحت عنوان "أماكن منسيّة من الذاكرة البورسعيدية". يرى حسن، كما أخبرنا، أن خلق وعيٍ شعبيٍ هو خطّ الدفاع الأول عن تراث المدينة، في مواجهة جدار الإهمال الرسمي وجرافات الاستثمار العقاري.


هذه المبادرات التي انطلقت في معظمها بجهودٍ فرديةٍ من داخل المجتمع المدني نجحت، على محدودية إمكاناتها، في خلق وعيٍ عامٍّ يربط بين الحجر والبشر، ويعيد الاعتبار للمدينة فضاءً للذاكرة الجمعية وحقّاً للسكان، لا مجرد أرضٍ خاليةٍ تُفرغ من تاريخها لمصلحة مشاريع استهلاكية. ومع عجزها عن وقف كلّ معاول الهدم وجرافاته في مقابر القاهرة أو منع إزالة مبانٍ تاريخيةٍ في الإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية، فإن المبادرات وثّقت ما جرى وحوّلته إلى أرشيفٍ بديلٍ ولربما "وثيقة إدانة" للأجيال المقبلة، تكشف حجم ما أُزيل من معالم كان يمكن أن يشكّل رافعةً ثقافيةً وسياحيةً واقتصاديةً للمدن. شبابٌ من الجنسين ومن خلفياتٍ اجتماعيةٍ متباينةٍ يصرّون على أن مدنهم ليست ملكاً للسلطة، بل فضاءاتٍ حيّةً لأهلها، فيما تواصل الحكومة سياساتها التي تختزل "التطوير" في مقاهٍ تجاريةٍ، وأبراجٍ إسمنتيةٍ، ومواقف سياراتٍ على أنقاض التاريخ.
هكذا يتجلّى الصراع الدائر على تراث المدن المصرية صراعاً على "الحق في المدينة"، وحقّ السكان في تقرير مصير فضائهم العمراني ومشاركته لا أن يُنتزع منهم ويُسلَّع. ومنها تصبح هذه المبادرات وما ترنو إليه من توثيقٍ أداةَ مقاومةٍ مدنيةٍ، ومحاولةً لإعادة بناء العلاقة بين السكان ومدنهم، في مواجهة منطق حكمٍ يختزل التراث في عبءٍ يجب التخلص منه، لا في ثروةٍ يمكن صونها واستثمارها.

اشترك في نشرتنا البريدية