القاهرة تتخلَّى عن مقابرها المتفرّدة وتراثها النادر من أجل مَحاور مرورية

تفقدُ القاهرةُ تاريخاً يتجاوز ألفَ عام، إذ تُهدَم مقابرها وقبابها وجبّاناتها من أجل إشادة مطاعمَ ومقاهٍ وفنادقَ ومرافقَ قلّما تُستعمَل

Share
القاهرة تتخلَّى عن مقابرها المتفرّدة وتراثها النادر من أجل مَحاور مرورية
مدفن عثمان باشا مرتضى بالقاهرة (تصوير الكاتب)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

خاض ناشطو المجتمع المدني في النصف الثاني من سنة 2019 معركةً خاسرةً ضدَّ عملياتِ "تطويرٍ" عنيفةٍ نُفِّذَت في حيّ مصر الجديدة التراثيّ. أزالت هذه العملياتُ الجزءَ الأكبرَ من حدائق الحيِّ الذي أُسِّسَ مدينةً حدائقيةً سنة 1905. وبُدِئ بإنشاءِ خمسةِ جُسورٍ في الوقت نفسِه، ثم أُضيفَت إليها جُسورٌ عِدَّة. طُمِرَت المباني التراثية أسفلَ الجُسور، وأُلغِيَت الميادينُ الخضراء، وصار الحيُّ في أشهُرٍ قليلةٍ عِبارَةً عن مَحاورَ مروريةٍ واسعةٍ لا تصلح لعبور المشاة. بعد أن كان الحيُّ الحدائقيُّ مِن أَرْقَى أحياءِ القاهرة، صارَ مكاناً رماديّاً طارِداً للسكان.

كانت أهدافُ هذا التحوُّل المعلَنةُ تطويرَ الحيِّ، والقضاءَ على الأزمات المروريِّة، وتسهيلَ الوصولِ إلى العاصمة الإدارية الجديدة التي ما زالت قيدَ الإنشاء. وكان خطوةً أُولى في طريق تطويرٍ طويلةٍ لم تنتهِ بعد، طالَت أحياءَ المدينة كلَّها وغَيَّرَت وجهَها بالكامل. لَم يقتصر هذا التحوُّلُ على القاهرةِ وحدَها، فقد طالَ معظمَ مدنِ مصر.

وصل هذا التغييرُ إلى "جبّانات الأموات"، وهي أمكنةٌ تضُمُّ عدداً كبيراً من المَدافِن. فبينما كانت الجسورُ تُشيَّدُ فوق حدائق مصر الجديدة، كَسَحَت الجرّافاتُ عدداً كبيراً من مقابرِ البساتين جنوبَ القاهرة. ثمّ أُزيلت المقابرُ المحيطةُ ببُحيرةِ عين الصيرة من أجل "تطويرها". ومما أُزيلَ حينَها ضريحُ آل طباطبا الذي يعود إلى نحو 943 ميلادية، وهو آخِرُ أثرٍ للدولة الإخشيدية في مصر. صار مكانُ الضريح موقفَ سيّاراتٍ بعد أن فُكِّكَت قِبابُه وجُزؤُه العُلوِيُّ وتُرِكَ ما بَقِيَ منه ليَغْرَق، ثمّ نُقِلَت القِبابُ إلى مكانٍ قربَ متحف الحضارة. كان الضريح غارقاً في المياه الجوفية سنواتٍ طويلةً، لكنّ وزارة الآثار فَطِنَتْ له في مشروع إنشاء ممشًى مع مَقاهٍ ومطاعمَ سياحيةٍ حول البُحيرة التي أُعيدَت تسميتُها "لو ليك دو كير". يعتقدُ عماد عثمان مهران، المديرُ السابقُ بوزارة الآثار والمتخصِّصُ في الآثار الإسلامية، أن نقلَ الضريح قرارٌ خاطئ، لأنَّ قيمتَه في وجوده حيث دُفنَت أجسادُ أسرة طباطبا، لا سيّما أنَّ معظَم ما نُقل من المكان كان لأعمال ترميماتٍ قديمةٍ عديمةِ القيمة.

لَم يَهتمَّ الإعلامُ بما يحدث في حيّ البساتين، ولا بما يجري في حيّ مصر الجديدة الراقي. كلُّ هذه الإزالاتِ كانت لإنشاء ما سُمِّيَ "محور الحضارات" الذي سيُسهِّل الوصولَ إلى متحف الحضارة المصرية المبنيِّ حديثاً. يمرُّ المحورُ فوقَ جسرٍ تخترِقُ قواعدُه المدافنَ، ويكاد يلامسُ بعضُها مسجدَ الإمامِ الفقيهِ الليث بن سعد ومَقامَه. والليثُ فقيهٌ يُجِلُّه ويَتبرَّكُ به كثيرٌ مِن مسلمِي مصر. أضرَّ المشروعُ أيضاً بقناطرِ ابن طولون، أحدِ الولاة العباسيين على مصر. وكان قد استقلَّ وأسَّس دولةً عاصمتُها مدينةُ القطائع في القرن التاسع الميلادي، واشتهرت العمارةُ في عهده. أُنشِئَت القناطرُ لتوصيل المياه من بئر أم السلطان إلى سكان المدافن، وهي إحدى خمسة آثارٍ بقيَت من العصر الطولوني. ومع مرور ثلاث سنواتٍ على افتتاح المحور في أوائل 2021، لم يستعمِلْه إلا قِلَّةٌ من السيارات، مما يُثير الشكوكَ بجَدْواهُ وتَكْلفَتِه.

بعد اكتمال مشروع محور الحضارات، انتقلت الجرّافاتُ ومعدّاتُ البناءِ شمالاً لتنفيذ محورٍ آخَرَ هو محورُ الفردوس. تُسمَّى منطقةُ هذا المحور "صحراء المماليك" وتقع في القرافة الشرقية، الجزءِ الأفخمِ من القرافة، والذي يحتوي قِباباً ومنشآتٍ ساحرةَ الجمال من العصر المملوكي، الذي بدأ بسقوط الدولة الأيوبية سنة 1250، وانتهى بهزيمةِ المماليك ودخولِ مصر في كَنَفِ الخلافة العثمانية على يد سليم الأَوّل سنة 1517. وفيه مَدافنُ فارهةٌ لِأَغنَى أغنياءِ مصر تَعُودُ إلى القرن التاسع عشر وبداياتِ القرن العشرين.

جانب من أعمال الهدم (تصوير الكاتب)

ثارت موجةٌ من الغضب المجتمَعيِّ في وسائل الإعلام في يوليو 2020، بعد انتشار صُوَرِ أَظهَرَت جرّافاتٍ تُزاوِلُ الهَدْمَ أثناءَ اجتياحِها شارعَ قنصوة، أحدَ أجملِ شوارع القرافة الشرقية. في هذا الشارعِ قُبَّةُ قنصوة أبي سعيد، أحدِ سلاطين العصر المملوكي في مصر سنة 1498، وعددٌ كبيرٌ من المَدافِن الفاخرة. وهُدِمَت أجزاءٌ من مدافن كُلٍّ من الأميرةِ نازلي سليم، ابنة الأمير محمد عبد الحليم باشا بن محمد علي باشا؛ وأحمد عبود باشا، وهو رَجُلُ صناعةٍ كان مِن أَغْنَى أغنياءِ مصر في العصر الملكيّ، وشارَكَ في إنشاء شبكات السكك الحديدية في فلسطين وسوريا؛ وحسن باشا صبري، رئيسِ وزراء مصر؛ وأحمد لطفي السيد، المفكّر والفيلسوف وأحد روّاد حركة التنوير؛ فضلاً عن عشرات المدافن الأُخرى. وهُدِمَت مَقابرُ في الشوارع الموازية من أجل توسيعِها، منها شارع الملك الأشرف.

بعد إثارة الموضوع في وسائل الإعلام المختلفة، تراجَعَت خططُ الهَدْم وقُلِّلَ عَرْضُ المحورِ المُزمَع إنشاؤه، واكتُفِيَ بهَدْم أسوارِ بعض المدافن الضخمة وحدائقِها التي تُطِلُّ على شارعَيْ قنصوة وصلاح سالم. ثمّ بُنِيَ سُورٌ بتصميمٍ سَيِّءٍ وجودةٍ رديئةٍ ليُغَطّيَ على المدافن المفتوحة التي صارت بلا حدائقَ ولا أسوار، وليحجب التواصل البَصَرِيّ بين مستخدِمِي الطريقِ والمَدافِن.

أَصدَرَ وزيرُ الإسكان بعد ذلك قراراً بإخراج أربعةٍ من المَدافِن التي تضرَّرت أو تهدَّمَت أثناء أعمال إنشاءِ المحور من سِجِلِّ المباني والمنشَآتِ ذاتِ الطرازِ المعماريِّ المتميّز لمحافظة القاهرة. يضمُّ السجلُّ قوائمَ لمَبانٍ ذاتِ قيمةٍ معماريَّةٍ أو تاريخيةٍ أو مرتبطةٍ بشخصياتٍ شهيرةٍ تضيفُها لجانُ التنسيق الحضاريّ التابعةُ لوزير الثقافة، للحفاظ على هذه المباني وحَظْرِ هدمِها أو تخريبِها. اثنان من المدافن الأربعة التي أَمَرَ وزيرُ الإسكان بإخراجِها كانا قد سُجِّلا في 2019. أي أنهما لم يَبْقَيا في السجلِّ سِوَى ثلاثةَ أعوامٍ، ممّا يدُلُّ على أنّ تسجيل المباني في السجلِّ لا يحميها، إنما من المحتمَل دائماً إخراجُها من السجلِّ ثمّ هدمُها، أو هدمُها ثمّ إخراجُها من السجلّ. ولهذا السبب أَعلَن الدكتورُ أيمن ونس، رئيس اللجنة الدائمة لحصرِ المباني والمنشآتِ ذاتِ الطراز المعماري المتميز شرقَ القاهرة، استقالتَه من رئاسة اللجنة في سبتمبر 2023.

يبدو مِن مخطَّطات هذه المَحاوِرِ والمشروعاتِ الجديدةِ أن من يُخطِّطُها يعملُ مِن مكتبِه من غيرِ أن يَرَى ما على الأرض. وكأنّه يَتعاملُ مع مساحةٍ صحراويةٍ خاليةٍ تماماً، لا مع أمكنةٍ تاريخيةٍ مأهولةٍ تَجَاوَزَ عُمرُها مئاتِ السنين.


كانت منطقةُ سفح المقطّم جبّانةً لمَوْتَى المسيحيِّين قبلَ تحوُّلِها إلى جبّانةٍ إسلاميةٍ بعد دخولِ مصر الحُكمَ الإسلاميَّ منذ 1400 عام. يحكي المؤرِّخُ المقريزيُّ في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" قِصّةً عن طلبٍ تقدَّم به المُقَوْقسُ عظيمُ القِبْطِ إلى عمرو بن العاص لدى دخولِ مصر الحكمَ الإسلاميَّ. ويُعتقد أن المُقَوْقسَ هذا هو البَطْرِيَرْكُ الملكانيُّ "كيرولوس" اليونانيّ. أمّا طلبُه من عمرو بن العاص فهو أن يَبيعَهُ سَفْحَ جبلِ المقطَّم بسبعين ألفَ دينارٍ، لأن "صِفَتَها في الكُتُب أنّ فيها غِراسَ [شجر] الجَنَّة". فأَرسَلَ عمرو بن العاص إلى أَميرِ المؤمنينَ عُمَرَ بنِ الخطّابِ يَسألُه في ذلك، فكَتَبَ إليه قائلاً: "إنَّا لا نَعْلَمُ غِراسَ الجَنَّةِ إلا المؤمنين فاقْبِرْ فيها مَن ماتَ قَبْلَكَ مِن المؤمنين، ولا تَبِعْهُ بشَيْء…". فقال المُقَوْقسُ لعَمروٍ: "وما ذلك وما على هذا عاهَدْتَنا". فقَطَعَ لهُ الحَدَّ الذي بين المقبرةِ وبينَهم. لكن هناك روايةً أُخرى نقلَتْها الباحثةُ جليلة القاضي عن "بول كازانوفا" (1861-1926)، أستاذِ الأدب العربي ونائبِ مدير المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، قال فيها إن المسلمين أزالوا المَقابرَ المسيحيةَ القديمةَ ودَفنوا موتاهم في المنطقة.

منطقةُ الدفنِ الملاصِقةُ للمقطَّم ملائمةٌ جِدّاً لدفنِ المَوتَى، فهي مساحةٌ شاسعةٌ من الأراضي الصحراويةِ الجافّةِ البعيدةِ عن نهر النيل والمُناسِبةِ لحفظِ الأجساد. وانتقل المسلمون لدفنِ موتاهم فيها مع استمرار الدفن بصحراءِ شرقِ الفسطاط في المنطقة التي عُرفَت بالقرافة. وبتعاقُب السنين أَخذَت الجبّانتان تتمدّدان إلى الجنوب والشمال والشرق حتى التَحَمَتا وشكَّلتا مدينةَ الموتى. هناك كثيرٌ من الأسماء التي تُطلَق على الأجزاء المختلفة من تلك الجبّانة الشاسعة، مثل القرافة الكبرى والقرافة الصغرى والمُجاورين ومقابر الخلفاء وجبّانة قايتباي وصحراء المماليك. ويمكِن عدُّها قطعةً واحدةً ضخمةً تمتدُّ على مسافةِ اثنَيْ عَشَرَ كيلومتراً قبل أن تمزِّقَها مشروعاتُ الطُرُقِ المختلفةُ في العصور الحديثة.

دُفِنَ في هذه الصحراء ملايينُ من العامّة والشيوخ وطلاب العلم والأولياء والكُتّاب والشعراء والسلاطين والأُمراء والباشَوات والبَكَوات، حتى تحوّلَت إلى طبقاتٍ تاريخيةٍ عدَّةٍ مركَّبةٍ ومتداخِلة. في القرن التاسع عشر أنشأ الباشَواتُ والأعيانُ صروحاً جنائزيةً ليُدفَنوا فيها مع أُسَرِهم. جاوَرَت هذه الصروحُ تلك التي أنشأها المماليكُ قبلَهم، واقتَبسَ كثيرٌ منها العناصرَ المعماريَّةَ المملوكيَّةَ في بنائها لتتناغمَ مع تلك الصروح القديمة وتتكاملَ، من غير أن تتطابق، ممّا زاد ثراءَ الجبّانةِ وتنوّعَها. وكلّما ازداد ثراءُ الشخص بَنَى لنفسِه مدفناً أفخمَ وأوسعَ وأجمل، وأضاف إليه مساحاتٍ مزروعةً بأشجارٍ مثمِرةٍ وغيرِ مثمرة، ليصير المدفنُ واحةً غنَّاءَ وسطَ صحراءِ الجبّانة.

تختلف المدافنُ الإسلامية في مصر عن مثيلاتِها في أغلب الدول التي تكون المدافنُ فيها لَحْداً في الأرض. فالمدافنُ الإسلاميةُ المصريةُ امتدادٌ لعاداتٍ مصريةٍ قديمةٍ في الدفن؛ تُبالِغُ في الاهتمام بالعمارة الجنائزية لأنها مسكنٌ لجسد الميت. تُراعي تلك العمارةُ الأحياءَ الذين يزورون الأمواتَ في المواسم والأعياد الدينية. يُسمّى هذا النَّوعُ من المدافن "حوش"، وهو مساحةٌ واسعةٌ فيها عادةً مَبْنى الدفن وغُرَفٌ للرجال وأُخرى للنساء تُستخدَم عند زيارة الموتى، لأن تلك الزياراتِ تمتدُّ أحياناً أسبوعاً كاملاً تقيمُ فيه الأُسرةُ داخلَ الحوش. وتوجد أيضاً أماكنُ لإقامة الحارس وأُسرتِه، ممّا يجعل الجبّانة مكاناً لا تنقطع عنه الحياة. وقد تُقام فيه المَوالدُ الدينيةُ للاحتفاء بالشيوخ والأولياء والصالحين. ولا تنقطع عنه الزياراتُ، خصوصاً أيَّامَ الجُمَع، فهو مكانٌ للأموات والأحياء.

إذا عُدْنا آلافَ السنوات سنجدُ أن مقبرةً مثلَ مقبرةِ الوزير الفرعوني القويّ "مريروكا" الموجودةِ في بلدة سقارة في محافظة الجيزة تحتوي ثلاثاً وثلاثين حُجْرَةً. بعضُها مخصَّصٌ للأحياء عند زيارتهم الموتى، لا سيما في ما كان يُسمَّى "عيد الوادي الجميل" الذي خُصِّص لتذكُّر الموتى، ففيه يزورُ الناسُ موتاهم ويضعون الزهورَ على قبور أحبّائهم لإحياء روح المتوفّى، ويأكلون ويشربون وينامون في المقابر.

استمرّت هذه العاداتُ بعد 2500 عام إبّانَ العصر الروماني في مصر. ففي "كتاكومب" كوم الشقافة غربَ الإسكندرية، وهي مقبرةٌ بطوابقَ عدّةٍ أسفلَ الأرض، توجد "ترايكلِيِنيَم" أي صالةٌ للمآدِبِ يجتمع فيها أهلُ المتوفّى لتذكُّر الميّت وأكلِ الطّعام عند زيارة المقبرة في المناسبات.

استمرَّت هذه العادةُ في مصر حتى بعد دخول كثيرٍ من سكانِها في الإسلام. وقد صدرت كُتُبٌ عدَّةٌ في ترتيب الزيارة إلى القرافة، ربما أشهرُها كتابٌ صدرَ في القرن الخامس عشر الميلادي لشمس الدين محمد بن الزيات بعنوان "الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة في القرافتين الكبرى والصغرى". وحتى اليوم ما زالت عادةُ زيارةِ القبورِ منتشرةً بشِدّةٍ خصوصاً بين الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً.


لم تكد الضجّةُ التي أُثيرت بسبب أعمال الهدم في صحراء المماليك تَخْفِتُ، حتى انتقلت الحكومةُ بمشاريع التطوير جنوباً إلى منطقة السيدة عائشة وما حولَها. وأعلنَت في نوفمبر 2021 أنها ستهدِمُ ألفين وسبعمئة مقبرةً. بدأ الأمرُ بإزالة 147 منزلاً في منطقة السيدة عائشة التي تقع بين الميدان الذي فيه المسجدُ والمقابرُ، وفُكِّكَت مئذنةُ مسجدِ الغوريّ المُطِلِّ على الميدان والمبنيِّ سنةَ 1509، ثم مئذنةُ مسجدِ مسيح باشا المبنيِّ سنةَ 1585 والذي يقع في الجهة المقابِلة. كما فُكِّكَت مئذنةُ قوصون الساقي المبنيَّةُ سنةَ 1336، ومئذنةُ التربة السلطانية المبنيَّةُ سنةَ 1350 لأنهما – على ما يبدو – تَعترِضانِ مسارَ مشروع التطوير، وما زال مصيرُهما غيرَ واضحٍ حتى الآن.

وعلى بُعدِ خطواتٍ من ميدان السيدة عائشة، هُدِمَت منطقةُ عرب اليسار كاملةً. وهي منطقةٌ تاريخيةٌ تقع خلفَ مسجد الغوري وأسفلَ سفح الهضبة التي بُنيَت عليها قلعةُ صلاح الدين الأيوبي. ويُبنَى مكانَها الآنَ مجموعةٌ من المتاجر والمطاعم. وهُدِمَ في المنطقة أثرٌ مسجَّلٌ برقم 413 وهو قبّةُ الشيخ عبد الله، التي تُعرَف أيضاً بقبّة غفير الدرب. ومن البيوت التاريخية التي هُدِمَت في عرب اليسار بيتُ الشباسي، وهو مبنىً مميّزٌ يعود إلى عائلةٍ عريقةٍ تخصَّصَت في تجارة القمح وطحنِه وتوريدِه؛ وبيتُ ماجد، وهو منزلٌ مبنِيٌّ سنةَ 1880 ومسجَّلٌ في سجلّات التنسيق الحضاري. بدا أن المنطقةَ تُمحَى من الوجود بلا اكتراثٍ بقيمة المباني الأثريّة.

انتشر المسّاحون في جبّانتَي السيّدة نفيسة والإمام الشافعي جنوبَ القاهرة. ووضعوا آلافَ العلامات على المقابر لإزالتها، منها مقابرُ شخصياتٍ شهيرةٍ في التاريخ المصري والإسلامي، وصروحٌ معماريةٌ بغايةِ الإتقان والروعة. من المقابر التي صارت مهدَّدةً بالهدمِ في مدافن الإمام الشافعي مدفنُ الإمامِ وَرْش، صاحبِ القراءةِ المعروفةِ بِاسمِه، وهي أكثرُ القراءات شُيُوعاً للقرآن بعد رواية حَفْص، ومدفنُ محمد فاضل الدرمللي باشا، مفتشِ عامّ الصعيد وحاكم قنا؛ ومدفنُ محمود سامي البارودي، رئيسِ الوزراء والشاعر الشهير الذي عُرف بربِّ السيفِ والقلم (1839 - 1904)؛ ومدفنُ علي باشا فهمي، عضوِ مجلس الشيوخ (1936)؛ ومدفنُ محمد محمود باشا، رئيسِ الوزراء (1878 - 1941)؛ ومدفنُ الفنانِ يوسف وهبي (1898 - 1982)؛ ومدفنُ محمد راتب باشا، سردار الجيش المصري (1920)؛ ومدفنُ ذو الفقار، المدفونةُ به الملكةُ فريدة الزوجةُ الأولى للملك فاروق، وقد نُقِلَ رُفاتُها فيما بعدُ إلى مسجد الرفاعيّ من أجل تسهيلِ الهَدْم. وفي مدافن السيدة نفيسة مدفنُ أمير الشعراء أحمد شوقي، ومئاتُ المدافن الأُخرى، ومنها مقبرةُ علي باشا مبارك (1823 - 1893) أحدِ أهمِّ الأسماء التي اقتَرَنَت بتخطيط القاهرةِ في القرن التاسع عشر، وصاحبِ الكتابِ الموسوعيِّ المرجعيِّ "الخطط التوفيقية الجديدة" الذي يُعَدُّ أطلساً متكامِلاً لمُدُنِ مصرَ على مَرِّ العصور. وكأنّ المُخطَّطَ الحديثَ يتعمّدُ تخطيطَ الطريقِ فوقَ رُفاتِ أشهَرِ مُخطِّطٍ في تاريخ القاهرة، في فعلٍ رمزيٍّ يُهِينُ ماضي القاهرة العريقَ ويقطع الاتصالَ معهُ تماماً.

يَستهدِف مشروعُ التطوير تحويلَ شارع صلاح سالم، أحدِ أطولِ شوارع القاهرة والذي يمُرُّ بأحياء مصر الجديدة ومدينة نصر والعباسية ويبدأ من أمام مطار القاهرة الدولي وينتهي عند قلعة صلاح الدين ذهاباً وإياباً، إلى طريقٍ ذي اتّجاهٍ واحدٍ، وإيجادَ طريقٍ بديلٍ يمثّلُ الاتجاهَ الآخَرَ داخلَ المقابر. سيَخترقُ الطريقُ الجديدُ مقابرَ الغفيرِ ممتدّاً حتى ميدان السيدة عائشة، حيث ستوضع المساجدُ الثلاثةُ؛ الغوريّ ومسيح باشا والسيدة عائشة، في دوّارٍ ضخمٍ تتوسّطُه نافورةٌ. ثم يستمرُّ الطريقُ مخترقاً مقابرَ السيدة نفيسة، والذي سيوضَع في دوّارٍ مُروريٍّ كذلك، مع نافورتَيْن شمالَه وجنوبَه. وثمَّةَ طريقٌ آخَرُ يخترقُ جبّانةَ الإمام الشافعي نحوَ "الأوتوستراد" المعروفِ بطريق النصر وهو أحدُ أهمِّ المحاورِ المروريةِ في القاهرة، يربط شرقَ العاصمةِ بجَنوبِها ويضُمُّ معالِمَ تاريخيةً منها نُصْبُ الجنديِّ المجهولِ والمنصّةُ التي اغتيلَ عليها الساداتُ في احتفالاتِ أكتوبر 1981.

في وقتٍ متزامِنٍ مع مشاريع الهَدْم في السيدة نفيسة والإمام الشافعي، ظَهَرَ مشروعُ محورٍ آخَرَ يُسمَّى "محور ياسر رزق" على اسم رئيس تحرير أخبار اليوم الأسبقِ (1965- 2022). ويسير هذا المحورُ في حيِّ المقطَّم ثم يَهبطُ مِن فوقِ جبل المقطَّم فوقَ مدافن الأباجية. انطلقَت الجرّافاتُ تهدِمُ عشراتِ المقابرِ في الأباجية. كانت مقبرةُ طه حسين من المقابرِ المقرَّر هدمُها، لكن أدّى الضغطُ المجتمَعيُّ وتصريحاتٌ من أُسرة طه حسين برغبتهم في نقل رفاتِه خارجَ مصر، حتى يضمنوا "عدم العودة إلى المساس بحُرمةِ الموتى مرّةً أُخرى"، إلى استثناءِ مقبرةِ عميد الأدب العربي من الهَدْم. لكن الجسرَ أُنشِئَ. ويقف الآن مَدفنُ طه حسين وحيداً في منطقةٍ واسعةٍ خاليةٍ أسفلَ الجسر. ولم تحظَ مقابرُ أُخرى مهمَّةٌ مجاورةٌ بما حظِيَت به مقبرةُ طه حسين، فسُوِّيَت بالأرض. منها مقبرةُ يوسف صدّيق، عضوِ مجلس قيادة ثورة 1952، ومقبرةُ الشهيد صلاح الدين المرشدي وهو مِن شهداءِ حرب أكتوبر 1973.

بدأ هدمُ جبّانة السيدة نفيسة في النصف الأول من 2023. لكن كَثُرَت الاعتراضاتُ المجتمَعيةُ على الهَدْم. وأحدَثَ ارتفاعُ صوتِ الإعلامِ تخبُّطاً في المشروع؛ إذ غُيِّرَت أماكنُ علاماتِ الهَدمِ مراراً، لا سيّما في جبّانة الإمام الشافعي. لكن في كلّ مرّةٍ يُعدَّلُ المسارُ، كان يصطدمُ بمدافنَ تاريخيّةٍ أُخرى تكتظُّ بها المنطقة. كلَّفَت مؤسسةُ الرئاسة في يونيو 2023 لجنةً بدراسة المشروع. أَوْصَت اللجنةُ بعدم الهَدْم، لكنَّ القائمِين على المشروع ضَرَبوا برأيِها عرضَ الحائط، وانطلقت الجرّافات تهدِمُ الصروحَ والأضرحةَ القديمةَ في الإمام الشافعي فاستقال بعضُ أعضاءِ اللجنة.

إحدى التراكيب القديمة معزولة بعد هدم المدفن الذي كان يحتويها (تصوير الكاتب)

بعد عمليات الهَدمِ انتشرت كثيرٌ من التراكيب الفنّية وشواهد القبور الرخامية التي كانت داخلَ المدافن في سوق الإمام وأسواق التراثيات بُغْيَةَ بيعِها. وأدّت صُوَرُ الروائع المهدومة إلى تصاعُد الغضبِ مَرّةً أُخرى، ممّا أَجبَر السلطاتِ على إيقاف الهَدمِ إيقافاً مؤقتاً في سبتمبر 2023. انتشر رجالُ الأمن في جبّانةِ الإمام الشافعي، ومُنِعَ التصويرُ لإيقاف الضغط المجتمَعيّ، وتردّدَت أخبارٌ عن القبض على مَن يتجوّلون أو يصوّرون في المقابر.

لَم يستمرّ وقفُ مشاريع الهَدم طويلاً. ففي أبريل 2024 أصدرت محافظةُ القاهرة قراراً بوقف دفن الأموات في جبّانات الإمام الشافعي والسيدة نفيسة. وعلى الجانب الآخَر أيضاً بدأ تفريغُ جبّانة باب النصر التاريخية التي تقع أمام بوّابتَي الفتوح والنصر خارجَ أسوار القاهرة القديمة لإنشاء مشروعِ مواقفِ سيارات، مما يبدو إصراراً على إزالة جبّانات القاهرة التاريخية.


استهداف المقابرِ بالهدمِ ليس بِدعاً في مصر بعُصورِها القديمة أو الحديثة، لكنه لم يكن عنيفاً وكثيفاً كما هو اليومَ. فقد مَرَّ أجيالٌ من المصريين بمثل ما يجري اليومَ مِن هدمِ المقابر ونقلِ الموتى، كما جرى أثناء إنشاءِ طريقَيْ صلاح سالم و"الأوتوستراد" أو النصر اللّذَيْن أُسِّسا على مراحلَ متعدِّدة. ففي الخمسينيات شُقَّ الشارعُ الأول عندما أمرَ الرئيسُ المصريّ حينَها جمال عبد الناصر وزيرَ الحربية عبد اللطيف البغدادي بشقّ هذا الشارع، وسُمِّيَ "الطريق الحربي"، وبدأ استخدامُه في الستينيات. لعلّ الأديبَ المصريّ خيري شلبي، الذي كان يقيم فتراتٍ طويلةً في المقابر، هو أفضلُ مَن تَحَدَّثَ عنها حينَ قال في كتابه "بطن البقرة" الصادرِ سنة 1995: "قُدِّرَ لي أن أَشهد تجرِبةً لا أنساها ما حَيِيتُ، تلك هي عمليةُ إنشاء طريقِ الأوتوستراد، فكانت البُلْدُوزَراتُ تَشقُّ قلبَ المقابر في قسوةٍ جهنميةٍ بشعةٍ، بمَحاريثَ تغوصُ في قلبِ التُربة فتَرمي بعظام الموتى على الجانبَيْن، لكي يَجِيءَ وابُورُ الزَلْطِ فيَدُوسَ الأرضَ يُبطِّطُها ليُعَبِّدَها، فإذا ما حَطَّ الظلامُ على المنطقة انبثقَت من أكوام التراب بَيارِقُ ضوءٍ خاطفٍ، منبعثة من العظام البيضاء والجماجم منزوعةِ اللحمِ عن أسنانَ كالجواهر، وأَذرُعٍ وسيقانَ وأكفانٍ بعضُها طريٌّ لم تَنَلْه يدُ البِلَى بعدُ. وكان المنظرُ مؤلماً وسخيفاً، وباعثاً على الحزن والكآبة، لا سيّما وأن أصحاب هذه القُبور لم يَعرفوا بعدُ أن لحومَهم قد دِيسَتْ بالأقدام. وكان لا بدّ أن نفعل شيئاً نُریح به خواطرَنا الغاضبة، فكوَّنَّا فريقاً كنتُ على رأسه، واشترينا مجموعةً من الزكائب، وصِرنا نَمضي خلفَ البلدوزرات والوابورات نجمعُ الأشلاءَ نعبِّئُها في الزكائب، وكان جسدي يقشعرُّ وينتفضُ كلّما أمسكتُ بجمجمةٍ فإذا بجدائلَ شَعرٍ تنسابُ منها مدفونةً في التراب وبقايا من جلدةِ الرأس تسقطُ بالجدائل".

وحكى الكاتبُ إبراهيم أصلان عن تجرِبةٍ مماثلةٍ في إحدى قصصِه القصيرة بكتابه "بحيرة المساء" الصادر سنة 1971:

- هل ماتوا مِن مدّةٍ طويلة؟
- مِن مدّةٍ طويلةٍ جداً. كنتُ أريد أن أنقلَهم إلى مقبرةٍ أُخرى ولكن ذلك يتكلّف حوالَي مِئَتَيْ جنيه.
- أنت لن تعرفَهم على أيّ حال.
- كيف؟
- أقصد أنهم ما داموا قد ماتوا من مدّةٍ طويلةٍ كما تقول، فأنت لن تجد منهم شيئاً.
- كنتُ أزورُهم في المواسم كلِّها، وكنت أزورهم في الأيام العاديّة.
- هناك من لن يتمكنّوا مِن نقلِ موتاهم، أليس كذلك؟
- أعتقد.
- أقصدُ هل سيُزيلون هذه المقابر؟ صاحبُ المنزل قال لي إنه لا يَعرفُ ما الذي سيفعلونه في الأرض. قال إنه لا يَعرف.
- لو كنتُ أملك مِئتَيْ جنيه لنقلتُهم إلى مقبرةٍ أُخرى حتى أستطيعَ زيارتَهم.


مصير التشريعات المرتبطةِ بالجبّانات ضبابيٌّ كمصير الجبّانات نفسِها. فهناك قانونٌ جديدٌ يُعَدُّ في مجلس النُوّاب لتغيير القوانين المرتبطة بالجبّانات. وبلقاءٍ مُتَلْفَزٍ في أبريل 2024 مع النائب محمد جبريل عن فوضى المقابر، قال إن القانونَ الجديدَ بمثابة حركةٍ إصلاحيةٍ تَستهدِفُ إصلاحَ الفوضى وفتحَ الباب لدفع أموالٍ مقابلَ تملُّكِ مقابرَ قديمةٍ. ممّا يوحي بأن قوانين تنظيم الجبّانات لم تكن موجودةً مِن قبلُ، وهذا غيرُ صحيحٍ.

أوَّلُ قانونٍ لتنظيم الجبّانات في مصر هو القانونُ الصادرُ في 30 أكتوبر سنةَ 1877 بعهد الخديوي إسماعيل. تضمَّن هذا القانونُ شروطاً عدّةً في الجبّانات، منها أن يكون إنشاؤها تحتَ اتّجاه الرياح، وعلى بُعد مِئتَيْ مترٍ على الأقل من كلّ مكانٍ مسكون، وأن تكون في النقاط الأكثر ارتفاعاً، وأن تُحاط بسورٍ لا يَمنع مرورَ الهواءِ، وأن تتسع على الأقل لثلاثة أضعاف من يُدفنون فيها مدَّةَ خمسِ سنوات، وأن تكونَ بعيدةً عن الأنهار والتُرَعِ والآبار ومجاري المياه. وتضمَّن القانونُ كثيراً من تفاصيلِ عمليةِ الدفنِ وتنظيمِها وقواعدِ استخراج جثّةِ المتوفّى، وطرقِ تصدير الجثث إلى الدولِ الأُخرى، واستقبال الجثث من الخارج وغيرها.

صدر بعدَ ذلك قانونٌ آخَرُ سنة 1894 في عهد عباس حلمي الثاني، وضع قواعدَ لنقلِ الجبّانات المضرَّةِ بالصحّة العمومية، وأعطى سلطةَ نقلِ الجبانات لناظرِ الداخلية (أي وزير الداخلية حالياً) بعدَ تقديمِ مدير عموم مصلحة الصحة تقريراً إليه، وألزَمَ الحكومةَ بتقديم الأرض المخصّصة لإنشاء جبانةٍ جديدةٍ مجاناً. وهذا القانونُ لا يسري على جبانات القاهرة والإسكندرية، على أن يَصدرَ لهما أمرٌ خاصٌّ فيما بعد.

وأصدرَ محافظُ مصرَ في 14 ديسمبر 1922 قراراً بشأن لائحة النظام الداخلي لجبانات المسلمين في القاهرة. وأصدر وزيرُ الداخلية في 1928 لائحةً معدَّلةً لجبانات المسلمين تسري على الجبانات الإسلامية جميعِها عدا مدينة الإسكندرية. تُشدِّدُ اللائحةُ على منع استخدام الجبانات لأيِّ غرضٍ غيرِ الدفن، وتضعُ بعضَ القواعدِ في عملياتِ إنشاءِ المدافن، كأن تظَلَّ الأرضُ التي يصرَّح بإنشاء المدفن فيها من المنافِع العمومية. وأما الرسومُ التي يدفعُها صاحبُ الانتفاع فلا تعطيه الحقَّ في ملكية الأرض، لكن تبقى موادّ البناء المستعمَلة مُلْكَه. تتضمّن اللائحةُ أيضاً بعضَ القواعدِ الغريبة، مثل منع دخول العامّة إلى الجبّانات في غير تشييعِ الجنازات أو الأوقات المعروفة لزيارة القبور، و"يُمنع منعاً باتّاً داخل حدود الجبّانات النَدْبُ واللّطْمُ والعَوِيلُ، وكذا الزارُ [طقوس شعبية من رقصٍ وضربٍ على الدفوف لطرد العفاريت التي تتقمّصُ البَشَرَ] والملاهي، ويُمنع داخل حدود الجبانات سَيْرُ النساء في الجنازات أو تعقُّبُهنّ لها، وكذلك يُمنع سَيْرُ الكفارات والموسيقات وحَمَلَة القماقم والمَباخِر والمولوية ونحوهم، ويمنع منعاً باتّاً المبيتُ في الجبّانات (و)المُكْثُ فيها بعد الغروب بساعتَيْن، إلا للحُرّاس الخصوصيّين المعترَف بهم من البوليس والخُفراء الذين يُعيِّنُهم رؤساءُ اللِّجان، وكذلك يُمنَع بتاتاً التكفُّفُ [التسوُّل] داخلَ الجبّانات". 

صدرَ القانونُ الساري حالياً على الجبّانات برقم 5 سنة 1966. وهو يؤكّد في مادّته الأُولى أن "أراضي الجبّانات من الأموال العامّة، وتحتفظ بهذه الصفةِ بعد إبطال الدفْنِ فيها وذلك لمدّةِ عَشْرِ سنواتٍ أو إلى أن يتمّ نقلُ الرُفاتِ منها".

يبدو هذا الإصرارُ على تمزيقِ جبّاناتٍ قديمةٍ غريباً، لأنها تكادُ أن تكونَ الأجملَ بين الجبّانات الإسلامية على مستوى العالَم، بكُلِّ هذا الكَمِّ من الطُرُقِ والمَحاوِرِ التي تَخترقُها من كُلِّ الاتّجاهات، مع أنّ اللِّجانَ التي شُكِّلَت شَكَّكَت في جَدوى تلك الطُّرُق، وما نُفِّذَ منها لا يَشْهَدُ أيَّ كثافاتٍ مُروريّة.


سَمِعَ المصريّون أواخرَ 2007 عن مخطَّطِ ما يُسَمَّى "القاهرة 2050". وقيلَ أنّ جمال مبارك، الذي كان يُهَيّأُ آنَذاك لخِلافةِ والدِه في حُكم مصر، ومجموعتُه الاقتصاديةُ، يقِفُون خَلْفَه. بدأت تَظهرُ تفاصيلُ المخطَّطِ في 2008 على استحياءٍ في وسائلِ الإعلام. وأحدُ أبرزِ المسؤولِين عن مخطَّطِ القاهرة 2050، هو رئيسُ هيئةِ التخطيط العمرانيّ وقتَذاك، والذي أَصبحَ وزيراً للإسكان، ثم رئيساً لوزراءِ مصر حالياً الدكتور مصطفى مدبولي.

يَتعاملُ المخطَّطُ مع القاهرة كأنَّها ورقةٌ بيضاءُ فارغةٌ لا تحتوي سِوى بعضِ المباني المسجّلةِ رسمياً آثاراً في سجّلاتِ وزارةِ الآثار، والمتناثرةِ هنا وهناك، ولا يَلتَفِتُ لأيِّ شيءٍ آخَرَ. فهو ينصُّ بوضوحٍ على إنشاءِ منطقة مقابرَ جديدةٍ، وتحويل الجبّانات إلى حدائقَ ومطاعمَ ومقاهٍ وفنادقَ، على أن يُحافَظَ على المباني الأثريّة ويُهدَمَ الباقي. سُمِّيَت جبّانتا المجاورين وصحراء المماليك المطِلَّتان على شارع صلاح سالم، على خرائطِ المشروعِ حدائقَ الأزهرِ الكُبرى، كما سُمِّيَت مقابرُ البساتين حدائقَ الفسطاط الكبرى، وسُمِّيَت منطقةُ منشِيّةِ ناصر منتجعَ الإسكان السياحي، وسُمِّيَ حيُّ مصر القديمة وجبانةُ باب النصر حدائقَ الجمالية. يتضمَّنُ المخطَّطُ مشاريعَ خياليةً أُخرَى مثلَ شقِّ شارعٍ بعَرْضِ مِئتَيْ مترٍ في المطرية شرقَ القاهرة، ومشروعِ محورِ "خوفو" في محافظة الجيزة، وهو شارعٌ هائلٌ بعَرْضِ ستمئة مترٍ وطُولِ ثمانيةِ كيلومترات، ويَتطلّبُ تنفيذُه هَدْمَ أعدادٍ كبيرةٍ من المَباني. لا تتَّسِمُ مشاريعُ التخطيط العمراني تلك بالشفافية، ولا تَلْتَفِتُ للتراكُم التاريخيِّ الذي صَنَعَتْهُ المدينةُ على مدارِ أكثر من ألف سنة، ولا لرغباتِ سكّانِها وتطلُّعاتِهم، بل تتَّسِمُ باحتقار القديمِ والافْتِتان غيرِ المبرَّرِ بنموذجِ دُبَي.

العقليةُ التي أَنتجَت ذلك المخطَّطِ هي نفسُها التي تديرُ مشروعاتِ التطوير الحاليّة. تَخدِمُ هذه المشروعاتُ رجالَ الأعمالِ واستثماراتِهم، وتَخلُقُ مساحاتٍ شاسعةً من الأراضي الفارغةِ القابلةِ للبَيْع في أغلى مناطقِ القاهرةِ بالهَدْمِ ونقلِ السكان. وفي الوقت نفسِه تضمنُ استمرارَ تشغيلِ المئاتِ من شركاتِ المقاوَلة. لكنَّنا نرى تراثاً إنسانيّاً فريداً يَندَثِرُ أمامَ عُيونِنا. تُراثٌ لن يتكرَّرَ ولا يُمكِنُ إعادَةُ بِنائِهِ، وإنْ رَغِبْنا في ذلِك.

اشترك في نشرتنا البريدية