تمثِّل زيارة البعثة لحظةً مهمةً تساعد على فهم الصراعات القومية التركية العربية في السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية. إذ خرجت البعثة إلى الأناضول بعد نحو شهرٍ من إعدام مجموعة من المثقفين العرب في لبنان بأوامر جمال باشا نفسه في 21 أغسطس 1915، وتلاها بأشهر إعدام مجموعاتٍ أخرى في دمشق وبيروت في 6 مايو 1916، ثم إعلان الشريف حسين انطلاق الثورة العربية الكبرى ضدّ العثمانيين في 10 يونيو 1916. وتزامن ابتعاثها مع صعود جمعية الاتحاد والترقي القومية التركية، وتمكّنها من تشكيل الحكومة العثمانية.
انتشرت أخبار الرحلة في الشام وإسطنبول. فقد ضمّ الوفد أربعة صحفيين من مالكي الصحف كتبوا عن الرحلة ونشروا مجتمعين كتاب "البعثة العلمية إلى دار الخلافة الإسلامية" سنة 1916، قبل أن يدَّعي محمد كرد علي انفراده بالكتابة. ووثق بعض أعضاء الوفد أحداث الرحلة شعراً، فألَّفوا قصائد يسردون فيها بعض هذه الوقائع. وكتب جنود عثمانيون شهاداتهم عن الرحلة، مثل مترجم الوفد علي وحيد والرائد في الجيش العثماني عز الدين بك والملازم جواد عباس بك، الذي كان في فرقة مصطفى كمال أتاتورك على جبهة آنا فورتي والجندي محمد فصيح.
تعكس هذه الروايات المختلفة حقيقة مقصد جمال باشا من تشكيل الوفد. ففي حين تحصر الرواية الرسمية هدف البعثة في الدعاية السياسية للدولة العثمانية لضمان الولاء العربي في ظلّ الاضطرابات القومية، تشير مجمل الروايات إلى كونها محاولة من جمال باشا لترسيخ نفوذه في الدولة العثمانية كذلك. وتكشف كذلك طبيعة الصراعات القومية وعمقها بين الأتراك والعرب في الدولة العثمانية قبل لحظة الانفصال الكبير.
بدأت الحركة العربية أثناء حكم السلطان عبد الحميد الثاني الذي بدأ حكمه سنة 1876. ووجد العرب في حركتَي "تركيا الفتاة" و"الاتحاد والترقي" حليفاً في مطالبهم بالإصلاح الدستوري وضمان حقوقهم ضمن الدولة العثمانية. ورحّب معظمهم بالانقلاب العسكري الذي نفّذه ضباط "الاتحاد والترقي" سنة 1913، واعتبروه فاتحةً لنيل مطالب اللامركزية التي أضحت الشعار الأكثر انتشاراً بينهم. ولكن سياسة التتريك والتجنيد الإجباري والتضييق على الحركة العربية أحبطتهم ودفعتهم نحو تصعيد موقفهم القومي، حتى بلغ ذروته سنة 1915.
بدأت السنة بهزائم عسكرية لجمال باشا. في يناير شنّ الجيش العثماني بقيادته حملةً لاسترداد قناة السويس من البريطانيين، قبل أن يُهزم الجيش ويعود جمال باشا إلى الشام. وفي فبراير، بدأت معركة جناق قلعة قرب مضيق الدردنيل بين الجيش العثماني من جهة والجيوش البريطانية والفرنسية من جهةٍ أخرى. وأرسل جمال باشا عدةَ فرقٍ من جيشه لمساعدة الجيوش العثمانية، فتراجع مركزه العسكري بسبب قلّة الجنود المتبقّين معه.
لم يسلم جمال باشا في تعامله مع هذه الأحداث من نقد شركائه في السلطة العثمانية. كان جمال باشا ثالث ثلاثة يقودون جمعية "الاتحاد والترقي"، مع وزير الحربية إسماعيل أنور باشا ووزير الداخلية، ثم الصدر الأعظم محمد طلعت باشا. ومع اتحاد مشروعهم، لم تخلُ العلاقة بين الثلاثي من خلافاتٍ وتنافس. بعد عودته مهزوماً من السويس، قبض جمال باشا على أحد عشر مثقفاً وناشطاً عربياً على خلفية اكتشاف أوراقٍ من اجتماعاتٍ قنصليةٍ رأى أنها تثبت خيانتهم، وأحالهم لمحكمةٍ عرفيةٍ قَضَتْ بإعدامهم. انتقد طلعت باشا وأنور باشا وأفراد الحكومة في إسطنبول تنفيذَ جمال باشا الحكم في 21 أغسطس 1915 دون انتظار موافقة حكومة إسطنبول.
ساهم إعدام النشطاء في زيادة التوتر في سوريا. بنى جمال باشا علاقاتٍ واسعةً مع المثقفين السوريين ورجال الأحزاب العربية. وكان أحد المقرّبين منه الصحفي اللبناني عبد الكريم الخليل، الذي أُعدم مع المجموعة الأولى. خلَقَ ذلك جواً مضاعفاً من الرعب لدى المثقفين في دوائر هذه الجمعيات العربية. ولكنه وجد أيضاً مؤيدين حقيقيين لهذه الإعدامات بين المثقفين العرب، أو لسياسته وسياسة حزب الاتحاد والترقي لأسبابٍ مختلفة.
ساهمت هذه التطورات في ظهور تحدياتٍ جديدةٍ لحكم العثمانيين في الشام. ففي نفس السنة، تصاعدت الدعاية البريطانية ضد العثمانيين. كانت الطائرات البريطانية تلقي منشوراتٍ في فلسطين تحثّ العرب على رفض التجنيد، وتدعوهم إلى الانشقاق عن الجيش العثماني. وتصاعدَ نشاط القوميين العرب في سوريا الكبرى، واكتسبت دعوتهم إلى اللامركزية ودفاعهم عن حقوق العرب في الدولة العثمانية تأييداً كبيراً.
فقرر جمال باشا تشكيل وفدٍ عربيٍّ يزور إسطنبول وجبهة جناق قلعة. قصد جمال باشا من تشكيل الوفد مواجهة الحركة العربية والدعاية البريطانية ضد العثمانيين، وهرب الشبان العرب من التجنيد، وتضعضع موقعه نفسه في السلطنة، وانتقاد سياساته ضد الحركة العربية، كل ذلك في آنٍ واحد. فأرسل إلى حكام المناطق السورية لإيفاد رجال دين للمشاركة في هذا الوفد الذي تشكَّل من المفتي الرسمي لكل منطقة وأضاف إليهم جمال باشا شخصيات مُعيَّنةً من طرفه.
أما الشيخ عبد القادر عويضة من لبنان، فتردد في الذهاب بسبب رفض زوجته سفره، قبل أن يوافق بسبب إلحاح الوجهاء. وذلك بحسب صبحي الصالح، كاتب سيرته المعنونة "نثر اللآلي في ترجمة أبي المعالي"، والمنشورة سنة 1956. وساهم في إقناع المشاركين الإعلان عن تقاضي كلّ مندوبٍ خمسين ليرة عثمانية تعويضاً عن السفر، بحسب الكتاب نفسه. وانتقد محمد كرد علي في مذكراته المنشورة سنة 1948 تشكيل الوفد، وعدّه غير متجانس بسبب تكوّنه من المشايخ والصحفيين، أو بسبب اختلاف المواقف الحقيقية لأفراده.
اختار حكّام المناطق المرشحين منها، وركّزوا على المشايخ ومفتي كل منطقة. ضمّ الوفد من ولاية سورية المفتي أبو الخير عابدين وعبد المحسن الأسطواني وعطا العجلاني من مدينة دمشق، وأحمد الكيلاني من حماة، وتوفيق الأتاسي من حمص. ومثَّل حوران شيخ عشيرة سنّي هو محمد الزعل الزعبي، وزعيم درزي هو محمد الحلبي. أما ولاية حلب، فمثَّلها المفتي محمد صالح العبيسي ومعه محمد بدر الدين النعساني وعبد اللطيف خزنه دار، ومعهم مفتي عينتاب عارف أفندي. ومثَّل ولاية بيروت المفتي مصطفى نجا، ومن طرابلس عبد الكريم عويضة، ومن اللاذقية محاسن الأزهري، ومن عكا إبراهيم العكي وعبد الرحمن عزيز، ومن نابلس محمد رفعت تفاحة وعبد الرحمن الحاج إبراهيم، ومفتي حيفا محمد مراد. ومثَّل متصرفية جبل لبنان عبد الغفار تقي الدين، ومتصرفية القدس المفتي طاهر أبو السعود، ومن يافا سليم اليعقوبي.
أضاف جمال باشا بعض الشخصيات المقرّبة منه إلى الوفد، وأضاف صحفيين ليكتبوا عن الزيارة. فضمّ للوفد مفتي الجيش الرابع الشيخ أسعد الشقيري من فلسطين، والشيخ والشاعر حبيب العبيدي من الموصل، والشيخ تاج الدين ابن الشيخ بدر الدين الحسني من دمشق، والشيخ عبد القادر الخطيب من دمشق. وضمّ بعض ناشري الصحف مثل عبد الباسط الأنسي صاحب جريدة الإقبال، وحسين الحبال صاحب جريدة أبابيل، ومحمد الباقر صاحب جريدة البلاغ، ومحمد كرد علي صاحب جريدة المقتبس.
لم يكن جميع المختارين محلّ إعجاب جمال باشا. إذ ذمّ بعضهم بعد ذلك في مذكراته المنشورة سنة 1922، مثل الشيخ الخطيب الذي وصفه جمال باشا بأنه "خبيث وعديم الأمانة وخائن". أما الحسني، فيبدو اختياره تقديراً لمكانة والده الشيخ بدر الدين الحسني، أحد أهم علماء الحديث النبوي في دمشق والذي حرص جمال باشا على زيارته دورياً وتلبية طلباته.
ومع ذلك، حرص جمال باشا على أن يحظى الوفد بالرعاية الكاملة من الدولة العثمانية. فأرسل لأنور باشا وطلعت باشا يطلب حسن استقبال الوفد، وطلب تنظيم عشاءٍ فاخرٍ يلتقي فيه أعضاء الوفد مسؤولين عثمانيين. وحثَّ على تنظيم زياراتٍ ولقاءاتٍ عامة لأعضاء الوفد تساهم في "ربط قلوبهم بجمعية "الاتحاد والترقي"، مؤكداً أن الاحتفاء بهم في إسطنبول سيحدث أثراً إيجابياً في شعبَي سوريا وفلسطين.
حدد ناشر صحيفة "البلاغ" محمد الباقر مهمات الوفد التي أدّاها بنجاح في "عرض إخلاص السوريين على سدة الخلافة الإسلامية الكبرى"، و"مشاهدة عظمة الدولة العليّة واستعدادها الحربي"، و"بث عواطف أهالي هذه البلاد إلى إخوانهم الغزاة المجاهدين".
على أن هذا المقصد المعلَن لم يقنع الكثيرين ممن رأوا في البعثة محاولةً من جمال باشا لترويج نفسه. في إسطنبول، ناقش مسؤولو الاتحاد والترقي أهداف البعثة قبل خروجها. ونقل المؤرخ التركي أيهان أكتار، في الكتاب المشترك "سيريا إن وورلد وور وان" (سوريا في الحرب العالمية الأولى) المنشور سنة 2015، رسائل طلعت باشا إلى والي سوريا خلوصي بك يسأله عن البعثة والمشاركين، حتى يستمع من مصدر غير جمال. رفض خلوصي الرحلة، واعتبر جمال باشا مصاباً بجنون العظمة يرغب بالاحتفاء به دائماً. وشكّك أيضاً بالشخصيات العربية المحيطة به، واعتبرهم "سماسرة سلطة" متملّقين له يستغلّونه ويخفون ميولاً قومية عربية. حين غادرت البعثة، أرسل خلوصي إلى طلعت باشا يحذّره من دوافع الوفد في طلب لقاء الخليفة، وطلب منعه.
اتفق بعض أعضاء الوفد مع خلوصي في تصوّره أهداف البعثة. مثلاً، ألقى علي الريماوي قصيدةً بعد عودة الوفد من الشام، لخّصَ فيها أهداف البعثة بقوله:
رأيتَ - "جمال" الملك - رأيَك والذي
تراه هو الرأيُ الصوابُ المسدّدُ
رأيت بأن تختار منا عصابةً
مشائخ تزجى للملوك وتوفدُ
تترجم عن معناك طلقاً بيانُها
وتحسنُ إلقاء الثناء وتسردُ
شاركه الرأي عددٌ من أعضاء البعثة، وإن كانوا أكثر منه نقداً للوفد. بعد نحو ثلاثين سنة من الواقعة، كتب كرد علي في مذكراته أن الوفد هدف في الحقيقة "الامتداح من أعمال جمال باشا أمام ولاة الأمر في الأستانة، وكان مركزه مضعضعاً فاعتزم تثبيته بهذه الواسطة". ووافقه السياسي والمفكر الفلسطيني محمد عزت دروزة، أحد نشطاء الحركة العربية، في مذكراته المنشورة سنة 1993. فقد اعتبر الهدفَ الحقيقي مدح جمال وتبرير إعداماته. فيما اعتبر المؤرخ التركي طلحة شيشيك، في كتابه "وور آند ستيت فورميشين إن سيريا" (الحرب وإعادة تشكيل الدولة في سوريا) المنشور سنة 2014، هدف الوفد "إعلان ولاء سوريا للخليفة".
غادر الوفد دمشق يوم 29 سبتمبر 1915 في القطار متجهاً إلى حلب، حيث انضمّ إليه أعضاء آخرون. اختار أعضاء الوفد أسعد الشقيري رئيساً له، وحاولوا تنظيم أنفسهم قبل الزيارة. فقسّموا الوفد أربع هيئات تمثل ولايات دمشق وبيروت وحلب ومتصرفيتَي القدس وجبل لبنان. وقرروا أن يبدأ المفتون الكبار بإلقاء الكلمات في اللقاءات المختلفة، قبل أن يلقي الصحفيون كلماتهم.
وفي إسطنبول، استُقبل الوفد بالحفاوة التي أوصى بها جمال باشا، والتقى قيادات الدولة العثمانية جميعاً. فالتقى السلطانَ محمد رشاد مرة وأكد له إخلاص أهالي الشام للخلافة، ومدح إصلاحات جمال باشا وإنجازاته. والتقى الوفد ولي العهد يوسف عز الدين مرتين، وأكد له كرد علي والشقيري على الأخوة بين العرب والترك وإخلاص العرب للعثمانيين. والتقى وزيرَ الداخلية والرجل الأقوى بين ثلاثي الاتحاد والترقي طلعت باشا، وأورد محمد كرد علي كلمته أمامه عن إنجازات جمال باشا أيضاً. وهو ما كرره أسعد الشقيري وأعضاء آخرون في زيارة وزارة البحرية التي كان جمال باشا مسؤولاً عنها.
امتدح أعضاء الوفد في كلماتهم جمال باشا. يلخص الباقر كلام أعضاء الوفد عن جمال في أربع نقاط. امتلاكه قلوب السوريين واجتماع الناس حوله، والأعمال العمرانية الكبيرة، والإدارة العسكرية المتفوقة، وإنشاء المدارس والمعاهد العلمية. لم يفت الشقيري احتمال اعتبار كلامه تملقاً للحاكم العسكري. فأكد أنه لم يقل ما قال إلا لاعتباره وأعضاء الوفد جمال باشا من الأشخاص الخياليين الذين لم يتصوّروا إمكانية وجودهم في الحياة، تقديسهم إياه من أعماق قلوبهم. أما كرد علي، فوصفه بنابغة الدولة وشبّهه بصلاح الدين الأيوبي. وهو تشبيه كرره العبيدي، الذي اعتبر جمال "الإنسان الكامل" الذي "تشرّفت به سوريا وفلسطين وأضاء في سمائهما نورٌ لم تعرفاه من قبل".
وحين زارت البعثة جمعية "الاتحاد والترقي"، أكد الوفد خدمتها الإسلام، وكونها الضامن للخلافة الإسلامية واتحاد المسلمين. ولم يكن هذا بعيداً عن القناعات الحقيقية لبعض أعضاء الوفد، التي أكدوا عليها حتى بعد انهيار العثمانيين.
وفي خضم الانتقادات التي تعرّض لها جمال باشا بسبب إعدام المثقفين دون موافقة إسطنبول، حرص المقرّبون منه على نفي إضرار الإعدامات بولاء العرب للدولة العثمانية. مثلاً، أكد عبد الحميد الأبنوسي لطلعت باشا تمثيل الوفد في إظهاره الولاء للباب العالي جميع أهالي سوريا وفلسطين. وقال حبيب العبيدي في وزارة البحرية إن بعض "الأراذل والخونة" يفرّقون بين العرب والترك، وينتقدون جمال باشا.
بعد جولة على المسؤولين والمتاحف والمعامل في إسطنبول، توجّه الوفد عبر قاربٍ إلى جبهة القتال في مضيق الدردنيل. استقبلهم في مقرّ قيادة الجيش الخامس الجنرال الألماني ليمان فون ساندرز، الذي كان من الضباط الألمان الذين تولوا مناصب قيادية في الجيش العثماني بعد تحالف "الاتحاد والترقي" مع ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى. وأكد علي وحيد مترجم الوفد، في مقالٍ نشره سنة 1916، حفاوة الاستقبال الذي حظي به الوفد، الذي وصل يوم عرفة. وفي أيام العيد، تكررت لقاءات أعضاء الوفد بالضباط الأتراك والعرب. فقدّموا خطاباتٍ دينيةً ودعوا للجنود بالثبات وزاروا خطوط الجبهات وتفقدوا الجنود العرب في مقر الجرحى، وأكدوا وحدة العرب والأتراك في هذه الحرب. ويظهر من هذه الزيارات التي نظمها ساندرز اعتباره زيارة الوفد السوري الفلسطيني فرصةً لرفع معنويات الجنود، وتعزيز القناعات الدينية المساعدة لهم في الحرب.
اختلفت موضوعات كلمات الوفد في هذه الزيارة عن غيرها من زيارات البعثة. فلم تركّز على مديح جمال باشا. مثلاً، ألقى مفتي بيروت الشيخ نجا كلمةً حثّ فيها على الجهاد وعظَّم من شأن الخلافة، في إطار التحفيز الديني للمقاتلين، وإن لم يردْ عنه خلال البعثة كلمة في مدح جمال باشا كغيره. وبحسب مترجم الوفد، تحوّل المبتعثون بعد رؤيتهم إنجازات كمال كأنهم "مجموعة من البلابل وبدؤوا في الغناء"، وأنشدوا القصائد في مدح كمال والعثمانيين. فقال حسين الحبّال في كمال:
لكَ يا سميّ المصطفى
قدْرٌ يعزّ على المثال
وقال عبد الكريم عويضة:
كمالَ العلى والمرءُ بالفعل يُذكرُ
لذكرك طول الدهر يُتلى فيُشكرُ
سيبقي لك التاريخ ذكراً مخلّداً
بأحرف نورٍ بالثناء تسطّر
أما سليم اليعقوبي، فمدح أنور باشا بقوله:
إنْ يكُ البدرُ في السماء منيراً
فوزيرُ الحربية اليومَ أنورْ
وقال الحبال عن ثلاثي الاتحاد والترقي:
بها وزراءٌ فيهم كلّ أنور
يحيلُ الدجى نوراً إذا عمّ مشْكلُ
وكم طلعتٍ فيهم له طلعة بها
يكشّف ليل الشك والليلُ ألْيلُ
وكلّ جمال نورُ لألاء وجهه
من الصبح، بلْ من طلعة البدْر أجملُ
ويروي الملازم محمد فصيح في مذكراته، التي نشرها المؤرخ التركي مراد تشولجو سنة 1997، زيارة الوفد إياهم، وفرحهم بالهدية التي أحضروها. وهي صواني بقلاوة من دمشق وزّعوها على الجنود في غاليبولي، وسجل إعجابه بكلمة المفتي.
بعد الكلمات الافتتاحية، رافق كمال الوفدَ إلى تل مشرف يكشف ساحة المعركة. يصف كرد علي خوف الوفد من طائرات الحلفاء التي حلَّقت فوقهم، ثم القصف المدفعي الكثيف حولهم، وقد تعجب الجنود من شجاعة العلماء وثباتهم أمامه. بينما قال جنودٌ للشيخ عويضة إن هذه الطائرات عثمانية.
احتفاء كمال بالوفد لا يعكس اقتناعه بجدية تمثيلهم العرب في إعلان الولاء للعثمانيين. يقول الملازم جواد عباس، مساعد كمال العسكري، في مذكراته التي نشرها سنة 1941 إن مهمة الوفد كانت فقط أن "يرى السوريون [المجندون في الجيش العثماني] سوريين [مثلهم من أعضاء الوفد]". ويؤكد أن معرفة كمال بسعي السوريين للانفصال عن الإمبراطورية دفعته للتأكيد على ضرورة الوحدة والقوة والإعجاب بقتال العرب والأتراك معاً.
ثمة ما يشير لسخرية كمال من الوفد. إذ لم يكن القصف المدفعي صدفةً أو بسبب معلومةٍ جاسوسيةٍ وصلت الحلفاء، كما ظنّ الوفد. بل أخذهم الملازم جواد عباس قصداً إلى منطقة خطيرةٍ مكشوفةٍ للبحرية البريطانية بإيعازٍ من كمال. وهناك، انتبهت الطائرة البريطانية للتجمّع وبدأت المدفعية قصف المكان. تكلّم عباس باستهزاءٍ عن هلع مشايخ الوفد السوري وأعضائه وركضهم هرباً، وروى ذلك لكمال الذي ضحك كثيراً.
نقلت مذكرات الضباط العثمانيين المحيطين بكمال أنه لم يكن مقتنعاً بأداء "فرقة حلب" أو الجنود العرب في جبهة القتال، ولا بموقفهم الحقيقي من الحرب. فطلب من وزير الحربية إعادتهم واستبدالهم بأتراك "أصليين"، حسب ما نقل لاحقاً رئيس أركان الجيش الثالث المقدم فخر الدين ألتاي، الذي وافق كمال الرأي.
لم يبنِ كمال موقفه على تصوراتٍ عنصريةٍ بالضرورة. بل ثمة ما يفسر ضعف المستوى القتالي للجند العرب. إذ ينقل أكتار عن ضباط الجيش الثالث إحضار هؤلاء الجنود على عجلٍ بلا تدريب كافٍ ولا معرفة باللغة التركية، ما تسبّب بخساراتٍ كبيرةٍ بينهم في الأيام الأولى من الحرب.
ينسجم موقف كمال ومساعده مع نظرتهم الاستعلائية تجاه السوريين. وهو مشابه لموقف والي سوريا خلوصي بك المعارض للزيارة، ومختلف عن موقف جمال ونخبة "الاتحاد والترقي"، الذين أرادوا الاستفادة من الزيارة في نشر الدعاية العثمانية ومواجهة الدعاية القومية العربية وكسب الجماهير الشعبية. وبحسب أكتار "حاول [جمال باشا] تكوين مجموعة من الأعيان المحليين الذين يشعر أنهم جزء من النظام وموالون لفكرة الرابطة العثمانية".
يعلّق المؤرخ التركي سليم درينغل على هذه الحادثة في كتابه "الأفول العثماني في الأراضي العربية" (ذا أوتومان توايلايت إن ذي أراب لاندس) المنشور سنة 2019. فيقول إن شعور التفوّق المهين نفسه يظهر في مذكرات فالح رفقي أطاي، الصحفي المرافق لجمال، والضابطَين في الجيش الرابع علي فؤاد إردن وناجي كيجيمن.
كانت زيارة المجلس العمومي لحزب "الاتحاد والترقي" أهم فعاليات الوفد في أيامه الأخيرة. ألقى أعضاء الوفد كلمات وقصائد أثناء الزيارة اعتبروا فيها الحزب الحامي والمخلص وممثل الاتحاد بين المسلمين وهادم دولة الاستبداد الحميدية نسبةً للسلطان عبد الحميد الثاني. وهي إشارة إلى انقلاب "الاتحاد والترقي" على السلطان سنة 1909. فقال عويضة:
سبيلُ الاتحاد به السلامة
لدولتنا إلى يوم القيامة
به تحيا البلاد وساكنوها
ويلقون السعادة والكرامة
وأكدت كلمات الوفد وقصائده هذه الرابطة العربية التركية مرات كثيرة. مثلاً، قال الريماوي في مأدبةٍ أقامتها البعثة لرجال الدولة، بعد عودتها من الدردنيل:
سعيْتم فقرّبتم بني العرْب منكم
وقلتم همُ الإخوانُ في الضرّ والسرّا
يعدّون هذا الملْك فيهم ومنهم
ولا ينقمون الترك سرّاً ولا جهْرا
قوبل الوفد بحفاوةٍ مماثلة. فمنح أنور باشا كل عضوٍ به ساعة ذهبية. ومنحهم الجنرال ساندرز "قلادة الجهاد" في مضيق الدردنيل. ومُنح أصحاب الصحف مئة ليرة إضافية، وهو ما يقول كرد علي في مذكراته إنه أغضب بعض المشايخ. كما مُنح الأعضاء هدايا سفر أخرى، قبل أن يعودوا إلى بلدانهم بعد رحلةٍ استغرقت خمسين يوماً.
يمثل خطاب الشقيري في السينما خلاصة أفكار البعثة والطرف المؤيد لحكومة "الاتحاد والترقي" وفكرة الرابطة العثمانية. فقد لخّص هدف البعثة في مواجهة "سوء ظن بالسوريين" المنتشر بين الأتراك، واتهامهم بعدم المبالاة بسقوط مقر السلطنة. وهو ما واجهه جمال ببعثة تؤكد الرابطة الدينية الإسلامية التي جمعت العرب والترك للدفاع عن الخلافة.
ارتبط الاستثمار العثماني للبعثة بمواجهة نشاط الحركة العربية أو الدعوات الانفصالية. فطلب والي بيروت من الشيخ عويضة إلقاء محاضراتٍ في الجوامع عن الرحلة، وقال له إنه "محا بمواقفه البيض تلك النقطة السوداء التي تلطخ بها وجه سوريا"، في إشارةٍ للنشطاء العرب الذين أُعدم بعضهم. وروى كرد علي في مذكراته أن جمال باشا طلب منه الذهاب إلى جبل الدروز ليحدثهم عن مشاهداته.
وزادت البعثة إيمان أعضاء الوفد بالعثمانية. كان كرد علي سابقاً ادّعى تفوّق العرب واللغة العربية على الأتراك واللغة التركية في إمكان التطور الحضاري، ودافع عن الاستفادة من الثقافة العربية ضمن الإطار العثماني، وخاصة حين أعاد إطلاق صحيفته المقتبس في دمشق سنة 1909. وبعد الوفد، وبحسب المؤرخ الفلسطيني سليم تماري في دراسته "محمد كرد علي وشبح جمال باشا" المنشورة سنة 2014، اتخذت آراء كرد علي منعطفاً نحو العثمانية الجديدة التوفيقية بين العرب والترك. إذ زادت مشاهدته الإنجازات العسكرية والصناعية العثمانية قناعته بجدوى التقارب بين العرب والأتراك. فأصبح يدافع عن ثنائية اللغة أداة للوحدة العثمانية، وامتدح انضباط الأتراك والتزامهم بالنظام أكثر من العرب، وادعى حب عامة الناس في الأناضول العرب، ورؤيتهم مصدر بركة دينية.
رفض أعضاء الوفد اعتبار مشاركتهم فيه تأييداً لإعدام النشطاء العرب، مع إدانتهم موقف هؤلاء النشطاء. مثلاً، كرر كرد علي في مذكراته التأكيد على رفضه هذه الأحكام، وحكى توسّله لجمال باشا في محاضرة سينما دمشق للعفو عن هؤلاء "المجرمين السياسيين". وامتدح الجهد الذي بذله الشيخ الشقيري في طلب العفو عنهم في جلسة جمعته مع جمال والأمير فيصل بن الحسين في القابون، انحنى فيها الشقيري أمام جمال باشا وقبّل ركبته متوسلاً أن يكتفي بنفيهم ولا يعدمهم. ولكن جمال باشا غضب، وأمره بعدم التدخل فيما لا يعنيه. ونسب كرد علي لنفسه، وللطبيب والزعيم السياسي الدمشقي عبد الرحمن شهبندر، الفضل في التوسط للسياسي اللبناني رياض الصلح وابنه. فاكتفى جمال باشا بنفيهما إلى الأناضول بدل إعدامهما، وأصبح الصلح لاحقاً أول رئيس وزراءٍ لبناني بعد استقلال لبنان.
ومع هذا الرفض، يصرّ كثير من كُتّاب الحركة العربية ومؤرخيها أن الوفد لم يقصد إلا تأييد هذه الإعدامات. مثلاً، وفي مذكراته المنشورة سنة 1984، يعتبر الكاتب المفكر والسياسي الفلسطيني محمد عزت دروزة أن الرحلة هدفت لتأييد جمال باشا وتبرير إعدام رجال الحركة العربية. وأنها أثمرت تشجيع جمال باشا على مطاردة الحركة، وشنق الدفعة الثانية من قياداتها في 6 مايو 1916. ويدين دروزة الشقيري ويتهمه أنه شجب الحركة العربية وبقي على موقفه حتى سقوط العثمانيين. ولكنه يتجنب التعميم على جميع أعضاء الوفد. إذ يرى بعضهم، مثل كرد علي، متملقاً لجمال باشا. ويعذر البعض، الذين لم يكن بإمكانهم التنصل من الذهاب.
لا يمكن فهم مواقف أعضاء الوفد في إطار هذه الثنائية البسيطة. فكرد علي مثلاً انتقد الإعدامات، لكنه كان مؤيداً للرابطة العثمانية، ولم يتراجع عن هذا التأييد. وحتى بعد سقوط الدولة العثمانية، امتدح في مذكراته التي كتبها بعد ذلك بثلاثة عقود بعض القادة العثمانيين، مثل خلوصي الذي اعتبره "رجلاً عظيماً محباً لبلاد الشام وأهلها". وأصرّ في المذكرات نفسها أن بعض المحكومين استحق الإعدام. وقال إن الشيخ عبد الحميد الزهراوي حاول الوشاية به وكان "جاهلاً يدّعي العلم ولا يقرأ الكتب"، وإن عبد الكريم الخليل كان عميلاً مزدوجاً للعرب والأتراك.
وقد تأثر موقف كرد علي بخوفه من جمال باشا. إذ شكر في مذكراته لخلوصي نصيحته له أن يمدح جمال باشا في جريدته حتى لا يقتله. وكان هذا الخوف سبب تأليفه كتاب "البعثة العلمية" ونشره المقالات التي توافق سياسة جمال باشا. المفارقة أن خلوصي، الذي نصح كرد علي، كان يشكك بولائه للعثمانيين ويراه من المتملقين لجمال. وكان أيضاً يرى الشقيري "تجسيداً للشيطان بصورة إنسان"، وفق ما نقل المؤرخ التركي أيهان أكتار.
عاش كرد علي هواجس مؤرقة من أن يكون مع رفاقه الذين أعدمهم جمال، ومنهم شريكه في صحيفة المقتبس شكري العسلي. وظلّ يشكو من الجواسيس الذين وضعهم جمال باشا حوله، والقناصل ومسؤولي الدولة الذين يحاولون استدراجه للحديث عن جمال باشا. وقد وصف خير الدين الزركلي هذا الهاجس في الطبعة الثالثة من كتابه "الأعلام" المنشورة سنة 1969. فقال عن كرد علي إنه "ظل يخشى شبح جمال باشا حتى بعد الحرب، وفي مذكراته ما يدلّ على بقاء أثرٍ من هذا في نفسه إلى آخر أيامه".
ومع أن كرد علي تراجع عن بعض مواقفه وكتاباته النظرية وبرّرها بالخوف من القتل، مثل مدحه جمال وأنور، فإن موقفه العملي تبدّل بسبب تعاونه مع الحكم الفيصلي ثم الانتداب الفرنسي، مع أن ولاءه السابق للعثمانيين بقي وصمة تلاحقه. أما عضو الوفد تاج الدين الحسني، فقد أصبح رئيس أربع حكومات سورية تحت حكم الانتداب الفرنسي، وتعاون الشقيري مع الانتداب البريطاني في فلسطين.
يقدم الريماوي نموذجاً أجلى لتبدل المواقف. إذ نشر القصائد في مديح العثمانيين أثناء مشاركته في الوفد وبعده، ودافع عن استعمال اللغة التركية في المدارس العربية. ثم مع تغيّر موقفه مع التراجع العثماني ودخول الجيش البريطاني القدس في ديسمبر 1918، نشر في الذكرى الأولى قصيدة تحتفل بهذا "التحرير" الذي أحلّ العدل مكان الظلم، والفجر مكان الظلام، قال فيها عن "بريطانيا العظمى":
عهدناك للمظلوم أعظمَ ناصرٍ
فمن أجل هذا جاءكِ الفوزُ والنصرُ
عهدناك للإسلام أكرمَ دولةٍ
عهدناكِ والعمرانُ دينكِ والبرُّ
لم يكن هذا حال الشيخ اليعقوبي الذي دعم الحملة ضد القوميين العرب وأصدر فتوى ضد الشريف حسين، ولكنه حافظ على ولائه للعثمانيين حتى بعد سقوط سوريا بيد الحلفاء فنفاه البريطانيون إلى مصر. وكذلك الشيخ العبيدي الذي تعاطف مع القوميين العرب واستضاف اجتماعهم في بيته سنة 1913، لكنه أصر على أولوية الولاء للرابطة العثمانية. وقال في كتابه "حبل الاعتصام" المنشور سنة 1916 إن "دولة الخلافة الإسلامية إذا زالت بزوال الدولة العثمانية، فليس بالإمكان قيام أخرى مكانها". وحذّر من البريطانيين، فسجنوه ونفوه إلى العراق.
أما الشيخ نجا، فلم ينخرط في هذا الخلاف كله. إذ اقتصرت مساهمته في البعثة على خطبته التي حثَّ فيها على الجهاد، ورفض التوقيع على قرارات الإعدام، بحسب دار الفتوى اللبنانية. واستمرّ على طريقته نفسها في حماية المجال الديني السنّي، والتعامل الحذر مع السلطات في هذا الإطار بعد الانتداب الفرنسي.
ويعبّر الجدل عن البعثة، واختلاف مصائرها ورواياتها بعد عقود من رحلتها، عن الخلافات داخل المجتمع العربي وداخل الحركة العربية نفسها في الموقف من العثمانيين ومن الاتحاد والترقي. وتنقض هذه الرواية القوميةَ الرسميةَ، العربية والتركية معاً، التي تصوِّر تلك الحقبة خلافاً ثنائياً وحيداً بين العرب والترك.
المفارقة أن جمال باشا نفسه لم يكتب عن البعثة في مذكراته. ولعلّ السبب خيبة أمله في المثقفين الذين اعتمد عليهم، وخجله من فشل محاولته إقناع السوريين والأتراك بمشروعه في سوريا، المشروع الذي انتهى بثورة العرب عليه ولوم الأتراك سياسته.
