يشيع في كثيرٍ من الكتابات المعاصرة الاهتمام ببعد الشعائر الدينية الحضاري والمعرفي. يظهر هذا في الكتابات ذات التوجه المقاصدي، مثل كتاب "الذريعة إلى مقاصد الشريعة" لأحمد الريسوني المنشور سنة 2016، وكتاب "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" لجمال الدين عطية المنشور سنة 2001. تهتم هذه الكتابات باستكشاف الأثر المجتمعي والحضاري الشامل شعائرَ مثل الزكاة. وتقرأ الشعيرة ضمن منظومة المقاصد العليا للقرآن. وتهتم في تناولها فعل التديّن الفردي التعبدي بتكريس "عقلٍ مقاصديٍّ" يعيد بناء الشعيرة فعلاً اجتماعياً وحضارياً.
في المقابل، تحاول بعض الدراسات العلمية المعاصرة في فهم الشعائر استلهامَ المنهجيات الحديثة في قراءة النصوص ودراسة الدين لفهم الشعائر من داخلها، ووفق تجلّيها التاريخي والنصّي. وهو ما نجده في أطروحاتٍ مثل أطروحة الحاج سالم في كتابه "من المَيْسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية" المنشور سنة 2014، أو قراءة أنجيليكا نويفرت سورةَ البلد في دراستها "قراءة القرآن في الفضاء المعرفي للعصور القديمة المتأخرة" المترجمة للعربية سنة 2021. هذه الدراسات تحاول فهم الإنفاق الإسلامي، ومن ضمنه الزكاة، بفهم سياق ظهوره التاريخي والنصّي للوقوف على العلاقة بين الإنفاق الإسلامي وبين التوحيد المراد تكريسه داخل وسطٍ جاهليٍ له رؤيته الخاصة عن العالم والإنسان.
وعلى شيوع التحليلات المقاصدية وأهميتها في فهم أبعاد الزكاة الاجتماعية والحضارية، إلّا أن الأطروحات المنطلقة من تحليل الشعيرة ذاتها ضمن سياقات ظهورها التي تقارنها بالأنماط النصّية والشعائرية في الوسط الجاهلي والكتابي، تُبرز دوراً أكبر للإنفاق والزكاة داخل الإسلام. يتمثّل هذا الدور في مقاومة الدهرية وعرض تصوّرٍ جديدٍ عن الإنسان وعن علاقته بالآخرين وبالطبيعة وبالزمن.
تحاول الكتابات المعاصرة تطوير مقاصد الشريعة العليا المُستقَرّ عليها في التراث الإسلامي وتفعيلها. استقر التراث الإسلامي منذ الفقيه من القرن الخامس الهجري أبي حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري على وجود خمسة مقاصد أساس للشريعة، هي حفظ العقل والنفس والدين والمال والعِرض. أما الكتابات المعاصرة فلا تنظر للمقاصد أداةً جزئيةً ضمن الأدوات الفقهية، بل تضعها أساساً قرآنياً كلّياً للعمل الفقهي والتفسيري للقرآن وللشرائع. وتوسِّع المقاصد لتشمل الوجود البشري بكلّ مناحيه، وتفصِّلها وفق المساحات الخاصة والجزئية التي يتحرك الإنسان المعاصر داخلها. أدَّى هذا التوجه لتطور تصورات المقاصد. فتحدّث الأصولي العراقي طه العلواني عن مقصدَي التزكية والعمران في كتابه "نحو إعادة بناء علوم الأمّة" المنشور سنة 2009. وتناول جمال الدين عطية، رئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر سابقاً مجالاتِ المقاصد الأربعةَ التفصيليةَ، وهي الفرد والأسرة والأمّة والإنسانية. تحاول هذه الكتابات تفعيل المقاصد اجتماعياً وشخصياً، أيْ تحويلها آليّةً شخصيةً يعملها المتديّن في تعامله اليومي مع العبادات والشرائع، جزءاً من العقل المقاصدي، مثلما يدعو جمال الدين عطيّة في مقالته "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" المنشورة سنة 2002.
تُربط الزكاة في هذه الكتابات المقاصدية بمقصد تحقيق التضامن الاجتماعي. وعلى وجود هذا المقصد نفسه في الكتب التراثية وفي بعض الكتب المعاصرة عن الزكاة، إلا أن الكتابات المقاصدية المعاصرة تبرز هذا الجانب وتُولِيه الاهتمام الأكبر وتضعه في قلب تفسيرها تشريعَ الزكاة. تشير الكتابات التراثية بعد التركيز على جانب الزكاة التعبدي والتطهيري الروحي إلى مقصد "المواساة"، أي مواساة الغنيِّ الفقيرَ، والاهتمام بالفقير جزءاً من مقصد حفظ النفس العامّ. يظهر هذا في كتاباتٍ مثل "المغني" الذي ألّفه موفّق الدين ابن قدامة في القرن السادس الهجري، و"إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين" الذي ألَّفه ابن قيّم الجوزية في القرن الثامن الهجري، و"الموافقات" الذي ألَّفه إبراهيم بن موسى الشاطبي في القرن نفسه.
في مقالته "أهمية المال وفضله في الإسلام" المنشورة سنة 2019، يتفاعل الفقيه المغربي أحمد الريسوني مع هذه التفسيرات. إذ يعدّ الزكاة العبادةَ المالية الكبرى التي تقاوم الشُحّ والتباهي عبر تطهير المال وتطهير نفس صاحبه. يُظهر الاهتمام بالجانب الاجتماعي في تفسير الريسوني بُعْدَ الزكاة التطهيري. فبالإضافة لتفسير تطهير المال بالتكفير عمّا قد يخالط تحصيله من تجاوزٍ، يُفسِّر تطهير المال نفسه تفسيراً اقتصادياً، إذ تقاوم الزكاة اكتنازَ المال أو إهداره. يقابل الريسوني صورتين من الادخار: "العقيم غير المنتج" الذي يجمِّد المال ويعطِّله عن وظائفه التنموية فيضيع، و"الرشيد" الذي لا ينفكّ يستثمر المال وينمّيه. يبرِز الريسوني أن الأول العقيم هو خروجٌ بالمال عن مقصد حفظه، وأما الثاني فهو قرين الاستثمار وحليفه، إذ يدفع المجتمع اقتصادياً واجتماعياً.
تتقارب رؤية الريسوني من رؤية انجوغو امباكي صمب، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. في مقالته "مقاصد الزكاة وفوائدها" المنشورة سنة 2023، يؤكد صمب على أهمية الزكاة فعلاً اجتماعياً ويُبرِز دورها في إغناء الفقراء والمساكين وكونها مورداً ضخماً ومتنوعاً ذا أثرٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ كبيرٍ وأنها موردٌ حصريٌ داخل الإسلام. ويوضح أن مصرف "العاملين عليها"، أيْ على الزكاة، لا يقتصر على مجموعة أشخاصٍ بل يشمل مؤسسةً كاملةً ومعقدةً من الموظفين، من محامين وإداريين واستشاريين وكتّابٍ، ما يجعل الزكاة مصدراً لفرص العمل. ويوضح دور الزكاة في دفع الاقتصاد، إذ تحفِّز زكاةُ الزروع والذهب والفِضّة العاملين في هذه المجالات لزيادة إنتاجهم.
كذلك يركِّز الرئيس الأسبق للمعهد العالمي للفكر الإسلامي عبد الحميد أبو سليمان على البعد الاجتماعي والاقتصادي في الزكاة والإنفاق، إذ يربطها بعدالة توزيع مصادر الإنتاج. فيرى في دراسته "نظرية علم الاقتصاد الإسلامي" المنشورة سنة 1998 أن اختلاف الناس في قدرتهم على الاستفادة من أدوات الإنتاج المملوكة ملكيّةً عامةً للجميع يؤدّي لمراكمة القادرين ثرواتٍ إنتاجيةً كبيرةً، ما يقتضي إعادة توزيع نتاجات الثروة على من لم يستطع استغلال أدوات الإنتاج بسبب ضعفه أو فقره. بهذا يفسر أبو سليمان معنى "الحق المعلوم" للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، فهو حقٌّ بسبب مُلك الأدوات ملكيةً مشتركةً أصليّةً. وبتوزيع الإنتاج بين غير القادرين يتحقق التضامن والتكافل الاجتماعي مقصداً مركزياً للزكاة.
وعلى أهمية هذه الرؤى في الكشف عن أبعاد الزكاة المقاصدية الاجتماعية، إلّا أن التركيز على البعد الاجتماعي واعتباره مدار فعل الشعيرة المقاصدي التفسيري يؤدِّي إلى عدّة مشكلات. أولها تجاهل دراسة الشعيرة في ذاتها، سواءً في تجلّيها الإناسي أو التاريخي أو النصّي، إذ تعاد إلى بنيةٍ مقاصديةٍ اجتماعيةٍ عامّةٍ جاهزةٍ سلفاً. وثانيها قصر التحليل على النصّ من حيث هو كذلك، دون النظر في تجلّيه الشعائري، أيْ كيفية ممارسته والشعائر تاريخياً على المستوى الجسدي والرمزي الفردي والاجتماعي. ينتج عن هذا تجاهلُ طريقةِ تجليةِ الشعائرِ والنصوصِ أبعادَ الدينِ العقديةَ. وثالثها الانشغال بالأنظمة الاقتصادية الحديثة، وتجاهل دراسة شعائر الإسلام مقارنةً مع شعائر الأديان الأخرى المعاصرة ظهورَه، والتي تلقي ضوءاً على مقاصده العقدية والفلسفية من تشريعاته، وتبرز عِلّة عدم اكتفائه بالممارسات القائمة. ورابعها تغليب الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية للظواهر الدينية على غيرها من الأبعاد، على نحوٍ يفتّت تركيبية الظاهرة الدينية القائمة على تداخل الرمزي بالاجتماعي بالتاريخي. وتجاهل هذا الشكل المركَّب متداخل الأبعاد يضعف التفسير الاجتماعي نفسه. إذ لا تخلو ظاهرةٌ اجتماعيةٌ كبيرةٌ ومؤثرةٌ مثل الزكاة من أبعادٍ رمزيةٍ ودينيةٍ تتجاوز محض الطاعة والامتثال. هذه المشكلات هي ما تحاول بعض الدراسات العملية المعاصرة تجاوزه بربط الشعيرة طقساً ونصاً بجدل الإسلام مع العقائد والطقوس الجاهلية والكتابية وأبعادها الاجتماعية.
يقوم المعتقد الجاهلي وفق الحاج سالم على "عقيدة هينوثية" أو "الوحدانية المشوبة"، وهي عقيدةٌ تؤمن بتعدُّد الآلهة مع وجود إلهٍ أعلى. وفي قلب هذه المنظومة العقدية تأتي عبادة الطبيعة طقساً مركزياً. تتمثَّل عبادة الطبيعة في عبادة ثالوثٍ نجميٍ أساس: الشمس والقمر والزهرة. وتقوم العبادة على أساس التشاكل أو المحاكاة، وفق منظومة "التماثل الرمزي" بين السماء والأرض. إذ تُقابِل الموضوعات السماوية موضوعاتٍ أرضيةً مثيلة: فالنُوق في الأرض يقابلها في السماء نوقٌ سماويةٌ، ويقابل دم النوق ولبنها ماء السماء. يحاكي المتعبِّدُ الجاهلي حركةَ الطبيعة السماوية أرضياً استحثاثاً لها على الخصب والمطر.
يتبوّأ طقس الميسر مكانةً مركزيةً في هذا السياق. فهو ليس محض عملية رهانٍ كما صوَّرته بعض الكتابات الفقهية، بل هو وفقاً لسالم طقسٌ مركَّبٌ يمثِّل "بنيةً اجتماعيةً تركيبيةً كلّية". تشمل هذه البنية مجموعةً من النشاطات الدينية والاجتماعية في أزمنةٍ وأمكنةٍ محددةٍ تُدار بِدقّة عبر مدير طقسٍ، وترتبط بكيفية إدارة المجتمع الجاهلي الجنسَ والحربَ والاقتصاد. يجمع طقس الميسر بين عددٍ من الفعاليات المتتابعة: اجتماع المتساهمين، واختيار الأسهم المعلَّمة أو القِداح، وضرب الأزلام، ثم نحر النُوق في جوٍّ خمريّ. ويتضمن الطقس سبعة لاعبين أساس، بالإضافة للحُرضَة المسؤول عن تلقّي القداح وتحريكها في الربابة أو الكنانة ليسحبها المتنافسون، والرقيب وهو الكاهن الديني المسؤول عن إدارة الطقس ومراقبته. هذا إلى جانب بعض الطقوس المرتبطة والمصاحبة للميسر في نفس زمنه المقدّس أيْ في رجب، مثل تقنُّع العذارى، أيْ تسويد وجوههن بالسخام.
يتقدَّم الطقس عبر عملية المساهمة، ثم ينحر اللاعبون النوق. تمثِّل كل خطوات هذا الطقس أبعاداً رمزيةً تستحث الطبيعة على الإمطار. إذ تمثِّل عملية إدخال القداح في الربابة وتحريكها محاكاةً للعلاقة الجنسية. كذلك يمثِّل نحر النوق وإفاضة دمائها محاكاةً للسماء حين تنزل المطر. يتلاقى هذا مع طقس تسويد وجوه العذارى واستلقائهن على الأرض استعداداً لعملية التخصيب التي تتولّاها السماء.
تبرز هذه البنية الطقسية دهريّة التصور الجاهلي. إذ يُرتهَن الإنسان للطبيعة وتحولات الدهر. وتنقل هذا التصور من الطقس للحياة اليومية. يصبح المتعبِّد الجاهلي محاكياً لطبيعةٍ أُنْسِنَت وأُضفيَ البعد الجنسي على معظم أفعالها. وترتبط كل هذه الطقوس بمواعيد طبيعيةٍ ثابتةٍ تُتحرّى من أجل استجداء الطبيعة لإغاثة الإنسان. فالاستمطار يتزامن مع نزول القمر في فلك الثريا، باعتبار هذا النزول ذاته يعبر عن اقترانٍ جنسيٍ كونيٍّ بين الشمس والقمر أنتج الثريا التي تمثل مبدأ الخصب. ومثلما يخبرنا فريد الزاهي في كتابه "الجسد والصورة في الإسلام" المنشور سنة 1999، فإن الجسد الإنساني اليومي نتاجٌ ثقافيٌ معقدٌ، للطقوس الدينية دورٌ رئيسٌ في تشكيله. إذ تنقل التصورات العقدية والطقسية النظرية لتجعلها "طبيعة ثانية" للجسد يتحرك بها داخل اليومي. بذلك يصير الجسد الجاهلي اليومي جراء عباداته جسداً مرتهناً للطبيعة، ما يعني ارتهان تصور الإنسان في أفعاله لدائرية الزمن وأبدية الطبيعة وعابرية الإنسان.
يرتبط طقس الميسر بتداول المال. إذ يمثل طقسَ تبادل هباتٍ جاهلياً متعلِّقاً بالبنية الاقتصادية السياسية الجاهلية. وفق الحاج سالم فإن الاجتماع السياسي الجاهلي يقوم على اللقاحية، وعليه يقاوم كلّ محاولةٍ لمركزة الثروة على نحوٍ يؤدِّي لتمركز الزعامة في بؤرةٍ واحدةٍ تقضي على توازن اللقاحية. لذا يلجأ المجتمع لتفتيت الثروة. ويصبح هذا الإهدار النمط الأساس لتبادل الثروة والهبات في أزمنة السلم. يمثِّل طقس الميسر التجمع السنوي السِلمي لتبادل الهبات هذا. إذ يتنافس المتسابقون في إهدار الأموال ونحر النوق بما يحافظ على التبادل بين الزعامات والتوازن بينها. لا يحصل المتسابِق جراء عملية الإهدار السنوي إلا على "رأسمال رمزي" مقابل الرأسمال الحقيقي المهدَر، يتمثَّل في الفخر والمروءة الجاهلية.
تقضي الزكاة الإسلامية على ارتهان الإنسان لدهريّة الطبيعة، وتؤسِّس طريقةً مختلفةً في تنظيم المال وتداوله. فهي بداية التوحيد بمعناه الرمزي والاجتماعي السياسي. يرتبط الأمر الإسلامي بالإنفاق بإيمان الإنسان بالآخرة عالماً يتجاوز الزمن الدنيوي المنتهي، وبوجود قيمٍ أعلى تتجاوز الفرد والقبيلة. فالزكاة تكسر دائرية الزمن وأبديّته المتوهَّمة، وتستبدل به زمناً خطّياً ممتدّاً ينتهي بالقيامة. وكذلك تفتّت الزكاة بنية الميسر الجاهلي الطقسية بسبب رفض الإسلام عبادة الطبيعة وإدانته الاستقسام بالأنواء، واختراقه الزمن الجاهلي المقدِّس لعبادات الميسر. إذ اتجه النبيّ لغزوة تبوك في رجب، أي الزمن المقدس للميسر، ما قطع على الجميع الطريق نحو الاشتراك فيه. وبالتزامن مع هذه الغزوة بدأ تشريع مصارف الزكاة والجزية بنزول سورة التوبة، مما يعني تحولاً في عملية صرف الأموال بتوجيهها نحو زعامةٍ روحيةٍ وسياسيةٍ مركزيةٍ بدلاً عن إهدارها فخراً.
وكونُ الزكاة طقساً بديلاً للميسر لا ينفي الصلة بينهما. وفقاً لسالم، يستعيد مبدأ الإنفاق الإسلامي بعض سمات الميسر. فالزكاة مثل الميسر من حيث هو طقسٌ حوليٌ مرتبطٌ بإدارة المال الاجتماعي السياسي. وانتظار العقوبة الإلهية جرّاء الامتناع عن الإنفاق قائمٌ في الميسر والزكاة. وبعض الأحاديث تربط منع الزكاة بمنع المطر، ما يتشابه مع منع المطر نتيجة الامتناع عن الميسر الجاهلي. والمبدأُ التطهيريُ في إخراج المال والمرتبطُ بتسميته قائمٌ ضمن الإنفاق الجاهلي على الفقراء.
يخالف الحاج سالم النظريات التي تربط نشأة الشعائر الإسلامية ومنها الزكاة بالديانات الكتابية المسيحية واليهودية. إذ لا تلتفت هذه النظريات لبنية الطقوس الجاهلية، ومن ثمّ لا ترى الصلة المعقدة لشعائر الإسلام بها. لا ينفي سالم التواصل الإسلامي مع التراث الكتابي ضمن شعائره، لكنه يؤكِّد أن التواصل مع التراث العربي أقوى. تقوم حجج سالم في فهم العلاقة بين الإنفاق الجاهلي والإسلامي والكتابي على تحليل الطقوس إناسيّاً، وهو تحليلٌ على أهميته وعمقه ناقصٌ. إذ يكشف التحليل النصّي للقرآن وللقصيدة الجاهلية وللنصوص الكتابية روابط وعلاقاتٍ أكثر تعقيداً.
تعتبر نويفرت في دراستها "القرآن في الفضاء المعرفي للعصور القديمة المتأخرة" المترجمة للعربية سنة 2021، أن القرآن يشتبك نصياً مع بنية الشعر الجاهلي ومضمونه، ويفكك هذه البنية وفق رؤيةٍ توحيدية. على غرار الحاج سالم، ترى نويفرت أن الشعر الجاهلي هو النصّ المركزي الذي يعبِّر عن الرؤية الجاهلية للعالم والإنسان، ومنه يُبرز الشاعر القيم المركزية التي يمجّدها المجتمع ويسعى إليها. فالشعر هو التعبير النظري عن الفلسفة الجاهلية المجسَّدة في الدين. تدور الفلسفة الجاهلية حول الزمن والطبيعة وأبديّتهما، وحول الفخر والمروءة والبكاء على الأطلال، جواباً وجودياً تجاه ما تثيره الأبدية من أسئلةٍ في مقابل فناء الإنسان.
يظهر هذا في مضمون القصيدة وفي بنيتها. فهي تمثِّل رحلةً في العالم تبدأ بوصف الأطلال، أي أماكن ماضي البطل وذكرياته، ثم التغزّل في محبوبةٍ راحلةٍ، ثم محاولات مقاومة سطوة الدهر. الزمن الجاهلي مثلما تحكيه القصيدة زمنٌ دائريٌ بطله القدر الغاشم، الذي يشبه الوحش الملحمي في الأساطير. يخضع كلّ شيءٍ للزوال، ويقف الإنسان عاجزاً عن فهم واقعه، ويُبرِز شعرُه الحيرةَ في تفسير مآل المغادرين وفهم معنى الماضي. في كتابها "كيف سحر القرآن العالم" المترجم للعربية سنة 2022، توضح نويفرت أن قيم المروءة الجاهلية القائمة على الفخر والمبالغة في كرم الضيافة تأتي محاولةً من الإنسان لمقاومة هذا الفناء الكلّي الحتمي، عبر الفخر اللحظي والدينوي، وبناء رأسمالٍ رمزيٍ يؤكِّد حضور الإنسان في الدنيا. يذكّر هذا بقول طرفة بن العبد من القرن السادس الميلادي في معلّقته:
فِإِنْ كُنْتَ لَا تَسْطِيعُ دَفْعَ مَنِيَّتِي … فَدَعْنِي أُبَادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي
وفق نويفرت، يفكّك القرآن هذه القيم. إذ يستدعي المكّي منه بنية القصيدة الجاهلية الثلاثية في بنية سوره، ويُقدِّم رؤيةً أخرى للعالم، مما يعني تفكيكاً داخلياً للتصورات الجاهلية بالتشابك مع نصّها المرجعي.
تقدِّم سورة البلد صورةً للعلاقة بين الإنسان والمدينة أو الجسم السياسي. وترسم صورةً لمسارات الإنفاق متعلقةً بالآخرة، ما يؤدِّي لتجاوز الرؤية الجاهلية عن الزمن الدائري وارتهان الإنسان للدهر. ترسم سورة البلد تصوراً عن الإنسان كائناً منفتحاً على الطبيعة والآخرين من منفذين أساس: العينين والشفتين. تبرز السورة هذين المنفذين نعماً إلهيةً تستدعي الشكر عبر هذا الانفتاح. وتماثِل السورة بين البلد وبين الجسم البشري عبر استعارة فكرة النجدين أو الطريقين، مسارين داخل الجسم السياسي مماثلين للعينين والشفتين في جسم الإنسان. وعبر استدعاء فكرة الطريقين، تقابل السورة بين صورتين للإنسان: أوّلهما جاهليٌ يفخر بإهلاك المال، حكت الآية قوله " أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا"، وهو يشبه قول عنترة في معلّقته "فَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ مَالِي [. . .]". وثانيهما توحيديٌّ يدفع الأموال للفئات الفقيرة، ولتفكيك بنية المجتمع الجاهلي الاقتصادية السياسية. وهي مساراتٌ تعبّر عنها الآيات: "فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ.".
ترسم السورة البلد مكاناً آمناً للإنسان، ضمن الصحراء والأطلال البالية التي تصوِّرها القصيدة الجاهلية فضاءاتٍ قاسية. يتجاوب هذا مع رسم الطبيعة في كثيرٍ من السور المكيّة، مثل سور الرحمن ويس والحجر. إذ لا ترسمها مكاناً معادياً عبثياً، بل نعمةً إلهيةً آمنةً للإنسان تشبه الفردوس. يتجاوب هذا كذلك مع تفسيرِ القرآنِ المكِّيِّ الأطلالَ، وتبديد الحيرة الوجودية تجاهها وتجاه لغز الماضي. إذ يدين القرآن ربطَها الشعريَّ بالدهر، ويعرضها في قصصه حكايةً عن الأقوام السابقة. تكشف الأطلال داخل القرآن عن نمط عيش الأمم السالفة وتعاملهم مع النعم الإلهية في الجسد والطبيعة، وتعاملهم مع الأنبياء المرسلين تتراً لهدايتهم. وتأتي القيامة أفقاً مستقبلياً لتفسِّر مآل السالفين.
يتلاقى رسم سورة البلد مسارات الإنفاق مع رسمها الكتابي، ما يبرز اتجاهاً أخروياً صارماً يعارض الدهرية الجاهلية المجسَّدة في القصيدة. فالقرآن يستهجن المفاخرة الجاهلية بإهلاك المال، بالقول "أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ" ليبرز جهل المتحدث بالآخرة حساباً على فعله. تبرز نويفرت العلاقات النصّية بين نصّ سورة البلد ونصّ سفر إشعياء "أليس هذا صوماً أختاره، حلّ قيود الشر، فكّ عقد النير، وإطلاق المسحوقين أحراراً، وقطع كل نير، أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المسكين التائهين إلى بيتك". وكذلك العلاقات بين هذا النصّ والاهتمام العامّ بالحثّ على الإنفاق في النصوص الإنجيلية، ثم في النصوص الوعظية المسيحية السريانية. يستعيد القرآن بهذا الصورة التوحيدية التي لا يرتبط فيها الإنفاق بانتظار أيّ رأسمالٍ رمزيٍ، بل بالبعد الأخروي وبطرق الميمنة والمشئمة في القيامة، أو اليسار واليمين وفق الإنجيل. ليكرِّس بدلاً عن الصور المثالية الجاهلية صوراً توحيديةً تتواصل مع التراث الكتابي، لكنها تصحّحه وفق منظورها. إذ تخلّصه من الارتباط بالمسيح كلمةً خالقةً وديَّاناً، لتربطه بالانسجام الكوني وانسجام خِلقة الإنسان أساساً للفعل الإلهي وموجهاً للفعل البشري الفردي والجماعي.
تحضر مقاومة إهدار المال كذلك في وصايا سورة الإسراء، في الآيات من الثانية والعشرين إلى التاسعة والثلاثين. ترصد نويفرت في كتابها "كيف سحر القرآن العالم" ما تراه مماثلةً بين هذا النص من حيث تكوينه وارتباطه بالإسراء أو الخروج، ونصّ الوصايا العشر الموسوية في سفري الخروج والتثنية. يوصي القرآن هنا برفض التبذير أو بسط اليد كلّ البسط والمرتبط بالإهدار الجاهلي المستتبِع الفخرَ، لذا يعدّ القرآنُ التبذيرَ فعلاً شيطانياً. وتذكِّر صورة الملوم المحسور في آية "وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا" بصورة الشاعر الجاهلي الذي يلومه قومه على إنفاقه، ويجيب عنهم بدهرية الزمن وزوال الدنيا إلى غير حكمةٍ، مفتخراً بقدرته على إهلاك المال لبداً. في المقابل يرتبط ميزان الاعتدال القرآني في الإنفاق كما يظهر في البلد والإسراء بالحكمة الإلهية من الخلق والتوزيع ومنح الإنسان النعم، بدايةً من نعم جسده إلى ما تملك يداه، ليصبح الإنفاق الإنساني جزءاً من منظومةٍ عقديةٍ أشمل عن إلهٍ حكيمٍ وعادلٍ وكونٍ آمنٍ وآخرةٍ مرتجاة.
على أهمية تعميق ربط الإنفاق نظرياً بتجاوز الرؤية الفلسفية الجاهلية عن الدهر، يبرز منهج نويفرت قصوراً في الإحاطة بالإنفاق الإسلامي. يرجع هذا لاقتصار منهجها على القراءة النصّية للقرآن والمدونات المعاصرة له، وتجاهل دراسة الشعائر في انتظامها أو تقنينها، وهو الجانب الكفيل بفهم صلات الشعيرة بالشعائر السابقة جاهلياً وكتابياً، في تجسدها الفعلي وارتباطاتها الاجتماعية والسياسية واليومية.
لذا تظلّ الشعائر شاغلاً رئيساً للدارسين، وتتنوع المقاربات لدراستها، لفهمها أو لتفعيلها في واقع المتديّن. وبينما تستطيع بعض هذه المقاربات تجلية جوانب من الشعائر قد لا تظهر في الوهلة الأولى، فإنها بحكم محدودية مناهجها تقصر أحياناً عن إدراك جوانب أخرى. ما يجعل من الضروري الربط بين هذه المقاربات والرؤى، لتكوين فهمٍ أشمل للشعيرة بمختلف جوانبها الاجتماعية والرمزية المتشابكة.

