انعكست هذه الانشقاقات في الدراما التركية التي جذبت جمهوراً واسعاً داخل تركيا وخارجها. ويُعد مسلسل "كبرى" التركي مثالاً على حالة التنافس على تمثيل الإسلام في تركيا. فهو يتناول قصة شاب يعيش في حي عشوائي يُعلن أنه المُخَلّص أو المهدي القادم لإنقاذ الأتراك المسلمين، وهي فكرة درامية تحمل بعضاً من الواقع برسمها صورةً رمزيةً عن الصراع على الإسلام في مدينة إسطنبول خصوصاً وتركيا عموماً.
يرسم المسلسل صورةً رمزيةً مكثفةً عن وضع إسطنبول وأهلها، ويُقدم رؤية عن صورة الإسلام والجدال الدائر حوله بين السلطة وباقي القوى الإسلامية في واقع تركيا عموماً. يحدد المسلسل هذا الواقع بثلاثة اتجاهات: الأول يتمثل في ولادة "إسلام العشوائيات" في مدينة إسطنبول في مقابل "إسلام الضواحي الجديدة". يظهر الاتجاه الثاني في محاولة حزب العدالة والتنمية الحاكم صنع نسخته من الإسلام الرسمي، عبر دعم مؤسسات دينية ذات طابع حكومي على حساب حركات الإسلام الاجتماعي. أما الاتجاه الثالث فيظهر في محاولة تقديس الرئيس رجب طيب أردوغان، وتحويله من شخصية سياسية إلى شخصية مقدسة.
تدور قصة مسلسل كبرى الذي بثته منصة نتفليكس في 2024 عن شاب تركي اسمه "غوكان"، أي السماء بالتركية، يعلن أنه المخلّص أو المهدي في حي عشوائي فقير في إسطنبول. يدّعي غوكان أن هذا التكليف جاء من الله عبر رسالة إلكترونية وصلته من أحد التطبيقات، ليهدي الأتراك ويحذرهم من حدوث كوارث كبيرة إذا لم يغيروا من حالهم. بوسامته وطريقته في الإلقاء وخلفيته المتواضعة عاملاً في خراطة الآلات، وهو ما يُذكر بقصص الأولياء والأنبياء الذين عملوا أيضاً في مهن بسيطة، يحشد غوكان كل أبناء الحي خلفه، ليتحوّل لاحقاً إلى شخصية ذات نفوذ واسع.
يقوم مسلسل كبرى على نص روائي ينتمي لعالم أدب المدينة الفاسدة "الديستوبيا"، وهو من تأليف الروائي التركي أفشن كوم الذي نشر في السنوات الأخيرة روايات عدة تتحدث عن وقوع أحداث خيالية في إسطنبول بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وبالأخص بعد قمع الاحتجاجات الشبابية في ما عُرف بأحداث غيزي سنة 2013، وأخذ بعدها مسار الديمقراطية في البلاد بالتراجع بسبب ما يرونه "سلطوية أردوغان" وسيطرته على معظم مؤسسات البلاد.
تتطور الأحداث ليقرر المخلص نشر فضائح تتعلق بالسلطة، ما يدفع السلطة لأخذ قرار بوصمه ومريديه بأنهم "إرهابيون". ولعل هناك من حاول الربط بين ما يشهده المسلسل من أحداث، والخلاف الشهير الذي حدث بين حركة فتح الله غولن والسلطة في تركيا، واتهام السلطة الحركةَ بالوقوف وراء عمليات تسريب بعض الفضائح المالية، والتي أدت في 17 ديسمبر 2013 لاعتقال العشرات من المقربين من الحزب بينهم أبناء وزراء.
يقود الشاب ثورة في الأحياء الشعبية في إسطنبول والتي تُعد مؤيدة لسياسات الحزب الحاكم. تتوالى الأحداث داخل الحي، ونرى حرباً بين الفقراء والشرطة بالعصي والرصاص بعد مقتل أحد الشبان، ما يشير إلى الوجه المتغير لإسطنبول في الدراما. فبدلاً من الصورة الوردية التي حاولت مسلسلات الدراما التركية الترويج لها منذ مطلع الألفية، بالتركيز على صورة مضيق البوسفور والجانب السياحي من المدينة، نقترب مع المسلسل أكثر من عالم مختلف فيها. تظهر إسطنبول في المسلسل بعد انقطاع الكهرباء غارقة في الظلام، ونرى أهلها يبحثون عن معجزات أو مهدي مخلص للتخلص من فقرهم ومن الفوضى التي يشعرون بها في ظل الليبرالية الجديدة التي تحد من تدخل الدولة بالأنشطة الاقتصادية وتوزيع الموارد، بينما يقول مؤيدوها إنها تهدف إلى خلق نوع من العدالة الاجتماعية.
عاشت إسطنبول فكرة المهدوية، وإن بوتيرة أخف، فيما عُرف بظاهرة عدنان أوكطار المعروف أيضاً باسم هارون يحيى، الذي أسس جماعة دينية في الثمانينيات داخل جامعة إسطنبول. أخذ أوكطار يحذر من اختراق ما دعاه "اليهود والماسونية لمؤسسات الدولة في تركيا بهدف المس بالقيم الدينية والأخلاقية للشعب التركي". استطاع بهذه الدعوات جذب مئات الشباب الأتراك الأثرياء، ونشر في سنة 1989 كتاباً بالتركية بعنوان "المهدي والعصر الذهبي: الإسلام يحكم العالم"، ثم سجن لاحقاً بسبب هذه الدعوات. قضى قرابة عشرة أشهر في مشفى للأمراض النفسية بدعوى الجنون. عاد أوكطار شخصيةً فاعلة قريبة من السلطة في أول فترة قدوم العدالة والتنمية، قبل أن يُحبس سنة 2021 بتهمة الاستغلال الجنسي. ومع وجوده بالسجن إلا أنه ظل يعود للواجهة بين الحين والآخر خاصة مع حدوث أي زلازل طبيعية جديدة في تركيا، إذ يقال إنه حذر من وقوعها بسبب "وقوع المجتمع التركي في معاصي كبيرة".
يظهر أوكطار في عدد من الصور التي نشرت له قبل سجنه تارةً وهو يرتدي بدلة بيضاء أو مع عدد من النساء الحسناوات. وذات الشيء نراه في مسلسل كبرى، والذي يبدو أن المخرج حاول إظهار بطله "غوكان" شبيهاً بأوكطار في اللبس وحتى تسريحة الشعر.
ومع وجود هذا "الإرث المهدوي" في تاريخ المدينة القريب، نرى أنه منذ مطلع الألفية تقريباً من حياة تركيا ومع قدوم المحافظين الإسلاميين للسلطة، تكونت صورة عن الإسلام التركي أنه إسلام معتدلين طوروا ميولاً ليبرالية تجاه الدين والاقتصاد، فهم يصلّون وفي نفس الوقت يمارسون التجارة الحرّة برؤية أخلاقية دينية أكثر انفتاحاً وعقلانية. يُظهر تقرير "الإيمان والتدين في تركيا" المنشور في جامعة ابن خلدون التركية سنة 2023 بالتعاون مع مؤسسات أخرى، أن إيمان الأتراك بالأمور الروحية مرتفع بعض الشيء، وهو ما يوحي بأن الإسلام التركي لم يُعلمَن أو يتحول إلى "إسلام سوق" قائم على المصلحة والعقلانية. فمثلاً هناك 75 بالمئة من الأتراك الأميين يؤمنون بالنبوءات والمعجزات، و55 بالمائة من خريجي الجامعات وحاملي الشهادات العليا. وهذا ما يُعد مناقضاً للصورة التي حاولت في السنوات الأخيرة التركيز على المسلم التركي المنفتح على أفكار السوق الحرة والأقرب إلى نمط تدين أقل روحانية. نلاحظ أيضاً أن الإيمان بالمعجزات لا يقتصر على مناطق الريف وإنما يشمل المدن الكبرى مثل إسطنبول التي يؤمن 64 بالمئة من سكانها بالجن و67 بالمئة منهم يلجؤون للاستخارة و85 بالمئة منهم يؤمنون بالملائكة و65 بالمئة منهم يؤمنون بالمعجزات.
يطرح ظهور الحي العشوائي في مسلسل كبرى وهو يثور ضد السلطة تساؤلاً مهماً عن ظهور هذه المناطق وهي تنحو نحو التمرد على سياسات السلطة، خاصة أن كثيراً من هذه المناطق تحول إلى قواعد اجتماعية للحزب وللإسلام الاجتماعي عموماً في تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة.
عرفتْ إسطنبول في الأربعينيات موجة نزوح واسعة من أبناء الريف الذين بنوا غرفاً لهم في مناطق زراعية حول المدينة القديمة. وبحلول الستينيات نمت هذه الأماكن لتصبح أحياء عشوائية كبيرة، ومراكز للنشاط العمالي في السبعينيات والثمانينيات. ومع قضاء السلطة لاحقاً على النقابات العمالية، تحولت العشوائيات إلى حواضن لنشاط المحافظين والمتدينين. في هذه الفترة حاول المثقفون المحافظون في تركيا إعادة إحياء مفهوم مثالي للمدينة الإسلامية، يتمحور حول المسجد والسوق ووجود المدارس والمراكز الثقافية الإسلامية، مثل حي سلطان بيلي الذي يقع في الجانب الآسيوي من المدينة نموذجاً لمفهوم المدينة الإسلامية هذه. فقد حاول المحافظون في الثمانينيات والتسعينيات تأسيس حي خالٍ من الكحول وتنظيم البلدة حول مسجد رئيسي، وتأسيس المقاهي والمتاجر الإسلامية. أثار هذا حساسية الجيش التركي الذي وضع سنة 1996 نصباً لكمال أتاتورك بالقوة وسط الحي. ولتشكل هذه الحادثة بداية ما عرف لاحقاً بانقلاب 1997. وقد حدث الانقلاب بالتواطؤ مع القصر الجمهوري ضد الحكومة الائتلافية التي شكلها حزب الرفاه الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان، وحزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلر.
عمل حزب العدالة والتنمية بعد وصوله السلطةَ في 2002 على تحسين ظروف المناطق العشوائية وربطها بوسط المدينة بإنشاء بنية مواصلات واسعة، فيما عرف بمشاريع "المتروبوس" و"المترو" التي ربطت الأحياء العشوائية والقديمة بباقي الأطراف. وتمكن الحزب في عقده الأول من الحصول على دعم واسع من أبناء هذه المناطق. إلا أن سياسات التجديد الحضري التي تبناها الحزب والتي استفادت منها هذه المناطق في البداية، خلقت في المقابل أيضاً سياسات حضرية لا تفكر سوى بتحويل بعض المناطق القديمة إلى مناطق سياحية، أو العمل على وضع مخططات لتدمير أجزاء كبيرة منها بحجة تجديد المدينة. ومشروع قناة إسطنبول مثال على ذلك، وقد يؤدي هذا المشروع –وفقاً لمنتقديه– إلى تدمير مناطق واسعة من الأحياء الفقيرة والقديمة. خلق هذا الوضع "حساً" أو "شعوراً بالعنف الرمزي أو المكاني"، حسب تعبير عالم الاجتماع التركي جيهان توغال.
نلمس هذا الأمر مثلاً في حي طلعت باشا، أحد الأحياء العشوائية في القسم الأوروبي من المدينة. بدأ أهالي الحي في السنوات الأخيرة يشعرون بالنقمة تجاه سياسات الحزب الحضرية ويتهمونه بمحاولات السيطرة على منازلهم وهدمها من أجل بناء مجمعات حديثة. ومع أن السيطرة على هذه البيوت كانت بسبب الخوف من انهيارها في حال حدوث أي زلازل جديدة في إسطنبول، إلا أن طريقة السيطرة عليها خلقت إشكاليات وتساؤلات عديدة. في المقابل بدا الحزب منذ 2010 مهووساً بإنشاء مناطق معمارية جديدة في المدينة، وهو ما نلمسه في حيَّيْ باشاك شهير في القسم الأوروبي وحي العمرانية في القسم الآسيوي، على حساب المناطق الأخرى.
منطقة باشاك شهير من الضواحي الجديدة في الجزء الأوروبي من مدينة إسطنبول، وقد تحولت منذ سنة 2000 من بلدة صغيرة إلى منطقة أو مدينة تضم مئات المجمعات الحديثة، ومركز استقطاب للمحافظين الأتراك. في سنوات حكم العدالة والتنمية استطاعت شريحة محافظة وقريبة من الحزب تحسينَ ظروفها الاقتصادية، في ظل الظروف التي توفرت لهم، وهو ما أتاح لهذه الشريحة أن تنتقل مع مرور السنوات إلى ضواحي ومجمعات جديدة كما في حالة هذا الحي. وهو ما أضفى على الحي طابعاً محافظاً، وحوّله لاحقاً إلى مركز استقطاب شريحة لا بأس بها من المهاجرين، وفي الغالبية من ميول محافظة من دول عديدة مثل سوريا ومصر والشيشان وروسيا.
هذه المحافظة تظهر بملامح اقتصادية مختلفة عن أبناء المحافظين في المناطق العشوائية. إذ يمكن في الحي ملاحظة وجود عشرات النساء المحجبات اللاتي يقدن سيارات دفع رباعي. ويلفت النظر تصميم المنطقة الحضري ومجمعاتٍ توفر فضاءات عامة للسكان من حدائق وملاعب مقارنة بالمناطق العشوائية. تظهر هناك فروقات اقتصادية في الخدمات المقدمة أو في توجه قسم لا بأس به من أولادها للدراسة في مدارس وجامعات خاصة. ومن هذا المنطلق، انتشرت نكتة في السنوات الأخيرة تقول إن باشاك شهير هي "مدينة أردوغان"، في إشارة لحجم الاهتمام الذي أولاه حزب العدالة والتنمية بالمنطقة وتحولها إلى مركز جديد للنخب القريبة منه.
هذا التمايز بين مراكز المحافظين الجديدة مثل حيّ باشاك شهير ومراكزهم التقليدية مثل حيّ طلعت باشا أو حيّ الفاتح يبدو أنه خلق شكلاً من الانقسام بين "إسلامَين محافظين" داخل إسطنبول. الأول يمكن تسميتهم "محافظون داخل العشوائيات"، بينما يسمى الفريق الثاني "محافظون داخل الضواحي الجديدة". أولتْ السلطةُ بمؤسساتها البلدية والتعاون مع رجال أعمال مقربين منها الاهتمام الأكبر في الضواحي الجديدة، في مقابل شعور أبناء المناطق العشوائية بتدهور أوضاعهم الاقتصادية وتراجع الخدمات. وهذا ما يفسر تحول مناطق عشوائيات في إسطنبول تقطنها شرائح محافظة كانت تميل للعدالة والتنمية في السنوات الماضية، مثل الفاتح وبيرم باشا وأيوب إلى مناطق متمردة في الانتخابات تحجم عن المشاركة. وهو ما أتاح لمنافسي المعارضة السيطرة عليها. ولذلك يبدو مسلسل كبرى وهو يتحدث عن صراع بين الشرطة التي تمثل الدولة وأبناء حي عشوائي، وكأنه ينقل لنا صورة واقعية عما يعيشه وتشعر به شرائح واسعة من أهالي هذه الأحياء في المدينة في السنوات الأخيرة.
ومن هنا في الجزء الثاني من المسلسل يظهر المخلص غوكان والشرطة تطارده. ولذلك يقرر هو وآلاف المريدين تأسيس دويلتهم الثائرة في مجاري أحد الأحياء القديمة. في هذا الرسم للأنفاق القديمة ربما ما يذكرنا بمقاربة الروائي الفرنسي فيكتور هوغو، والذي قارن في روايته "البؤساء" بين مجاري باريس القديمة مكاناً خطيراً وموقعاً لمؤامرات سياسية ومجموعات ثورية، وبين مجاري باريس الجديدة. وهذه المقاربة سعى مسلسل كبرى للوصول إليها، فتظهر المجاري القديمة أو العشوائيات في المسلسل وكأنها أماكن للثورة على السلطة إلا أنها في ذات الوقت أماكن قديمة وعفنة ومخيفة، وبين أنفاق المترو التي تحولت إلى جزء من دعاية العدالة والتنمية باعتبارها تعكس مع الضواحي الجديدة صورة إسطنبول السعيدة.
نرى في المشهد جامعاً صغيراً مبنياً على الطراز العثماني، يشبه مئات الجوامع الأخرى في المدينة. وأثناء النقاش يظهر رجل الدين التركي أنيقاً ذو لحية مهذبة مرتدياً بنطالاً من قماش مع قميص مخطط وفوقه كنزة بسيطة ويتفوه بكلمات محدودة. يرفض رجل الدين في الحي فكرة وجود من يعرف الغيب، ولذلك ينحو نحو تفسير ما يجري معه بعلم النفس. يقول للبطل إن ما يشعر به ليس سوى خدعة نفسية. الملفت أن رجل الدين التقليدي التركي والذي ينتسب لإرث صوفي طويل مليء بقصص كرامات الأولياء والصالحين ومعجزاتهم يظهر في مسلسل كبرى شخصاً يرفض هذا الموروث. وهو ما يتطابق مع صورة الإسلام العقلاني التركي، ويعكس أيضاً تحولاً عرفه خطاب رجال الدين التقليديين في الشرق الأوسط في التعامل مع القضايا غير العقلانية بربط تفسيراتهم بنظريات علمية.
في الحلقات اللاحقة، يقرر غوكان عدم الركون لخطاب شيخ الحي، والذي يظهر لاحقاً داخل الجامع بعباءته البيضاء وعمامته التركية (طربوش محاط بلحاف أبيض)، وهو يصلي مع عدد من كبار السن أو من أبناء الطرق الصوفية، بما يوحي بأن الجامع لم يعد مركزاً لاستقطاب الشباب التركي.
إلا أن هذه الرؤية قد تبدو متسرعة بعض الشيء، خاصة إذا تتبعنا دور المؤسسة الدينية في تركيا بعد سنة 2016، إذ ساهمت الجوامع في الحشد داخل شوارع إسطنبول لمنع نجاح الانقلاب الذي حدث ضد الرئيس أردوغان. ولذلك فمشهد اختفاء رجال الدين لاحقاً في مسلسل كبرى قد لا يعكس تراجعاً لدور المؤسسة الدينية الرسمية في حياة الأتراك بقدر ما يشير إلى كونها أصبحت قريبة من خطاب السلطة، وهذا ربما يفسر سبب غياب شيخ الجامع لاحقاً عن المسلسل، لصالح تقدم دور رجال السلطة والشرطة.
حاول أتاتورك ورفاقه لاحقاً التخفيف من حدة هذه السياسات بإنشاء مؤسسة تعنى بإدارة الشؤون الدينية في نفس العام، وهي مؤسسة حكومية جديدة تهدف إلى ادارة الدولة للحقل الديني ومؤسساته وأملاكه وتعمل على تحويل رجال الدين إلى موظفين حكوميين. بدا أن الهدفَ من هذه المؤسسة جعلُ الدولة هي المسيطرة على الخطاب الديني. وفي الخمسينيات عملت مؤسسة الشؤون الدينية على تحويل مدارس تخريج رجال الدين إلى مدارس ثانوية "إمام خطيب" في فترة رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس التي امتازت بتخفيف حدة الرؤية العلمانية التركية، مثل رفع حظر الآذان وإلغاء تدخل الدولة في لباس المرأة.
ظل يُنظر للمؤسسة في دوائر الدولة حصناً لمواجهة تأثير الإسلام السياسي الذي أخذ يتصاعد نفوذه بعد الستينيات. هذا التطور خلق معادلة تجعل للإسلام مظهرين، الأول جيد ويتمثل في الإسلام الرسمي والآخر خطير وسيئ ويتمثل في تيارات الإسلام السياسي والاجتماعي المحافظة في الشارع والتي حاولت الدولة قمعها.
حاول حزب العدالة والتنمية مع وصوله إلى السلطة سنة 2002 التعديل على سياسات الدولة الدينية السابقة، بميله إلى دعم تيارات الإسلام الاجتماعي المنبوذة سابقاً، والتي يقصد بها كل الجماعات والمؤسسات الدينية غير التابعة للدولة. بينما عمل بالمقابل على تحديد دور مؤسسة الشؤون الدينية ونفوذها. إلا أن الحزب عاد بعد عقد تقريباً من حكمه وتبنى دور المؤسسة الأسبق المتمثل بمواجهة بعض نماذج الإسلام الاجتماعي، خصوصاً بعد التوتر الذي تصاعد مع حركة غولن، التي أسسها الداعية التركي فتح الله غولن الذي عاش في الولايات المتحدة لمدة عقدين ونصف، وتوفي سنة 2024، وتُصنفها الدولة التركية حركةً إرهابية.
في سنة 2013 اندلعت أحداث غيزي بارك، حين تظاهر آلاف الشبان في ساحة تقسيم وسط إسطنبول للاعتراض على السياسات الحضرية التي ينتهجها أردوغان في المدينة. وهنا انحازت مؤسسة الشؤون الدينية إلى جانب الحكومة بموقف رئيسها السابق محمد غورماز. حاول غورماز في البداية الانفتاح على الشباب ودعا لتوجيه خطاب ديني يقترب من أسئلتهم وهمومهم، لكنه في المقابل شكك بأجندات الشباب المشاركين، وهو موقف مشابه لموقف السلطة التي اتهمت جهات خارجية بالوقوف وراء الاحتجاجات.
ومن هنا يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية في فترة العقد الثاني من حكمه بين عامي 2010 و2020، أولى للإسلام الرسمي دعماً وأهمية أكبر في سياساته الدينية، خلافاً لموقف الإسلاميين التقليديين من العلماء. وهذا أمر يُلاحظ في وصول أعداد موظفي مؤسسة الشؤون الدينية إلى مئة وأربعين ألفاً، ووصول ميزانية المؤسسة إلى نحو مليار وسبعمئة مليون دولار، أي ضعف ميزانيتها في سنة 2002. علاوة على ذلك، بات رؤساؤها يظهرون مع أردوغان في المناسبات العامة، وهو ما يعكس مدى تصاعد نفوذهم. لكن يبقى التطور الأهم في هذا الجانب السماح بتوسع دور مدارس "إمام خطيب" التابعة لمؤسسة الشؤون الدينية عبر فسح المجال لخرّيجيها مرة أخرى باكمال دراساتهم العليا وذلك بعد منعهم بقرار حكومي سنة 1997، وهو ما ساهم في ارتفاع أعداد طلاب هذه المدارس مع سنة 2018 إلى قرابة 12 بالمئة من مدارس الثانويات.
في مسلسل كبرى يحاول شيخ الحارة (الموظف الرسمي) ردع غوكان وأنصاره، لكنهم لا يلتفتون له. وهذا ما قد يعيدنا إلى مشهد من الواقع اليومي لإسطنبول. مع الحظوة التي حظي بها الإسلام الرسمي أو بعض المجموعات الشبابية المحافظة مثل مؤسسة "تركيا جينكليك فونديشن" التي يشغل بلال أردوغان، نجل الرئيس، منصب عضو الهيئة الاستشارية العليا فيها. يُلاحظ أن التوتر بين هذا الإسلام الرسمي وبين مجموعات أخرى ما يزال قائماً، وبالأخص بعد سنة 2016 بعد الانقلاب الفاشل، وهو ما نراه متمثلاً في حي الفاتح، بين المؤسسات الإسلامية الرسمية وفروع من جماعة إسماعيل آغا التي تعد واحدة من أكبر الجماعات السُنية الصوفية في تركيا.
هذا المشهد قد يذكرنا بصورة تعود للرئيس التركي أردوغان، وهو محاط بعدد من أهالي المناطق المتضررة بالزلزال الذي ضرب تركيا سنة 2023. وفي هذا المقطع المشهور، يرجو رجل فقدَ خمسة أفراد من عائلته من أردوغان أن "يتشفع" ويدعو لهم عند الله ويكمل حديثه بعبارة "نحن معك حتى الموت".
في مشهدَي التمسح ببطل المسلسل وتقبيل يد أردوغان في مناسبات عديدة وطلب شفاعته، نرى أن الإسلام في تركيا بات يحمل خطاباً قوياً وتأثيراً أكثر من السابق. فالجميع، كما نرى في مسلسل كبرى، يبحثون عن مخلصين ومعجزات يؤمنون بها في تعبير عن حجم المخاوف والقلق وتردي الأوضاع الاقتصادية في السنوات الأخيرة، بعد عقد ونصف من الرخاء الاقتصادي. والملفت في هذه المشاهد أننا نرى كيف يتحول شخص مثل غوكان في المسلسل، أو أردوغان في الحياة اليومية، من زعماء سياسيين إلى زعماء روحيين مقدسيين، وهو ما قد يعكس جزءاً من رؤية شعبوية انتهجها حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة.
وهو ما يتطابق مع ما تطرحه ناديا أوربيناتي، أستاذة النظرية السياسية في جامعة كولومبيا الأمريكية، في كتابها "أنا الشعب: كيف حولت الشعبوية مسار الديمقراطية" بأن الزعماء الشعبويين لا يصعدون في أوقات الرخاء والنمو الاقتصادي، بل في أوقات تردي الأوضاع الاقتصادية ومشاهدة المواطنين لانتهاكات جسيمة للمساواة، وسط لا مبالاة ممثليهم. وهذا ما نراه في شخصية غوكان في مسلسل كبرى، والذي يظهر زعيماً أو مخلّصاً ليعبر عن شعور أبناء حيّه ومئات آلاف الإسطنبوليين الآخرين بالعجز والتهميش والفقر. وذات الشيء يمكن أن ينطبق على صورة أردوغان وصناعتها في العقد الأخير بالأخص.
في العقد الأول من وجود أردوغان في السلطة، ظهر عادةً الرجلَ المسلمَ المحافظَ والمنفتحَ على العالم، والساعي لبناء اقتصاد ليبرالي إسلامي. بينما نلاحظ تشكّل صورةٍ أخرى له، وبالأخص بعد سنة 2013 والصراع مع جماعة غولن سنة 2016 والتضخم بعد جائحة كورونا والانتخابات الرئاسية الأخيرة سنة 2024 والتي ختم فيها أردوغان جولته من داخل مسجد آيا صوفيا. يبدو أردوغان هذه المرة زعيماً مقدساً ومخلّصاً من الأخطار التي تهدد تركيا، وفق ما يعتقده بعض مؤيديه.
بدا أن الإيمان بأردوغان تجاوز دوره السياسي وتحول إلى أشبه ما يكون إيماناً بطريقة دينية. ومن شروط أي طريقة وجود زعيم روحاني وطقوس دائمة وذاكرة مشحونة بالظلم أو العنف. نرى ذلك جلياً في الطقوس التي أخذ يؤسسها العدالة والتنمية بعيد محاولة الانقلاب سنة 2016. في ذلك اليوم حاول عدد من المدنيين مواجهة الضباط الانقلابيين على الجسر الرابط بين قسمَي المدينة وهو ما أوقع عدداً من القتلى. عملت الحكومة لاحقاً على التذكير بتضحيات هؤلاء المدنيين، باستبدال أسماء بعض المحطات العامة والجسور بأسماء القتلى، أو وضع لوحات كبيرة في بعض الساحات للتعريف بهم وبناء نصبين تذكاريين في إسطنبول وأنقرة، بالإضافة إلى الاحتفال في كل عام بذكرى مواجهة الانقلاب.
في كتابه "أون إنثنولوغ دان لو ميترو" (اثنولوجي في المترو)، الصادر بالفرنسية سنة 2013، لاحظ عالم الإناسة الفرنسي مارك أوجيه أن إطلاق أسماء بعض الشخصيات التاريخية أو الشهداء على بعض محطات المترو في باريس لا يهدف فحسب إلى ربطنا بالماضي، وإنما جعل إعادة التذكر اليومية والاحتفال مصدراً لتكوين أفكار جماعية مشتركة تشكل وتثبت وحدة الجماعة. ذات الشيء يمكن أن ينطبق على أسماء المواقف والساحات العامة في تركيا في السنوات الأخيرة، وربما في الماضي أيضاً. بدا أن هناك محاولة من السلطة إلى تحويل يوم محاولة الانقلاب 15 يوليو 2016 إلى حدث وطقس يعاد التذكير به بالاحتفال بهذا اليوم والتذكير بما جرى، وحمل أسماء الأماكن والمحطات كذلك أسماء أشخاص مدنيين قتلوا في الحدث. يعزز ذلك رواية السلطة تجاه الحادثة ويضمن بهذا التذكر تحول الجماعة التركية إلى جماعة شبه مقدسة تؤمن بوجود خطر يهددها، وزعيم مخلص ومبارك هو أردوغان يحميها ويدافع عنها.
ويبقى أن محاولة تقديس الأبطال في تركيا سواء في مسلسل كبرى أو في الواقع، غالباً تواجهه قوى أخرى تحاول زعزعة هذه الصورة. وهذا ما نراه في المسلسل في محاولة أحد مريدي البطل خلافته. وذات الشيء نراه في الساحة الدينية التركية، إذ أن أي محاولات لفرض أردوغان ممثلاً وشخصيةً مقدسة بين المسلمين الأتراك، عادة ما يصطدم بواقع أعقد في ظل وجود منافسين آخرين ما يجعل الصراع على تمثيل الإسلام جزءاً أساسياً من حياة الشعب التركي.
يظهر استطلاع للرأي بعنوان "السلطة الدينية في تركيا: الهيمنة والمقاومة"، نشر سنة 2019 في معهد بيكر للسياسات العامة في جامعة رايس الأمريكية، عن شعبية الشخصيات الدينية في تركيا حين كانت شعبية أردوغان أعلى مقارنة باليوم، أن الرئيس التركي أردوغان يحظى بثقة 40 بالمئة باعتباره سلطة دينية. وهذا الرأي نابع من أدائه التقوي وشخصيته وماضيه واحداً من خريجي مدرسة "إمام خطيب" الشرعية إضافة إلى موقعه زعيماً لتيار محافظ. في المقابل، يبين الاستطلاع أن 42 بالمئة لا يثقون بأردوغان ممثلاً للسلطة الدينية، مما يدل على حالة الاستقطاب التي تشهدها البلاد حول تمثيل الإسلام في تركيا. واللافت في الاستطلاع ظهور أسماء وجماعات دينية أخرى، وهي تحاول مقاومة هيمنة العدالة والتنمية على المجال العام الإسلامي. ولعل من أهم هذه الشخصيات الأكاديمي إحسان إليالجيك الذي حصل على نسبة 16 بالمئة وهي نسبة تعد كبيرة بالنسبة لشخص ليس له أذرعٌ ومؤسسات في الشأن العام.
فكرة خطاب إليالجيك أن التيارات السياسية المحافظة في تركيا اليوم امتداد للفكر السني التقليدي. وأنها لم تجر سوى إصلاحات محدودة في السياسة بينما ترفض إجراء تحولات عميقة في منظومتها الفكرية. من هنا فهو يعتقد أن حزب العدالة والتنمية يهدف إلى خلق ما يسميه "الإسلام الاستبدادي"، والذي يعتبر امتداداً للفكر الإمبراطوري الإسلامي في القرون الماضية. ولذلك يقترح إعادة النظر في هذه الثقافة وبناء رسائل جديدة للقرآن، وأولها أن هدف الحكم هو العدل. ويعتقد أن إشكالية المحافظين السياسيين الأتراك تكمن في محاولتهم فرض أخلاق معينة على السكان، بينما يقوم الإسلام على التعددية. ومع أن خطاب إليالجيك ومن يوصفون بأنهم "العقلانيون المسلمون الأتراك"، لا يمثل حالياً أو حتى في الفترة المقبلة تهديداً سياسياً لنفوذ حزب العدالة والتنمية، إلا أن وجودهم يعطي مؤشراً على عدم قدرة أي طرف على فرض نفسه ممثلاً وحيداً عن الإسلام في تركيا.
ذهب الباحث التركي أحمد كورو، في العقد الأول من حكم العدالة والتنمية سنة 2009، إلى القول إن وصول المحافظين للحكم ونجاحهم كان يعني تحولاً في نظام العلمانية في تركيا. والتحول هذا تمثل بالانتقال من فكرة "العلمانية الحازمة" التي تستبعد فيها الدولة أي دور للدين في المجال العام إلى تبني مفهوم يدعوه "العلمانية السلبية" الذي تؤدي فيه الدولة دور محايداً، بما يفسح للدين بالظهور داخل المجال العام.
لكن بعد عقدين ونصف تقريباً من إدارة العدالة والتنمية السلطةَ في تركيا، نرى الدولة وقد غدت أكثر تدخلاً في المجال الديني ولم تعد محايدة كما توقع كورو، بل أصبحت لاعباً أساساً فيه سواء بإعادة إدارة الإسلام الرسمي وتوجيهه، كما في حال مؤسسة الشؤون الدينية ومؤسسة "إمام خطيب". أو عبر تحويل الدين إلى مادة للصراع اليومي بدءاً من الدعوة لشرب "العيران" بدلاً من "الراكي"، إلى السينما والدراما بتبني إنتاج بعض الأعمال التي تروج لرواية العدالة والتنمية عن الإسلام التاريخي التركي العثماني، مروراً بكرة القدم التي بات يُصور فيها المنتخب التركي لكرة القدم خلال مبارياته في الأمم الأوربية وكأنه يحاول هزيمة الغرب.
وأمام هذا التحول الديني في تركيا يبدو من الوجاهة التساؤل إن كانت تركيا في العقد الثالث من حكم العدالة والتنمية قد انتقلت من إطار الليبرالية الإسلامية أو العلمانية السلبية، إلى إطار آخر يمكن دعوته الحكم الديني الخفيف. وهو إطار ليس بالضرورة أن يكون مشابهاً للحكم الديني السائد في دول أخرى مثل إيران، بل هو نمط يبدي ميولاً أكثر نحو الحكم الديني بفرض رؤية معينة للدين أو تقديم جماعات دينية على حساب جماعات أخرى وجعلها الناطقة باسم الإسلام، ما يجعل السلطة في هذه الحالة غير حيادية في الحقل الديني. وهذا ما قد يتمثل في حال تركيا في خلق إسلام رسمي طيع وصورة محافظة تجاه الآخر المحلي مع عداء متصاعد للغرب خلافاً لمرحلة صعود حزب العدالة والتنمية سنة 2000، والتي أبدى فيها ميولاًً ليبرالية تجاه الداخل والخارج.
قد تبدو فكرة انزياح تركيا نحو هذا المسار غير معقولة، في ظل إرث العلمانية الذي عرفته الجمهورية في القرن العشرين ونجاح المعارضة التركية في الانتخابات البلدية 2024، وتدهور الوضع الاقتصادي الذي قد يحول بحسب البعض دون ذلك، ويفتح الباب أمام تراجع طموحات أردوغان أو انهيارها. إلا أن هذه الرؤية تتناسى أنه في الفترات الحرجة يظهر الميل نحو المرجعية الدينية والحشد الديني مخرجاً وحيداً، كما في حال البطل غوكان المخلص. وجدنا هذه الحالة مثلاً في إيران في العقود الأربعة الفائتة. فعلى امتداد عقود طويلة، كان هناك رأي عالمي يعتقد أن الضغوط الاقتصادية قد تؤدي إلى فشل أي مشروع ديني، بينما أظهرت الحالة الإيرانية أحياناً عدم دقة هذه الرؤية، إذ نرى اليوم مئات الآلاف من الفقراء وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى تقف وراء السلطة الحاكمة في إيران، ربما بسبب الخوف، لكن قد تكون لأسباب عقائدية وقناعة بخطاب هذه الجماعة أيضاً. وبالتالي يتشكل البحث عن مخلص ديني أحيانا ظناً أنه الكفيل بحل المشاكل كلها.
ومن هنا قد لا يكون العصر المقبل في تركيا عصر الصراع على معنى العلمانية، كما توقع الباحث أحمد كورو سنة 2009، بل ربما على معنى الإسلام وأفكاره عن العدالة والحرية في الشأن العام. وهو ما قد يفتح الباب أمام ظهور فاعلين دينيين جدد ومصلحين إسلاميين ومحافظين أكثر تمسكاً بالسلطة وربما مدعين المهدوية، وهذه المرة على أرض الواقع لا في الفضاء الدرامي الذي مثله مسلسل كبرى وبأفعال بطله "المخلص" غوكان.
