فن المرسكاوي.. موسيقى شهدت على تحوّلات بنغازي الليبية

تحوّلت بنغازي الليبية من مدينةٍ صغيرةٍ إلى حاضرة كبيرة تجمعُ ثقافات مختلفة، فارتبطَ تطوّرها مع تطوّر ألحانِ فنّ المرسكاوي الذي أصبح أشهر الفنون الموسيقية الليبية.

Share
فن المرسكاوي.. موسيقى شهدت على تحوّلات بنغازي الليبية
يشبه الفن المرسكاوي مدينة بنغازي | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

يبدو صيفُ مدينة بنغازي شرقَ ليبيا مملاً لمن لا يعرف المدينة وطريقة استمتاعِ أهلها بغروبِ يومٍ قائظٍ آخر. اعتادَ الليبيون أن يحتفوا في الصيفِ بعائلةٍ جديدةٍ، إذ تتكاثرُ الأعراس في ذلك الفصل أكثر من غيره. في أحدِ هذه المساءات كنتُ جالساً أراقب شباباً يتحلقون في خيمةٍ منصوبةٍ في أحدِ شوارعِ المدينة لأحدِ الفنانينَ الشعبيين، بينما تُحلّق الأغنيات في فضاءِ الحيّ مرافقةً الطبول الغربية وآلة الأورغ الكهربائية بعد أن أُضِيفتْ الآلتان حديثاً للأغنية الشعبية. تمتزج الآلات الموسيقية مع صوتِ الشباب الذين يغنّونَ معها أغنيةً كنتُ أسمعها في شبابي: "ودعناك عدي بالسلامة امعرض خير يا لاوي حزامه". وتعني "وداعاً مع السلامة، الخير أمامك يا صاحب الحزام الملتف"، يقصدون بها المرأة الجميلة الراقصة. تعاقبت أجيالٌ على سماعِ هذه الأغنية، إلى أن انتشرت بأحدثِ الآلات الموسيقية.

تعود بي مثل هذه الأغنية كلما سمعتُها تترد في حفلاتِ الأفراح إلى صورة جهازِ التسجيل مع أشرطةِ الكاسيت سنة 1974. كنتُ في الحادية عشر من عمري أدرسُ في المدرسةِ الإعدادية، وقد أحضرَ أبي إلى المنزلِ جهاز تسجيل كاسيت، فالتقيتُ به أوّل مرةٍ بعد أن انتهى زمنُ الإسطوانات. منذ ذلك اليوم بدأ اهتمامي بفن المرسكاوي، أشهر ألوانِ الفن الشعبي في ليبيا. فصرتُ مع الوقتِ أشتري من محلات بيع أشرطة الكاسيت ما يروق لي من تسجيلات لحفلاتٍ شعبية بأصوات روادِ الأغنية الشعبية الذين بدأ ظهورهم منذ الأربعينيات، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شمال إفريقيا. حينها بدأت مدينة بنغازي تستعيد عافيتها بعد ما شهدته من دمار في المباني، إثر القصف الجوي للقواتِ الإنجليزيّة التي تحالفتْ مع الأمير محمد إدريس السنوسي وجيشِه السنوسي، لتحريرِ ليبيا من الاحتلال الإيطالي.

أصبحتُ مع الوقتِ مهتماً بفن المرسكاوي وتتبعِ تاريخِهِ وتطوّرِه والبحثِ عن سيرِ أعلامِه، بل تتبعهم شخصياً والتعرّفُ إليهم. فأمكنني مع الوقت أن أجمع حكايات هذا الفن الشعبي الليبي الأصيل الذي انتشر منذُ بدايات هذه الألفية في تونس والجزائر والإسكندرية، تسجيلاً وفي حفلاتٍ شعبيةٍ يُقيمها فنانو المرسكاوي، أمثال فوزي المزداوي وسمير الكردي.

لاحظتُ مع تعمّقي في دراسةِ تاريخ المرسكاوي وتطوّرِه ترابطاً مع تاريخِ أهل بنغازي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. فقد تغيّر الكثير في الأغنية الشعبية وفي موقفِ أهل المدينةِ من الفن والفنانين مذ كانت بنغازي متصرفيةً تحت الحكمِ العثماني، وكان اليهودُ فيها يحتكرُون الغناء. تطوّرت بنغازي في مئتي سنة من مدينةٍ صغيرةٍ لا تبتعدُ عن البحر إلى مدينةٍ كبيرةٍ بضواحي عدّة تتغلغلُ إلى الداخل. وتطوّر معها فن المرسكاوي وانتشرَ منها إلى بقيةِ أقطارِ شمال إفريقيا ووصل تركيا.


بنغازي اليوم هي ثاني أكبر المدن الليبية بعدَ العاصمة طرابلس، وتقعُ شرقَ خليج سرت، أهم منطقة لإنتاجِ النفط في البلاد. كانَ مصيرُ بنغازي مرتبطاً بالعاصمة منذ دخول العثمانيين ليبيا في القرن السادس عشر. يظهر هذا في التنوّعِ السكاني في المدينة، فهم خليطٌ من هجراتِ قبائل وأفراد من الغرب والجنوب الليبيين وبعض أبناء قبائل الشرق. منحَ مكانُ المدينةِ، في التقاءِ البحر والصحراء، ميزةً جعلتْها مدينةً أسطورية، فهي في المخيال الإغريقي "يوسبريدس"، حيث حدائق التفّاح الذهبي.

كانت بنغازي في القرنِ التاسع عشرَ الذي شهد العهد العثماني الثاني مركزاً تزدهرُ فيه التجارة بين الصحراءِ والبحر. تُحمَلُ البضائعُ من مدينةِ إزمير التركية وجزيرة كريت والإسكندرية وتعودُ إلى المدينةِ بالأغنامِ والعسلِ والقمحِ والشعير. ومن "برّ السودان"، وهو الاسم الذي كان يُطلق على تشاد والنيجر، تصلُ القوافلُ إلى المدينةِ في رحلةِ العودة محمّلةً بالعاجِ وريشِ النّعامِ والجلودِ المدبوغة. فتُصدّرُ إلى مركزِ الحكمِ العثماني وأوروبا ومصر. ومع وصولِ تلك القوافل، وصلت الإيقاعات والألحان الجنوبية مع المسافرين. إذ يمرّون في أثناء رحلاتهم بواحات الصحراءِ الليبية، ولاسيما واحة مِرْزِق التي كانت مركزاً تجارياً لتجارةِ القوافل.

هكذا يعيدُ بعضُ الباحثينَ الليبيين مثل عبدالله السباعي، مندوب ليبيا في المجلس التنفيذي للمجمع العربي للموسيقى، في كتابِه "تراث الغناء التقليدي والشعبي" المنشور سنة 2007، أصل تسميةِ المرسكاوي إلى مدينة مرزق. فيكون الأصل تسميته "فنّ المرزقاوي". وما يؤكد هذه الفرضية أنّ ألحانَ الجنوب الليبي ما زالت تتردد حتى اليومِ في أغاني المرسكاوي في بنغازي. هذا إذا أخذنا في الحسبانِ أنّ أهلَ الجنوب الليبي نزحوا من واحاتِهم وقراهم ومدنِهم في أثناءَ الاستعمار الإيطالي إلى المراكز الحضريّة في الشمالِ، ومنها طرابلس وبنغازي. فقد أرادَ الإيطاليون والفرنسيون في تشاد إنهاءَ تجارة القوافل تلك. ويقول نزار بقّار، الباحث المستقل في الموسيقى والتراث، في بودكاست "اللقني" إنّ كلمة "مرسكاوي" ليست إلا نطقاً تركياً لكلمة "مرزقاوي"، فيقول: "العصمنليّة [العثمانيون] يكتبوا القاف كافاً فوقها فتحة كبيرة [شرطة]، مرزق ما كانوش يكتبوا فيها بالقاف. يكتبوها مرزك، أي مرزكاوي".

هناك فرضيةٌ أخرى في أصل المرسكاوي تقولُ إنّ هذا الفن جاءَ مع "المورسكيين"، أي المسلمين العائدين من الأندلس إلى شمالِ إفريقيا واستقروا في الحواضرِ الليبية مثل طرابلس ودرنة وبنغازي. لكن هذه الفرضية ليسَ لها ما يدعمها، وقد شاعتْ في أيامِ الجماهيرية عندما أرادَ الزعيم الليبي السابق معمر القذافي ومن معه ردَّ أصولِ عناصر كثيرة في الثقافةِ الليبية إلى أصلٍ عربيٍ متأثرين بالقومية العربية.

وأياً كانَ أصلُ تسمية المرسكاوي، فإنّ النقاشَ فيها يظهرُ التفاعلات التاريخية في مدينة بنغازي وكيف شكّلت حاضرةً تَسَعُ مجموعات عرقية ودينية مختلفة حتى اليوم، وهي في هذا عكس كثير من حواضرِ الشرقِ الليبي التي عادةً ما تكون وطناً لقبائل بعينها. دليلُ ذلك أنّ فن المرسكاوي بدأت ملامحهُ تظهرُ مع يهودِ المدينةِ الذين كادوا يحتكرون الغناء في الأفراحِ والمناسبات الاجتماعية والدينية في القرنِ التاسع عشر وبدايات القرنِ العشرين.

كانَ مجتمعُ المدينةِ بتكوينِه وعاداتِه العربيّةِ المحافظة ينظرُ إلى المطربِ والمغنّي نظرةً دونيةً، ويرون امتهانَ الغناءِ عيباً اجتماعياً، فلم يتقبّلُ الآباء العرب المسلمون امتهان أبنائهم الغناء. يشرحُ هذا الكاتبُ الليبيُ محمّد النعاس والمحرر في الفِراتْس في مقالتِه "التلصص على أغاني النساء… 'الزمزامات' في طرابلس" المنشورةِ في موقعِ رصيف 22 بقولِه إنّ "الزمزامة [فنّانات شعبيات مشهورات في طرابلس] امرأة خارج مجتمع النساء، لا يعترف لها الرجال ولا النساء بلقب امرأة، ولهذا لم تقع عليها نفس القوانين التي تقع على المرأة الليبية نظراً لانتمائها لعرقيات وخلفيات اجتماعية يراها المجتمع الليبي في الغالب غير معبرة عنه". لم يختلف موقفُ مجتمع بنغازي هذا عن مجتمع طرابلس، فقد كانَ اليهود الليبيون من الروّاد الأوائلِ للأغنية الشعبية، ولم ينظرُ اليهود إلى الفن وأهلِه نظرةَ العرب المسلمين نفسِها.

لم يكن لليهودِ في بنغازي "حارة" أي حيٍ يخصّهم، تعزلهم عن مجتمعِ المدينة، بل عاشَت العائلات اليهودية إلى جانبِ العَربِ والأتراك واليونانيين في شارعِ البلدية وشارع البحر وسطَ المدينة. كان لليهود عقارات ومنازل يتعبّدونَ فيها بلا مضايقاتٍ في شارع سيدي سعيد وسطَ المدينة. امتهنوا تجارةَ الملابس والأقمشة والأحذية والعطور والمواد الغذائية والمشروبات الغازية والكحوليّة. كان من محلّاتِ الخمورِ محلّ "برامينو" وكان يبيعُ النبيذَ و"البوخة"، وهي كحولٌ ليبية محليّة ارتبطت بقصّةِ فن المرسكاوي ارتباطاً وثيقاً جعَلها مرافقةً له في سهريات الشبابِ للترفيهِ عن أنفسهم خارج المدينة.

اختلفتْ عاداتُ يهودِ المدينةِ عن العربِ في الأفراح. فقد كان الرجالُ يغنون مع النساءِ في مكانٍ واحدٍ، عكس المسلمين الذين ما زالوا حتى اليوم يفصلونَ بين الرجالِ والنساء في أفراحهم ومناسباتهم الاجتماعية. لم يستهجنُ يهودُ بنغازي الغناء ولم ينبذوا المغنيين، فكانوا يحيون الحفلات الغنائية في مناسباتهم ومناسبات المسلمين سواء في حفلات الزواج أو الختان، ويحيونَ ليالي شهر رمضان في بعض مقاهي المدينة، ومن أشهر مطربي اليهود نهاية العهد العثماني الثاني الفنان "بِن نَحّاس" و"زقنيني" وخيري هارون و"اسْحَنْتي". وقد أوردتُ بعضاً من هذه الأسماء في كتابي "لمحات من تاريخ بنغازي" المنشور سنة 2021، واستشهدتُ بأغنيةٍ كان يغنّيها بِن نَحّاس تقول: "بنت تقول قزاز [زجاج] يهودي، رقّت عودي، خلتني نندب شلّودي [أبكي بصوتٍ عالٍ]". وأخرى تقول كلماتها: "ماللي فوق الوادي جانا كيف نديروا يا مطرانا [حبيبنا]".

وُلِد الفنان رجب البكوش سنة 1905 وكان أحد روّاد المسرح الغنائي الليبي بدايات القرنِ العشرين، وتحدّث عن سنواتِ العشرينيات للكاتبِ السنوسي محمد في كتابِه "مدخل إلى المقام الليبي" المنشور سنة 2007. يقول البكوش: "كان أشهر من أتقن الطرب والغناء في هذه الفترة هم شتوان والساقزلي، وآخرين يهود أحدهم يدعى دوخة، والآخر يدعى كاكي، وهو عازف ماهر للطبلة وشاعر غنائي ممتاز، وكان مسكنه على شاطئ البحر زقاق الطواحني. وكان هو ودوخة من أشهر المطربين آنذاك". ومن ثمّ يزيدُ رجب البكوش في وصفِ ملابس المطربين اليهود، بالقول إنّهم كانوا يرتدون الملابس الليبية التقليدية (الكاط)، وهو لبس رجالي يتكوّن من خمسِ قطعٍ كُلّها مطرّزة إلا القميص.

تأثر الفنانون اليهود بالمطرب التونسي اليهودي الشيخ العِفريت واسمه الحقيقي إيسران روزيو، وهو صاحب الأغنية التونسية المشهورة "ليّام كيف الريح في البرّيمة". انتشرت أغاني الشيخ العفريت ولاقت إقبالاً في المجتمع التونسي، وكانت تسجيلاته تصل إلى بنغازي منذ الأربعينيات على اسطوانات، فيستمع إليْها الناس عبرَ غراموفون المقهى. وما تزال بعض كلمات أغاني الشيخ العفريت تتردد في أغنياتنا الشعبية، إحداها أغنية كان الفنانون الشعبيون يرددونها إلى وقت قريب، ومنهم الفنان عبدالجليل عبدالقادر، مع تغيير بسيط في كلماتها. تقول كلماتُ الأغنية: "ليش تعذب فيا قلبي خليني مرتاح لأجل غرامك يا البنيّة خلف لي الجراح". وهي في الأصل من أغاني الشيخ العفريت التي كانت تقول: "لاش تفكر فيا خليني مرتاح زاد غرامك يا البنية حير لي الجراح".

لم يكن الفن حكراً على رجالِ اليهود، بل اشتهرت في المدينةِ مطربات يهوديات أمثال سالمة وتُركيّة، لكن بطّة هي أكثرهنّ شهرة. كانت بطّة كفيفةً وقبل أن تغنّي تشترطُ على أهلِ الفرح أن يجهزوا لها صحنَ عشاء لزوجها، ويحضروا لها زجاجة من خمرِ البوخة، وهذه عادة كثيرٍ من الفنانين والفنانات الشعبيات حتى اليوم، فيشربون البوخة قبل أن يبدؤوا بالغناء. اشتهرتْ أغاني بطّة في بنغازي، ومما وصلنا منها أغنية: "ناخذ عالمدني [الطريقة المدنية الصوفية] ونتوب، الغيّة [الحب] بعد عزيز ذنوب". أمّا المطربة سالمة، فكانت تُحيي الأفراح وتحضرُ في المآتم تُعدِّد مآثر الميّت بمرثيّاتٍ حزينة تلهبُ مشاعرَ النساء، فيزدادُ صراخهنّ وعويلهنّ ويرددنَ معها وهنّ يمسكن بالعصيّ ويقفزنَ فوقَ طاولة، أو صندوق من الخشب. وكانت نساء اليهودِ يرددن في المآتم بعض أغاني الرثاء الحزينة مثل المسلمات.

ظلّ يهودُ المدينةِ جزءاً فاعلاً في حياةِ بنغازي الاجتماعية، لا سيما في النشاط التجاري، عدا بعضِ المنغّصاتِ التي بدأت مع بداية الصراع العربي الإسرائيلي في الأربعينيات وإعلانِ قيامِ إسرائيل سنة 1948. ومع ذلك بقي اليهود متعايشين مع المسلمين ولم ينعزلوا عنهم حتّى النكسة سنة 1967 عند إعلانِ هزيمةِ الجيش المصري أمام إسرائيل. حينئذٍ اشتعلتْ المملكة الليبية ومدنها بمظاهرات عنيفة في أحياء بنغازي وطرابلس استهدفتْ اليهود، وانفلتَ الشارع الليبي. أُحرِقتْ منازل بعض اليهود ومتاجرهم ومصانعهم واستُهدِفَ بعضهم، مما استدعى تدخّل قوّاتِ الجيش الليبي التي رحّلتهم لحمايتهم بعيداً عن الحواضر، استعداداً لترحيلهم إلى إيطاليا. لكن الأثر اليهودي في الثقافة الليبية المعاصرة لم يُمَّحَ حتى اليوم، وما زال فن المرسكاوي وتأثّره بالفن الشعبي في تلك الفترة حاضراً.

ما زال اليهود الليبيون في إسرائيل يحتفلون بتراثِهم الليبي، وتنتشرُ مقاطع لهم على الانترنت يتحدثون فيها عن أيامهم في ليبيا وعن عاداتِ الطعام ويغنّون. ومن ذلك مقطع ليهودٍ يغنّون فيما يبدو مناسبة اجتماعية أغنية من فن المرسكاوي تقول كلماتها: "وإن كانوا حاحو عليك اعلميني يا نور عيني، نخش الخلا أنا نبيك وأنتي عيوني"، ويظهر فيها اللحن الليبي الأصيل.


ضيّق مجتمع بنغازي بدايةَ القرنِ العشرين على امتهانِ العَربِ الفن بسبب احتقارِه تلك المهنة، إلا أنّ شجعاناً من أبناء هذا المجتمع أحبّوا الفن وغنّوه. وربما سهّلت التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت مع الاحتلال الإيطالي لبنغازي سنة 1911 عليهم ذلك. يظهرُ هذا التأثير الإيطالي في اندفاعِ الشبابِ إلى الفنونِ. فقد دَرَّسَ حسين فليفلة، وهو أوّل من بدأ مسيرة المسرح الليبي، في مدرسة إيطالية هناك. وتعلّم منه الجيل الذي بعده مثل الفنان رجب البكوش، الذي بدأت مسيرته الفنية بتأسيسه فرقة الشاطئ سنة 1936. كان الإيطاليون مع ذلك يخشون الفن والثقافة. فقد واجهت فرقة الشاطئ المضايقات من سلطات الاحتلال بسبب مسرحية "الوفاء العربي"، فمنعتها من العرض طيلة سنوات الاحتلال. لكن ذلك لم يثنِ الشباب الليبيين عن خوض التجارب الفنية في المسرح والموسيقى.

في كتاب "مدخل إلى المقام الليبي"، يقولُ الفنان الراحل رجب البكوش عن الموسيقى في تلك الفترة: "كانت الآلات السائدة هي المزمار والطبلة، وكان الفنان المشهور في ذلك الوقت هو بن جفيلة الذي كان أعظم المطربين أصحاب الصوت الجميل والعازفين للإيقاع، ويعتقد أنه من منطقةِ فزان [الجنوب الليبي] وهو أسمر طويل القامة محب للفرح والفن، ومن أشهر أغانيه التي كان يرددها هو وبعض معاصريه أيضاً: كيف الراي يا ريم الجليبة [أجمل الغزلان]، ودللتني نين عقلي شقا بك، وياريت قد ما جرى لي جرى لك". فكان المطربون بعد بن جفيلة يغنون عنه فيقولون: "يا بن جفيلة قول لها سلّم عليها وأوصلها". ولم يكن بن جفيلة وحده. يذكرُ رجب البكوش مجيد التاجوري، وهو راقصٌ، والدُوكالي. وكانوا ثلاثتهم يشكلون فرقةً، ويتقاضون مقابلاً مادياً نظير أغانيهم.

يصف الإيطالي الدريكو تيجاني في كتابه "بنغازي في العقد الثاني من القرن العشرين" المنشور سنة 1914، أجواء الحياة في المدينة فترة الاحتلال الإيطالي، فيقول: "في بعض المقاهي في بنغازي توجد فرق موسيقية تتألف عادة من آلة القانون والمقرونة [يشبه المزمار] والزمارة والزكرة [آلة هوائية ليبية] والدربوكة [الطبلة] والرقص الشرقي. الدربوكة هي القطعة المستعملة أكثر من غيرها، ولكن يستعمل البندير [يشبه الدف] وطبل الدَّنْقَة [طبل أفريقي] وأحيانا آلة العود".

أصبحت ليبيا في الأربعينيات مسرحاً من مسارح الحرب العالمية الثانية في شمال إفريقيا. فقد تحالفَ الأمير محمد إدريس السنوسي مع الإنجليز وشكّلَ في منفاه المصري الجيش السنوسي، الذي أضحى بعد ذلك نواةً للجيشِ الليبي. حاربَ الإنجليزُ الإيطاليين والألمان بقيادةِ الجنرال إرفين رومل الملقّب "ثعلب الصحراء". فدارت بدءاً من سنة 1940 معارك بين المُعسكريْن وقد استهدف الإنجليز بنغازي بالقصفِ الجوّي. هاجر سكّان المدينة إلى الضواحي، فاتجه بعضهم شرقاً نحو مناطق اللْثَامة والكْوِيفْيَة وسيدي خليفة. واتجهَ آخرون غرباً إلى القُوارْشَة والفْعاكات، وأطلق على ذلك العام "عام الهَجَّة"، أي الرحيل ومغادرة المكان أو النزوح.

لكن لم يتوقف عشاق الفن والغناء عن الإستمرار في الطرب رغم كل الظروف المحيطة بهم، وكانوا يجتمعون في ضواحي المدينة ويقيمون الحفلات الخاصة. وكانت مجموعة منطقة سيدي خليفة تضم الفنان المسرحي رجب البكوش والموسيقي علي قدورة والفنان عبدالخالق الصابري والممثل المسرحي أحمد الفاسي. وأما منطقة اللثامة، فقد ضمت مجموعة فنية أخرى. لعلّ أبرزها الملحن سالم بَشّون والممثل المسرحي سعد الفِلاح والمطرب والممثل محمد البكوش والممثل المسرحي محمد المُغِرْبي. وأخذت هذه المجموعة تبث الفنون الشعبية من هذه المنطقة إلى مختلف المناطق الأخرى. وبعد مضي عام ونصف انضمت مجموعة سيدي خليفة الفنيّة إلى مجموعةِ اللثامة، وتكاتفت المجموعتان. فبدأت الجهود الفنية تظهر بوضوح في الأفراح وغيرها من المناسبات العامة في ضواحي المدينة.

عادت الحياة إلى بنغازي مع تحريرِ ليبيا من الاحتلال الإيطالي والقوات الألمانية سنة 1943 وبدءِ عهدِ الوصايةِ الإنجليزية. وبدأت المقاهي تفتح أبوابها لرواد مجتمع القهوة والنرجيلة والورق. رافقت الوصلاتُ الغنائية آنذاك آلاتِ المزمار والطبلة والقانون والكمنجة، واستمر الحال إلى أن ظهرت أسماء أخرى لمطربين شعبيين من العرب الليبيين، وعلى رأسهم الفنان علي الشعالية والفنان السيد بومَديَن اللذين يعدّهما الليبيون رائدَين مهمَّين للفن المرسكاوي. ظهر الفنان علي الشعالية أوّلَ مرة على خشبة مسرح البرنيتشي سنة 1936 في وصلة غنائية يرافقه فيها أعضاء فرقة الشاطئ. كان علي الشعالية يعمل حلّاقاً، وفي محلّه ومنزلِه يلتقي الفنانون. وكان له مجموعة من الأصدقاء يلتقون بصفة مستمرة، فيقيمون الحفلات الفنية الخاصة في زمنٍ كان فيه مجتمع المدينة منغلقاً على نفسه.

ظلّت الوصلات الغنائية تبدأ بغنّاوةِ عَلَم، وهي نوع من أغاني التراثِ الشعبي الليبي في شرقِ البلاد يؤدّيها الفنان بلا تدخّلٍ موسيقي. لكن سيتغير الأمر مع مرور السنوات في حقبة الخمسينيات، ليدخل الموال إلى الأغنية الشعبية في بنغازي ويصبح جزءاً من الوصلة الغنائية. فيبدأ به المطرب الشعبي ويصدح بكلمات من الشعر الشعبي المتوارث عن الآباء. لم يكن هذا ممكناً بلا بدايةِ التجديدِ الفني الذي أدخله علي الشعالية على فن المرسكاوي بتركِ البدءِ بغنّاوةِ العَلَم واستبدالِ البدءِ بالموّال بها. سافر علي الشعالية سنة 1946 إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة ودرس أصول الموسيقى، وقد صرف على هذه الرحلة من نصيبه في ميراثٍ كان قد تحصل عليه، وهناك تعرّفَ إلى بعضِ الفنانين فعمل في فرقة "ببا عز الدين" للراقصة فاطمة هانم عز الدين، وغنّى في صالتها في حي إمبابة.

لم يكن علي الشعالية فناناً شعبياً عادياً، فقد اشتهر في مجتمعِ الفن المصري آنذاك. ومما يذكرُه لي الحاج محمد الفلّاح، ابن أخت علي الشعالية، أنّه سافرَ إلى القاهرة للدراسةِ في الأزهرِ الشريف فزارَ خاله. وكان برفقته عندما أراد علي الشعالية حلاقة ذقنِه مرّة. دخل الاثنان إلى محلِّ حلاقة وجلسا ينتظران الدور حتى يفرغ الحلّاق من الزبون الجالسِ أمامه. همسَ علي الشعالية لابن أخته أنّ الزبون الجالس أمام الحلاق هو المطرب محمد عبدالمطلب، أحد أشهرِ الفنانين المصريين وقتَها. وبعد أن أكمل عبدالمطلب حلاقته سلّم عليه علي الشعالية وأخبره أنّه ليبيٌ، وسأله ما إن كان يعرفُ أحداً من ليبيا. فأجاب عبدالمطلب بأنّه سمِع عن فنّانٍ اسمه الشعالية، فعرّفه عليٌ بنفسِه.

تأثّر علي الشعالية بالأسلوب المصري للغناء والطرب، وهكذا عندما رجع إلى بنغازي أثّرَ في آخرين غيره وصارَ الموّال جزءاً أساسياً من فن المرسكاوي. غنى الموّال بعد علي الشعالية الفنانُ الشعبي علي التركي في وصلاته الغنائية، وغناه الفنان علي الجهاني. واستمر الفنانون الشعبيون في أداء الموال في الوصلات الغنائية وأصبح عادة متعارف عليها، فالمرسكاوي فنٌّ شعبيٌّ قابلٌ للتطوّر دائماً غير محكومٍ بقواعد ثابتة.

كان للفنان علي الشعالية حضور إذاعي مبكر منذ سنوات بداياته الفنية. ففي حديث مع الفنان الراحل سليمان بن زبلح، ذكر لي أنّه كان يتردد على الإذاعة المسموعة التي كان مقرّها في معسكر الريمي في منطقة البركة إحدى أحياء المدينة في عهد الإدارة العسكرية البريطانية سنة 1948، قبل افتتاح الإذاعة الليبية. كان سليمان يرافق الفنان علي الشعالية وضابط الإيقاع رجب بوزنوكة، وشكّلوا معاً فرقة الإذاعة. وكانت لديهم تصاريح لدخول الإذاعة التي كانوا يأتون إليها أسبوعياً، فيؤدّي الفنان علي الشعالية وصلة غنائية على الهواء مباشرة برفقة سليمان بن زبلح عازف الناي ورجب بوزنوكة ضابط الإيقاع.


في تسجيلٍ تلفزيوني بالأسودِ والأبيض أيامَ المملكةِ الليبية، يظهرُ علي الشعالية ومعه فرقته الموسيقية يرتدون البذل الإفرنجيّة ويرددون إحدى أشهرِ أغاني المرسكاوي حتى اليوم "نور عيون اليوم قابلني عضا [ساعده] . . . شاطت نار الحب ما ينفع دوا". يوضح هذا التسجيل النقلة التي قامَ بها علي الشعالية لفن المرسكاوي، إذ أخذه من عالمِ حفلاتِ الأفراحِ إلى التوثيقِ والتسجيلِ الفني. فقد أثّرَ التحاقُه بالفرقة الموسيقية في الإذاعةِ الليبية سنة 1957 في أخذِ المرسكاوي على محملِ الجدّ، مع أنّ هذا الحضور الرسمي والمُهندَم للفنّانِ وفرقتِه بالبدلِ الإفرنجية سيختفي بعدَها في سنواتِ الجماهيرية، عندما يرجعُ الفن شعبياً مرّةً أخرى.

انغلقت البلاد الليبية على نفسِها بعدَ إعلانِ قيامِ "سلطةِ الشعب" سنة 1977 ونشوءِ نوعٍ جديدٍ من الاشتراكية حاولَ فيها القذافي ولجانه الثورية تطبيقَ كتابِه الأخضر بحذافيره. صارت البلاد سجناً كبيراً، فلم تكن هناك أماكن للتسلية أو الترفيه لجيل الشباب في الثمانينيات، وغلبَ على جيلنا هذا التسكّع عند مفترقاتِ الشوارِع لهدرِ الوقت. كان من الطبيعي أن يجدَ جيلنا متنفساً له في حفلاتِ الأفراح التي جرت العادة أن يحييها الفنانون الشعبيون، ولا سيما فنانو المرسكاوي. وفي رحلاتنا إلى خارجِ المدينة كنّا نصطحبُ معنا آلاتٍ موسيقيةٍ كالأكورديون والعود والمزمار والدربوكة، ونرّفهُ عن أنفسنا بالغناءِ بعيداً عن زحمةِ الشوارع والأحياء السكنية. بعضٌ من جيلنا كان يحملُ معه البوخة ليلهو، فلم تخلو جلّ حفلات الأفراح تلك الفترة من الخمرة المحلية، فزادَ ارتباط موسيقى المرسكاوي هذه بالوصولِ إلى حالاتِ السكر.

تجمّعَ الأصدقاءُ مرة سنة 1983 في منطقة الصابري، إحدى ضواحي بنغازي، في خيمةٍ أقيمت وسط الشارع بين المنازل، ينتظرون أن يبدأ الفنان الشعبي عبدالجليل عبدالقادر وصلة غنائية. وعلى كرسي منتصف الخيمة جلس صديقنا المهندس صلاح، يرتدي بدلة أنيقة بلون كحلي لمناسبة حفل زفافه. كنا مبتهجين بحضورنا لحفلة غنائية نجمها الفنان عبدالجليل عبدالقادر الذي ذاعت شهرته في مختلف المدن الليبية، فقد استمعنا إلى فنّه منذ أن كنا طلاباً في المرحلة الثانوية. كان الجميع مستمتعينَ مع "النوبة"، أي الوصلَة الغنائية التي تبدأ بموّالٍ ثم أغنية يعقبها "البرْول"، وهو الإيقاع السريع الذي يرتفع معه التصفيق. استمرَّت تلك الحفلة حتى الساعات الأولى من الصباح، من غير أن يحسّ الحاضرون بمرور الوقت وكأنهم في حالة انعتاق من أسر المكان والزمان.

عكْسَ علي الشعالية، لم يدرس عبدالجليل عبدالقادر الموسيقى في أي معهد أو مدرسة. لكن دوره في تطوّرِ الفن المرسكاوي لا يقل أهميةً عن دورِ علي الشعالية. فقد ارتبط صوت عبدالجليل الشعبي، بذائقة محبي فنّه والمتابعين أحدثَ ما غنى بأشرطة الكاسيت، فكنّا نسارع لنسخ حفلاته على الأشرطة والاستمتاع بسماعها. كانت بدايات عبدالجليل عبدالقادر، وهو من مواليد سنة 1947، الفنية في الستينيات، لكنّه اشتهر سنة 1972. كان عبدالجليل ظاهرة فنية، ويبدو تأثير الفنانين احميدة درنة والسيد بومدين فيه واضحاً بدايةَ مسيرته. لكن يمكن القول إنّ عبدالجليل عبدالقادر كان شرارة احترافِ المرسكاوي، فكان يحسن اختيار الفنانين الموسيقيين الذين يرافقونه للعزف في حفلاته، ويجهّز للوصلةِ الغنائية التي ستؤدّيها فرقته في حفلات الأفراح ويحسن اختيارَ كلماتِ أغانيه. لم يكن من السهل أن يغني من غير أن يقتنع بكلمات العمل الغنائي، فأصبحَ هذا من أسباب نجاحه وتفوقه إضافة إلى موهبته الفنية.

كانت الأغنية الشعبية قبلَ جيلِ عبدالجليل عبدالقادر تؤدَّى بنمط تقليدي فرضته محدودية الألحان. فاستمدّت الأغاني مفرداتها من بيئة محلية تعيش حالة من شظف العيش وقلة التعليم، لذلك كان من الطبيعي أن تقتصر المخيلة الشعبية المعبرة عن الوجدان على المحيط بها. وفي الثمانينيات تطوّرت بعد أن تأثرت الصياغة الموسيقية لبعض القوالب الغنائية بالثقافة الفنية لجيل جديد من الملحنين والفنانين وشعراء الأغنية في وقت كان المجتمع يمر بمرحلة تحولات اجتماعية واقتصادية، بعد ظهور النفط وتحسن الأحوال الاقتصادية وظهور أنماط سلوکية وظواهر اجتماعية جديدة وانفتاح على الآخر.

كان ذلك الجيل على درجة من الثقافة والتحصيل العلمي نتيجةً لاطلاعه على ثقافة الدول المجاورة وفنونها. استطاعوا أن يُحدثوا نقلةً في الأغنية الشعبية بالكلمة واللحن مع المحافظة على أصالتها، وتطورت كلمات الأغنية الشعبية بعد أن تهذبت ولبست ثوب اللهجة العامية المتحضرة. ومن الأغاني الشعبية التي حملت موجة التجديد تلك: "ما تبقى عنيد، المرجا ما يفيد، وانسى اللي نساك، واشقى بالجديد، اللي صوبك يريد، ويصونه غلاك". التي غناها الفنان عبدالحميد الكيلاني وما زال يغنّيها فنانو المرسكاوي حتى اليوم، وهذه واحدة من علاماتِ الفن المرسكاوي. فهو يشبهُ مجتمع بنغازي. تكون ملكيةُ الأغنية فيه جماعيّة عندما تشتهر وسرعان ما تصبح تراثاً يمكنُ استخدامه، إذ لا يسجّل هؤلاء المغنون في العادة حقوقَ ملكيةِ الكلمات. وقد اشتهر الفنان مصباح زايد بأغنية "ما تبقى عنيد"، وهكذا ستجدُ نسخاً كثيرةً لأغنية واحدة يؤدّيها كل فنّانٍ بطريقتِه الخاصة من غير الحاجة إلى ذكرِ صاحبِ الأغنية الأوّل.

ربّما أثرتْ سنوات الجماهيرية تلك في جعلِ ملكيّة أغاني المرسكاوي ملكيةً جماعيةً، فشعارات الجماهيرية وقوانينها حاولتْ قدر الإمكان تقليص مساحةِ الملكية الخاصة. سياسات الدولة في ذلك الوقت لم تهتمْ كثيراً بالفنون الشعبية، لكنّها لم تحاربِها كما فعلتْ مع الفنونِ الغربيّة التي نظرَ إليها العقيدُ وجماعته على أنّها نوعٌ من "الاستعمارِ الثقافي". ركّزت حكومات الجماهيرية المتلاحقة على الدفعِ بألوانٍ فنيّةٍ بعينِها مثلَ فنّ النجع الذي كان أهمّ وجه فيه الفنان محمد حَسَن، وداعمه رفيق القذافي الشاعر علي الكيلاني. عادَ المرسكاوي إلى الهامش، فهو فنّ المهمّشين منذ ولادتِه، وربما هذا الهامش هو ما أتاحَ له مساحة التطوّر بحريّة من غير تدخلِّ السلطة.


يشبهُ الفن المرسكاوي في سيرتِه سيرة بنغازي، فقد هُمِّشت المدينة أربعينَ عاماً من حكمِ القذافي. وكانت شرارةَ انطلاقِ جُلِّ الأحداثِ الشعبيّة العنيفة في أيامِ المملكة كما حدثَ في أحداثِ النكسة العنيفة التي طالت يهود المدينة. واحتضنت المدينة التيار القومي المناهض لحكمِ الملك إدريس السنوسي قبلَ القذافي، فكانت أوّل مدينة تسقطُ في يدِ حركة الضبّاطِ الوحدويين الأحرار التي قادَها القذافي وقرأ من إذاعتها. الإذاعة نفسها التي غنّى منها علي الشعالية بيان الانقلاب في الأول من سبتمبر 1969. ومن بنغازي أيضاً انطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية في فبراير 2011 التي أسقطت نظامَ القذافي.

يشبه المرسكاوي بنغازي أيضاً في مرونتِه واستقبالِه التعديلات والتحولات. فالمدينةُ، على أنها عند أهل الشرقِ الليبي عاصمةً ثقافيةً لهم، كانت منذ زمنٍ بعيدٍ تختلفُ عن جُلّ المدن والقرى في الشرقِ الليبي. فبينما يكون أغلب سكّان تلك القرى من أبناءِ قبيلةٍ واحدةٍ، فإنّ بنغازي ودرنة في الجبل الأخضر ظلّتا مختلفتين في انصهارِ مجتمعاتٍ شتّى فيهما، فعاشَ في المدينةِ المهاجرون الذين جاؤوا من الأندلس ودولِ المغرب والجنوبِ والغرب الليبي واليونانيون والمالطيون والكريتيون والألبان واليهود والأتراك وأفارقة جنوب الصحراء، حتى جعلوا من المدينة، كما يحبّوا أن يسمّيها أهلُها "ربّاية الذايح"، أي أمّ الغريب.

المرسكاوي مثلَ بنغازي، لا يخجلُ من استقبالِ التحديثاتِ من الغرباء. فقدَ تأثر الفنانون اليهود من قَبل بالتونسي الشيخ العفريت ودخل الموّال من مصر، ويغنّي الفنانون اليوم كلماتٍ خليجيةٍ، وفي كلّ عقدٍ تدخل آلةٌ جديدةٌ في ألحانِ أغانيه. ومع هذا فهو أيضاً مثل بنغازي، استوعبَ الفنونَ التراثية الأخرى مثل "ضمة القَشّة" و"الكِشك" و"الغيطَة" مع تطويرها غَنّاوة العلم التي صارت تؤدى بنمط مختلف عن السابق، وما يزال المرسكاوي يحتفظُ بأصالتِه وهُويتِه ويصهرُ كل تلك العناصر فيه.

ذات ضحى كنتُ ماراً بجانب مدرسةٍ إعداديةٍ للبنين عند اليوم الدراسي وخروج الطلبة. سارت مجموعةٌ منهم فوق الرصيف تردّد بصوتٍ عالٍ أغنيةً شعبيةً قديمةً تقول: "قسم العين علي خالقها واللي خالقها يرزقها"، وتصفق في حالة من الانسجام والتوافق، وكأن هذه الأغنية قد وصلت من زمن الأجداد الذين طالما ترنموا بها في أفراحهم، ورسخت في عقول هذا الجيل مثلما رسخ فن المرسكاوي في الذاكرة الجمعية لمجتمع بنغازي.

اشترك في نشرتنا البريدية