كانت الهزيمةُ أيضاً من حظِّ رفيقِه المخرج المسرحي السوري فواز الساجر. فقد خَلَّفَ فواز قصاصةً ورقيةً صغيرةً في جيبِه عندما تُوُفِّيَ. وفي الذكرى الحادية والعشرين لوفاتِهِ تلا الكاتب السوري حسن م يوسف من تلك القصاصة هذه الكلمات: "إنّ عصرنا هذا هو عصر الضيق، أكلُنا ضيق، شرابُنا ضيق، زيُّنا ضيق، مسكنُنا ضيق، مرتّبُنا ضيق، تفكيرُنا ضيق، قبرُنا ضيق، مطمعُنا ضيق، أفقُنا ضيق، عدلُنا ضيق، عالمُنا ضيق، مصيرُنا ضيق، موتُنا ضيق، قبرُنا ضيق، الضيق، الضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ... سيقتلنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء. سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون. سيقتلنا الضيق!".
هكذا نعرف أنّ اثنين من روّاد الحركة المسرحية في سوريا، وأسّسا معاً لحلم "المسرح التجريبي" الذي سرعان ما تبدّد، كانا في بلادٍ أضيقَ من أحلامِهما ومشاريعِهما. إنّ "الشحن"، أي الحالة التحريضية التي أرادا أن يصنعاها كي يتنبّه الناسُ إلى واقعِهم فيثوروا عليه، قُوبِلَتْ بتنفيسٍ من السلطة عن طريق تجارب مسرحية أخرى صنعتها السلطة أو سمحت بها، فجعلت الناس يستكينون إلى واقعهم. فالشحن هو نقل الثورة من المسرح إلى الشارع، وهو ما توخّاه كلٌّ من سعد الله ونوس وفواز الساجر، لكنهما لم يتمكّنا من تحقيقه. أمّا التنفيس، فهو قبول ما يحدث في الشارع داخل المسرح، أو بسبب المسرح، وهو ما حاولت السلطةُ السوريّة الاشتغالَ عليه. وبالتزامن مع تجربة المسرح التجريبي، كانت فرقة "أسرة تشرين المسرحية" التي أسّسها الشاعر والكاتب السوري محمد الماغوط والفنان دريد لحام، تقدّم أعمالَها التي تنقد السلطةَ بدءاً من سنة 1974، ولم يُمنَع أيّ عرضٍ من عروضها. في نهاية السبعينيات عرضت مسرحية "كاسك يا وطن"، بينما كانت أضواء مسرحية "توراندوت" للمسرح التجريبي تُطفأ، وخشبة المسرح تُخلى والعرض يُمنع.
الوقوف على كلٍّ من التجربتين، المسرح التجريبي وفرقة أسرة تشرين المسرحية، يوضّح حالة المسرح السوري في ظلّ الدمار الثقافي الذي ساد في سوريا منذ تسلّم حزب البعث وحافظ الأسد السلطة. وكذلك يبيّن كيف حاولت السلطة الاستئثارَ بأيِّ نشاطٍ فنّيٍّ يمكن أن يُستخدم دعائياً في صالحها، بينما منعت أيَّ نشاطٍ آخَر يدعو إلى التمرّد عليها أو يعتمد على سرديّاتٍ فاضحةٍ وكاشفةٍ لها. لذا كان ثمّة مستوياتٌ من النقد تسمح السلطة بها، وما إنْ يخرج المرءُ عنها تلجأ إلى آليّات المنع فوراً.
تقوّض بنيانُ البلاد يومَ الهزيمة، النكسة، الذي عُرِف بالخامس من حزيران سنة 1967. فدخل ونوس في علاقةٍ إشكاليّةٍ مع الكلمة التي حدّدها في المجلد الثالث من أعماله الكاملة على أنها "الطموح العسير لأنْ أكشف ما في الكلمة، أيْ في الكتابة، شهادةً على انهيارات الواقع وفعلاً نضالياً مباشراً يغيّر هذا الواقع". بدأ سعد الله ونوس في كتابة مسرحيّته "حفلة سَمَر من أجل 5 حزيران" بعد النكسة سنة 1967. وتجلّت له المشكلة، إذ لا تكفيه فعاليةُ الشاهد على الواقع السياسي ودعاية النظام، وإنما يريد أيضاً فعاليةَ الذي يقاتل مادّياً ويومياً ضدّ الزور والدجل. لذا بدأ البحث عن الكلمة التي يمكن أن تكون فعلاً، أو يكون لها أثرٌ يشبه أثرَ الفعل، الكلمة العارية الكثيفة التي تكشف الواقع وتغيّره في آنٍ واحد.
هل للكلمةِ أن تصبحَ فعلاً؟ بدا ذلك ممكناً، بل ومحقَّقاً. يقول سعد الله ونوس: "كنتُ فقط أتصوّر، وغالباً بانفعالٍ حسّيٍّ حقيقيٍّ، أنّني أعرِّي واقعَ الهزيمة. أمزّق الأقنعة عن صانعيها في سياق هبّةٍ جماهيريةٍ تبدأ مضطربةً ومرتجلةً، ثمّ تتّسق وتنمو حتى تضُمَّنا في فورةِ عملٍ فعليٍّ، مظاهرةٍ، أو انتفاضةٍ شعبيةٍ حقيقية. كان الإيقاع يتصاعد، ويتحقّق الفعلُ المؤكّد". لكنّ الجميعَ صنّفَ "حفلة سَمَر من أجل 5 حزيران" مسرحية، أيْ عملاً فنّياً لا أكثر، فقد كان الشاعر السوري أدونيس أوّلَ من هزّ ونوس حين كتب له عن المسرحية: "إنها مدهشةٌ، تكنيكياً بصفةٍ خاصّة"، وهو ما يَذكُره ونوس في فصل "خاتمة: الحُلم يتداعى" في أعماله الكاملة.
بدءاً من هذا التصنيف اهتزّ الحُلم وترمّدَت الصورُ المتّقدة التي اشتعلت في رأس سعد الله ونوس وهو يكتب. كان يحسّ مذاقَ المرارةِ يتجدّد كلَّ مساءٍ في داخله، فقد قال: "ينتهي تصفيق الختام، ثمّ يخرج الناس كما يخرجون من أيّ عرضٍ مسرحيٍّ، يتهامسون، أو يضحكون، أو ينثرون كلمات الإعجاب. ثمّ ماذا؟ لا شيء آخَر، أبداً لا شيء. لا الصالة انفجرت في مظاهرةٍ، ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً ما، إذ يلتقطهم هواء الليل البارد، حيث تعشّش الهزيمة وتتولّد".
رجع المخرج المسرحي السوري فواز الساجر سنة 1972 إلى حلب، خرّيجاً من كلّية الإخراج بمعهد غيتس الحكومي للفنون المسرحية في الاتحاد السوفييتي، وعمل مع المسرح الجامعي في حلب. بعدها بسنتين انتقل إلى المسرح الجامعي في دمشق، قبل أن يؤسّس مع سعد الله ونوس سنة 1977 المسرح التجريبي. مع مجيء فواز الساجر، بدأ تاريخٌ جديدٌ للإخراج المسرحي، ظهرت معه الرؤية الإخراجية، وأصبح عملُ المخرج بمثابة إبداعٍ جديدٍ للنصّ. انتهى عصر التنفيذ ورصف عناصر العرض في عملية لصقٍ ينقصها الترابط والوحدة، وبدأ ظهور العرض المسرحي ذي الوحدة العضوية، الذي تتناغم فيه كلّ العناصر بدءاً من تكوين الفضاء وحتى اللوحة الأخيرة مروراً بأداء الممثلين ومختلف الموادّ البصرية والسمعية. وفي صيف 1976 بدأ فواز الساجر وسعد الله ونوس العمل معاً. وبعدها بعامٍ كانا قد أسّسا المسرح التجريبي.
أرادَ سعد الله ونوس أن يقدّم لوحةً تاريخيةً ملحميةً "تضيء الواقع بكثيرٍ من الحقائق والوثائق والترميزات"، كما يقول عن نصّ "توراندوت". أَعَدَّ الرجلُ النصَّ، بعدَ بحثٍ شاملٍ وجهدٍ رهيبٍ، عن نصِّ الكاتب المسرحيّ الألماني برتولد بريخت ليخرجَه الساجر في المسرح القومي سنة 1976. انهمك الرجلان في البحث عن وثائق فساد الأنظمة وآليّات الفساد وموقف المثقّف منه. نبش فواز الساجر الصحف والكتب والمجلّات القديمة وكلّف آخَرين بالبحث والتنقيب. يومها، حسب قول سعد الله ونوس، "عرفنا كم ملياراً يملك ماركوس رئيسُ الفلبين، وعدد فساتين زوجته، عدد الموتى من الجوع في العالم كلّ دقيقة، وأطروحات ملتوس [الاقتصادي الإنجليزي] الرهيبة . . . ويومَها أيضاً تنبّهنا إلى المواقف اليمينية والانتهازية لبعض كبار مثقّفينا. وتراكمت لدينا فقراتٌ ومواقف وتصريحات".
تدور حكاية مسرحية "توراندوت" حول مَلِكٍ يحتكر القمح لكي يضاعف ثرواتِه، وحول مثقّفين يتواطَؤون مع هذا الفساد ويجتهدون في تبرير ندرة الخبز وارتفاع سعره بلا أن يذكروا الملكَ بسوءٍ ويشيروا إلى مشكلة الاحتكار. كان فواز الساجر يواجه تحديَّ النظام الإداري بما فيه من عرقلةٍ وتضييقٍ ورقابةٍ، لكنّ العرض نضج شيئاً فشيئاً، وصار جاهزاً كي يراه الجمهور. تأهّب الرجلان لاستقبال الجمهور، حين انْبَرَت إدارةُ المسرح القومي ولجنتُها الرقابيةُ سنة 1977 فجأةً لتطلبَ إخلاءَ الخشبة، ومنعَ العرض. انطفأت الأضواءُ، وتبعثر الجَمْع. جلس سعد الله ونوس وفواز الساجر في مطعمٍ قريبٍ من المسرح، حيث دارت بينهما أسئلةٌ كثيرةٌ عن استمرار عملِهما في المسرح التجريبي، فمن كان يَضمَنُ ألّا يُطوَى عرضٌ آخَرُ لهما. ثمّ طُوِيَ المسرح التجريبي كلُّه بعد أشهرٍ وتداعَى الحُلم.
لَم يَبْدُ منعُ السلطةِ مسرحية "توراندوت" اعتباطاً. كان الشحنُ هذه المَرّةَ لَيُفضِي إلى شيءٍ، وربّما تَتفجَّر منه ثورةٌ، لا سيّما وأنّ النصَّ نفسَه هو للمسرحيّ الألمانيّ بريخت الذي تتلخّص نظريّته في المسرح بمقولة "الشحن لا التنفيس". شحنُ المتفرّج للثورة على واقعِه وتغييرِه، لا الاستكانةِ إلى ما هو فيه.
اشتملت مسرحية "توراندوت" على النقلةِ من "ما هو كائنٌ" إلى "ما ينبغي أن يكونَ"، وعليه مُنِعَت قُبَيْلَ العرض. كانت احتماليةُ نشوبِ ثورةٍ، وفقاً للدلائل التي يُدرِجُها سعد الله ونوس، وجدّيةُ الاشتغال أكبرَ بكثيرٍ، إذ كان قد جَمَعَ مع الساجر وثائقَ عن فساد الأنظمة وآليّاتِ هذا الفساد وموقفِ المثقّفين منه. وقد توجّه العرضُ بالنقد إلى رأس السلطة أي المَلِك، كنايةً عن الأسد، ولا يُبَرِّئُه كما تفعل العروضُ الأخرى. هذه المرّةَ لن يَخرج الناسُ كما يخرجون من أيِّ عرضٍ مسرحيٍّ، يتهامسون أو يضحكون أو ينثرون كلماتِ الإعجاب. يمكن للصالة أن تنفجرَ في مظاهرةٍ ويمكن لهؤلاءِ الذين يرتقون درجاتِ المسرحِ أن يفعلوا شيئاً ما. هي أوّلُ مرّةٍ يمكن للمسرح ألّا يبقى حبيسَ عملية التفريغ اليومية، وأن يَنْعتقَ من دورِ التوجيه السياسيّ تحت سوطِ السلطة، إلى التوجيه السياسي ضدّ إرادة السلطة. مَنَعَت السلطةُ عرضَ مسرحية "توراندوت"، درءاً لتَشَكُّلِ سياقِ هَبّةٍ جماهيريةٍ تبدأ مضطربةً ومرتجلةً، ثمّ تتّسق وتنمو حتى تصير في فورةِ عملٍ فعليٍّ مظاهرةً أو انتفاضةً شعبيةً حقيقية.
هذا ما تؤكِّدُه ميريام كوك، الأكاديميةُ المتخصّصة في دراسات الشرق الأوسط والعالم العربي، في كتابها الذي تَرجَمَه حازم نهار "سورية الأُخرى، صناعة الفنّ المُعارِض" المنشورِ سنة 2018. تقول كوك إنّ الدوّلة تَعُدُّ الثقافةَ أسلوباً للسيطرة الاجتماعية، وذلك ببناءِ منظومةِ الرموز لخدمةِ العقيدة السياسية التي لا تَرُومُ تقديمَ المعرفةِ، وإنما إلى تكريس الموضوعات الاجتماعية أو تعديلها أو تحويلها. تضيفُ ميريام إنّه كان على النظام السوري "أن يسيطر على منظومة الرموز الموجودة لدى السوريين لكي تزدهر العبودية. لذلك كان على المثقّفين أن يلجؤوا إلى الفنّ، للهرب من هذا الغزو، وتحدّي الدولة في الوقت نفسه". وبهذا أمكن لتجاربَ مسرحية أُخرى غيرِ المسرح التجريبي، مثل أسرة تشرين المسرحية، أن تستمرّ وتعمل وتنشط وتقدّم عروضاً لا تُمنَع. إلّا أنها حُصِرَت في إطار التنفيس أي الاستكانة، لا الشحن أي الثورة.
تستعرض وادين في فصلِها هذا سلسلةً من تلك الأعمال الفنّية لا سيّما الكوميدية، التي كانت تُنتَج تحت ظلِّ سلطةِ حافظ الأسد. مع الإشارة إلى صدى الادّعاء الذي يؤكّد أنّ الممارسات النقدية المسموحة تعمل لإدامة السيطرة القمعية للنظام بدلاً من تقويضها. تقترح وادين عدّةَ أسبابٍ للسماح بهذه الأنشطة الناقدة الموافَق عليها في العلن، في ظلِّ الظروف السلطوية في سوريا. فهي ترى أنّ هذه الممارَساتِ النقدية، علاوةً على تهيئتِها هامشاً للنقدِ المسموحِ، مَثَّلَت ملاذاً لمواطنين دافَعوا عنها سقفاً لهم ليستأثر النظام بالتحكم في الأهمّ. مثلاً، خَفَّفَت الدولة السورية في الثمانينيات والتسعينيات تحكُّمَها في إنتاج الأفلام والمسرحيات. ويتمثّل ذلك في أطباق الاستقبال الفضائيّ الممنوعة التي انتشرت على سطوح الأبنية لأغلب البيوت في دمشق. واختار النظامُ عدمَ إجبار الناس على إزالتها، لأنّ منظِّري النظام يَرَوْن أنّ فوائدَ قضاءِ أوقات الترفيه للمواطنين أمام أجهزة التلفزيون تَفُوقُ أيَّ مزايا قد يجلبُها حَظْرُ استخدامِها.
ترى وادين أنّ النقد المسموح يساعدُ على تحديدِ السوريين غيرِ المطيعين وترويضِهم. وفي حالةِ نظامٍ قمعيٍّ مماثل يعتمد أساساً على الخداع العامِّ، فإنّ وجود رؤى بديلةٍ لكن محدّدةٍ بدقّةٍ للحياة السياسية، يوفّر آليّةً للمراقبة وجَسِّ نبضِ الازدراءِ والإحباطِ بين المواطنين العاديين. وتعتقد الكاتبة أنّ ثمّةَ ثلاثةَ مستوياتٍ للنقد. الأوّلُ نقدُ بعض أجزاء النظام، لفشلِه في التصرّف استناداً إلى المعايير التي يدّعي أنه يحكم على أساسها. الثاني اتّهامُ النخبة كلِّها بانتهاكِ مبادئِ حكمِها. أمّا الثالث فهو رفضُ المبادئِ ذاتِها التي تسوِّغ فيها الجماعةُ الحاكمةُ سيطرتَها. وبالطبع كان النقدُ المسموحُ به في سوريا لا يتجاوز المستوى الأوّلَ ولا يتحدّى سلطةَ حافظ الأسد. يملك الناسُ والنظامُ إحساساً محسوباً بعنايةٍ للنقطة التي تتجاوز انتهاكاتِ المستوى الأول، ويقف النظام جاهزاً لاتّخاذ الإجراءِ المناسبِ في حالِ التجاوز. وقد تجاوزَتْ مسرحية "توراندوت" المستوى الأوّل.
تساعد هذه التفسيراتُ لما هو مسموحٌ والقيودِ المفروضةِ على النقد في وصفِ الحياة السياسية التي كانت في حُكمِ حافظ الأسد. منها يمكن فهمُ الفضاء المسرحيّ في حينِه، لا سيّما التجربتَيْن اللتَيْن نقفُ عندَهما: "المسرح التجريبي" ومنع عرض "توراندوت"، وتجربة "أسرة تشرين المسرحية" بمسرحيَّتَيْها "ضيعة تشرين" و"كاسك يا وطن". إنّ إنشاء حالة المقارنة بين المسرح التجريبي وأسرة تشرين المسرحية ينطوي على المقارنة نفسِها بين مفهومَي الشحن والتنفيس.
تَضرِبُ ليزا وادين في كتابِها مثلاً من مسرحية "ضيعة تشرين" المعروضةِ سنةَ 1974 بكتابةٍ مشترَكةٍ بين الشاعر والكاتب محمد الماغوط مع الفنّان دريد لحام. تتحدّى المسرحية الصيغَ الرسميةَ المحدِّدةَ للحقيقةِ، وتَسْخَرُ من السلطةِ الرسميةِ وتَقُصُّ قصّةً رمزيةً عن ضياعِ الأرضِ المحتلّة. في المسرحية يأتي اللصوصُ ويسرقون الكَرْمَ الذي يُمثِّل مَهْرَ إحدى العرائسِ ويؤجَّلُ العرسُ حتى يُسترجَعُ الكَرْمُ، فيقرِّر المختارُ أنّ أفضلَ سبيلٍ لمعالجةِ الموقفِ هي في إغراءِ العداوةِ بين القرويِّين حتى يَنْسَوا الكَرْم. وأخيراً يُعزَلُ المختارُ ويأتي بديلٌ ليَحلَّ محلَّه، ثمّ يَعقبُه آخَرُ فآخَر. وفي كلِّ مرّةٍ يتولّى السلطةَ مختارٌ جديدٌ ويَعرِضُ خطاباً وطنيّاً للقائدِ الأصيلِ، ويُحذِّر المواطنين من المؤامرات السياسية.
تَظهَرُ في المسرحية غرفةُ التعذيبِ بوصفِها مشهداً مألوفاً في الأعمال الساخرة السورية. وهي تمثِّل وتُبرِزُ في آنٍ واحدٍ العلاقةَ بين المحقِّق الرسميِّ والمواطنِ الضحيّة. ولأنّ غرفةَ التعذيب هي الموقع القاسي لتدخّلِ الدولةِ، فإنّها تُمكِّنُ أصحابَ المسرحية من تهديدِ الهَرَميّةِ المعتادةِ وذلك بمحاكمةِ ممارَساتِ النظام.
صحيحٌ أنّ المسرحية نقديةٌ حادّةٌ، لكنّها لا تَنتقِدُ حافظَ الأسد ونظامَه صراحةً. ومِثْلَ أعمالِ دريد لحام اللاحقةِ، فإنّ "ضيعة تشرين"، حسب وادين، "تَسترِدّ ظاهرةَ تقديس الأسد من الحطام النقديّ، في هذه الحالة، وذلك باختراع نهايةٍ تحتفل ببطولة المختار الأخير. فبينما يُعاتَب ويُذكَّر المختارُ بمُثُلِه العُليا، يُجري إصلاحاتٍ ويكرّس نفسَه لاستعادةِ الكَرْمِ، وينجح في ذلك على وقعِ الموسيقى الوطنية". هكذا يمكن قراءةُ المسرحية قصّةً رمزيةً عن صعودِ حافظ الأسد إلى السلطةِ، ونصرِه اللاحقِ في "حرب تشرين 1973" ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، إذْ ينقِذ المختارُ الأخيرُ القريةَ من الانقلاباتِ والفشلِ في الخمسينيات والستينيات ويستعيد الأرضَ المغتصَبة. ذلك يعني أنّ المسرحية في هذه الحالة هي نقدٌ لكلِّ ما قبل الأسد، وتنتهي عند وصوله إلى السلطة، فتُحيِّيه بالموسيقى وهو يَسترِدّ الأرض. وبذلك فإنها تُغمِضُ عيناً وتغفل نقدَ أيّ ممارساتٍ لحافظ الأسد نفسِه، بل تَسترِدّ ظاهرةَ تقديسه وتدعو إليها. وبهذا تتحدّى مواضيعُ الفسادِ السياسيِّ والاستغلالِ والعجزِ والادّعاءاتِ التي يذيعها الخطابُ البلاغيّ الرسمي. لكن اختراع قائدٍ قويٍّ قادرٍ على تصحيح أخطاء الماضي واستعادةِ أراضيه المغتصَبة يتوافق مع الوعودِ البلاغيةِ لظاهرةِ تقديسِ حافظ الأسد.
يمكن أن تعمل "ضيعة تشرين" ضمن سياقِ النقدِ السياسيِّ المسموحِ به رسمياً. وباختراعِ نهايةٍ إيجابيةٍ للقصّةِ، تميّز المسرحية بين القائد السيِّئ والقائد الجيّد، وبهذا تضع المسؤولين أمام مسؤولياتهم لحَلِّ الإشكاليات. ما تريد المسرحية قولَه هو أنّ ثمّةَ مَخاتيرُ سَيِّئُون ومَخاتيرُ جيّدون. وأولئك الجيّدون، مثلَ الأسد، يعملون بمثابرةٍ لتحقيق ما يريدُه القُرويّون ويحتاجون إليه.
تقوم مسرحية "كاسك يا وطن" على سلسلةٍ من اللوحات الصغيرة الهزليّة تمثّل فيها شخصيةُ غوار الطوشة التي يؤدّيها دريد لحام نموذجَ الرجلِ العاديّ، وهو وطنيٌّ صالحٌ مهتمٌّ بوطنِه لكنّه يعاني سلسلةً من الإهاناتِ بحكمِ موقعِه. يفتقر غوار إلى الوساطات ويبدو عاجزاً حِيالَ الإجراءات المعقّدة والمسؤولين الفاسدين والممارسات التي تَقِفُ وراءَ استمراريّتِهم. وكون غوار رجلاً عادياً يعني أنّ ابنتَه الرضيعةَ أحلام لا تحصل على العلاج الطبّي المناسب فتموت بسبب الإهمال، فالمضادّاتُ الحيويّة الأساسيّة غيرُ متوفّرةٍ، على الأقلّ لمن لا يَعرِفون الوساطات. وعندما يصل الطبيب المناوب متأخراً إلى المستشفى، يجد غوار نفسَه بعد انتظارِ ساعاتٍ مضطرّاً إلى الانتظار وقتاً أطولَ بينما يُعالِجُ الطبيبُ مسؤولاً يُعاني العجزَ الجنسيّ. وعندما يَصِلُ دَورُ غوار، نَجِدُ أنّ ابنتَه قد ماتت بعد أن تسمّمت بحليبٍ فاسدٍ أو "قُتِلَتْ"، كما يَصِفُها، بالممارساتِ الجائرة الممنهَجة التي تميّز ضدّ أمثاله لصالح المسؤولين الأقوياء والعاجزين في آنٍ واحد. ومع موتِ ابنتِه، فإن الأحلام التي يرمزُ إليها اسمُها تموت أيضاً. والرسالة واضحةٌ حسب وادين: "الممارسات الفاسدة للحاضر تدمِّر ينابيعَ المستقبل".
تصبح غرفةُ التحقيق موقعاً لإبرازِ العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لكن في هذه المسرحية فإنّ المحقّقين يعلمون كلَّ شيء. وهكذا فنقطة التحقيق ليست في جمع المعلومات بل في تأكيد السلطة. يكشف الماغوط ولحام، بوصفِهما الكاتبَيْن، عن قوّة النظام باتّهام بعضِ أجزاءِ النظام بالقسوةِ الزائدةِ والحماقة. يُصطحَب غوار إلى قيادة جهاز الأمن، لأنه كان يتساءل عن موتِ ابنتِه ويطالِب بمعرفةِ المسؤول عن التقصير. وتقود وقاحةُ غوار المحقِّقَ إلى استخدامِ أسلوبِ الصعقِ الكهربائيّ. وعندما يصل التيّارُ الكهربائيُّ إلى جسمِه يبدأُ جسدُه بالاهتزاز، فينفجرُ ضاحكاً: "وصلَت الكهربا لقَفاي قبل ما توصل لضيعتنا". تعمل النكتةُ هنا لتقولَ في العَلَن ما يَعلَمُه كلُّ واحدٍ: النظامُ يَفشَلُ في الوفاءِ بتعهّداته ومسؤوليّاته. وتَفترِضُ النكتةُ أيضاً أنّ النظامَ مُجْبَرٌ على فعلِ ذلك، وأنّه على عكس تجاوزاته يمكن أن يحاكَم منطقيّاً حسب الواجبات التي يعلن التزامَه بها.
يُربَطُ النقصُ في الموادّ الأساسية، مثل الكهرباءِ والدواءِ والخِدماتِ العامّةِ، صراحةً بالتجاوزات البلاغية في جزأَيْن من "كاسك يا وطن". يسخر الماغوط ودريد لحام في أحدِ المقاطعِ من برامج الشكاوى على الإذاعة والتلفزيون، وهي برامجُ مفبرَكةٌ تُعطِي صورةً زائفةً عن الانفتاحِ الديمقراطيِّ أو حتّى عن الحياة الاستهلاكية. في هذا المقطع الساخِرِ، تتّصلُ امرأةٌ لتشتكيَ بشأنِ فاتورةِ الكهرباء. ويظهر المسؤولُ عن حَلِّ مشاكلِ الكهرباءِ للمستهلكين مُعتمِراً مصباحاً كهربائياً كبيراً على رأسِه. ويجيب على شكاويها كافّةً بشعاراتٍ وطنيةٍ زائفةٍ، متشدّقاً فيها باللغة العربية المستخدَمة في الأخبار. وفي مشهدٍ آخَرَ، يعود غوار الطوشة إلى البيت حاملاً معه وجبةَ طعامٍ للعشاء مكوَّنةً من جرائد ملفوفةٍ، مقترحاً بأن الجرائد قد تكون أكثرَ فائدةٍ طعاماً بدلاً من كونِها أخباراً، أو بتتبّع التقليد السوري الذي يغلّف طلبيّات الطعام آنذاك بالجرائد فإن التغذية التي من المفروض أن تحتويها هي غائبة. في القراءتَيْن تَرمِزُ الجرائدُ الملفوفةُ إلى فراغِ البلاغة الإنشائية. ويتجادل غوّار مع زوجتِه أثناء العشاء، ويرفع يَدَه محاولاً ضربَها، ثمّ يضبط نَفْسَه في اللحظة المناسبة ويقول: "هم [المحقّقون] ضربوني وأنا بضربك. وإنتي بتضربي الأولاد، والأولاد بيضربوا أولاد الجيران. وهيك بتصير معركة".
يبدو أنّ غوار الطوشة لحظةَ ضبطِه لنفسِه كان يخشى ألّا تكون هناك طريقةٌ غير السلوك المستغلّ الذي يديم العنفَ والبؤسَ، فيبدأُ في شرب الكحول. في إحدى نوباتِ الشربِ، يزور غوار أباه الميتَ وهو "شهيد مات من أجل الوطن". تعبّر المحادثةُ بين الأبِ والابنِ عن وطنيةِ الماغوط ولحام من حبٍّ للأرض ولتراثٍ عربيٍّ أصيلٍ واقتصادٍ أخلاقيٍّ قائمٍ على بعضِ أشكالِ العدالة في التوزيع. لكن ليس واضحاً من هو المسؤولُ عن انعدامِ العدالةِ، ولماذا لَم يتحقّق الأملُ الذي عَبَّرا عنه أصلاً في حركة التحرّر الوطنيّ السورية والعربية. لَم يتمكّن الأبناءُ من حملِ تقليدِ آبائِهم النبيلِ، كما يَفترِضُ النصّ، ولكن مَن وما هو السببُ وراءَ هذا الفشل؟
يبدو أنّ المسؤوليةَ الكبيرةَ تقع على عاتق الأقوياء لأنّهم يَستغِلّون المواطنين العاديّين مثل غوار الطوشة. المسؤولون يستجيبون للمشاكل بالشعارات الزائفة ويَستغِلّون سلطتَهم للحصول على امتيازاتٍ استثنائيةٍ، ويستخدمون مواقعَهم للكسبِ الخاصّ. كذلك يوقِعون العقابَ التعسّفيَّ على الضعفاء مثل غوار ويحوِّلون المواردَ الضروريةَ من المشاريع التنمويّة إلى الممارسات القمعية التي تساعِد على بقائهم في مواقعهم. لكنّ النصّ يَفترِض أيضاً أن الضعفاءَ يساهمون في هذا النظام بتعوّدِهم عليه، فهُم يُقَوُّون الأقوياءَ بتواطُؤِهم ويأسِهم. انفصل المواطنون عن بعضهم بعضاً وأضحت العلاقاتُ بينهم غيرَ مرضيّةٍ، بل تكاد تكون عدائيّة. الأقوياء هم المسؤولون، والمواطنون العاديّون هم الضحية. لكن الأقوياء جُعِلوا أقوياء من خلال نظامٍ يدعمُه كلٌّ من المؤيّدين والضحايا. فتُمَرَّرُ التضحية بالآخَرين هنا من هَرَمِية السلطة. فالمحقِّقُ يَضرب الزوجَ الذي يَضرب زوجتَه التي تَضرب بدَورِها الأولادَ، والضحيّةُ الحقيقيةُ هم الأولاد الذين يمثّلون المستقبلَ وهُم عاجزون بحقٍّ عن تغييرِ ظروفهم.
مع ذلك، فإنّ "كاسك يا وطن"، ولو أنّها لا تعيد الاعتبارَ للأسد، فإنّها تبقى في المستوى الأوّل المسموحِ به من النقد أيْ نقدِ بعضِ أجزاءِ النظام وتحميلِ هذه الأجزاءِ المسؤوليةَ. يُعفِي هذا رأسَ السلطة من أيِّ مساءلةٍ، لأنّ المسرحية في الأصلِ موجَّهةٌ إليه من أجل التدخل.
منذ أن رَسَّخَ نظام الأسد في الثمانينيات ظاهرةَ تقديسِ الحاكم أو مفهومَ "دولة الإله"، راهَنَ النظامُ على الطاعة الاختيارية الواعية من جانب الناس وامتثالِهم له ولاءً. كَرَّسَ النظامُ هذه الطاعة الواعية لتصنع فيما بعدُ أثراً تفتيتياً بين الناس، إذ يفقدون الثقةَ ببعضِهم بعضاً. ذلك لأنّ السلطةَ تُشِيعُ وتُشرعِنُ وتطالِبُ الناسَ بهذا الجوِّ من التظاهر والنفاق. أراد النظامُ لهذا المزاج أن يسودَ كالطغمة ثمّ يخلقَ أثرَه التفتيتيَّ، فيفقدَ المواطنون ثقتَهم ببعضِهم، ما يجعل أيَّ نشاطٍ متمرّدٍ يفقد معناه ضدّ السلطة.
تذكر ليزا وادين في كتابِها أنّ نظامَ حافظ الأسد استخدم الفنَّ الناقدَ لتكريس الطاعة الاختيارية. يَحدثُ ذلك على النحو التالي: عندما يشاهِد المواطنُ السوريُّ مقولاتِ السلطةِ ذاتها التي ينافِقُ لها، تَنال منها مشاهدُ معروضةٌ في التلفزيون أو على المسرح، فيضحك منها. يعيش السوريُّ في هذه الحالة وعياً ذاتياً بأنه ينافِق السلطةَ، ومع ذلك فهو يتجاوب مع مقولاتها ذاتِها المثيرةِ للسخرية. يشعر المواطن بأنه يمثّل الطاعةَ للحاكم وأنه منافقٌ في الآنِ نفسِه. وهذه الطاعة الواعية والاختيارية تُفقِدُ الفردَ احترامَه لذاتِه ومجتمعِه. تُفقِدُه الطاعة أيضاً ثقتَه بالآخَرين في هذا المجتمع، لأنّه يَعرف عن طريق الضحك المشترَك بينه وبينهم من مقولاتِ السلطةِ أنّهم مِثْلَه. هذا الأثرُ التفتيتيُّ هو ما يتسبّب في استدامة النظام واستقرار سلطته.
تُفَكِّكُ ميريام كوك في كتابِها "سورية الأُخرى، صناعة الفنّ المعارِض"، الذي ترجمه المركز العربي للأبحاث سنة 2018، شعارَ السلطة البعثية وسلطة الأسد "الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية". ومن هذا الشعار وآليّات القمع والرقابة السلطوية على كلِّ المنتَج الثقافيّ السوريّ تتشكّل عقدةٌ واضحةٌ في علاقة الثقافة بالسلطة السياسية والأمنية التي كانت مسيطرةً في سوريا. تشجِّع السلطةُ الحاكمةُ الفنَّ إنْ كان تحت سيطرتِها، ويَخدِمُ أهدافَها في التوغّل في مقدّراتِ الحياة اليومية وتفاصيلِها. أمّا ما يخصّ الأصواتَ المعارِضةَ فتلك مسألةٌ أُخرى، إذْ لا حدودَ لما هو ممنوعٌ ومسموح. وهذه سمةٌ عامّةٌ للأنظمة الاستبدادية في حالاتها في العالم الثالث. مِن هنا تتّضح إشكاليةُ منعِ مسرحية "توراندوت" والسماحِ بمسرحية "كاسك يا وطن". بما يتقاطع مع آليّة التصديق وعدم التصديق التي تُحلِّلُها ليزا وادين، أيْ حالة النفاق التي أراد نظامُ حافظ الأسد نشرَها بين الناس. تقول ميريام كوك في كتابها: "لم يكن المرادُ هو التصديق الحقيقي لتلك الشعارات، بل أن يؤمنوا بهذه الشعارات الخادعة كلّها. كان عليهم أن يتصرّفوا كما لو أنهم يؤمنون بها، أو في الأقلّ أن يتقبّلوها بصمتٍ، أو أن يتعايشوا مع أولئك الذين يعملون معهم. لذلك كان عليهم أن يعيشوا الأكذوبة. ومن خلال هذه الحقيقة الواقعية، كان الأفراد يعزّزون النظامَ وينفِّذونه ويصنعونه، ويصبحون هُم النظام".
