لقاء المهمَّشين.. عن اللاجئ والفقير بين فيلمَيْ كفرناحوم والبلوط القديم

يستعرض الفيلمان التهميش الاجتماعي بطرقٍ مختلفة، عبر تسليط الضوء على معاناة اللاجئين والفقراء معاً.

Share
لقاء المهمَّشين.. عن اللاجئ والفقير بين فيلمَيْ كفرناحوم والبلوط القديم
التهميش واحد بين كفرناحوم والبلوط القديم | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

بحافلةٍ مليئةٍ باللاجئين السوريين، يفتتح المخرج كين لوتش فيلمَه "ذي أولد أوك" (البلوط القديم) الصادرَ سنةَ 2018، مع صورٍ متتاليةٍ بالأبيض والأسود تَعرض لنا ما تلتقطُه يارا (التي تؤدّي دورَها السوريةُ إيبلا ماري) بعدسةِ كاميرتِها من داخل الحافلة. توثّق يارا لحظةَ وصولِها إلى قريةٍ في شمال إنجلترا، فتُصوِّر أهالي القرية الذين ينتظرونَها ورفاقَها، وتُصوِّر أيضاً ملامحَ النساء والأطفال السوريين التي يسودُها القلق. فسكّان القرية لا يستقبلونَهم بالورود، بل بسبابٍ وعباراتٍ عنصريةٍ كارهةٍ للإسلام. يتهجّم أحدُ شباب القرية على الحافلة بعدما لاحظ التقاطَ يارا صورةً له. فيحاول تي جيه (الذي يؤدي دوره ديف تيرنر)، وهو من سكّان القرية، تهدئةَ الشابِّ ولكن هيهات. ينتهيَ المشهدُ بسخريةِ الشابّ الإنجليزيّ من يارا وتحطيمِ كاميرتِها.

لاحقاً يذهب تي جيه مع صديقتِه حاملَيْن بعض المساعَدات، مثل السجّاد والبطّانيات، لتوزيعها على عائلاتٍ سوريّة. فتُحضِر صديقتُه درّاجةً هوائيةً هديّةً لطفلةٍ تُهلِّل حين تراها "بسكليتة"، وتجرّبها بكثيرٍ من المرح. يقف في الجوار ثلاثةُ أطفالٍ إنجليز يراقبون ما يجري بشيءٍ من التذمّر يَلْحَظُه تي جيه فيخاطبهم، يردّ عليه أحدُهم: "كيف لَهُم [يقصد اللاجئين السوريين] أن يحصلوا على كلِّ هذه الأشياء؟". يُخبِره تي جيه أنها أغراضٌ مستعمَلةٌ وقد تبرَّع بها أهلُ القرية. "اللاجئون يحصلون على كلِّ شيءٍ مؤخّراً"، يجيب طفلٌ آخَرُ، فيؤكِّد له تي جيه أن اللاجئين قد خسروا كلَّ شيءٍ وحضروا إلى القرية بملابسهم فقط. تنتهي المحادثة بعبارةٍ يقولها الطفل الثالث: "أتمنّى لو أحصل على دراجة".

في فيلمِ "كفرناحوم" للمخرِجةِ نادين لبكي، الصادرِ سنةَ 2018، يَهرُب الطفلُ اللبنانيُّ زين من أهلِه بعدما أجبروا شقيقتَه القاصرَ، ابنةَ الأحد عشر عاماً، على الزواج من رجلٍ مقتدرٍ في الحيّ. يَهيمُ زين على وجهِه في الشارع حتى يقابلَ في الحافلة "الرجل الصرصار" شبيهَ "سبايدر مان"، فيَتبعه إلى الملاهي حيث يعمل. يبيت زين ليلةً في مَلهىً ثمّ يبدأ البحثَ في الغداةِ عن عملٍ، ولكنّه في عيونِ الجميعِ طفلٌ لَم يتجاوز اثنَيْ عشر عاماً. وبعدما رَفَضَ الجميعُ توظيفَه وظَلُّوا يسألونَه عن أهله، لَم يَجِد الطفلُ الذي لا يملك أوراقاً ثبوتيّةً ملجأً إلا في رَحيل، وهي العاملةِ المهاجرةِ التي لا تملك أوراقاً شرعية. عَرَضَت رَحيل على زين العيشَ معها ومع طفلها يوناس في غرفتِها المتهالكةِ، مقابل أن يتولّى زين رعايةَ الطفلِ في غيابِها.

لاحقاً سيُقبَضُ على رَحيل، فيتحمّلُ الطفلُ زين مسؤوليةَ الطفلِ يوناس. يحمله ويَخرج به محاولاً البحثَ عن مالٍ وطعامٍ، فيقابل الطفلةَ السوريةَ ميسون التي تُخبِره كيف تحصل على المُؤَنِ والمساعَدات من جمعيّةٍ ما. وحين يسألُها إن كان بإمكانِه مرافقتُها، تؤكِّد له أنه لن يَظفَرَ بشيءٍ "لأنّك لبناني". يصطنع زين اللهجةَ السوريةَ بعد تمرينٍ أمامَ المرآةِ، ثم يذهب إلى الجمعيةِ وينجح بالحصول على حليبٍ وحفاضاتٍ للطفلِ، وشيءٍ من الطعام.

هذه المَشاهدُ من فيلمَيْ كفرناحوم والبلوط القديم مؤاتيةٌ للتيارات اليمينية إن أرادت التأكيدَ على فكرةِ "الاستحقاقية"، منتقِدةً ذهابَ المساعَداتِ وأموالَ أبناءِ البلدِ إلى المهاجرين أو اللاجئين بدلاً من المواطنين الفقراءِ الأحق بها، بحسب هذه التيارات. وإذا لَعبْنا لعبةَ "حجاب الجهل" لجون رولز في كتابِه "نظرية في العدالة"، وتخيّلنا حياةً لا ندري موقعَنا الاجتماعيَّ فيها سواءً كنّا أغنياء أَمْ فقراء، وأضفنا إليها عدم معرفتنا إنْ كنّا مهاجرين أَمْ لاجئين أَمْ مواطنين، فسيكون الموقفُ العقلانيُّ للجميع في هذه اللعبة هو الإقرارُ بأهمّيةِ إعادةِ توزيعِ الثروةِ بما يناسِبُ الفئاتِ الأكثرَ تهميشاً لأنّنا لا ندري موقعَنا الاجتماعيّ. بهذه اللعبةِ العقليةِ الأخلاقيةِ، يؤسِّس رولز لنظريّتِه عن الإنصافِ والعدالةِ ليكون نظامُ إعادةِ التوزيعِ الأكثر عدالةً هو الذي يحقّق مصلحةَ الفئاتِ الأضعف. يحتِّم علينا الموقفُ الأخلاقيُّ التضامنَ وتقديمَ الدعمِ وفقاً لاحتياجِ الآخر بصرفِ النظرِ عن وضعِه القانونيِّ، إذْ يتشابه المعيشُ اليوميُّ للمهمَّشين سواءً كانوا مواطنين فقراءَ أو لاجئين أو مهاجرين، ممّا يجعل سؤالَ الاستحقاقِ عبثياً من الأساس. فما الفَرْقُ بين الفقير واللاجئ؟ ومن لِلفقيرِ غيرُ اللاجئ؟ يَصِحُّ العكسُ أيضاً. كلاهُما مُهمَّشٌ مِن النظامِ السياسيِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيّ.

غالباً ما تكون القصصُ الإنسانيةُ المأساويةُ وسيلةً فعالةً لإبراز القضايا الاجتماعية والسياسية المعقَّدة في السينما. ينطبق ذلك على فيلمي كفرناحوم والبلوط القديم. تختلف السياقات الاجتماعية والجغرافية ورؤيتا المخرجَيْن. فنادين اللبنانيةِ ابنةِ الطبقةِ المسيطِرة (أي البرجوازية) وكين لوش الإنجليزيّ يساريّ، إلّا أنّ عملَيْهما يشتركان في محاولةِ استكشافِ المعاناة الإنسانية مع التركيز على الفقرِ والتهجيرِ القسريِّ والظلمِ الاجتماعيِّ ويَكشِفان عن الأسباب البنيوية التي تُغذِّي هذا الظلمَ والتهميش. يلتقي الفيلمان في نقاطٍ ويختلفان في أُخرى، لكنّهما يركّزان على إبراز المعاناة المشترَكة لفئاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ بصرفِ النظر عن هويّاتها.


تدور أحداث فيلم البلوط القديم في قريةٍ بشمالِ شرقِ إنجلترا تدهورَت أوضاعُها الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ بسببِ سياساتِ مارغريت تاتشر النيوليبرالية في ثمانينياتِ القرنِ الماضي. اعتمادُ تاتشر على سياساتِ التقشّفِ والخصخصة إضافةً إلى مَرْكَزةِ لندن، أيْ تحويلِها إلى مركزِ الأعمالِ والسياسةِ والقرارِ، كلُّ ذلك استهدف القطاعات الصناعية التقليدية. قاومَت اتّحاداتُ العمّالِ وعَمَّت البلادَ إضراباتٌ واسعةٌ قُوبِلَتْ بقمعٍ واعتقالِ آلافِ العمّال وانتهت ببدءِ إغلاقِ عديدٍ من مناجمِ الفحمِ، فتأثّرَت نتيجةَ ذلك بلداتٌ وقرىً صغيرةٌ بأكملِها لا سيما في شمال شرق إنجلترا، لأنّ أبناءَ هذه القرى كانوا يشكّلون نسبةً كبيرةً من عمّال المناجم.

في فيلم البلوط القديم يلوح في أذهان أهل القرية قهرُ آبائِهم عمّالِ المناجمِ، وتتّحد ذاكرتُهم الجمعيةُ على ذكرى ذلك القهرِ ليخيّم على معظمِ محادثاتِهم. ينطلق المخرجُ كين لوتش من هذه الفكرة ليحاول إظهارَ المعاناة المشترَكة بين سكان القرية الشمالية واللاجئين إليها، مبيِّناً إمكانياتِ التضامن والصراع بين هؤلاء المهمَّشين. أثار لجوءُ بضعِ عائلاتٍ سوريةٍ إلى القرية ذكرياتِ أهلِها وذاكرةَ قهرِهم وإقصائِهم. لذلك، حين وافق تي جيه على العرض الذي قَدَّمَته صديقتُه والشابّةُ السورية يارا بفتح مطعمٍ مجتمعيٍّ في الغرفة الخلفية المهجورة من حانَتِه (حانة البلوط القديم)، لم تَرُق الفكرةُ كثيراً من أهالي القرية. مع ذلك، افتُتِح المطعمُ وكان مساحةً مشترَكةً التقى فيها اللاجئون وفقراءُ القرية. لم يُعجِبْ ذلك رفاقَ تي جيه وزوّارَ الحانة الدائمِين فخرّبوا أنابيبَ المياه في المطعم، ما أدّى إلى قطع الكهرباء عنه أيضاً. تعبيراً عن البؤسِ ورفضاً للتهميشِ، حَوَّلَ سكّانُ القريةِ اللاجئين إلى كبشِ فداءٍ بدلاً من الدولة. يتعلّق الأمرُ هنا بلَوْمِ اللاجئين وصَبِّ جامِ الغضبِ على "المجتمع الأضعف"، حتّى وإنْ أدرك سكّانُ القرية أنّ فعلَهم سيؤذي أبناءَ القريةِ أيضاً. يمثّل المهاجرُ اللاجئُ ضحيّةً سهلةً لوقوعِه في أسفلِ درجاتِ الهَرَمِ الاجتماعي. ومع ذلك، تَظهر احتماليةُ بناءِ تضامنٍ عابرٍ للحدود والجنسيّات ضدّ الظلمِ أيّاً كان منشؤُه.

من جهته يروي فيلم كفرناحوم قصّةَ الطفل زين الذي لَم يتجاوز الثانيةَ عشر من عمرِه ويعيش في واحدٍ من أحياءِ بيروت شديدةِ الفقرِ رفقةَ عائلتِه في ظروفٍ معيشيةٍ قاسيةٍ للغاية. يتعامل زين مع الفقر المدقِع ويتحمّل مسؤولياتٍ تَفُوقُ سِنَّه حين يُجبَر على العمل في شوارع المدينة وبيوتِها البائسة. يختبر زين قهراً بنيوياً سببُه الظلم. لكن ومن خلال قوّتِه الذاتية ومحاولاتِه المستمرّة لتحدّي هذا القهرِ متعدِّدِ الطبقات، يتحدّى زين الصورةَ النمطيةَ للطفلِ المفعولِ به وغيرِ المسؤول. فنراه في بداية فيلم كفرناحوم يحمي أختَه سحر ثمّ لاحقاً الطفلَ يوناس. وبعد أن يخسرَ المعركتَيْن، يقرّر الانتقامَ لأختِه، فيُسجَن. لكنه يقرّر محاكمةَ المجتمعِ ممثّلاً في والديه بتهمة إنجابه. خلال رحلةِ زين في شوارع بيروت وبيوتها المختلفة، يجدُ من يساعده ويواسيه ويتضامن معه، وفي الوقت نفسِه من يستغلُّه ويقلِّلُ من قيمتِه. لكن بالطبع غالباً ما صَدَر التضامنُ من أشخاصٍ يشاركونه القهرَ، مثل ميسون السورية ورَحيل الإثيوبية. فمجدّداً: مَنْ للفقير غيرُ اللاجئ؟ كلاهما مُهمَّشٌ من النظامِ السياسي والاقتصادي والاجتماعي.


يشترك فيلما كفرناحوم والبلوط القديم في استخدامِ ممثّلِين غيرِ محترفِين، أو ما يُسمّى "نَنْ أكتورز" (أي غير الممثِّلين) الذين لَم يتلقَّوا تدريباً فنّياً كافياً وعادةً ما يلعبون أدواراً مشابِهةً لحَياتِهم اليوميّة، ويمثلون كثيراً في صناعة الأفلام المستقلة. ساعَدَ استخدامُ غيرِ الممثِّلين في تقديم صورةٍ واقعيةٍ وحقيقيةٍ للشخصيات والمواقف في الفيلمين. فالطفلُ زين الرفاعي الذي أذهلَنا أداؤه في فيلم كفرناحوم هو في الحقيقة لاجئٌ سوريّ وَظَّفَته نادين لبكي في دور طفلٍ لبنانيٍّ فقيرٍ، وهي ممارَسةٌ تتّبعُها لبكي في معظمِ أفلامِها مثل "كاراميل" و"وهلأ لوين". أجاد زين أداءَ دورِ الفقيرِ لأنّه لَم يكُن يمثِّل دوراً مرسوماً له، فهذا واقعُه اليوميُّ الذي يدركُه جيّداً. كيف لا، وهو لاجئٌ سوريٌّ في لبنان. مَرّةً أُخرى، يتجلّى التشابهُ الشديدُ بين المهمَّشِين، سواءً كانوا لاجئين أو فقراء. فكلاهما، زين في الحقيقة وزين في الفيلم، يعيش حياةً صعبةً تكاد تتطابق.

بالمقابل، اللاجئون السوريّون في فيلم البلوط القديم هُم لاجئون سوريّون لجَؤوا إلى بريطانيا. وسكّان المنطقة الإنجليز هُم مواطنون إنجليزٌ يعيشون في شمال البلاد، وبعضُهم يَنشَطُ في مسائلَ تتعلّق بحقوق اللاجئين. مِثْلَ نادين، استخدَم كين لوتش غيرَ الممثِّلين لأنه يُدرِك جيّداً ألّا أحدَ سيُجيدُ أداءَ دورِ اللاجئِ سوى اللاجئ. فهو يعرف جيّداً ظُلمَ نظامِ الأسد الذي أَجْبَرَه على الرحيل من البلاد وتحمُّل العنصرية والكراهية. ولن يُجيدَ أداءَ دورِ الإنجليزيّ الشماليّ سوى الإنجليزيّ الشماليّ الذي يعرف جيّداً معنى التهميش من الدولة. خلفيةُ لوتش اليساريةُ ومعرفتُه الواسعةُ بالقريةِ التي يصوّر فيها مَكَّنَتاهُ من تقديمِ أحداثٍ واقعيةٍ، فاستطاع أن يُنتِجَ مشاهدَ حَدَثَت فعلاً، أبرزُها المطبخُ المجتمعيُّ الذين يُمكِنُ للجميع أن يأكلَ فيه بصرفِ النظر عن جنسيَّتِه وطبقتِه الاجتماعية.

يمكن نقدُ استخدامِ الممثِّلين غيرِ المحترفِين من جهة كونِه شكلاً من أشكال الاستغلال الرأسماليّ. يأتي المخرجُ ليستخرجَ بعضَ القصصِ من فئةٍ اجتماعيةٍ معيَّنةٍ، لا سيّما الفقراءُ واللاجئون، ثمّ يرحل ولا يحقِّق أيَّ تحوّلٍ ملموسٍ لهم بعد أن يَستخدِمَ معاناتِهم ليصنع منها مادّةً لجذبِ الرأيِ العامِّ والإعلام. في "كفرناحوم" مثلاً، أُلقِيَ القبضُ على المهاجِرةِ الإريتريةِ يوردانوس شيفراو التي أدّت دورَ رَحيل. كذلك رُحِّل الطفلُ يوناس مع والدتِه الحقيقيةِ إلى كينيا عقب الانتهاءِ من تصويرِ الفيلم. ولكن في المقابل قد تفيد الشهرةُ المؤقّتةُ التي يحصل عليها بعضُ الممثِّلين غيرُ المحترفين في تحسين أوضاعِهم الفرديةِ، مع أنّها لا تغيِّر الواقعَ البنيويَّ من فقرٍ وتهميشٍ لهذه الفئة. الطفل زين هو النموذجُ الأمثلُ هنا. فقد حصل وعائلتُه على حقِّ اللجوءِ في النرويج بعد عرضِ فيلم كفرناحوم في مهرجان كانّ السينمائيّ وفوزه بجائزةِ لجنةِ التحكيمِ، وهو ما يُحسَبُ للفيلم. لكن هل تغيَّر واقعُ اللاجئين السوريّين في لبنان؟ قطعاً لا.

يشترك فيلما نادين لبكي وكين لوتش أيضاً في توظيف العائلة لنَيْلِ تعاطفِ المُشاهِد. فأبطالُ الفيلمَيْن ليسوا أفراداً منعزلين عن عائلاتهم. عائلةُ زين مكتملةٌ ولكنها قاسيةٌ على أطفالِها ولا توفّر دعماً لهم. على الجانب الآخَر، يغيب الأبُ عن عائلة يارا، بل هو مُغيَّبٌ في سجون نظام بشار الأسد (صُوِّرَ الفيلمُ قبل فتح السجون وسقوط النظام في سوريا). تسليطُ الضوءِ على العائلةِ من خلال أطفالٍ يفتقدون دعمَ ودفءَ العائلةِ يُضيف طبقةً أُخرى من التعاطف تتجاوز معاناة الفقر واللجوء. فالأسرة التي يغيب عنها العائلُ بسبب الحرب أو لأيِّ سببٍ آخَر، هي حتماً محطُّ تعاطف.

لعلّ أكثرَ ما يجتمع عليه الفيلمان تقديمُهما رؤيةً متعاطفةً مع الظالم والمظلوم على حدٍّ سواءٍ، مع نوعٍ من التحليل لأسباب العنصرية والكراهية اللتَيْن تمارسهما بعضُ الشخصيّاتِ، مِن غير أن يجعلاها تبدو شرّيرة. في مشهدٍ من فيلم كفرناحوم، يصرخ والدُ زين: "نحن حشرةٌ، عارٌ على المجتمع". ويؤكّد أن المجتمع لا يعبأ بالفقراء مثلهم. فيما تبكي أُمُّ زين في مشهدِ المحاكمة، وتُلقي باللائمةِ على المجتمع الذي يُنظِّر عليها من دون أن يَعِيَ ظروفَها. أهلُ زين ظلموه وظلموا أختَه سحر لكنهم في الوقت نفسه ضحيّة المجتمع والمنظومة الكلّية، بحسب المخرجةُ نادين لبكي في لقائها مع الناقد السينمائي حسام عاصي على هامش مهرجان كانّ السينمائي سنةَ 2018. تقول نادين في اللقاء إن "الناس المهمَّشة من السيستم [المنظومة الكلّية] والمجتمع بينتموا لذات العالم" مع أنها سرعان ما ستعود لتُشدِّد على مسؤولية الأهل. وهذه نقطةٌ نعودُ إليها لاحقاً.

في فيلم البلوط القديم يدفعنا المخرج كين لوتش لأنْ نتفهّمَ سببَ كراهيةِ بعضِ سكّان البلدة الإنجليز تجاه اللاجئين السوريين، موحِياً أن السببَ نابعٌ من مشاكل اقتصاديةٍ بنيويةٍ أكثر من كونه عنصرياً بحتاً. فذاكرةُ التهميشِ ولومُ السياساتِ الاقتصاديةِ، التي لا تهتمّ بهؤلاءِ، حاضران في معظمِ الحواراتِ بين السكّان. في أحدِ المشاهدِ، يقول واحدٌ من أهل البلدة إنّ اللاجئين يُرسَلون إلى "مَكَبّ نفايات". ويَقصِدُ بمَكَبِّ النفايات هنا بلدتَه المهمَّشةَ التي تَفتَقِر إلى البنية التحتية الملائمة والفضاءات العامّة التي يتفاعل الناس فيها ويتعرّفون على بعضِهم بعضاً، ما يقلّل من الصراعات المحتملة. لكن توزيع اللاجئين على بلداتٍ معيّنةٍ دون سواها ليس إلّا عملية إخفاءٍ وإزاحةٍ عن العاصمة، فيعانون مع من يعانون هناك في صمت. وفي هذا الإطار، فإنّ شمال شرق إنجلترا الذي تدور أحداث الفيلم فيه يُعدُّ من أفقر مناطق المملكة المتحدة، لكنه في الوقت نفسه من أكثرها استقبالاً للاجئين.

يرى لوتش أنّ هناك بُعداً بنيوياً وجوهرياً يتعلّق بالرأسمالية واللامساواة العالمية وراءَ مسألة الهجرة واللجوء إلى الدول الغنيّة. فهو يؤمن بأنّ اللامساواة العالمية وُلِدَت من رحمِ الاستعمار وعولمةِ الرأسمالية التي قامت على استغلال دول الجنوب. وبالتالي لا يصحّ لسكان الدول الغنيّة الذين يعيشون برفاهيةٍ نتيجةَ هذا الاستغلال أن يَعُدّوا مشكلةَ اللجوء خارجةً عنهم، بل على العكس. فالدول الغربية، بتاريخِها الاستعماريّ وما تسبّبه من صراعاتٍ وحروبٍ هي جزءٌ لا يتجزّأ من الأزمة، لا بل ضليعةٌ فيها. لذلك يحاول لوتش طوالَ الفيلمِ التوضيحَ أنّ الفقير الإنجليزي لا يتشارك مع اللاجئ التهميشَ فحسبُ، بلْ مُسَبِّبَه أيضاً، أي النُخَب الرأسمالية الغربية. لكن المواطن الإنجليزيّ لا يَعِي ذلك، وإنما يشعر فقط بأنه مهمَّش. وفي مثل هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية، يظهر سؤالُ الاستحقاقية حين يَشعُر هذا المواطنُ المهمَّشُ بأنه أكثر استحقاقاً وجدارةً بالدعم من اللاجئ. يساعدُنا لوتش على فهمِ جذورِ أزمةِ التهميشِ واللجوءِ وبُعدِهما التاريخيِّ، ويساعدُنا على فهمِ أسبابِ العنصريةِ التي تُمارَسُ على اللاجئ. وهو بذلك يُوجِّهُ اللَّومَ نحو البنيةِ (أو السيستم) أكثرَ من الأفرادِ. ولا يعني ذلك انعدامَ دورِ أو فاعليةِ الأفراد، بل على العكس. فصاحبُ حانةِ البلوط القديم، تي جيه، اختار أن يساعدَ مجتمعَه والوافدين السوريّين، خلافاً لبعضِ أصدقائِه الذين تصرّفوا بعنصرية.

يجتمع الفيلمان أيضاً على استخدام البيئةِ المحيطةِ للشخصياتِ أداةً لرسمِ صورةٍ حَيّةٍ للتهميش. ففي "كفرناحوم" و"البلوط القديم"، لم تتبقَّ فضاءاتٌ اجتماعيةٌ يمكن للناس المهمَّشة التفاعلُ فيها. في الفيلمِ الأوّلِ تدور أغلبُ الأحداث في الحانةِ، الفضاءِ العامِّ شبهِ الوحيدِ الذي يجتمع فيه سكّانُ البلدة. غيابُ الفضاءات العامّة يزيد من ابتعاد الناس عن بعضها بعضاً ويزيد من احتمالية تكَوُّنِ الصور النمطية، وبالتالي الصراعات، عن الفئةِ التي لا نعرفُها جيّداً. انطلاقاً من هنا، ستكون الحانةُ هدفَ السكّان العنصريّين الذين لَم تعجِبْهم فكرةُ المطبخِ المجتمعيِّ، لأنه يجمع اللاجئين مع سكّان البلدة في فضاءٍ مشترَك.

في المقابل، مثّلت الشوارعُ والبيوتُ المتهالكةُ مكانَ التهميش والفقر في فيلم كفرناحوم. يتحرّك زين بين الأزقّة في الشارع بحثاً عن فرصةٍ للبقاءِ حياً بسبب غيابِ فضاءاتٍ اجتماعيةٍ مناسبةٍ لفقرِه المدقِع. الشارعُ هنا كان الفضاءَ العامَّ الذي جَمَعَه بالمهمَّشين أمثالِه، وبسببه انتقل إلى فضاءٍ عامٍّ آخَر جَمَعَه أيضاً بالمهمَّشين أمثالِه وهو السجن. في حين مَثَّلَت المحكمةُ فضاءً يُظهِر الهُوّةَ الكبيرةَ داخل المجتمع الواحد. ففيها، تحكم الطبقةُ الوسطى والغنيّةُ على الفقراء. وفيها، يتجلّى النظامُ الاجتماعيُّ والاقتصاديُّ بأبهى حُلَلِه.

استخدم الفيلمان غيابَ الفضاءات العامّة ليعكسا صورةَ واقعِ المهمَّشين اليوميِّ، ولجَعْلِ التهميش أوضح. فتصويرُ الحياة اليومية بهذه الفضاءات الاجتماعية المتآكِلة يعزّز فكرةَ أنّ معاناة الفئات المهمَّشة ليست محضَ قضايا فرديةٍ، بل هي جزءٌ لا يتجزّأ من التركيبة الاجتماعية.


على أنّ أوجُهَ الاختلافِ بين الفيلمَيْن كثيرة. إذْ تدور أحداثُ "كفرناحوم" في لبنان، بينما "البلوط القديم" في إنجلترا. والجغرافيا المختلفة يُبنى عليها مجتمعٌ مختلفٌ وإمكانياتُ دولةٍ مختلفة مع أُطرٍ قانونيةٍ مختلفة. في إنجلترا، أساسيات الحياة من طعامٍ ومسكنٍ وملبسٍ متوفّرةٌ أكثر من لبنان. يملك الفقيرُ في إنجلترا مقوِّماتِ الحدِّ الأدنى من الحياة، وينشغل بكيفية تحسين هذه الحياة. أمّا في لبنان، فنسبة الفقر المدقِع أعلى من إنجلترا قياساً على الكثافة السكانية. ففي حين يوجد أكثر من ستّةٍ وثلاثينَ ألفَ فقيرٍ في لبنان بين نحو ستّةِ ملايين نسمةٍ، هناك في إنجلترا نحو ثلاثةٍ وتسعين ألفَ فقيرٍ بين أكثر من ثمانيةٍ وستّين مليون نسمة. وغالباً لا يملك الفقير في لبنان الحدَّ الأدنى من مقوِّمات الحياة الأساسية، ويكافِح لتأمينِ أبسطِ حقوقِه.

هذا الاختلافُ بين الفيلمَيْن ينسحب أيضاً على الإطار القانونيّ الخاصّ باللجوء. ففي حين صدّقت المملكة المتحدة على اتفاقيةِ سنةِ 1951 الخاصّةِ بوضع اللاجئين، لَم يصدِّق لبنانُ عليها. والفرق في هذه الحالة كبيرٌ، إذ يُمكِنُ لنازحٍ من بلدِه طَلَبُ اللجوءِ في إنجلترا، وقد يُوطَّن لو قُبِلَ طَلَبُه. فيما يُعَدُّ لبنان دولةَ عبورٍ، أو ترانزيت، مؤقّتةً لطالبِي اللجوء قبل أن يَلجَؤوا إلى بلدٍ ثالث.

وفي موضوعِ اللجوءِ نفسِه، كان اختيارُ المخرجَيْن مختلفاً أيضاً. ففي حينِ اختارَ كين لوتش لاجئين حصلوا على توطينٍ قانونيٍّ في إحدى قرى شمال إنجلترا، ركّزت نادين لبكي على فئةِ المهاجرين الذين لا يملكون أوراقاً ثبوتيةً ويُعَدُّ وجودُهم في لبنان غيرَ قانونيٍّ، ويَبقَوْن عُرضةً للتوقيف والترحيل في حالِ أُلقِيَ القبضُ عليهم. اختارت لبكي فئةً أكثرَ تهميشاً نظيراً للفقير اللبنانيّ الطفل زين، الذي لا يحمل بدَوْرِه أوراقاً ثبوتيّة.

الاختلافُ الإضافيُّ بين الفيلمَيْن هو مستوى المكان الذي تدور فيه الأحداثُ، القريةُ مقابل المدينة. يَعرِفُ سكّانُ القريةِ الإنجليزيةِ الصغيرةِ بعضُهم بعضاً، ويرتبطُ العديدُ منهم بصداقاتٍ قديمةٍ تتّسم بتاريخٍ نضاليٍّ تضامنيٍّ مبدئيٍّ مرتبطٍ بشمال شرق إنجلترا عموماً. وظّف المخرجُ هذا التاريخَ وهذه الحميميةَ بامتيازٍ في الفيلمِ ضمن علاقاتٍ مشخصَنةٍ مليئةٍ بالمشاعر لا تغفل أهمّيةَ المبدأ. فاختيارُ تي جيه لمبدأ التضامن مع يارا واللاجئين السوريين عَرّضَه لخسارةِ أصدقائه. وعن اختيار المكان، رأى لوتش في لقاءٍ معه على هامش مهرجان غينت السينمائي 2023 الذي يُقام في مدينة غينت البلجيكية، أنه في أوقات الأزمات نهرَع إلى المناطق الفقيرة حيث اعتاد الناسُ مساعدة بعضِهم بعضاً، ما يعني أنها حُكماً مكانٌ مُحتمَلٌ للتضامن.

مقابل ذلك، تدور أحداثُ فيلم كفرناحوم في بيروت، مجتمعِ المدينة الذي يتّسم بكونِه مجتمعَ أغرابٍ لا يجتمع الناس فيه بعلاقاتٍ مباشرةٍ وشخصيةٍ، ما يجعل بناءَ الثقةِ تحدّياً صعباً لأنّ الأخلاقَ في هذا المجتمع غالباً ما يكون منبعُها الفضيلةَ الشخصيةَ وليس الروابطَ الشخصية. فاختيارُ زين عدمَ سرقةِ رَحيل، وإصرارُه على الاعتناءِ بطفلِها يوناس بعد توقيفِها، يعكس معدناً نقيّاً. كان يمكنُه أن يهربَ ولا يشعرَ بالخجل المجتمعيّ، لكن هنا تتجلّى فضيلةُ زين.

يبقى الاختلافُ الأساسيُّ بين الفيلمَيْن الإنجليزيِّ واللبنانيِّ متجلّياً في خلفيةِ المخرجَيْن الاجتماعية والفكرية. كين لوتش لا يُشبِهُ نادين لبكي، فكلاهما يأتي من خلفيةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ مختلفةٍ عن الآخَرِ، ويظهر ذلك جليّاً في الفيلمَيْن. فقد اختلفا في تحديد المتّهَم الأوّل في أزمة الفقر والتهميش.

يركّز فيلم كفرناحوم جوهريّاً على البُعد الاجتماعي للفقر المدقِع، ويُظهِر مسؤوليةَ المجتمع عن أوضاع الفقراء والمهمَّشين بشكلٍ أكبر من الدولة. المجتمع بكلِّ أطيافِه، حتى الأهل. ومع أنّ نادين لبكي تضع اللومَ على المنظومة الكلّية أو "السيستم" كما قالت في لقائها مع الناقد حسام عاصي، إلّا أن فكرةَ محاكمةِ زين أبوَيْه ونهايةَ الفيلم توحِيان للمُشاهِد بأنّ اللَّومَ الأكبرَ موجَّه نحو الوالدَيْن الفقيرَيْن لإنجابِهما أطفالاً لا يستطيعان إعالتَهم. تحاول نادين أن تتعاطفَ مع الفقير ضدّ الدولة، لكن انتماءَها الطبقيَّ سرعان ما يعيدُها إلى موقعِها، مثلما تجلّى في لقائها مع حسام عاصي. في اللقاء، يواجهُها حسام بأنّ فيلمَها يلوم الأهلَ الفقراءَ الذين يُنجِبون أطفالاً. فتحاول لبكي أن تنفيَ ذلك مستعينةً بمشهدِ المحكمة، قائلةً: "وجود المحكمة بالفيلم بيِقلُب المعادلة شويّ". يردّ الناقدُ: "لكنكِ وضعتِ الأهلَ في المحكمةِ وليس السلطةَ"، فتجيبُ: "حتى يواجِهوا السلطةَ. هذا المكان الوحيد الذي يمكنهم مواجهة السلطة فيه". يكرّر حسام السؤالَ: "تلومين الأهلَ لأنهم ينجبون الأطفالَ ولا يستطيعون إعالتَهم [. . .] كيف تتوقّعين من هؤلاء الناس أن يتوقّفوا عن الإنجاب عندما لا يمكنهم الوصولُ إلى العظةِ والعلمِ والخدمةِ الطبّيةِ التي تساعدهم على التحكّم بعدم الإنجاب؟". فتقول: "نتحدّث هنا عن مسؤولية الإنجاب، عن حقّ الولدِ بحياةٍ كريمة. أكيد السلطة مسؤولة ومسؤولة بشكل كتير كبير، بس الأهل كمان عندن مسؤولية. يفكّروا مرّتين. وفيه أهل لازم يفكّروا عشر مرّات قبل ما يجيبوا ولد". ثمّ تضيف: "الولد مش منتوج غريزي، الولد منتوج عن فعل حُبّ. ما فيك تجيب ولد وتكبّه ع الطريق وبعدين تستنظر إنه الحياة تربّيه". هكذا إذن، تلومُ نادين لبكي الأهلَ. الأهلَ الفقراءَ طبعاً. أكادُ أجزمُ أن الغنيَّ يمكنه الإنجاب بمنظورها، لأنه يملك المالَ ويستطيع تأمينَ منزلٍ لأولاده، حتى لو أهملَهم ولم يهتمّ بهم. تلوم نادين الأهلَ الفقراءَ، متناسيةً ربما أو غيرَ مدركةٍ على الأرجح، أنهم – في حالة "كفرناحوم" على الأقلّ – فقراءُ لدرجةٍ لا يملكون فيها حقَّ الحصول على التعليم لأنهم لا يملكون أوراقاً ثبوتيّة. فكيف نطلب ممّن لَم يَنَلْ حقَّ التعلّم أن يملكَ درجةً كافيةً من الوعي تمكِّنه من التصرّف بحكمة؟ ومع أنها أمضت أربعَ سنواتٍ بين أروقةِ المحاكم وسجونِ الأحداثِ، حسب ما قالت في المقابلةِ، وقابَلَت عائلاتٍ فقيرةً كثيرةً، لَم تستطِعْ نادين أن تجدَ مسوِّغاً للفقير حتى في غريزةِ بقائِه. تريدُه أن يفكّرَ مثلَها، مع أنه لم يَعِشْ حياةً كريمةً مثلَها ولم يُحصِّلْ مستوىً عالياً من التعليم مثلَها.

من ناحيتِه، يختلف كين لوتش عن نادين لبكي، ويمكن اعتبارُ فيلمِه سياسيّاً بامتياز. يَعِي المخرجُ اليساريُّ دورَ الرأسمالية وتأثيرَها المحلّيَّ على الطبقة العاملة. ويَعِي كذلك دورَها العالميَّ في إنتاج اللامساواة والحروب ودفع الناس إلى الهجرة واللجوء، فتجعل من اللاجئين كبشَ فداءٍ عندما تُقنِع المواطنَ المحلّيَّ أن هؤلاء اللاجئين السببُ في تدهورِ أوضاعِ البلاد المعيشية. يبدو هذا واضحاً في فيلم البلوط القديم الذي يبدأ من اهتمامه بقضايا الطبقة العاملة التي يجيِّشها اليمينُ المتطرّفُ ضدّ اللاجئين. لكن لوتش لا يلوم الفقراءَ ولا اللاجئين، بل يحاول إظهارَ حقيقةِ أنّ سببَ معاناةِ الطبقة العاملة هي النُخَبُ الحاكمةُ وسياساتُها الاقتصادية.

بإيلاءِ لوتش أهمّيةً لسؤالِ "لماذا نصنع فيلماً؟" فوق سؤال "كيف نصنعه؟"، فإنه يعطي قيمةً للغاية والهدف ويقدّمهما على الفنّيات. فهو يَعُدُّ دورَ الفيلمِ اجتماعيّاً ويجب أن يرفعَ الوعيَ بالقضايا الاجتماعية. وهذا ما يتجلّى في فيلمِ البلوط القديم برسالتِه الداعيةِ إلى التضامنِ بين الطبقة العاملة واللاجئين لأنّ الطرفَيْن ضحيّة. هي رسالةٌ تدعو للأمل، الذي يقع الناسُ من دونه في اليأس والاغتراب، "وحينها يضرب اليمين" على حدِّ تعبيرِه في الكلمة التي ألقاها بعد عرض فيلم البلوط القديم ضمن مهرجان كانّ السينمائيّ سنةَ 2023.

ولكنّ الأملَ الذي يدعو إليه لوتش "يجب أن نعملَ من أجلِه"، حسب ما قال على هامش العرض الأوّل لفيلمِه في لندن. من هنا كان التاريخُ النضاليُّ للقرية الإنجليزية مركزياً في "البلوط القديم" لأنّ إدراكَ الماضي مهمٌّ لتغيير الحاضر والمستقبل. فاهتمامُ يارا بالتصوير في سوريا وفي مخيّم اللاجئين ثمّ إنجلترا يمنحُها الأملَ والقوّة. يصبح هذا الاهتمامُ لاحقاً مفتاحَ ارتباطِها بتي جيه بعد أن يُصلِحَ كاميرتَها، ويُرِيَها صورَ مَسيراتِ نضالِ عمّالِ المناجم ضدّ السلطةِ. تتعرَّفَ يارا حينها إلى دورِ والدَيْه في توفير الطعام للعمّال إبّانَ الإضرابِ، وتقيمَ في المطبخ المجتمعيّ رِفقتَه وفي المكانِ نفسِه الذي كان يأكل فيه عمّالُ المناجم سابقاً، أي في حانة البلوط القديم. يحرص لوتش على هذه الاستمرارية بين الماضي والحاضر.

بدوره، "يُرمسن" (من رومانسية) فيلم كفرناحوم المعاناةَ ويجمِّلُها. الفقرُ والتهميشُ ليسا إلّا رتوشاً في لوحةٍ فنّية. ومعاناةُ الحاضر هي المركزُ، بلا فهمٍ لجذورِ الأزمةِ ولا أملٍ بتغييرها في المستقبل إلّا على صعيدٍ فرديٍّ حين تُستخرَجُ بطاقةُ هويّةٍ لزين لاحقاً بعد عرض فيلم كفرناحوم في الصالات. لا يعني ذلك أن الفيلمَ سيِّئٌ، لكنه يركّز على سؤال "كيف" نصنع فيلماً بدلاً من "لماذا" نصنعه.


المواطن واللاجئ والمهاجر، جميعُها فئاتٌ غيرُ قانونيةٍ وغيرُ طبيعيةٍ في الحقيقة، بل مِن صُنعِ الإنسان. رئيسُ قسمِ الدراساتِ الثقافيةِ المقارنةِ في جامعة هيوستن، نيكولاس دي جينوفا، يقدّم مفهومَ "إنتاج اللاقانونية" في مقالِه "عدم قانونية المهاجرين وقابلية الترحيل في الحياة اليومية" المنشورِ سنةَ 2002. ويبيِّن دي جينوفا أن فئةَ "غير القانونيّ" ليست مُنزَلةً من السماء، بل نتيجةَ سياساتِ الدولة المتغيِّرة وقوانينها، وبالتالي فالدولةُ هي من تصنع المهاجرَ غيرَ القانونيّ.

تعمل السياساتُ النيوليبراليةُ، وهي الفلسفة الاقتصادية التي تدعم رأسماليةَ السوقِ الحُرّةِ والحَدَّ من تدخّل الدولة في الاقتصاد، على التفرقة القانونية بين مختلف الفئات المهمَّشة. وتعمل أيضاً على فصلِ هذه الفئات في الفضاءاتِ العامّةِ بسياساتٍ مثل الخصخصة، أي التحوّل إلى القطاع الخاصّ، والتقشّف التي تدفع إلى المنافسة على الموارد وخدمات الرَفاهِ والمَسْكَن. إدراكُ ذلك واستيعابُه ضروريّان لتخطّي التقسيمات التي تَفرضُها السرديات النيوليبرالية. تستهدف سياساتُ النيوليبرالية المُواطِنَ وتطردُه من مسكنِه بمشاريع التطوير العقاري، فيما تتسبّب بحالاتِ نزوحٍ جماعيٍّ باستثمارها في الحروب والطغاة. والنتيجةُ واحدةٌ: مُواطِنٌ مهمَّشٌ ولاجئٌ بلا سقفٍ يحميهما، ويَهيمان في الأرض بحثاً عن أساسياتِ العيش.

ناقَشَ فيلما كفرناحوم والبلوط القديم الفضاءاتِ والتفاعلاتِ الاجتماعيةَ لأشخاصٍ من مختلف الأوضاع القانونية. نَراهم فاعلِين، وليسوا مجرّد ضحايا، ولكلّ فردٍ منهم قصصٌ وتجاربُ خاصّة. اشتراكُهم في التهميش قَرَّبَهم من بعضِهم بعضاً وخَلَقَ فرصاً للمساعدة والتضامن. هنا مجدّداً يظهر سؤالُ "مَن للفقيرِ غيرُ اللاجئ؟" هذه النظرةُ تعيد تسييسَ مفاهيمِ المواطنةِ واللجوءِ والطردِ، متحدّيةً السرديات النيوليبرالية التي تَستخدِم لغةَ القانون والاقتصاد لتفرّق بين الناس. تضع إعادةُ التسييس المسؤوليةَ على المُسبِّب، وتفتح بابَ الفعلِ أمام الجميع بغَضِّ النظرِ عن وضعِهم القانونيّ أو الاقتصاديّ. الوعي بالتهميش المشترَك قد يساعِد في ردمِ الهُوّةِ المتخيَّلةِ والعملِ على تجسيرِها بجهودِ الأفرادِ والفضاءاتِ الاجتماعية. هنا فقط تصحُّ مقولةُ كين لوتش، التي قالَها بعد عرضِ فيلمِه في مهرجان كانّ السينمائيّ: "على الأقلّ نحن جيرانٌ، وإذا قاتَلْنا بقوّةٍ سننتصر".

اشترك في نشرتنا البريدية