فرانز فانون.. المناضل الذي حارب الاستعمار الفرنسي والعنصرية

أصيب الطبيب النفسي والمناضل فرانز فانون بسرطان الدم، وكان قد التقى سارتر. فقدّم أطروحات متأثرة بكتاب الأخير "الوجود والعدم" عن النضال ضدّ الاستعمار كنضاله ضدّ مرضه الشخصي.

Share
فرانز فانون.. المناضل الذي حارب الاستعمار الفرنسي والعنصرية
حيوية فانون جذبت سارتر وكان فانون مفتوناً بسارتر راغباً أن يُحادثه طوال اليوم | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

التقى المفكر المنحدر من جزيرة مارتينيك الفرنسية في البحر الكاريبي فرانز فانون مرتين في روما مع أحد أشهر فلاسفة القرن العشرين الفرنسي جان بول سارتر. كان فانون واحداً من أهم مفكري مناهضة الاستعمار ممن عرفتهم فرنسا والجزائر منذ منتصف القرن الماضي. لقاء فانون وسارتر الأول حصل منتصف سنة 1961 بعد أن استعاد فانون جزءاً من عافيته إثر إصابته بمرض سرطان الدم. وافق سارتر حينها على كتابة مقدمةِ كتابِ فانون الأخير الذي حمل عنوان "معذبو الأرض". كان هذا اللقاء مفعماً بمشاعر جياشةٍ متبادلةٍ بين المفكرَين إذ جذبت حيوية فانون الاستثنائية سارتر وكان فانون مفتوناً بسارتر راغباً أن يُحادثه طوال اليوم.

حَرص فانون أن يكتب سارتر مقدمة "معذبو الأرض" لأنه اعتقد أن شهرة الفيلسوف الفرنسي الكبيرة ستساعد كتابه على الانتشار. رحّب سارتر بفكرة كتابة المقدمة، بل إنه أُعجب بالكتاب وبشخصية فانون حتى أن كلود لونزمان، محرّر مجلة "الأزمنة الحديثة" والصديق المشترك الذي رتّب اللقاء في روما، علّق بأنه "لم ير سارتر مفتوناً بأحد فتنته بفانون في هذا اللقاء". بقي الاثنان، وبحضور لونزمان والفيلسوفة الفرنسية مؤلفة كتاب "الجنس الآخر" سيمون دي بوفوار، يتحدّثان بلا انقطاع طوال اثنتي عشرة ساعة بدأت منذ وجبة الغداء إلى وجبة العشاء وطوال المساء حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. لم يقطع هذا الحديث المتدفّق سوى تدخّل سيمون دي بوفوار الصارم وإصرارها أن سارتر بحاجة إلى النوم، فما كان من فانون إلا أن عبّر عن استيائه من هذا التصرّف قائلاً للونزمان: "أنا أكره الذين يدّخرون مواردهم"، وأضاف بأسلوب لطيف أنه مستعد أن "يدفع عشرين ألف فرنك يومياً لمواصلة الحديث مع سارتر". روى هذه القصة إدوارد سعيد أيضاً في فصلٍ في كتبه بعنوان "عندما التقيت سارتر" ووردت الرواية في كتاب فخري صالح بعنوان "إدوارد سعيد: دراسة وترجمات" الصادر سنة 2001.

لم ينم فانون يومها. فقد وصل لونزمان ودي بوفوار إلى المطار لاستقباله في قاعة الانتظار، وبقي فانون "في السيارة المتوجّهة إلى فندق [الذي يقيم فيه] سارتر، يتحدّث بشكلٍ محموم عن المجهود الحربي…" في حرب التحرير الجزائرية التي كان يعرف كل تفاصيلها. واتصل حديث السيارة بالحديث الطويل مع سارتر، ثم تواصل مع لونزمان حتى الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي. كان فرانز فانون مفعماً بالحيوية قادراً، قبل أن يمرض، على العمل من سبع عشرة إلى عشرين ساعة في اليوم. لكن مرضه العصيّ على العلاج جعله لا يهدر ساعة واحدة في النوم، بل إنه كان يكره من يدّخر صحته وكأنها موردٌ يتناقص بالإنفاق.

وصفتْ سيمون دي بوفوار فانون في هذا اللقاء أنه "حادّ الذكاء ومفعم بالحيوية ويتمتع بروح الدعابة الكئيبة وحاد الطرح في الأسئلة وبارع في المحاكاة الساخرة وقادر على وصف الأحداث كما لو كانت تقع أمام أعين المستمعين". إلا أن فانون في اللقاء الثاني مع سارتر كان مجرّداً من كل هذه الصفات، ولو قُدّر لأحد أن يرى فانون في اللقاء الثاني فلن يصدّق أنه نفس الشخص الذي كان موجوداً في اللقاء الأول. وصل فانون إلى روما في سبتمبر 1961 في طريقه إلى واشنطن للعلاج من سرطان الدم الذي جعله خائر القوى. وعلى خلاف اللقاء الأول، اضطر جان بول سارتر هذه المرة إلى الذهاب بنفسه إلى الفندق الذي يقيم فيه فانون الذي بدا منهكاً من الرحلة مستلقياً على سريره عاجزاً عن الحركة. حاول سارتر الحديث معه لكنه كان عاجزاً حتى عن الإجابة، ومع هذا كان وجهه متوتراً وظلّ يتحرّك على سريره وكأنه يُظهر الاشمئزاز من حالته الجسديّة. غادر سارتر اللقاء وهو في غاية الحزن، فشتان بين فانون في اللقاء الأول وفانون في اللقاء الثاني، بين فانون المفعم بالحيوية الذي لا يكفّ عن الحديث على مدى يوم كامل وفانون الآخر خائر القوى طريح الفراش، العاجز حتى عن الإجابة عن السؤال. لكن هذا ما كان يقصده فانون حين أبدى استياءه ممن يدّخر صحّته كبخيلٍ يدّخر ماله لغده، ثم يموت قبل أن يأتي هذا الغد المنتظر.

كان فانون في اللقاءِ الثاني نسخةً حزينةً وذابلةً من نفسه في اللقاء الأول. وبقدر ما كان المرض ينتشر ويستفحل في جسد فانون، كان هذا الجسد يَضمُر وينكمش حتى فقد المفكّر الفرنسي الكثير من وزنه وبدا كطفلٍ في العاشرة من عمره. كان كتابُ "معذبو الأرض" سيّدَ اللقاء الأول والثاني بين سارتر وفانون، وهو كذلك الحدّ الفاصل بين فرانز فانون قبل المرض وفرانز فانون بعد المرض. بدأ كتابته إبان مرضه وانتهى منه وقد هدّ المرض جسده. نُشر الكتاب وفانون على فراش الموت وقد قرأ كتابَه أو قُرئ عليه، ثم مات.


الإنسان عرضة لصروف الحياة وحوادثها التي تؤثّر فيه وتغيّره تغييراً كبيراً مثل المرض الخطير والشيخوخة. العنصرية تفعل ذلك أيضاً، والعنصرية موضوع كتاب فرانز فانون الأول "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء". تفرض العنصرية على الأسود أن يكون أكثر بياضاً أو أن يبقى حبيس سواده كارهاً الأبيض، وتفرض على الأبيض أن يكون منغلقاً على نفسه معتقداً تفوّقه. العنصرية بهذه الطريقة إنما تغيّر الأسود والأبيض معاً وتفعل بالاثنين ما يفعله المرض بضحاياه، فتحوّلهم إلى أشخاص مختلفين ومرضى نفسيين يحتاجون، برأي فانون، إلى العلاج لإخراجهم من هذه الحالة. يكتب فانون أن "الأسود عبدٌ لدونيّته، والأبيض عبدٌ لتفوّقه"، ويتصرّف الاثنان بطريقة مرَضَية عُصابية. فالأبيض الذي يمقت الأسود ويحتقره مريضٌ عصابيّ مثل الأسود الذي يكره الأبيض، أو يسعى لأن يظهر أمامه وكأنه أكثر بياضاً مما هو عليه في الواقع.

يؤمن فانون بكونيةٍ إنسانيّةٍ استمدّها من عصر التنوير الفرنسي في القرن الثامن عشر، وظلّ يبشّر بها منذ أول كتاب له سنة 1952 بعنوان "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" حتى آخر كتبه في سنة 1961 الذي حمل عنوان "معذبو الأرض". كان فانون يرى أن المسألة تتصل بالإنسان وليس بلون بشرته، فالعنصريّ يحتقر الإنسان حين ينفي الصفة الإنسانية عن الأسود، وحين يتوهّم أن الأبيض هو وحده الإنسان الحقيقيّ دون سواه من البشر. طالب فانون بالثورة والتحرير سنة 1952 حتى قبل انضمامه للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي سنة 1956. الثورة التي طالب بها فانون سنة 1952 كانت ثورة إنسانيّة ضد النظام العنصري، ثورةٌ تمهّد الطريق "نحو إنسانيّة جديدة" وثورة تحرّر الإنسان من أمراضه وأغلاله ليعيش في عالم يؤمن بالإنسان بمعزلٍ عن لونه وعرقه.

أراد فانون أن يكون كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" بمثابة "دراسة عيادية سريرية" لمرضى العنصرية من البيض والسود معاً، فخصص كتابه للتركيز على العديد من الحالات التي عايشها أو صادفها مرّاتٍ عدة لمرضى كثيرين قصدوه طلباً للعلاج. من أمثال ذلك، الأسود الذي يريد أن يكون أكثر بياضاً بقدر اتقانه اللغة الفرنسية واحتقاره لغةَ أسلافه، والمرأةُ السوداء التي تريد أن تكون بيضاء أو أن تحظى ببعض البياض لمجرد أن يحبّها رجل أبيض، والرجل الأسود الذي يريد أن يصير أبيض لمجرد أن تحبّه امرأة بيضاء، والأسود المارتينيكي الذي لا يرى نفسه "زنجيّاً" لأن "الزنوج" يعيشون في إفريقيا فقط، والأسود المارتينيكي نفسه الذي يكتشف أنه "زنجيّ" مثل الإفريقيّ بمجرد أن تطأ قدمه أرضاً أوروبية، والرجل الأسود الذي يضاجع البيضاء انتقاماً، والطبيب الأسود الذي أراد أن يكون طبيباً في الجيش الفرنسي لا لشيء سوى أن يكون تحت إمرته مرضى بيض، والأسود الذي يبحث عن هوية سوداء خالصة ونقية ردَّ فعل على الأبيض الذي يعد السواد انحرافاً لا إنسانيّاً. تعامل فرانز فانون، الطبيب النفسيّ حديث العهد بالمهنة، مع هذه الحالات على أنها حالات مرضية وعقدُ نقصٍ أو تفوّقٍ تتطلب تدخّلاً علاجياً، واعتقد أن المرضى الذين سيتعرّفون على حقيقة مرضهم في هذا الكتاب "سيخطون خطوة إلى الأمام" على طريق العلاج.

أبدى فانون في الكتاب وعياً مبكراً بقوة تأثير الاستعمار في بنية العنصرية في المركز الاستعماريّ وفي المستعمرات، وذكر في الكتاب أنه لن يشفق مطلقاً "على الحكّام المستعمِرين القدامى" بل سيجعلهم هدفَ نقده مثل سود المستعمرات المرضى. أراد عندما ناقش مسألة "الأسود واللغة" في الفصل الأول بكتابه توسيع دائرة استهدافه من السود إلى كل إنسان مستعمَر، إلى "كل شعب مستعمَر – أي كل شعب نشأت في صميمه عقدة الدونيّة، بسبب دفن الأصالة الثقافيّة المحليّة – يتموضع بإزاء لغة الأمّة المتحضّرة، أي الثقافة (ثقافة بلد المستعمِر)". إلا أن فانون عاد ليقرّر أن الاستعمار ذو طبيعة عنصرية، إلا أنها ليست عنصرية استثنائية ومتفرّدة بين مختلف أنواع العنصرية، وهو لا يرى فرقاً كبيراً بين معاداة السامية ومعاداة اليهود، وبين العنصرية الاستعمارية تجاه الشعوب المستعمَرة. فكلتاهما عنصريّتان تُجرّدان الإنسان من إنسانيته، وتتعاملان معه بدونية واحتقار، سواء كان أسودَ مستعمَراً أو أبيضَ يهوديّاً. 

خلص سارتر في دراسته عن اليهود إلى أن "اللاساميّ هو الذي يصنع اليهوديّ"، وكذلك خلص فانون إلى النتيجة ذاتها أن "العرقيّ هو الذي يصنع الدونيّ"، وأن "اللاساميّ هو بالضرورة معادٍ للزنجيّ"، و"عندما تسمعونهم يتحدّثون بسوء عن اليهود، أصيخوا السمع، فالحديث عنكم".

العنصرية الاستعمارية برأي فرانز فانون لم تكن تجربة فريدة واستثنائية، فهي لا تختلف كثيراً عن العنصريّات الأخرى القائمة على ادعاء التفوق العرقي على اليهود أو حتى على العرب. هذا ما يخلص إليه في كتابه الأول قبل أن يصطدم بتجربة الاستعمار الحقيقي في الجزائر سنة 1953. وبما أن الاستعمار ضربٌ من العنصرية، وعنصريته ليست عنصرية استثنائية، إذ يمكن التشافي منها كالتشافي من العنصريّات العرقية الأخرى. والعلاج هنا ليس العنف بل العلاج النفسي، أو التحرر الذاتي بالتنوير والتحرر الوجوديّ على طريقة إنسان سارتر الذي يصنع نفسه بملء إرادته. يرى فانون أن المهمةَ الأولى والملحّة تأسيسُ عالمٍَ إنساني يكون فيه الإنسان فاعلاً "مع الحفاظ الكامل على احترام القيم الأساسية" التي تؤسّس هذا العالم. ويُعلن بلغةٍ تذكّر بسارتر في كتابه "الوجود والعدم" أن على الإنسان الأبيض والأسود أن يكون أساس ذاته، وأن يقاوم اختزال وجوده في ماضٍ معين أو في هوية خاصة ثابتة ومغلقة، وعليه كذلك أن يتحرّر من "اعتبار الراهن وكأنه نهائي". تملّكتْ فانون سنة 1952 رغبةٌ في التحرّر من أي اختزال لوجوده الإنساني في لونه وماضي عرقه، فالبشرة السوداء "ليست مستودع قيم خاصة" والإنسان الملوّن ليس مسؤولاً عن الثأر لسود القرن السابع عشر ولا لغيرهم، وليس عليه أن يكرّس حياته معدداً القيم "الزنجيّة" لأنه "ليس هناك رسالة [تاريخية] زنجيّة، وليس هناك وِزر أبيض" ولا يوجد عالم أبيض وأخلاقيّات بيضاء، وليس الأسود موجوداً ولا الأبيض. بل الموجود في العالم فقط إنسان يبحث عن ذاته، عن حريّته في الاختيار وفي أن يصنع ذاته. والخلاصة أن على الأبيض والأسود أن يكونا بشراً وأن يطالب أحدهما الآخر بسلوكٍ إنساني، وأن يبتعدا "عن السُبُل غير الإنسانيّة التي كانت سُبُل أجدادهما في الماضي، حتى ينشأ تواصل صحيح" ويتكوّن عالمٌ إنسانيٌّ سليم.


مع كثرة ما كُتب عن فانون بعد وفاته، إلا أن قراءة كتبه الأربعة المنشورة بين سنتي 1952 و1961 هي الخيار الأنسب والأفضل لمعرفته. سيكتشف القارئ بيسرٍ شخصيّة فرانز فانون الحقيقيّة من هذه الكتب التي كتبها بصدق وشفافية.

تُقدِّم كُتب فانون الأربعة نسختين مختلفتين منه، تعقب إحداهما الأخرى لترسم مسار شخصيته في أهم مرحلتين من مراحل حياته. فانون الأول كان طبيباً نفسياً مهتماً بالسواد والبياض يكافح بحماسة ضدّ العنصرية التي تصادر الإنسان ويبحث عن القاسم المشترك الأساسي بين الأبيض والأسود، وهي النسخة التي تظهر بوضوح في كتابه الأول "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" المنشور سنة 1952. أما فانون الآخر فقد كان مناضلاً ثورياً انخرط بعمقٍ في كفاحٍ مسلّح من أجل التحرير وإزالة الاستعمار بعنفٍ لافت في تاريخ حركات التحرر القومي حول العالم، وهي النسخة التي تظهر بقوة في كتابه الأخير "معذبو الأرض" المنشور سنة 1961.

اكتشف فرانز فانون في ثورة التحرير الجزائرية أن المسألة في العالم الاستعماريّ ليست مسألة علاقة بين ذوي البشرة البيضاء والسوداء، بل مسألة شعبٍ أجنبيّ استعمَر بالقوة شعوباً أخرى يستنزف خيراتها ومقدّراتها ويستغلها بأنانية لصالحه دون غيره. ويقع كتابا فانون الآخران "لأجل الثورة الإفريقية" وهو مجموعة مقالاتٍ منشورةٍ بين سنتَي 1952 و1961، وكتاب "العام الخامس للثورة الجزائرية" المنشور سنة 1959، في منطقة وسطى بين كتابه الأول وكتابه الأخير. فهما كتابان انتقاليان تتجاور فيهما شخصيتا فانون في آن، الطبيب النفسي المناهض للعنصرية والمناضل الثوري المكافح ضد الاستعمار. تغيّر فانون كثيراً منذ سنة 1952 حتى وفاته سنة 1961، لكنه ظلّ إنسانيّاً صلباً يبحث عن الإنسان والإنسانية الجديدة وراء أقنعة العنصرية وأنظمة الاستعمار.

يتوزّع كتاب "لأجل الثورة الإفريقية" بين نسختَي فرانز فانون. فالمقالات التي كتبها بين فبراير 1952 وسبتمبر 1956 تقدّم النسخة الأولى من فانون الطبيب النفسي المناهض للعنصرية والمعنيّ بالسواد والبياض، فيما تقدّم المقالات المنشورة بين سبتمبر 1957 وفبراير 1961 النسخة الأخرى من فانون المناضل الثوري ضد الاستعمار. ويضمّ هذا الكتابُ أيضاً الرسالةَ التي كتبها فانون عند استقالته من وظيفته رئيسَ قسمٍ في مستشفى الأمراض النفسية في بليدة جوانفيل بالجزائر إلى الحاكم الفرنسي سنة 1956. وتمثّل هذه الرسالة الحدّ الفاصل بين شخصيتي فانون الطبيب النفسيّ المناهض للعنصرية في مقالات ما قبل الاستقالة والمناضل الثوريّ ضد الاستعمار في مقالات ما بعد الاستقالة.

نُشرت المقالة الأولى في كتاب "لأجل الثورة الإفريقية" عن "التناذر المغربيّ" في فبراير 1952، وتُرجمت للإنجليزية بعنوان "متلازمة الشمال إفريقي" وتكاد تكون تطبيقاً عرقياً آخر على المفارقة المَرَضية التي تجعل ذوي "البشرة السوداء" يعمدون إلى ارتداء "أقنعة بيضاء". وبدل المرضى السود الأنتيليين، نسبةً إلى جزر الأنتيل في البحر الكاريبي، والمهووسين بتفوّق ذوي البشرة البيضاء، تركز المقالة على المغاربة في فرنسا ممن يعانون الجوعَ والبردَ والخوفَ والوهم. كانت تبعيّة السود في جزر الأنتيل نتاجَ نظامٍ عنصريّ فُرض ليجرّد السود (والبيض كذلك بحسب فانون) من جوهر إنسانيّتهم، وكان "التناذر المغربيّ" نتاجَ نظامٍ فرنسي عنصري يقوم على تجريد الإنسان المغربيّ من جوهر إنسانيته، ويفكّك هذا الإنسانَ ويعيد بناءه "انطلاقاً من فكرة تعرف مدى نذالتها" وهي العنصرية.

وتأتي المقالة الثانية في الكتاب، "الأنتيليون والأفارقة" المنشورة في فبراير 1955 كأنها منتزعة انتزاعاً من كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء". إذ يعيد فيها التركيز على فكرة أشار إليها سريعاً في كتابه الأول عن الاختلاف بين السود الأنتيليين والسود الأفارقة، لكنه ينتقد في هذه المقالة تبعيّةً أخرى يعاني منها الأنتيليون. فقد كانوا حتى الحرب العالمية الثانية يبحثون جاهدين عن تبييض سواد بشرتهم بأيّ قناعٍ أبيض، فإذا بهم يقتنعون بعد سنة 1945 أنهم "زنوج وأفارقة" وجزء من "الشعب الأسود" ككتلة صمّاء. والأمر في الحالين تبعيّةٌ واختزال ذاتِ الإنسان وحريته في صنع نفسه فرداً (وهنا علينا أن نتذكّر وجودية سارتر). وبحسب فرانز فانون، فإن الأنتيلي "يعيش الآن السراب الأسود الكبير" بعد أن عاش "خطأه الأبيض الكبير ".

ليس في المقالتين الأولى والثانية أي حضور لنسخة فانون المناضل الثوريّ ضد الاستعمار. فشخصية الطبيب النفسي المناهض للعنصرية حاضرةٌ لا تسمح بالمزاحمة، لكن المزاحمة تظهر فجأة في المقالة الثالثة التي كانت معنونةً "العنصرية والثقافة" (وهي مداخلة ألقاها فانون في سبتمبر 1956).

موضوع العنصرية وعلاقته بالثقافة استمرارٌ لإشكالية فانون في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" وحديثه عن الجذور الثقافية للعنصرية، وعن العنصرية التي "تورّم وجه الثقافة الممارسة لها وتشوّهه". إلا أن منظوراً جديداً بدأ يتكشّف في هذه المقالة، فالعنصرية ليست نظاماً مؤسِّساً، بل نظامٌ ناتج عن نظام سياسيّ اقتصاديّ أعمق وأكثر تأثيراً. يلتفت فرانز فانون إلى أن العنصرية ليست "حالة استعداد ذهنيّ" أو "عاهة نفسية"، بل هي "منظومة استغلال مجموعة من البشر توصّلت إلى مرحلة متفوّقة من التطوّر التقني لمجموعة أخرى من البشر استغلالاً سفيهاً". هذه لغةٌ جديدةٌ لم تكن مألوفة في كتابات فانون. فالعنصرية الآن نظام منتَجٌ لا منتِجٌ، ولهذا السبب "يسبق الاضطهاد العسكري والاقتصاديّ في معظم الأحيان العنصرية حتى يجعلها ممكنة ويشرّعها".

ويتقدّم فانون خطوةً أخرى ليسمّي الأشياء بأسمائها، وهي التي ستصير مألوفةً لديه لاحقاً. إنه الاستعمار الذي ينتج العنصرية لأن "البلد الاستعماريّ بلدٌ عنصريّ"، ولأن "كل جماعةٍ مستعمِرةٍ تبقى عنصرية بالتأكيد"، وهي عنصرية لا بحكم الأصالة ولا هي عنصرية ثابتة، بل تتولّد نتاجاً مباشراً للاستعمار ونظام الاستغلال. إن الاستعمار نظام استغلال، ولهذا يعمد تلقائياً إلى "إنقاص قدر" الشعوب التي يستعمرها. وما العنصرية سوى "التفسير الانفعاليّ والعاطفيّ والفكريّ أحياناً لذاك الإنقاص" لأن استغلال هذه الشعوب يتطلّب احتقارها ويتطلّب رسم حدود صارمة بين نظام الاستغلال وبينها. أما السبيل للخلاص من هذه العنصرية الاستعماريّة، فليس العلاج النفسي والتحرّر الوجودي الذاتي هذه المرة، بل الكفاح من أجل التحرير. فعندما "يبدأ شعبٌ الكفاحَ من أجل التحرير"، الكفاح العسكري الضاري فإنه يتحرّر من الاستعمار والعنصرية معاً، بل هو يمهّد الطريق لتحرّر ثقافة المستعمِر نفسه من الانغلاق والعنصرية والتصلّب لتنفتح "على ثقافةِ شعبٍ أصبح شقيقاً فعليّاً لشعبها، ويمكن بالتالي للثقافتين أن تتواجها وتغتنيا".

وصل فرانز فانون بعد هذه المداخلة إلى قراره النهائي بالاستقالة من منصبه بعد ثلاث سنوات من العمل طبيباً ورئيسَ قسمٍ في مستشفى الأمراض النفسية في بليدة جوانفيل، احتجاجاً على الأحداث الدامية في الجزائر والطريقة الفرنسية الوحشيّة في مواجهة الثورة الجزائرية التي اندلعت سنة 1954. فانتقل من ضفة الاستعمار الفرنسي إلى الضفة الأخرى المقابلة، إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية والتحق بصفوف الجبهة العاملة في تونس سنة 1957. اضطلع هناك بالعديد من المهام في خدمة الثورة الجزائرية. فإضافةً إلى وظيفته طبيباً نفسياً كُلّف فانون بمهام إعلامية، فكان بمثابة المتحدّث باسم جبهة التحرير وأسهم في تحرير صحيفة الجبهة "المجاهد" والتحق بوزارة الإعلام حين تشكّلت الحكومة الجزائرية المؤقتة في تونس سنة 1958 ثم ممثلاً أو سفيراً للحكومة الجزائرية المؤقتة في أكرا في غانا منذ سنة 1960. وكل المقالات الثلاث والعشرين التي جاءت بعد رسالة الاستقالة منشورة في صحيفة "المجاهد"، باستثناء المقالتين الأخيريتين. فقد كانت الأولى تقريراً كتبه عن فتح جبهة جديدة في جنوب الجزائر على الحدود مع مالي صيف 1960، فيما نُشِرت المقالة الأخيرة في صحيفة "إفريقيا العمل".

صبّت كل هذه المقالات في خدمة الثورة الجزائرية وكفاحها ضد الاستعمار وتوسيع الثورة لتشمل كامل القارة الإفريقيّة. فناقشت موضوعات خيبات الاستعمار الفرنسي وأوهامه، والجزائر في مواجهة الجلادين الفرنسيين والمثقفون الفرنسيون والثورة الجزائرية وإزالة الاستعمار والاستقلال والشبيبة الإفريقيّة وتحرير إفريقيا وحرب الجزائر وتحرير الإنسان. وكانت الفكرة المهيمنة على معظم المقالات هي الطبيعة الشافية والعلاجية للثورة الشاملة كحال حرب التحرير الجزائرية. لا يستطيع فانون أن يتجرّد من كونه طبيباً يشخّص الأمراض النفسية والعقليّة ويقترح العلاج، فقد تعامل مع الاستعمار كمرض مزمن مثل تعامله مع العنصرية واعتبارها مرضاً في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء". إلا أن الجديد الآن هو في طبيعة العلاج المقترح وكونه العنف والكفاح المسلّح، وهو الموضوع الذي سيكون صلب كتابه الأخير "معذبو الأرض". يرى فانون أن الثورة الجزائرية تهدف إلى القضاء على الاستعمار وإنشاء مجتمع جديد، لكن هذا الاستقلال المنتظر "ليس نهاية للاستعمار فقط، بل هو أيضاً القضاء على جرثومة المرض المزمن في هذه البقعة من العالم، ووضع حدّ لمصدر الوباء".

فكرة فرانز فانون أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان تجربة فريدة واستثنائية بين تجارب الاستعمار الأخرى، الأمر الذي جعل ثورة التحرير الجزائرية تجربة فريدة واستثنائية بين حركات التحرّر القوميّ حول العالم. وبقدر ما للاستعمار الفرنسي في الجزائر من فرادة خاصة، فإن المرض المزمن الذي تسبّب فيه سيكون فريداً كذلك، ما يجعل ثورة التحرير الجزائرية تجربةً علاجيةً وشفائيةً فريدة. عانت الجزائر من استعمار فرنسيّ استيطاني سعى إلى ضمها مستعمَرة لتكون امتداداً جغرافياً وبشريّاً للوطن المستعمِر فرنسا. وهو استعمارٌ شرس تعزّزه "هيمنة بوليسية وعسكرية لا مثيل لها في أي بلد مستعمَر آخر" مصحوبٍ بإثارة الأمة الفرنسية وليس جيشها فقط لزجّها في حرب شعواء ضد الشعب الجزائري.

خلقت هذه الفرادة الاستعماريّة فرادة الثورة عليها، وبقدر ما سيكون المرض مزمناً وعضالاً تكون ثورة التحرير علاجاً شافياً للطرفين معاً، المستعمِر والمستعمَر. عاين فانون نفسُه حالاتٍ وجد فيها أن الجلادين الفرنسيين مرضى نفسيون، ووصل انحرافهم حدّ الجنون من قتل واغتصاب واضطرابات عائلية وعنف أسري ضدّ زوجاتهم وأطفالهم وأرق وهواجس انتحارية ومشاجرات في العمل. وقد وصف لهم العلاج الذي يعرفه، لكنه بعد سنة 1956 وصل إلى القناعة التامة بأن العلاج الشافي الكامل لهذا المرض العضال المزمن هو التحرير الكامل والمطلق والشامل، وأن "كل خيار آخر يبدو لنا غريباً تماماً وباطلاً"، بما في ذلك الحلول التدريجية والإصلاحات على مراحل لأن هذه "تعيق شلال الثورة الهادر وتحطّ من عزيمة الشعب وإرادته التي لا تقهر".

لثورة التحرير الجزائرية مفعولها الشافي والأكيد لكل من المستعمَرين والمستعمِرين في آن واحد. وهي فكرة كتاب فرانز فانون الثالث الذي كتبه بعد مرور خمسة أعوام على ثورة التحرير الجزائرية. كتب فانون هذا الكتاب ليبرهن أن ثورة التحرير الجزائرية ولدت أمة جديدة وأن "الجزائر القديمة قد ماتت" وأن الثورة الحقيقية، ثورة التحرير الجزائرية، تعمل عملَ "الأوكسجين الذي يبدع إنسانيّة جديدة" وأن القضاء على الاستعمار وموته "هو في الوقت ذاته موت المستعمَر وموت المستعمِر" تمهيداً لاكتشاف الإنسان والقاسم الإنسانيّ المشترك بين الاثنين.


توصّل فرانز فانون منذ اندلاع ثورة التحرير الجزائرية إلى قناعةٍ ترسّخت لديه حتى وفاته، وهي أن الاستعمار نظامٌ يقوم على العنف ولا يمكن أن يستمرّ إلا بالعنف ولا يمكن إزالته إلا بالعنف. وهي قناعة لم يسبق أن عبّر عنها بحماسة وقوة وفصاحة منقطعة النظير في "معذبو الأرض" وهو كتابه الأخير والأشهر، والذي خلّد اسمه وذكره ونصّبه واحداً من أبرز مفكّري القرن العشرين.

يعيد فانون في "معذبو الأرض" بلورة أفكاره التي عبّر عنها متفرّقةً منذ سنة 1956 ويرفعها إلى مرتبةِ نظريةٍ في العنف الذي يشفي الإنسان المستعمَر والمستعمِر ونظريةٍ في إزالة الاستعمار لتُحرّر الإنسان وتكتب ولادة إنسانيّة جديدة. الاستعمار حدث عنيفٌ وهائجٌ، وإزالته تتطلب عنفاً أكبر يصل إلى العنف المطلق والمثالي، وهو العنف الوحيد الكفيل بخلق هذه الإنسانيّة الجديدة ومعالجة كل أمراض الاستعمار. يكفل هذا العنف التحرّر من قيم الاستعمار وثقافته واستعادة إنسانيّة الإنسان التي قضى عليها الاستعمار حين "أنكر إنسانيّة المستعمَر وحَيْوَنه وحوّله إلى جزء من المشهد الطبيعيّ مثل الصحارى والجبال والبعوض والكلاب". يكفل هذا العنف أيضاً تحرير المستعمَر من الخرافات والأوهام لاكتشاف الواقع وتوحيد الأمة بعد انقسامٍ وتشرذم ٍوإنقاذ المجتمع من الخصومات والجرائم الصغيرة والسلوكيات السلبية وتحرير الشعب من عقد النقص والأمراض النفسية وإخراج أفضل ما لدى الإنسان من نبل وشجاعة وكرم وتضحية.

لم يعد العنف خياراً من بين خيارات، بل هو الطريقة المثلى للشفاء الكامل من الاستعمار والتعافي من الكثير من أمراضه. إن الإنسان المستعمَر "يتحرّر في العنف وبالعنف". إنه العنف المضيء الذي يضيء الطريق ويحدد الهدف والوسائل. ولكن هل توجد طريقة أخرى للنضال والتحرّر بلا عنف؟ هنا يبدو فانون ثورياً لا يعرف التسويات والحلول الوسطى. وبما أن الاستعمار عنفٌ هائجٌ و"ليس آلة مفكرة، ليس جسماً مزوّداً بعقل" فمن المستحيل "أن يخضع إلا لعنفٍ أقوى". فما يحدّد بقاء الاستعمار أو زواله ليست التسويات ولا النقاش بالحجج، بل القوة وحدها. أما فكرة "اللاعنف" فهي "من اختراع البرجوازيّة الاستعماريّة والوطنيّة التي تطلب التسوية بغية الحفاظ على مصالحها. فحين تهمُّ الجماهير بنسف الجسور وتخريب المزارع وإشعال الحرائق وتحطيم كل شيء، فعندئذٍ يصاب الاقتصاد بطعنة قاتلة فتهرع البرجوازيّة لطلب التسوية وتنادي باللاعنف".

وباستثناء قوة البلاغة ورفع العنف إلى مرتبة الطريقة المثلى والعلاج الشافي الأوحد من كل أمراض الاستعمار، فليس في كل هذا الكلام أي جديد لم يتناوله فانون في كتابيه السابقين "لأجل الثورة الإفريقية" و"العام الخامس للثورة الجزائرية"، لكن الجديد في كتاب "معذبو الأرض" هو تلك القدرة الاستثنائية على الاستدراك والاستشراف. الاستدراك على هذا العنف المطلق وعلى معركة التحرير والكفاح المسلح، من أجل التوقّف للتأمّل قليلاً فيما سيكون عليه الحال بعد انتهاء المعارك بعد أن يقذف بركان العنف كامل حِممه، كأن فانون قرّر أن ينسحب قليلاً من الخطوط الأمامية لمعركة التحرير الدموية الجارية على قدم وساق من أجل أن يتأمّل في هذا السؤال، ماذا بعد التحرير والاستقلال؟

يبدي فرانز فانون منذ الصفحات الأولى من كتابه وعياً نقدياً نادراً في تلك المرحلة، وهو نادرٌ لأنه تشكّل إبان المعركة وأثناء ثوران بركان العنف إذ يطيش العقل ويصعب التمييز ويصبح التفكير المتأني أشبه بالمستحيل. يرى فانون في تصفية الاستعمار قلباً لنظام العالم، لكنّ ما سيأتي بعد هذه التصفية ليس بالضرورة مثالياً، فمن الممكن أن ترث النخبةُ الوطنيّة طريقةَ الاستعمار. فيعود الشعب بعد كل التضحيات الكبيرة بخفي حُنين، ولا يكون الاستقلال سوى استبدال راية مكان راية وجندي وطني محل آخر أجنبي. يربط فانون هذه الظاهرة بالمثقفين وأهل الطبقة الوسطى المحليين الانتهازيين، وبالأحزاب السياسيّة الوطنيّة المستفيدة من الوضع الاستعماريّ القائم في البلدان المستعمَرة. ويرى أن المناطق المعرضة لهذا المصير هي تلك المناطق التي صُفّيَ فيها الاستعمار بطريقة "لم يهزّها الكفاح التحريري هزّاً كافياً". إن الكفاح المسلح الشامل والمطلق يشفي ويكنس كل الظواهر السلبية في طريق تحرّره، لكن المناطق التي لم تعرف هذا النوع من الكفاح ستعرف هذا النوع من المثقفين والانتهازيين والحزبيّين الذين تشرّبوا أنماط سلوكهم وتفكيرهم من طول "معاشرتهم للبرجوازيّة الاستعماريّة لقد كانوا للاستعمار أبناءه المدلّلين، وهم الآن للسلطة أبناؤها المدللون أيضاً، ينهبون الموارد الوطنيّة نهباً، ويندفعون إلى الإثراء بالصفقات والسرقات المشروعة اندفاعاً لا يعرف الرحمة". لقد كان البؤس استعمارياً فصار الآن وطنيّاً، وكان الاستعمار يسرق خيرات الأمة، فصار المطلوب "أن تُحصر سرقة الأمة في أبناء الأمة".

يمكن القول إن الخلل يكمن في الكفاح المسلح غير الكافي أو بتعبير فانون في "الكفاح التحريري" الذي لم يهزّ المناطق المستعمرة هزاً كافيّاً. والهز الكافي يكون عندما تنخرط القاعدة الشعبية وجماهير الفلاحين في الكفاح المسلح. يرى المفكر الفرنسي أن المثقفين وأهل الطبقة الوسطى المحليين والأحزاب الوطنيّة، بل حتى طبقة العمال من الموظفين والحرفيين والفلاحين المدينيّين، فئات مستفيدة من الوضع الاستعماريّ القائم، ولهذا سيكون التغيير الشامل في غير صالحها. وحتى لو طالبت هذه الفئات يوماً بخروج الاستعمار، فلن يكون ذلك إلا لتعظيم مصالحها وامتيازاتها ومكاسبها الخاصة لا لشيء آخر. يكمن الحل إذن في انخراط طبقة اجتماعيّة كبيرة وغير مستفيدة من الوضع القائم وليس لديها ما تخسره في الكفاح المسلح، بل يمكن أن تكسب كل شيء بالثورة. وجد فانون هذه الطبقة في معذبي الأرض في الفلاحين غير المدينيّين وفي الجماهير الريفية التي اعتبرها "الطبقة الثوريّة الوحيدة" في المجتمع، لأنها الطبقة الوحيدة التي "لا تخشى أن تخسر شيئاً، بل تطمع أن تكسب بالثورة كل شيء". إضافة إلى أن هذه الطبقة الوحيدة التي لا تتردّد في اعتبار العنف وحده الوسيلة المجدية لتصفية الاستعمار، فهي لا تعرف التسويات ولا التردد واللعب على أكثر من حبل. إن انخراط هذه الطبقة في الكفاح المسلح هو الذي يحقّق ذلك الشرط، الهزّ الكافي للمناطق المستعمرة.

وجد فرانز فانون في طبقة الفلاحين الريفيين الحل السحري، فهي طبقة سلمت من التخريب الرأسماليّ والصناعي وحافظتْ على تماسكها وتضامنها، بل إنها تحتفظ في ذاكرتها الجمعية بذكرى مقاومة الاستعمار وتبقيها "حية قوية في القرى، النساء ما تزال تدندن في آذان أطفالها الأغاني التي رافقت المقاتلين الذين قاوموا الغزو" في أيامه الأولى. إلا أن هذا وحده شرط غير كافٍ، فالنبل الأصيل الذي يميّز الفلاحين في الأرياف لا يعني النجاح الكامل لمعركة التحرير، لأن هذه الطبقة عفوية، وللعفوية مزالقها الخطيرة. كذلك فإن انفصالها عن الأحزاب السياسيّة التي تقود الحراك السياسيّ في المدن سيخلق مشكلة كبرى بعد التحرير، بل ستضيّع كل مكتسبات الاستقلال لأن الأحزاب السياسيّة التي ستشكّل حكومة وطنيّة بعد الاستقلال ستتعامل بعنف مع استياء الفلاحين وتذمّرهم. ثم ستكون العاقبةُ تكوّنَ الدولة الوطنيّة المستبدة، واستبدادَ الحزب الواحد المتضمن "تركيز الحكم وإخضاع الشعب بالقوة"، وتكون النتيجة النهائية بعد تضحيات التحرير الكبيرة أقرب إلى "التهريج: قليل من التبديل، وبضع إصلاحات في القمة، وراية وطنيّة" تحلّ محل راية الاستعمار الأجنبية ولكن بلا تغيير حقيقي.

راهن فانون على هؤلاء المعذبين في الأرض أملاً مشرقاً في الخلاص وتصفية الاستعمار بالعنف، لكنه كان على وعي بمزالق تصفية الاستعمار بهذه الطريقة، وهي المزالق التي سمّاها "مزالق الشعور القوميّ" التي تنقل البلدان حديثة الاستقلال "من حالة الأمة إلى حالة القبيلة، ومن مستوى الدولة إلى مستوى العشيرة". إن عدم "الهزّ الكافي" إبان معركة التحرير يعني وحدة وطنيّة منقوصة، فحتى إن وحّد الكفاحُ المسلحُ الأمةَ فإن الاستقلال سيجلب معه مشكلاته، وقد يتحوّل العنف إلى داخل الأمة التي تتفتّت الآن فيكون الصراع بين القبائل والطوائف والعرقيات التي كانت تكوّن قوام الأمة إبان معركة التحرير ضد الاستعمار الأجنبي. حتى أنشودة "الدعوة القوميّة" الرائعة إبان التحرير "تتحلّل غداة الاستقلال"، بل حتى الزعيم القوميّ الذي كان أبَ الأمة إبان معركة التحرير والمناضل الجريء والمخلص والبطولي الذي تنقاد إليه الجماهير انقياداً أعمى يتحوّل بعد الاستقلال إلى مستبدّ شرس، ويكشف عن "وظيفته الصميمة ألا وهي أن يكون الرئيس العام لشركة المنتفعين المسرعين إلى التمتّع".

الاستقلال ليس هو الهدف، إذا كان مجرد تغيير راية محل راية و"إله معبود" مكان آخر. يكتب فرانز فانون هذا الكلام إبان معركة التحرير الجزائرية وقبل إنجاز الاستقلال المرتقب. امتاز فانون بهذا الوعي النقدي النادر وبهذه القدرة على الاستشراف التي غابت عن كثير من المفكّرين الثوريّين في هذا الوقت، لكن هذه القدرة جعلته مفكراً مزعجاً ومشاكساً وأشبه بهادم اللذات ومعكّر أجواء الصفاء والهناء الحالمة.

بدأ فانون في كتابة "معذبو الأرض" سنة 1960، وهو العام الذي عُيّن فيه سفيراً أو ممثلاً للحكومة الجزائرية المؤقتة في غانا. وشرع إبان وجوده في غانا في العمل على كتاب عن الثورة الإفريقيّة، التي تشمل كامل القارة من الجزائر حتى رأس الرجاء الصالح، وسمّاه "الجير دي كابي" إلا أن الكتاب لم يكتمل ويبدو أنه صرف النظر عن إتمامه، وأدمج الكثير من أفكاره في كتاب "معذبو الأرض". لم يتخلّ فانون عن فكرة كتابه "الجزائر الرأس" غير المكتمل، بل سعى في تكوين الفيلق الإفريقيّ الذي سيمثّل طليعة الثورة الإفريقيّة التي ستنطلق من الجنوب الجزائريّ على الحدود مع مالي لتشمل كامل القارة فيما بعد. سافر فانون أواخر 1960 في رحلة شاقّة عبر مالي للتحقّق من إمكانيات تصعيد الحرب في جنوب الجزائر، وعاد بعد ذلك إلى غانا مقرّ إقامته وهو يشعر بالتعب الشديد، تبين بعد إجراء الفحوصات أنه مصاب بسرطان الدم. ويا لها من مفارقة قاتلة، ففي الوقت الذي أراد تصعيد الحرب وفتح جبهة قتال جديدة لتعجيل الاستقلال، إذ بسرطان الدم يفتح على جسده جبهة جديدة ومميتة. تعامل فانون مع المرض وكأنه أمر لا يعنيه، لكن المرض لا يفهم ذلك ولا هو معنيّ بوجهة النظر تجاهه.

إن معركة التحرير الشامل التي تنفجر مثل بركان وتهدر مثل شلّال وصولاً إلى النصر المظفر تتجسّد الآن رمزياً مقلوبةً في صورة المرض الخبيث الخطير الذي ينتشر في كامل الجسد حتى ينهكه ويوصله إلى الموت. يمكن أن نصف الاستعمار بمرضٍ سرطانيّ خبيث، لكن السرطان ليس كالاستعمار لأنّ العنف الذي نواجهه به عادةً ما يكون بلا جدوى، فهو يتقدّم على ساحة الجسد مثل جيشٍ مظفّرٍ لا رادّ له. هزل جسم فرانز فانون وبدأ وزنه في التناقص سريعاً وشحبت ملامح وجهه، وصار يمرّ بحالات من الإرهاق الشديد والعمى المؤقت حتى وصل إلى مرحلة عجزٍ عن الحركة والنهوض من سريره وعجزٍ الكلام والردّ على أي سؤال. وبدل أن يفتح جبهة القتال الجديدة على حدود مالي والجزائر، صار ضيف المستشفيات والمراكز الطبية، فتنقّل بين مستشفيات أكرا وتونس وموسكو وميرلاند. وبدل النضال على الأرض وفي الميدان صار ضعيفاً وعاجزاً حتى عن خدمة نفسه، فوظّف ممرضة خاصة لتعتني به وتقوم على خدمته أثناء وجوده في فندقٍ في واشنطن. أكمل فانون كتابة "معذبو الأرض" وهو في قلب المرض، وحين صدر أواخر سنة 1961، كان على فراش المرض في واشنطن عاجزاً حتى عن قراءته، لكنه فرح كثيراً بصدوره في باريس، وقرأته عليه زوجته فور وصول نسخه الأولى.

سرطان الدم مرضٌ خبيثٌ وغادر. فقد كان فانون يشعر بالتعافي قليلاً ثم سرعان ما ينتكس، وكانت تتملّكه في كل مرحلة تعافٍ مؤقتة حيوية لافتة. أكمل الفصلَ الأخير من "معذبو الأرض" في واحدة من لحظات التعافي المؤقت التي عرفها، وطار إلى روما للقاء سارتر في لحظة تعافٍ ثانية، وفي الثالثة وهو على فراش المرض في واشنطن، تحمّس لكتابة ثلاثة كتب دفعة واحدة، كتاب عن تاريخ جيش التحرير الوطني الجزائري، وكتاب عن "التنظيم الداخليّ في فرنسا الكبرى"، ولا نعرف ماذا كان يقصد به، وكتاب عن التحليل النفسي للموت، لكن الموت كان أقرب إليه من تحليله النفسي. انتكست صحّته فجأةً وأصيب بالتهاب رئويّ وتوفي في 6 ديسمبر 1961 وهو في السادسة والثلاثين من عمره . توفي في المستشفى في ميرلاند ونُقل جثمانه إلى تونس، وفي 12 ديسمبر 1961 حمل ثوّار جبهة التحرير الجزائرية نعشه ليدفن في الجزائر في مقبرة تضم رفات شهداء جيش التحرير الجزائري. 

تصوّر فانون حين أصيب بالمرض أن أمامه ثلاث سنوات أو أربع ليعيشها، وشعر أن عليه ألا يدخّر أي مقدار من صحّة ممكنة إلا واستثمرها. كان الوقت يمضي أمامه كسيفٍ قاطعٍ لا يرحم، وكان عليه الإسراع بكتابة كل ما يريد كتابته وفعل كل شيء يريد أن يفعله. كتب في نوفمبر 1961 إلى صديقٍ في شمال إفريقيا هذه الرسالة "لو أنني غادرت تونس في وقتٍ لاحق، لكنتُ ميتاً بالتأكيد. لا يمكن لأي طبيب أن يخفي ذلك عني. أين أنا الآن؟ في الفترة العصيبة بعد النزيف الكبير عندما تزيد كريات الدم البيضاء من هجومها، يحقنونني بمكوّنات الدم التي أحتاج إليها بشدّة، ويجرون لي عمليّات نقل دم ضخمة لإبقائي في حالة جيّدة، أي على قيد الحياة. ما أريد قوله هو أن الموت قريب دائماً، والمهم ليس أن تعرف ما إذا كان بإمكانك تجنّبه، بل أن تعرف أنك بذلت قصارى جهدك لتحقيق أفكارك. ما يصدمني هنا في هذا السرير وأنا أضعف ليس أنني أموت، بل أنني أموت في واشنطن بسبب سرطان الدم، مع الأخذ في الاعتبار أنه كان من الممكن أن أموت في معركة مع العدو قبل ثلاثة أشهر، عندما علمتُ أنني مصاب بهذا المرض. لن نكون شيئاً على الأرض إذا لم نكن قبل كل شيء خدماً لقضية، قضية الشعب، قضية العدالة، قضية الحريّة. أريدك أن تعلم أنه حتى في هذه اللحظة، عندما فقد الأطباء الأمل، ما زلت أفكّر في الشعب الجزائري وفي شعوب العالم الثالث. وإذا كنت قد صمدتُ لمدّة طويلة، فهذا بسبب هذه الشعوب".

لم يكن فرانز فانون قوميّاً بل عاجزاً عن فهم ضيق الأفق الذي يتملّك القوميّة وهي تنغلق على نفسها مثل قوقعة. ولم يكن على وفاق كامل مع القوميّين حتى داخل جبهة التحرير الجزائرية، إذ كان هؤلاء يريدون تحرير الجزائر فقط، وأراد هو تحرير كل الشعوب المستعمَرة. كان فانون أقرب إلى نموذج الثوريّ العالميّ على طريقة أرنستو تشي غيفارا، المناضل الثوري الأرجنتيني والشخصية البارزة في الثورة الكوبية، نموذج الثوريّ الذي كان يبحث عن الثورات غير المنتصرة أينما كانت، في الجزائر أو في أي مكان في إفريقيا أو في العالم. أراد أن يموت مثل غيفارا في ميادين النضال وفي معركة التحرير ضد العدو، لكن المرض كان أقوى من إرادته. في العام 1959 انفجر لغمٌ في السيارة التي كانت تقلّ فانون على الحدود المغربية الجزائرية فأصيب باثني عشر كسراً في عموده الفقري ومضاعفات خطيرة نُقل بعدها إلى روما للعلاج. وأثناء نقله من مطار روما إلى المدينة لُغّمت سيارته من وحدة "اليد الحمراء" المناهضة لثورة الجزائر، وهي منظمة فرنسية ظهرت في خمسينيات القرن العشرين وكان هدفها القضاء على أنصار استقلال الجزائر والأعضاء القياديين في جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة الجزائرية، لكن السيارة انفجرت قبل الموعد المحدد. وبدل أن تقتل المفكر الفرنسي، قتلت طفلين كانا يلعبان في الشارع. وحتى أثناء وجوده في المستشفى في روما، داهم غرفتَه عددٌ من المسلحين وأطلقوا النار على سرير الغرفة لكن فانون كان قد أخلى الغرفة. نجا فانون من كل هذه المحاولات لكن كتب عليه أن يموت على فراش إحدى مستشفيات واشنطن عاصمة البلد التي كرهها من صميم قلبه.

يُجبرنا المرض على اتخاذ خيارات ما كنا لنقدم عليها إبان صحتنا. كان فانون يرى الولايات المتحدة "أمة القَتَلة" حفنةً جشعة من الرأسماليّين والتوسعيّين والعنصريّين، لكن مرضه كان قاتلاً شرساً والأطباء الروس الذين ذهب للعلاج في عاصمتهم نصحوه بالذهاب للعلاج في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً في المعهد الوطني للصحة في بيثيسدا بولاية ميرلاند، المكان الوحيد الذي كان يملك أبحاثاً رائدةً في علاج سرطان الدم. خضع فانون مضطراً لهذه النصيحة وغادر تونس في سبتمبر 1961 إلى واشنطن. ومع أن العلاج الكيميائي لمرضى سرطان الدم قد قطع شوطاً لا بأس به في أمريكا بعد أكثر من عقدٍ على تجارب الطبيب الأمريكي سيدني فاربر الذي يُعدّ "أبو العلاج الكيميائي الحديث" في سنة 1948، إلا أن المعهد الوطني للصحة اكتفى بتبديل دم فانون في كل مرة، بما يضمن بقاءه حياً لأسابيعٍ معدوداتٍ فقط، إذ لفظ أنفاسه الأخيرة في السادس من ديسمبر 1961.

والمرض الذي يجبرنا على خيارات معينة يحرمنا في الوقت ذاته من خياراتٍ أخرى كثيرة، ويفوّت علينا فرصة الفرح بتحقّق الآمال والتطلّعات التي كنا قد نذرنا أعمارنا من أجلها. حلم فانون باستقلال الجزائر، وانخرط في ثورة التحرير من أجل هذا الهدف، لكن الموت كان أقرب إليه من استقلال جاء بعد أشهر قليلة من وفاته، إذ نالت الجزائر استقلالها في 5 يوليو 1962. للمرض سلطان قاهر ومن الصعب ردّ حكمه أو مقاومته لأنه يترجم نفسه في صورة خذلان لا رادّ له لجسدٍ يتدهور بتسارع، رغم إرادة صاحبه وآماله وتطلّعاته.

اختتم فرانز فانون كتابه الأول "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" سنة 1952 بهذه العبارة الغريبة من طبيبٍ كانت النفس مجال اختصاصه المهني الأساسيّ وليس الجسد: "يا جسدي، اجعلني دائماً إنساناً يسأل". لماذا الجسد؟ هل للطلب صلة بلون البشرة موضوع هذا الكتاب؟ لا أحد يدري. ومع ذلك استجاب جسد فانون لطلبه الغريب وأمهله تسع سنوات من عمره القصير، كان يبحث فيها عن الإنسان وعن المشترك الإنساني وعن الإنسانية الجديدة فيما وراء البشرة ولونها. إلا أنه عاد واختتم كتابه الأخير "معذبو الأرض" سنة 1961 بهذه الفقرة الأخيرة التي لا تقلّ غرابة "يجب علينا يا رفاق أن نلبس جلداً جديداً، أن ننشئ فكراً جديداً، أن نحاول خلق إنسان جديد". قد يكون من المفهوم أن يحثّ فانون رفاقه أن ينشئوا فكراً جديداً وإنساناً جديداً، لكن لماذا يكون هذا مقروناً بلبس جلدٍ جديد؟ لماذا نبدّل جلدنا لنتجدّد إنسانيّاً؟ لا أحد يدري كذلك. إلا أن الثابت أن فانون بين مطالبة الجسد بالصمود في سنة 1952 والمطالبة بلبس جلدٍ جديدٍ في سنة 1961، ظلّ أسود البشرة بلا قناعٍ أبيض وظلّ إنسانيّاً لا يتزعزع. لكن جسده انهار وخذله وبدل أن يبدّل جلده بجلدٍ جديد، كان عليه أن يبدّل دمه الأبيض بدمٍ جديد أملاً في الانتصار في معركة غير متكافئة ضدّ مرضٍ خبيث لا يرحم.

اشترك في نشرتنا البريدية