قراءة في أصول الصهيونية في فكر موسى بن ميمون القرطبي 

جُردت بعضُ أفكار موسى بن ميمون، الذي نهل علمه من فلاسفة الإسلام، من سياقها الديني وأعيدت صياغتها لتبرير المشروع الصهيوني في فلسطين.

Share
قراءة في أصول الصهيونية في فكر موسى بن ميمون القرطبي 
تصميم خاص لمجلة الفراتس

في ساحة واسعة وسط الحي اليهودي في قرطبة الإسبانية يقف تمثال برونزي للفيلسوف والطبيب وعالم العقائد اليهودي موسى بن ميمون جالساً في يده كتاب، وقد اصفرَّت قدماه من أثر لمسهما إما من سياح يعتقدون أنَّ لمس أقدام التمثال تجلب الحظَّ كما درجت العادة من سنوات، وإمّا مِن زوَّار يهود يتبرَّكون به. وخلف هذه التبركات التي تبدو عفوية أو تقليداً، تاريخ لشخصية محورية في الوجدان اليهودي امتدَّ أثرها حتى يومنا هذا. 

موسى بن ميمون واحد من ثلاثة اسمهم "موسى" ولكلٍّ منهم قدسيته الدينية أو الاعتبارية عند الشعب اليهودي. والآخران هما موسى بن عمران، نبي التوراة، وموسى مندلسون، رائد حركة التنوير اليهودي أو ما يسمى "الهسكالاه" في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. عاش موسى بن عبد الله بن ميمون القرطبي، والمعروف غربياً باسم "مومينيدس"، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في قرطبة، بكنف عائلة مثقفة وأب قاض. وكان بمكانةِ نبيٍّ لاحق لليهود وخليفة لموسى بن عمران. 

مجسم موسى بن ميمون في المتحف الأندلسي الحي بقرطبة، تصوير عبد الله العنزي

كان ابن ميمون رائداً في الإصلاح وتجديد الخطاب الديني وسعى إلى تنقيح اليهودية من شوائب اعترتها ووضع أركان الإيمان اليهودية الثلاثة عشر، ومنها الإيمان بوحدانية الخالق ونبوة موسى والثواب والعقاب والقيامة بعد الموت. ويقال إذا كان موسى هو من كتب التوراة، فابن ميمون هو مَن نظمها وحدَّدها وأرسى قواعدها الفقهية. وابن ميمون سليل الحضارة العربية والإسلامية، إذ بنى فكره الفلسفي على أفكار فلاسفة مسلمين ذوي شأنٍ منهم ابن رشد وابن سينا والغزالي.

وأبرز إسهامات ابن ميمون كتاب "دلالة الحائرين". وهدف منه إلى تنوير رجل الدين بتعاليم الإيمان الحق بالشريعة اليهودية. وأما الإسهام الثاني فكتابه: "مشناه توراه" الذي وصف أنه "تحفة موسى بن ميمون"، وهو كتاب ضخم وفيه فصَّل كلَّ ما يتعلق بالشعائر اليهودية بما في ذلك القوانين التي لا تسري إلا عندما يكون الهيكل في القدس قائماً. سائراً على طريق ابن رشد العقلاني وجهوده في نفي التعارض بين الحكمة، أي الفلسفة، والدين أعمل بن ميمون العقل بأطروحاته الدينية وحاول التوفيق بين العقل والدين. فرَّ ابن ميمون من سطوة الموحدين إلى جنوب إسبانيا ثم إلى المغرب العربي ثم إلى مصر، قاراً بين الإسكندرية والفسطاط، وهي جزء من القاهرة الكبرى. وفي هذه المرحلة الأخيرة من حياته خدم طبيباً في بلاط صلاح الدين الأيوبي وابنه. وعُيّن حبر الطائفة الإسرائيلية الأعظم للجالية اليهودية في مصر بدعم من صلاح الدين.

استناداً إلى هذا فُهم إرث موسى بن ميمون تقليدياً على أنه يقتصر على العقيدة اليهودية، بوضع بعض قواعد الفقه والشريعة اليهودية وتقنينها (الخالاكاه). ومع ذلك اتخذ هذا الإرث طابعاً علمانياً في بعض جوانبه وفُسر من منظور يتجاوز السياق الديني ليشمل الأبعاد السياسية والعملية. فقد بات ابن ميمون شخصية محورية تُستحضر خارج السياق الديني، إذ استُخدِم لغايات غير دينية لتبرير العقيدة الصهيونية وتفسيرها في أدبيات الحركة الصهيونية والتي يروج لها بأنها علمانية الأساس والمنطلق. وما زال الإسرائيليون يقتبسون كلام ابن ميمون في مواطن سياسة كما فعل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي ربط حديثه عن صفقة تبادل أسرى مع المقاومة في نوفمبر 2023 بموسى بن ميمون، قائلاً لعائلات الأسرى إن "عودة المخطوفين مهمة مقدسة وأنه ملتزم بها: "كما قال موسى بن ميمون، ليس هناك تحقيق أعلى من فداء الأسرى". اقتباس نتنياهو سبقه استفادة الآباء المؤسسين للصهيونية، وجلهم من العلمانيين، من فكر ابن ميمون "المتدين" لتدعيم العقيدة الصهيونية وما اشتملت عليه من بناء "اليهودي الجديد" وبناء الدولة. والأهم أن بعض أفكار ابن ميمون، على غرار رموز وأحداث دينية أخرى في الفكر اليهودي، باتت وسيلة لاسترجاع التاريخ وتوظيفها، وإن كان خارج سياقها في خدمة المشروع الصهيوني.


يكاد يكون لكل أمة سجال مع تاريخها، خصوصاً ما تراه عصرها الذهبي، فتسعى إلى استعادته أو إسقاطه على واقعها المعاصر. يقول برنارد لويس في كتابه "التاريخ: استذكاره واستعادته واستحضاره" بأن التاريخ "المستعاد" يشكل أحداثاً وأشخاصاً بل حتى أفكاراً غابت كلياً أو جزئياً عن الذاكرة الجمعية، أي تراكم التجارب والتاريخ، في فترة ما من عمر الأمة، ثم استعيدت وأعيد توظيفها، سواء بالنقد الأكاديمي أو لضروريات مرحلة جديدة، لإعادة تشكيل الذات وتبرير الاتجاهات العقدية أو السياسية في الوقت الراهن. استجلبت إيران مثلاً في فترة الشاه محمد رضا بهلوي شخصية الملك كورش، أول ملوك فارس في القرن الخامس قبل الميلاد. أعاد الشاه تنصيبه رمزاً في 1971 في احتفال مهيب دعا إليه رؤساء العالم وملوكه بمناسبة مرور 2500 عام على إنشاء مملكة فارس القديمة. وُظِّف هذا التاريخ لخلق وعي جديد يعمق النزعات القومية في فترة حكمه. وفي الولايات المتحدة اعتمدت الحملة الانتخابية للرئيس السابق دونالد ترامب شعار "ميك أمريكا غريت أغين" (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى)، عوداً على شعار استخدمه الرئيس الأربعين للولايات المتحدة رونالد ريغان في حملته الانتخابية. شهد عصر ريغان نهاية الحرب الباردة ونهاية الشيوعية السوفيتية، وفي عهده شهد الاقتصاد الأمريكي انتعاشاً. لذلك فاستحضارُ هذا الشعار استبطن استحضارَ الفترة التاريخية لريغان، تلك الفترة المشرفة للأمريكيين. ومع تصاعد حركات المركزية الأفريقية ظهرت تيارات حاولت نسب أوجه من التاريخ المصري وآثاره القديمة إلى العرق الإفريقي. استجلبوا نقوشاً فرعونية قديمة وربطوها بعصرهم الذهبي، وفيها يظهر الملك المصري يعاقب مجموعة من الأسرى الأفارقة.

تمثال موسى بن ميمون في قرطبة الفيصل مشعان العنزي

قدمت الصهيونية، مثل كل العقائد السياسية، أكثر من استحضار تاريخي للحشد الداخلي أي الحشد الشعبي والتعبئة القومية، والحشد الخارجي أي الدعم العالمي. وربما كانت الصهيونية من أكثر العقائد السياسية انغماساً في استجلاب التاريخ وإسقاطه وإعادة تفسيره ليناسب اتجاهها السياسي وأهدافها. فمع أن الفكر الصهيوني فكر علماني إلا أنه استخدم أفكاراً دينية مغايرة لجوهر مشروعه الفكري، وهو بذلك يختلف عن عقائد علمانية أخرى كالماركسية التي رفضت الدين وبنت كل سرديتها التاريخية انطلاقا من هذا المبدأ.

تتحدث أستاذة الدراسات اليهودية، يائيل زيروبافل في كتابها "ريكفرد روتس" (جذور مستعادة) بأن الحركة الصهيونية اختارت أحداثاً من أغوار التاريخ اليهودي قد لا تكون ذات قيمة تاريخياً لتعبئة اليهود قومياً ومنح الحركة اليهودية القومية شرعيةً تاريخيةً في فلسطين. وُظفت مثلاً حادثة المسادا، التي وقعت سنةَ 70 ميلادي قرب البحر الميت، لإحياء روح التحدي بين اليهود. وفيها أن جماعة من المتمردين اليهود آثروا الانتحار بدلاً من الاستسلام للقوات الرومانية التي حاصرتهم. أعيدت كذلك رواية ثورة بار كوخبا، وهي تمرد يهودي مسلح ضد الإمبراطورية الرومانية سنة 132 ميلادي في الجليل، ليشكل هذا التمرّد حافزاً ودليلاً على الروح القتالية للشعب اليهودي، ومبعثاً لتشكيل "اليهودي الجديد" المتحرر من ضعف الغالوت (الشتات). ويرى عبدالوهاب المسيري في "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" أن الصهيونية لجأت إلى "الفكر الاسترجاعي"، وهي حركة استرجاع مسيحية بروتستانتية كانت تطالب بإعادة اليهود إلى "أرضهم الأم" حتى يتسنى لهم هدايتهم وتحويلهم إلى المسيحية. وعُد هذا شرطاً أساسياً لحلول العصر الألفي السعيد، وهي الفترة التي سيحكم فيها المسيحُ المخلصُ العالمَ ويسود فيها السلامُ والطمأنينةُ. أي استخدمت الصهيونية هذا الفكر المسيحي البروتستانتي للترويج لمشروعها الفكري وكسب الدعم الخارجي، وهذا ما حققته الحركة بالفعل خصوصاً بين الدول البروتستانتية، وبريطانيا على رأسها.

استفاد مفكرو الصهيونية من الأفكار المغايرة، واستحضروا شخصيات تاريخية للترويج لقِدم مشروعهم ولكسب دعم خارجي أكبر. ومن تلك الشخصيات حاييم وايزمان، الزعيم الصهيوني وأول رئيس لدولة إسرائيل، الذي رأى أن بعض كبار القادة العسكريين مثل يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر ونابليون بونابرت أدركوا أهمية فلسطين لخططهم الشرقية، ولذلك كانوا موالين لليهود في سياستهم الخارجية، كما يقول عبد الوهاب المسيري في كتابه "العقيدة الصهيونية". ويشير المسيري أيضاً إلى أنَّ وايزمان وصف نابليون، بأنه أول الصهاينة العصريين من الأغيار. ونابليون أول أوروبي يغزو الشرق العربي، والإشارة إلى الحملة الفرنسية سنة 1798.


استخدم الصهاينة التاريخ والدين لحلِّ معضلتين، الأولى استرجاع ما عدّوه عصرهم الذهبي والثانية نسيان فترة الشتات. أما العصر الذهبي فقد اختلف الباحثون في تحديده، إذ يرى بعضهم أنه عصر يوشع بن نون قائد الشعب وتلميذ موسى النبي، ويرى آخرون أنه عصر داود وسليمان، ويجده فريق ثالث في عصر القضاة، وهو العصر الواقع بين عصر يوشع وعصر الملوك شاول وداود وسليمان. لكن اتفقت أغلب الكتابات على أن العصر الذهبي قبل انقسام المملكة إلى مملكتين، وعليه نجد استحضار أبرز الشخصيات الدينية من حينها حتى الآن لأنها تعيد استحضار الأسطورة وتعيد استحضار التاريخ الذهبي. فنتنياهو في خطابه عشية اجتياح القوات الإسرائيلية لقطاع غزة نهاية أكتوبر 2023 يصف جنوده بأنهم جزء من إرث المحاربين اليهود، والذي يعود لألفيات ثلاث في عهد يوشع بن نون، وتقول الرواية التوراتية إنه ارتكب "إبادة جماعية" بحق سكان أرض كنعان. ويضيف نتنياهو مستشهداً بمثال آخر من التاريخ اليهودي:"عليكم بتذكر ما فعله العماليق بالإسرائيليين. نحن نتذكر، ونحن نقاتل"، والعماليق هم الشعوب التي سكنت فلسطين والشام بالذات وأذاقت بني إسرائيل الويلات، وإن هزموا في النهاية. والإشارة في خطاب نتنياهو إلى العرب والفلسطينيين.

أما عن نسيان فترة الشتات فيبرز هذا في إعادة اللغة العبرية، اللغة التي خُط بها العهد القديم (التوراة). فقد رفض آباء الصهيونية استخدام لغة الييديش وهي لهجة ألمانية خاصة باليهود في أوروبا، وشرعوا في إحياء اللغة العبرية لأنها كانت اللغة المستخدمة في العصر الذهبي، ولنسيان كل ما يتعلق بالشتات وإن كان ميراثاً لغوياً. يذكر رشاد عبدالله الشامي في كتابه "إشكالية الهوية في إسرائيل" أن اليهود في مواطن عدة تحولوا عن استخدام لفظ يهودي واستبدلوه بكلمة عبري، في محاولة لمحو ارتباطهم باليهودي الشتاتي الذي رأته الحركة الصهيونية ضعيفاً وفاقداً السيطرة على مصيره. ورأى الحاخام مناحم مندل شنيرسون، المعادي للصهيونية وأشهر حاخامات القرن العشرين، أن الصهاينة كانوا يرون في التوراة والوصايا العشر وسائل لتقوية الشعور الجمعي، وأنهم لم يحبوا صهيون "حباً ضيقاً"، وهو جبل في القدس، والإشارة إلى فلسطين عموماً. الإشكالية ذاتها التي اعترف بها ماكس نوردو، المفكر الألماني ونائب الأب الروحي للصهيونية ثيودور هرتزل، أمام المؤتمر الصهيوني الرابع بقوله إن الصهاينة ليس لديهم "حنين صوفي إلى صهيون". 


مع عصر التنوير والعتق إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، توفرت مساحة للاسترجاع التاريخي سمحت لليهود بإعادة إحياء تصورات يهودية قديمة لم تكن ممكنة في فترات سابقة ضُيِّقَ فيها على اليهود ونتاجهم في الفضاء الأوروبي الشرقي والغربي. حينَها عادت كتابات موسى بن ميمون بعد أن خبت أو كادت مئات السنين. وتأثر موسى مندلسون رائد حركات التنوير بفكره، بل تُعدُّ كتاباته النقطة الأساسية التي اجتمع عندها دعاة التنوير، وهي إطار مرجعي أساسي لليهودية الإصلاحية، كما يشرح عبد الوهاب المسيري في "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية". وفي هذا البعد "الإصلاحي" وجد الآباء المؤسسون للصهيونية في أفكار ابن ميمون مساحة لتبرير علمنة اليهودية لغايات سياسية، وتدعيم الاتجاه العقائدي في الحركة الصهيونية وأهدافها في جمع يهود الشتات متدينين وعلمانيين حول قضية محورية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. 

يرى بعض المؤرخين أن موسى بن ميمون استغل علاقته بصلاح الدين لتأسيس وطن لليهود في فلسطين، وقد شكل هذا الركيزة الأولى في العلاقة بين أطروحات ابن ميمون والصهيونية. يعقّب جورج طرابيشي، الكاتب والمفكر السوري، في كتابه "معجم الفلاسفة"، على هذه المسألة بقوله إن ابن ميمون تقرب من صلاح الدين الأيوبي لأنه طبيبه، واستخدم نفوذه عنده ليوفر قدراً آخر من الحماية لأبناء ديانته من اليهود، وكان حينها قد عُين حبراً للطائفة اليهودية بدعم من الخليفة الأيوبي. بعد أن فتح صلاح الدين بيت المقدس سنةَ 1187 بعد معركة حطين ضد الصليبيين، طلب ابن ميمون منه الحق في التوطن وأقرانه من اليهود في المدينة المقدسة وفي ربوع فلسطين فنال ما طلب. وفيها أُذن له بإقامة مرافق يهودية مثل الكنس والمدارس، بعد أن كان الصليبيون في احتلالهم المدينة قد منعوهم من الإقامة فيها. يضيف الباحث اليمني همدان دماج، الذي اقتبس من طرح طرابيشي عن نفوذ ابن ميمون عند صلاح الدين، بأن ابن ميمون نجح أيضاً في إقناع صلاح الدين بمحاربة دولة بني مهدي في اليمن بعد أن علم باضطهاد حكامها ليهود اليمن ومحاولة إجبارهم على اعتناق الإسلام. ويجادل محمد زياد حمدان في كتابه "لزوم الإسلام المدني والدولة الوطنية" في أن المرسوم الذي منحه صلاح الدين موسى بن ميمون وفيه ضمن حماية اليهود إقامة شعائرهم في فلسطين، كان بواكر فتح الطريق لقيام دولة إسرائيل. 

وبإشاعة رواد الصهيونية تلك الرواية فإنهم أثبتوا ضمنياً أن الفكر الصهيوني هو الفكر اليهودي السليم الذي توارثته الأجيال، وليس بدعةً منفصلة عن تعاليم اليهودية ديانةً وشعائر، وأن واحداً من أهم أعلام الفكر والعقيدة اليهودية والذي حظي بشعبية واسعة بين عموم الشعب اليهودي يؤيد هذه الأفكار بل يضع لبِنتها الأولى. ترتكز فكرة استحضار التاريخ هنا على أن لليهود أرضاً مقدسةً لا بدَّ من العودة إليها لنصبح "أمة كغيرنا من الأمم"، أو ليصبح لهم "مكان بين الأمم"، وهو عنوان كتاب بنيامين نتنياهو. وهنا يعلق جايمس دايموند، مدير قسم الدراسات اليهودية في جامعة واترلوو الكندية، بأن ابن ميمون كتب في التقديم لمبادئ الإيمان الثلاثة عشر بأنه يجب على اليهود أن يكونوا "أمة حكيمة وشعباً متفهماً"، وبرأي دايموند فإن كان هذا التوصيف ينطبق على كثير من الأمم، فإن دولة إسرائيل هي الأقرب ترجمة له. 

أما الركيزة الثانية فهي متأصلة في كثير من الشعب اليهودي تاريخياً، لكن الصهيونية أثارتها مرة أخرى، وهي رواية شعب الله المختار، أو بالأحرى علاقة اليهود بالغوييم (الأغيار)، أي من هم غير يهود. ولهذا مدلول توراتي في مواضع محددة وأزمنة قديمة، إلا أنه مع صعود الصهيونية عادوا ليذكروا أنفسهم وغيرهم بأنهم شعب واحد له أفضلية، وفي قلبه نظرة سلبية للأغيار، لا سيما العرب والمسلمين منهم. فقد قال نتنياهو مثلاً في خطاب يناير 2024 لأعضاء الكنيست: "إن نية أولئك الذين يسعون إلى أرواحنا لتدميرنا لم تتغير على مر السنين. الكراهية هي نفس الكراهية. إن شهوة القتل هي نفس شهوة القتل. لكن اليوم، على عكس الماضي، لدينا بلد ولدينا جيشنا الخاص". ونذكر أيضا قول رئيس الوزراء الأسبق يتسحاق شامير، الذي ذكّر نتنياهو بأقواله والدفاع عنه حين وفاته في 2012، بأن: "العرب هم نفس العرب، وأن البحر هو البحر". وكانت عبارة شامير رداً على مفاوضات السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير في نهاية الثمانينيات في مدريد، ملمحاً إلى أن عداء العرب باق ولا يتغير. وأما البحر، فهو إعادة اقتباس لمقولة نسبت، من غير تأكيد، للمذيع المصري أحمد سعيد في الستينيات، دعا فيها إلى "إلقاء اليهود في البحر". وهو تذكير أيضاً بنص الهاجادا، الذي يقرأ في عيد العبور، أي عيد الفصح، احتفالاً بعبور بني إسرائيل البحر ونجاتهم من فرعون. ويقول: "في كل جيل ينهضون [والإشارة للأغيار] للقضاء علينا، لكن الرب المنقذ ينتشلنا".

لهذا كله جذور وأثر في فكر موسى بن ميمون. إذ يجادل عائض بن سعد الدوسري أن ابن ميمون يكن مشاعر سلبية للأغيار، "ولا يريد لمشاعره السلبيَّة وعبارات الكراهيَّة أن يُطلع عليها من الآخرين". فيحذر بن ميمون في "الرسالة اليمنية" وهي نص بعث به إلى زعيم الطائفة اليهودية في اليمن وقت تعرضها للضغط لاعتناق الإسلام من تسرب محتوى الرسالة، فيقول: "خذ إجراءات كافية حتى لا تتسلل محتوياتها إلى الأغيار على يد شخصٍ شريرٍ، فيأخذنا الحظ العاثر، عصمنا الله منه". وفي تلك الكتب والرسائل يفضي ابن ميمون بمكنون قلبه، فيقول داعياً ومبتهلاً إلى الله: "العرب أهلكهم وأذلهم الله سريعًا". ويكمل الدوسري فيقول إن موقف ابن ميمون مع المخالفين من الأديان كافة في غاية القتامة حتى حرّم علاج غير اليهود وإن بمقابل. 

لم تقتصر السيادة والأفضلية في فكر موسى بن ميمون على المسلمين فقط، بل قال إنه بعد أن يقاتل الملك الأعداء الذين نصَّت التوراة عليهم صراحة، فإنه يستطيع محاربة الأمم الأخرى لخدمة مصلحة شعب الله، وإن رفض هذه "الحلولية"، أي أن الله يحل في المؤمنين والأرض والمقدسات. وكذا يوضّح المفكر الإسرائيلي الراحل، إسرائيل شاحاك، في كتابه "الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود"، أن الموقف من الأغيار عند ابن ميمون ظهر أيضاً في نظرته للمسيحية، فقد اعتاد كلما ذكر اسم المسيح أن يضيف إليه عبارة: "أهلك الله الاسم الشرير".

كان ابن ميمون من أوائل المعلمنين للدين والمسيسين له. إذ رأى أنَّ الماشيح، أي المسيح المنتظر، وهو شخص يعتقد اليهود أنه سيأتي ليحررهم ويعيد اليهود لأرض أجدادهم، قائداً عسكرياً يحارب في معارك الرب وينتصر. ويطلق على هذا الماشيح الملك النبي المنتظر، بنصَّ سفر التثنية. ومن هنا يرى ابن ميمون أن النبوة تتمثل في قائد عسكري عظيم تكون مهمته الأساسية فكَّ قيود الشعب اليهود واستعادة النظام السياسي القديم. ويرى أن النبي "إنسان مزود بفهم نظري وعملي كامل". فالنبوة عند ابن ميمون خالية من المعجزة أو التدخل الإلهي، لذلك فإن أي إنسان يصل إلى النضوج الروحي والعقلي يصبح معها نبياً. وهذا يتفق مع بعض وجهات النظر الصهيونية التي نظرت لثيودور هرتزل، وإن لم تصفه حرفياً، بأنه الماشيح أو نبي اليهود المنتظر الذي وضع اللبنة الأولى في بناء الوطن اليهودي في أرض كنعان (فلسطين) الموعودة في التوراة، وقاد إليها شتات يهود العالم ليخلصهم من قرون من الاضطهاد في كنف الأغيار. يأتي هذا قبل أن يستقر الرأي على فلسطين، وإن كان هناك في دوائر الحركة الصهيونية في باكورتها اقتراحات لإنشاء وطن قومي في أماكن أخرى، مثل الأرجنتين وأوغندا. 

وحاول بعضهم ربط بنيامين نتنياهو بصفات خارقة واستشرافية شبيهة بتلك المنسوبة إلى الأنبياء، حتى وإن لم يُصرَّح بذلك مباشرة. هذه الصفات، التي أُبرزت في نتنياهو، تعكس النهج العسكري المادي نفسه الذي صاغت به الصهيونية شخصية يوشع بن نون، نبي التوراة وخليفة موسى بن عمران، متجاهلة أحياناً أدواره وسماته الدينية والروحية نبياً مرسلاً. بناءً على ذلك تصف راشيل هافريلوك الجيل الحالي للإسرائيليين، خصوصاً المقاتلين والجنود، بأنهم "جيل يوشع"، وذلك في كتابها: "جشوا جيناريشين" (جيل يوشع)، إذ تناقش هذه الفكرة بالنقد والتحليل. 

ومن منطلق هذا الإطار المادي في التفسير العقدي، لم يؤمن ابن ميمون أيضاً بالتسليم المقدس، أي قبول التشريعات بلا تمحيص، ورأى أنه لا بد من مرورها بالعقل أولاً واختبارها. ورأى كذلك أن مجازية الصفات الإلهية التي تشابه صفات البشر كالفرح والحزن والغضب، والسمات الجسمية كاليد والعين والقلب، كلها آيات مجازية لا حقيقية. وأفقدت هذه العقلنة المفرطة من ابن ميمون الدين اليهودي شيئاً من عمق تفسيراته، واحتكر تفسيراً واحداً نزع عن الدين اليهودي صفة القدسية الحلولية، أي مفهوم وحدة الوجود مع الله الذي يُعد جزءاً أساسياً من العقيدة اليهودية. وعندما صاغ ابن ميمون "الثلاثة عشر أصلاً للإيمان"، نزع عنهم صفة القداسة وحوّلهم إلى مجموعة من الأخلاقيات ذات الصبغة الدينية. هذه العقلانية أدخلته في إشكالية أن من بين العقائد الثلاث عشرة التي آمن بها عقائد لم يتمكن من التحقق منها يقينياً في زمانه، مثل إيمانه بأن التوراة التي بين يدي اليهود هي نفسها التي سلمها الله لموسى.

هذه العقلانية الانتقائية استمرت مع مؤسسي الصهيونية ومنظريها، الذين كانوا في معظمهم من الملحدين واللادينيين. هؤلاء استخدموا الدين اليهودي عقيدةً سياسية بعد أن علمنوه. فبعد أن كانت بيت إسرائيل وأرض إسرائيل مخصصين لرب إسرائيل، تحولا إلى بيتٍ وأرضٍ لشعب إسرائيل. وبعد أن كانت اللغة العبرية مقدسة لارتباطها بالعبادات والتوراة أصبحت مقدسة لارتباطها بالخروج عن عباءة يهود الشتات واللغة اليديشية، ولارتباطها بما يسمى "اليهودي الجديد" المستقل قومياً والمسيطر على مصيره. أما التوراة التي كانت الكتاب المقدس الأعظم فقد تحولت إلى كتاب تاريخي مليء بالقصص والعبر التي استُرجعت وأُعيدت صياغتها وعُدِّل سياقها لحشد الشعب اليهودي خلف قضية سياسية. وفي خضم حركة العلمنة هذه لا يمكن إغفال تأثير ابن رشد على ابن ميمون كما أثر على الفلاسفة الغربيين وأسهم في زرع بذور العلمانية الغربية.


كان موسى بن ميمون القرطبي من أهم رجال الفكر اليهودي في العصور الذهبية للإسلام أو ما تُعرف أوروبياً بالعصور الوسطى، وقد أضاف كثيراً للعقيدة اليهودية. ترنحت ردات الفعل تاريخياً وحتى يومنا هذا يميناً ويساراً بين تأييد أفكاره نبياً وكبير حاخامات الشعب اليهودي تاريخياً، وانتقاد أطروحاته وعدّها شذوذاً عن الأصول الصحيحة للعقيدة والشريعة اليهودية، لا سيما المتعلق منها بأسس الإيمان وتغليب العقل والمنطق على ما يعدّ مسلمات عقدية. إلا أن جزءاً من أفكاره هذه أعيد استدعاؤها من التاريخ خدمة للمشروع الصهيوني من بدايته، لا سيما المتعلق منها بالوطن اليهودي والعلاقة مع الأغيار. والدافع وراء هذا كله، كان ولا يزال، ربط العقيدة السياسية للصهيونية بالعقيدة اليهودية لإضفاء الشرعية على الصهيونية وحشد الشعب اليهودي، علمانييه ومتدينيه. ويبقى السؤال هل كانت أفكار موسى بن ميمون سترتدي رداءً سياسياً أوسع مع صعود الصهيونية الدينية وتجذرها في إسرائيل، ونمو تطرفها في السنوات القليلة الماضية.

اشترك في نشرتنا البريدية