الجذور الماركسية للصهيونية: قراءة في أفكار دوف بوروخوف

صاغ بوروخوف الصهيونية الاشتراكية حلا للمشكلة اليهودية، إلا أنه سعى لذات الأهداف الاستعمارية في فلسطين والتي صاغها هرتزل وقادة الحركة الصهيونية.

Share
الجذور الماركسية للصهيونية: قراءة في أفكار دوف بوروخوف
تعريف كلمة الصهيونية في القاموس

نشأت الحركة الصهيونية بالغالب من تصورات وأفكار غربية، وقد صاغ الأب الروحي للحركة النمساوي ثيودور هرتزل أساسياتها باعتبارها عقداً ضمنياً بينها وبين الحضارة الغربية. لكن الاعتقاد السائد هو أنَّ هذه النشأة انحصرت في السياق الغربي الليبرالي، أي الفكر الذي يركز على الحرية الفردية والمساواة والحقوق السياسية والسوق الحر. وفي حين أن هذا الاعتقاد في أساسه صحيح، إلا أنه تجاهل نشأة الصهيونية في فتراتها الأولى في أحضان الاشتراكية الغربية، والتي ظهرت بذورها في كتابات الفيلسوف الألماني اليهودي موسى هِس. تطورت وتوسعت لاحقاً على يد عددٍ من المفكرين الصهاينة الاشتراكيين، وكان من أبرزهم دوف بير بوروخوف.

وُلد بوروخوف في روسيا سنةَ 1881، وتلقى تعليماً علمانياً في صغره. أبدى اهتماماً كبيراً بالفكر الاشتراكي والماركسي منذ شبابه، وفي مراحل لاحقة، ومع تصاعد معاداة اليهود في شرق أوروبا، تحول جل اهتمامه نحوَ الصهيونية وأوضاع اليهود في محيطه الإقليمي. اشتهر بتأسيسه حركة "بعالي تسيون" (عمال صهيون) وتزعَّمها. وظلَّ بوروخوف حتى وفاته عام 1917 يسعى إلى التوفيق بين الصيغة الأساسية للصهيونية، أي السياسية، كما وضعها هرتزل ورفاقه أمثال ماكس نوردو آخر القرن التاسع عشر، وبين الأطروحات الاشتراكية.

عند تحليل أفكار بوروخوف عن الصهيونية، نجد أنه لم يؤسس دوافعه على أسس قومية أو دينية، كما فعل أغلب مفكري الصهيونية ومؤسسيها، بل أطَّرها على أنَّ المشكلة اليهودية هي مشكلة اقتصادية. إذ رأى أن الشعب اليهودي، وهو الشعب المشتت بلا أرض، لا يمكن دمجه بالأمم الأخرى، لخصوصيته الثقافية والدينية والتاريخية، ولذلك لم يتمكن من خلق ظروف إنتاج تضمن له استقلاليته والسيطرة على مصيره. في هذا السياق، صاغ بوروخوف نظرية "الهرم المقلوب"، إذ عزى مشكلة اليهود إلى التشوهات التي أصابت الهرم الاجتماعي اليهودي بعد انهيار النظام الإقطاعي والانتقال إلى الثورة الرأسمالية في القرن الثامن عشر. ومع ذلك، فإن رؤية بوروخوف الاشتراكية للصهيونية لم تتجاوز المفهوم الصهيوني العام القائم على فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، مع تجاهل سكان البلاد الأصليين. بهذا، ظلت صياغته متوافقة في أهدافها مع المدارس الأخرى للفكر الصهيوني، والتي كان يغلب عليها الطابع الليبرالي والرأسمالي.


أدّى اليهود دوراً وظيفياً في العهود التي سبقت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، إذ كانوا يعملون في مجالات مثل التجارة والربا، مما ساعد في إنشاء نظام ائتماني خاص بهم استفادت منه الدول الأوروبية. كان لهذا الدور جذور في الخصوصية الدينية والتاريخية لليهود في مجتمعات الأغيار، أي أولئك الذين يختلفون عن اليهود في المذهب والدين والثقافة. ومع ذلك لم يكن لليهود سلطات فعلية في تلك المجتمعات بسبب هامشيتهم وتحكم السكان الأصليين في عملية الإنتاج والزراعة. فقد حُرموا من العمل في الزراعة أو تملك الأراضي بموجب النظام الإقطاعي الذي كان سائداً في أوروبا قبل الثورة الصناعية، بسبب تحريم الكنيسة الكاثوليكية ذلك. وثروة اليهود من التجار والمرابين غالباً ما كانت تُعدُّ جزءاً من ملكية الملك. وفي دستور ألمانيا الشمالية نصٌّ يفيد بأن "اليهود عبيد الملك، وهم دائماً ملك الخزينة الملكية". ومع هذه القيود وفَّر النظامُ الإقطاعي لليهود قدراً من الاستقرار.

مع دخول أوروبا عصرَ التنوير والنهضة الصناعية في القرن الثامن عشر، انهارت التشكيلات الطبقية القديمة، ونال اليهود حرية الانخراط في أنشطة اجتماعية واقتصادية كانت محرمة عليهم، فيما سُمّي "العتق اليهودي". بدأت الحكومات الأوروبية تسعى إلى دمج اليهود في مجتمعاتها، وكان معظم اليهود يعيشون آنذاك في "غيتوهات"، وهي تجمعات سكانية يهودية معزولة عن محيطها. وقد عارضت عدد من هذه الجماعات محاولات الدمج، لأسباب دينية وغيرها. ومع هذا الدمج فقدت الجماعات اليهودية أدوارها الوظيفية التقليدية، وظهرت الطبقة البرجوازية الجديدة من صناعيين واقتصاديين استحوذوا على أنشطة الجماعات اليهودية. بذلك أصبح اليهود جماعة وظيفية بلا وظيفة، فنُظر إليهم على أنهم عبء على المجتمعات الأوروبية. ومع هذا الوضع نشأت نزعات جديدة لمعاداة اليهود على أسس سياسية واقتصادية، وإن كانت ما تزال تغذيها الصور القديمة الشائعة التي تصور اليهود محتكرين وجشعين. في ظل هذا بدأت تتبلور الفكرة الصهيونية حلّاً عملياً لما سُمّي في أوروبا "المشكلة اليهودية" أو "الفائض اليهودي"، وهو تعبيرٌ يوحي بأنَّ وجودَ اليهودِ في أوروبا أصبح فائضاً عن حاجةِ تلك المجتمعات، مما استدعى البحث عن حلول بإنشاء وطنٍ قومي لهم. 

من هنا قامت الصهيونية على مجموعة من المسلمات التي قال عنها المفكر المصري عبد الوهاب المسيري "الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة". أبرز هذه المسلمات هو أن اليهود يشكلون شعباً متماسكاً وغير قابل للاندماج في المجتمع الأوروبي. وليصبح هذا الشعب نافعاً، وجب نقله إلى مكان آخر خارج أوروبا ليصبح شعباً مستقلاً ومفيداً، يُوظَّف لخدمة مصالح القوى الاستعمارية الأوروبية التي ستحميه في وطنه الجديد. وقد هوّد رعاة الصهيونية، وعلى رأسهم هرتزل، هذه الصيغة لتستوعب مختلف التيارات اليهودية المتباينة، التي بدت متناقضة مع جوهر الصيغة الشاملة وأهدافها. ومع تلك التناقضات أخفت الصهيونية السياسية إطارها الرأسمالي المادي النفعي وتقديسها للقوة بوصفها وسيلة لتحقيق الأهداف. وقد كان هذا التقديس للقوة في الصهيونية إعادة إنتاج للفكر الاستعماري الغربي الذي يعدُّ التفوق العرقي والقوة العسكرية والاقتصادية مبرراً للتقدم والربح على حساب "الآخرين الأقل تقدماً عرقياً ومادياً".


أحد هذه الديباجات المقابلة للصهيونية السياسية، أو ما يمكن أن يسمّى "الهرتزلية" نسبةً إلى ثيودور هرتزل، والتي غابت أو كادت تغيب في الدراسات الحديثة عن الصهيونية وإسرائيل، هي الصهيونية الاشتراكية أو العمالية. الاشتراكية، وهي جزء من الفلسفة الماركسية التي صاغها الفيلسوف الألماني كارل ماركس وزميله فريدريك إنجلز في القرن التاسع عشر، تقوم على تحقيق الطبقات العاملة، التي يطلق تسمّى في الأدبيات الاشتراكية البروليتاريا، السيطرة على الحكم ووسائل الإنتاج، أي المصانع وكل ما يسهم في النشاط الاقتصادي، وترسيخ الملكية العامة وإلغاء الملكية الفردية أو الخاصة. لذلك رأت الصهيونية الاشتراكية أن المشكلة اليهودية ليست دينية في أساسها، بل مشكلة متعلقة بالبناء الاقتصادي والاجتماعي للجماعات اليهودية.

نشأت الصهيونية الاشتراكية في سياق الصراع بين الرأسماليين والاشتراكيين، وظهرت أولاً مع الفيلسوف اليهودي موسى هِس في كتابه "روما والقدس". رأى هِس أن حركة التاريخ مبنية بالأساس على صراع الأعراق والطبقات، وأن صراع الأعراق يتفوق على صراع الطبقات، وهو ما كان نقطة خلافه مع كل من ماركس وإنجلز. فقد آمن ماركس وإنجلز بأن العالم يتحرك وفقاً لقوانين مادية ثابتة، وأن الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي لتطور التاريخ. لكن الأهم، وفقاً لهس، هو أن العرق اليهودي لا يمكنه العيش بسلام بين الأعراق الأوروبية، وأنه بحاجة إلى إعادة إنتاج نفسه، وذلك بنقله إلى بلد آخر ليحقق ماهيته وإنتاجيته. رأى هس أنَّ فلسطين أنسب بلد لهذا الهدف، للارتباط العقائدي العميق بين اليهود وفلسطين.

طوَّر مفكرون يهود آخرون بعد هس هذا البعد الاشتراكي للصهيونية من زوايا مختلفة. منهم نخمان سيركين، الذي ركز على توحيد اليهود على أُسسٍ أخلاقية وقومية، محاولاً التقليل من أهمية الصراع الطبقي لليهود، مع التأكيد على ضرورة وحدة الطبقات اليهودية في مواجهة الأغيار، أي غير اليهود. وتبنَّى أهارون جوردون فكرة أن التخلص من آفات المنفى اليهودي والانعزال هو السبيل ليصير اليهود شعباً منتجاً قادراً على تحقيق ذاته بالعمل الفعّال. ورأى كلٌّ من سيركين وجوردون مثلما رأى هِس أنَّ فلسطين هي الأرض المناسبة التي يمكن بها تحقيق الحلم اليهودي بدولة مستقلة.


وعلى من أهمية أفكار كل من هس وسيركين وجوردون الهادفة إلى توحيد اليهود على أسس اشتراكية، لم تكن ذات نمط تحليلي علمي كما كانت أفكار دوف بير بوروخوف، الذي حاول توظيف المنهج الماركسي في خدمة الرؤية الصهيونية. خلص بوروخوف إلى حتمية الحل الصهيوني الاستعماري وسيلةً لتزويد اليهود بأرض للإنتاج وقاعدة له، ثم السير في مراحل التحول إلى الاشتراكية.

بدأ بوروخوف تفسير المسألة اليهودية بشرح سبب وجود انقسامات واختلافات حضارية وثقافية بين البشر. فقسَّمَ البشرية، اجتماعياً واقتصادياً، إلى أمم ثم طبقات. ورأى أنَّ الأمم سابقت الطبقات في الظهور والنشأة، وأنها ثابتة مستقرّة عكس طبقات المجتمع المتغيرة، فتبقى الأمة النقطة المرجعية والأساس الحاكم للمجتمع الإنساني. ثم فسر بوروخوف انقسام البشر على أساس ظروف الإنتاج وعلاقاته، قائلاً إنَّ الاختلافات الأساسية بين الأمم تُحدد، صعوداً أو هبوطاً، على أساس ظروف الإنتاج المُشكلة لهذه الأمم والمُكونة لها. هناك أممٌ تُضطهد بسبب فقدانها السيطرة على ظروف إنتاجها، بل وتُستغل لمصلحة شعوب أخرى. وبسبب هذه الظروف أو ردّاً عليها تكتسب الرموز القومية والجوانب الثقافية عند هذه الشعوب أهميةً بالغة، تحاول معها وبها دفعَ الأمَّة نحوَ تقرير مصيرها والسيطرة على ظروف الإنتاج بها. في تلك المرحلة تحديداً، تحاول الأمة توحيد طبقات المجتمع جميعها في تشكيل قوميٍّ ثوريٍّ كبير. وسمَّى بوروخوف ذلك التشكيل "قومية الطبقة التقدمية الحقيقية" أو "قومية البروليتاريا المنظمة للشعوب المضطهدة"، بهدف استعادة الأرض وظروف الإنتاج وتحقيق الاستقلال الفعلي والقدرة على التحكم بالمصير بعيداً عن التبعية للقوى الكبرى أو من في فلكها. وعند استعادة الأمة ظروفَ إنتاجها، تعود مرة أخرى إلى ما وضعها الطبيعي بوصفها أمّة، إلا أنها بسبب حتمية الصراع الطبقي، استناداً إلى المذهب الماركسي، سرعان ما يتحول الصراع ضد الخارج والذي انتهى بالاستقلال إلى صراع ضد الذات. فتدخل الأمة أو الدولة في دائرة الصراع الطبقي بين طبقات المجتمع وهياكله، وهو الأمر الذي رآه بوروخوف درباً حتمياً في سبيل الحل الاشتراكي.

وبتطبيق هذا الفهم للاشتراكية وحركة التاريخ على المسألة اليهودية، وتصوره للصهيونية، فإن بوروخوف رأى أن الشعب اليهودي شعب بلا أرض، وبلا ظروف إنتاج، وذلك لأنه مشتت في العالم. اتفق مع هس وسيركين وجوردون بأن هذا الشعب لا يمكن إدماجه مع أي أمة أو مجتمع آخر، لأن اليهود أمة مستقلة ذات خصائص ثقافية وروحية وتاريخية مغايرة. تجاوزاً لكل النظريات الاشتراكية الصهيونية يتوسع بوروخوف بتأطير الوضع اليهودي في إطار نظرية سماها "الهرم المقلوب". فكلُّ شعبٍ يتكون من طبقات وفئات مجتمعية مقسمة على شكل هرم، وكل فئة في المجتمع لها سماتها وخصائصها ومصالحها الخاصة، وذلك الهرم يتكون من قاعدة إنتاجية عريضة تُسهم في عمليات الإنتاج الأساسية في المجتمع. وكلما ابتعدنا عن قاعدته، قلَّت العمليات الإنتاجية الاقتصادية وقلَّ العاملون فيها حتى نصل إلى قمة الهرم الطبقي.

وفي خطوة تفسيرية جريئة رأى بوروخوف أنَّ هرم اليهود الاجتماعي مشوه. مردَّ هذا أن لليهود قاعدة إنتاجية واسعة، ديدنها الأساسي المثقفون والمفكرون والأطباء الذين مثَّلوا الميسورين في المجتمعات اليهودية، مقابلَ قلة العُمَّالِ المهرة من اليهود الذين شكّلوا قاعدة إنتاجية، أو عجلة اقتصادية. ناهيك عن عدم وجود ظروف إنتاج وأرض خاصة بهم تساعدهم على تكوين قاعدة اقتصادية متماسكة ذات استقلالية. ومن هنا ظلَّ اليهود بمعزلٍ عن عددٍ من القطاعات الإنتاجية المهمة التي سيطرت عليها الأمم التي تستضيفهم. ومع ظهور الرأسمالية والتطورات الكبيرة في الآلات الصناعية، بدأ اليهود يتحولون مِن حرفيين إلى بروليتاريا، أي عمال. ومع ذلك كان العمال اليهود يحصلون على نصيب أقلّ في الأجر والربح بسبب التمييز الذي كانوا يعانون منه من المترفين والمنعّمين وأصحاب رؤوس الأموال المسيحيين من أبناء الطبقة البرجوازية. والمفارقة أنَّ العمال اليهود لمّا عملوا عند البرجوازيين اليهود كان مكانهم الصناعات الاستهلاكية، أي لم يكونوا ذي شأنٍ في اقتصاديات الأمم التي عاشوا فيها.

رفض بوروخوف الحل الاندماجي، أي دمج اليهود في مجتمعات الأغيار، لأنّه تعزيزٌ للمشكلة اليهودية لا حلّ لها، مثلما فعل هرتزل ومن سار في فلكه على الطرف الرأسمالي من الطيف الصهيوني، ومطابقاً لرؤى الصهاينة الاشتراكيين مثل هِس. كان الحلُّ في رأيه الوطنَ البديلَ لليهود، أي الحل الاستعماري. ولهذه الغاية دعا إلى تكاتف الطبقات اليهودية جميعها لإيجاد أرض تأويهم وتحقق طموحاتهم. ولكنه خلافاً لهرتزل وهس اللذين توجَّسَا من الصعوبات اللوجستية والظروف الإقليمية عائقاً أمام تحقيق حلم الوطن القومي لليهود، نظر بوروخوف إلى الصعوبات المتوقعة على أنها قادمة من الداخل اليهودي نفسه. والسبب برأيه كان اختلاف المصالح والاهتمامات بين الطبقات اليهودية. فمثلاً، نجدُ أنَّ الطبقة اليهودية البرجوازية القاطنة في الغرب كانت تريد الاندماج في الأسواق العالمية ولا تريد أن تحصر نفسها في الأسواق المحلية. ولذلك كانت مترددة في الانتقال إلى فلسطين أو إلى أي أرض تُؤسس فيها دولة يهودية. ولم تنظر بعين الرضا لفقراء اليهود، لا سيما القادمين من شرق أوروبا. وإن كان تعاطفت معهم لأنهم يهود من عقيدتهم نفسها. وتعاطف البرجوازيون اليهود مع فقراء اليهود، و انخرطوا في مشاكلهم، لا سيما ما تعلق منها بالتمييز ومعاداة اليهود في المجتمعات الشرق أوروبية. خصوصاً في وقت تصاعدت فيه الاعتداءات على اليهود، وكان أهمها في بداية القرن العشرين وما سمي باسم "البوغروم الروسية"، أي المذابح، وتمثلت بسلسلة من أعمال عنف شعبية بين عامي 1903 و 1905 طالت اليهود وممتلكاتهم. 

أضاف بوروخوف للعوائق الطبقية الطبقات اليهودية الوسطى، وشملت غالباً مثقفي اليهود، ومنها انبثق مفكروا الصهيونية الأوائل أمثال هرتزل. دعمت هذه الطبقة الحلول الليبرالية ووظفت الرموز القومية والثقافية للشعب اليهودي بغيةَ إنشاء وطن قومي بعيداً عن قيود الشتات. وفي رأي بوروخوف فإنه مادامت هذه الطبقة تحافظ على أوضاعها الطبقية المستقرة، فإنها تبقى خارج الدوائر اليهودية، فلا يمكن التعويل عليها في تحقيق الوحدة في صفوف الجماعات اليهودية على اختلافها.

وفي تصوره يمكن الحل في استحداث طبقة رابعة، تجمع الطبقة اليهودية البورجوازية الصغيرة وطبقة البروليتاريا العاملة، مع التركيز على الطبقة الثانية والتي عدّها الأهم في تقسيم الهرم الاجتماعي لليهود. ورأى أنَّ الطبقة العاملة، والتي مثل ضعفها فترةً طويلة جوهرَ المشكلة اليهودية، كانت هي نفسها الحل. فبتحريرها من عزلتها الاقتصادية وتحقيق طموحاتها وأحلامها، ستُنشئ القاعدة الاقتصادية التي يمكن أن يُبنى عليها الكيان اليهودي المستقل.

في حين أن التركيز على الطبقة العاملة وعدَّها أساس الإنتاج، من المبادئ التقليدية للفكر الاشتراكي، إلا أن ربط هذه المبادئ بالمسألة اليهودية والوطن البديل نقل هذه الاشتراكية إلى جانب غير تقليدي. فيرى بوروخوف أن تنفيذ فكرة الوطن البديل هذه لابد وأن تكون كما جاءت بها الصيغة الصهيونية الأساسية، أي بالحل الاستعماري. فبدلاً من الهجرة إلى دول أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة ومحاولة تأسيس قاعدة إنتاجية لليهود بهم، من الممكن الاستيلاء على أراضي الآخرين، ثم إقامة قاعدة اقتصادية قائمة على أرض وظروف إنتاج خاصة باليهود من غير رقابة أو تدخل الأغيار. بعد الاستيلاء على تلك الأرض، لن تكون هناك أزمة في القاعدة الإنتاجية مرة أخرى، وسيُصحح حينها مسار الأمة اليهودية، أي سيُعاد الهرم المقلوب إلى وضعه الطبيعي ويزول منه التشوه. ومن هناك يسير التاريخ طبيعياً إلى صراع الطبقات وصولاً إلى حتمية تطبيق الاشتراكية.

كان بوروخوف يدرك أن تلك العملية لن تكون إلا بأموال الطبقات البرجوازية اليهودية والتي بجلها ليبرالية رأسمالية تقف على النقيض مما آمن وبشر به. دور هذه البرجوازية يأتي بداية عملية الاستيطان، ويتمثل بتأمين وتمويل هجرة الطبقة العاملة، وإلى شراء ولاء القوى الاستعمارية التي ستعين إنشاء الدولة اليهودية وتحميها. ولكنه كان أيضاً عملياً، فرأى أن بترسّخ القاعدة الإنتاجية ونضال طبقة العمال المستمر، ستتحول الدولة إلى النظام الاشتراكي.

كانت فلسطين لبوروخوف الأرض المثلى لتحقيق الحلم الاشتراكي الصهيوني عليها. ورآها أرضاً شبه زراعية متخلفة ما زالت في الطور الانتقال إلى المرحلة الرأسمالية ولا تمثل إغراءاً للقوى البرجوازية المسيحية. بينما عدّها مصدر إغراء للقوى البرجوازية اليهودية الصغيرة والمتوسطة، لأهميتها الدينية والتاريخية لهم. ولأن قاطنيها من العرب كانوا ذوي مستوى ثقافي منخفض ووعي سياسي متدنٍ، غير متماسكين اجتماعياً ومتخلفين اقتصادياً. فاعتقد، كما اعتقد هرتزل في كتابه "الدولة اليهودية"، أن السكانَّ العرب لن يقدروا على الوقوف أمام رأس المال اليهودي، بل إنه من الممكن أن ينضموا إلى اليهود في عملية التحول إلى الاشتراكية.

ظنَّ بوروخوف أنَّه ما إن تُعلن الأفكار الصهيونية الاشتراكية، سيتقبلها اليهود وسيتكاتفون لتنفيذها. ولكن عكس توقعاته فلم يهاجر رأس المال اليهودي البرجوازي بكثافة إلى فلسطين إلا عندما استعمر الإنجليز فلسطين نهاية الحرب العالمية الأولى. ووقع في الخطأ المحوري ذاته الذي سقط فيه قبله مفكري الصهيونية السياسية الأوائل، وهو استهانتهم بالوجود العربي في فلسطين. فجميعهم انطلقوا من مقولة واحدة وهي "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، وهي مقولة تفترض غياب الآخر وعدم وجوده.


فارق بوروخوف الحياة في عمر السادسة والثلاثين في العاصمة الأوكرانية كييف سنةَ 1917، أي تزامناً مع بدء احتلال الجيش البريطاني فلسطين وفتح باب تدفق الهجرة اليهودية إليها. وسنةَ 1963 أحضرت الحكومةُ الإسرائيليةُ رُفات بوروخوف ودفنته في إسرائيل جنب رواد الحركة الصهيونية من الاشتراكيين، أمثال موسى هِس ونخمان سيركين. واليوم سُمّيت باسمه شوارع في القدس ومدن الخط الأخضر، ومنها العفولة، الخضيرة، عسقلان، أسدود، وبئر السبع.

يبقى السؤال إذا ما كان كل هذا التبجيل لشخص بوروخوف اليوم انعكاساً لدوره في تطوير الاشتراكية الصهيونية واقعاً معاشاً في إسرائيل. الحقيقة أن نسخته من الصهيونية لم يكن لها الأثر الكبير على تشكيل بنية المجتمع الإسرائيلي الحالي، ربما بسبب وفاته المبكرة قبل أن تصل أفكاره إلى الحشد والتنفيذ الكافي. ومع أن البعض ينسب له الفضل في تعزيز فكرة "الكيبوتسيم"، أي القرى الزراعية التعاونية، بداية الاستيطان اليهودي في فلسطين، إلا أن المفارقة تكمن في أن أهمية بوروخوف الحقيقية قد تكون في دوره غير المباشر بتقوية الصهيونية الرأسمالية بنسختها الاشتراكية.

مع أن بوروخوف عارض الصهيونية الرأسمالية، فإن اشتراكه معها في الهدف الاستعماري، وهو إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، أسهم في تعزيز هذا التوّجه وتقويته. فمثل هرتزل ونوردو، ظنَّ بوروخوف أنَّ فلسطين لن تكون لأحدٍ غير اليهود، وأنهم فور دخولهم إليها سيتحدّون مع روحها بعد غياب قرون طويلة، ما يبرر طرد سكانها العرب. وهكذا، فإن منطق الصهيونية الاشتراكية، وإن اختبأ خلف ديباجات العمل والعدالة الاجتماعية، لم يبتعد كثيراً عن الصيغة الأساسية الشاملة للصهيونية ببعدها الاستعماري الإحلالي.

اشترك في نشرتنا البريدية