أما الثانية، فهي مذكرات حسين أحمد جحجاح المعنونة "بين اللفافتين" والمنشورة طبعةً خاصةً بلا دار نشر سنة 2007. وُلد جحجاح في قرية حفسرجة، إحدى قرى جبل الزاوية الصغيرة، ولا يُعرف عنه سوى اسمه وسيرته التي دوّنها. حتى أنه لم يدرج تاريخ ميلاده في المذكرات التي بدأها سنة 1932، لكن يمكن أن نستنتج بالنظر لمحتوى المذكرات أنه ولد في تاريخٍ قريبٍ من تاريخ ولادة عبد الله واثق شهيد سنة 1927. يمثل جحجاح الوجه المقابل للمجتمع في جبال إدلب الغربية، على عكس شهيد. فهو رجلٌ من عامة الشعب وابن فلاحٍ ينحدر من عائلة فلاحين عبر أجيال. مذكراته أحداث يومية ربما لا تهمّ سوى المعنيين بالتاريخ الاجتماعي للقرى.
وعلى تفرّق مسارَي ابني إدلب حسب خلفيتهما الاجتماعية وعلاقة عوائلهما بالمركز، تروي مذكراتهما حالة الفقر والتهميش الذي عانته تلك المناطق. يغلب القلق والتنقل الدائم بين المهن والأماكن على حياة أبناء الهوامش، بينما أتاحت علاقة رجال النخبة بالمركز السياسي والاجتماعي استقراراً وترقياً في المناصب. تغيّر الوضع قليلاً في انقلاب حزب البعث سنة 1963 الذي منح استقراراً أكبر، لكن قلق أبناء الهامش الريفي عاد منذ التسعينيات مع موجات الجفاف والفساد والتهميش الحكومي، حتى انفجرت أرياف سوريا سنة 2011.
عرفت منطقة إدلب تاريخاً من الثورة والتمرد، منذ القتال ضد الفرنسيين ثم مواجهات الإخوان المسلمين ضد حافظ الأسد والاعتقالات والمجازر التي رافقتها، حتى الثورة السورية سنة 2011. وشهدت منذ ذلك الوقت نفياً واستباحةً من السلطة التي دمّرتها بالقصف وجمعت فيها المنفيين من كل المناطق الثائرة، واعتبرتها خارج "سوريا المفيدة"، حسب مصطلح بشار الأسد. لكن هذا الهامش الإدلبي كان مركز انطلاق المعركة التي أسقطت الأسد نهاية سنة 2024، والتي حوّلت الهامش إلى مركز الحدث السوري.
لم تكن إدلب مصنفة بين مدن الصف الأول في سوريا والتي كانت مراكزاً قبل الاستقلال، مثل دمشق وحلب وحمص وحماة ودير الزور. ولم يزِد حجم إدلب عن بعض المدن الملحقة بها، مثل معرة النعمان وجسر الشغور. لذلك لم تستطع هذه المدينة أن تكون مركزاً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً حقيقياً لهذه المحافظة، واقتصرت على كونها مركزاً إدراياً. وزاد من هامشيتها وقوعها خارج الطريقين الدوليين اللذين يخترقان المحافظة الوليدة، وهما الطريق بين دمشق وحلب والطريق بين حلب واللاذقية.
يقع جبل الزاوية في قلب هذه المحافظة الواقعة في شمال غرب سوريا، وقد هُمّش تهميشاً كبيراً بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي سنة 1946. تقطعت السبل بمدنه ومدن سلسلة الجبال الغربية المتصلة به، مثل جسر الشغور وحارم وأريحا وكفر تخاريم. وذلك بسبب ضمّ لواء إسكندرون إلى تركيا سنة 1939 باتفاقٍ بين الانتداب الفرنسي والاتراك، فصار يُعرف تركياً بإقليم "هاتاي". وقبل ذلك كانت علاقة جبل الزاوية الاقتصادية والاجتماعية وثيقةً بمدينة أنطاكيا التي أصبحت داخل تركيا. وقد عُزلت بعض هذه المدن، مثل حارم، عن أملاك سكانها الزراعية لأنها وقعت على خط الحدود السورية التركية الجديد. أضف إلى ذلك الإهمال الحكومي اللاحق، فتحوّل جبل الزاوية إلى منطقةٍ تطرد السكان إلى المدن الأخرى. وكالمحافظة المهمشة، كان جبل المهمشين.
يصف المؤرخ والرحالة السوري أحمد وصفي زكريا جبل الزاوية في كتابه "جولة أثرية في بعض البلاد الشامية" المنشور سنة 1934. فيقول: "هو أجرد إلا من أشجار الزيتون والتين والعنب في بعض أماكنه، وواطئ لا تعلو قمة النبي أيوب فيه عن تسعمئة [أو] ألف متر، وينابيعه قليلة، ومسطحه منبسط في الجملة، على أنه تكثر فيه التلعات الصخرية الكلسية [. . .]. وهذه التلعات والصدوع جعلت أكثر قراه كمعاقل حربية لا ترام، ودعت أهلها أن يكونوا أجلاداً برزاً ببسالتهم في المعارك التي جرت في سنيّ 1329 و1340 [هجرية] في أعمال حلب الغربية، بين عصابات الأهلين والجند الفرنسي".
ويقول عن حارم إنها "قاعدة قضاء واسع كثير الخيرات، غزير المياه [. . .]. وفيه قرى كبيرة تعدّ من الأمهات تشبه المدن بعمرانها، وفيه أربع نواح سلقين وكفر تخاريم وباريشا وترمانين".
كان جبل الزاوية مركز ثورة إبراهيم هنانو ضد الاحتلال الفرنسي بين سنتَي 1919 و1921. وكذا صار أحد مراكز الثورة السورية منذ 2011، إذ كان من أول المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وشهدت بدايات الثورة المسلحة وتجمعات الضباط المنشقين. وأما قلعة حارم الأثرية في زمن الفرنسيين، فقد تحصن فيها "الجند الإفرنسي ضد عصابات الأهلين التي كانت تهاجمه من حين إلى آخر"، كما يقول زكريا. وفي الثورة السورية شهدت المنطقة معركة عنيفة نهاية سنة 2012 بين جيش النظام والجيش السوري الحر، ليسيطر عليها الثوار ويحكموا قبضتهم على الحدود مع تركيا.
وعندما أصيب جحجاح بالحمى وهو طفل سنة 1932، حسب ما يورد في مذكراته، حمله والده بسيارة نقل إلى إدلب ليعرضه على طبيبن وهذا ترف لا يحلم به الأطفال في وضعه الاجتماعي عادة. وكان الوالد قد فقدَ جميع أولاده بسبب المرض قبلاً. فقد كانت نسبة وفيات الرضع والأطفال كبيرة حينها بسبب المرض وشيوع العدوى والالتهابات وضعف الخدمات الطبية، لاسيما في المناطق الريفية والنائية.
ونعثر في المذكرات على حدثٍ مناخي ترك أثره على تجربة الرجلين. فقد مرّ بسوريا في نهاية العشرينيات عقدٌ كامل من الجفاف عمّق التوترات الاجتماعية وأقلق حياة الريف، خاصة في منطقة جبل الزاوية محدودة الموارد. يقول الفلاح العادي جحجاح إن البلد مرّت بقحط وافتقد أهلها المطر، فعُدم الماء إلا من نبع عين ثلجة الذي يسيطر عليه الإقطاعي نور آغا. وفي عصر يومٍ من صيف 1934 خرج الناس محتجّين إلى بستان الآغا بعد تقديم اعتراض على استبداده واحتكار الماء إلى مخفر درك كفرتخاريم. وهي البلدة التي وُلد فيها إبراهيم هنانو وكانت معقل ثورته ضد الاستعمار الفرنسي.
يَذكر عبد الله واثق شهيد وهو ابن النخبة في مذكراته صورة مشابهة في بلدة دارة عزة بريف حلب الغربي، حيث عاش مع والدته التي ترعى ممتلكات الأسرة، بينما عاش والده في حارم بسبب عمله مفتياً هناك. يورد أنه رأى الناس في "أيام الوريد"، وتعني أيام الظمأ، يذهبون جماعات لنقل الماء على دوابهم من عينٍ تبعد نحو خمسة عشر كيلومتراً.
يشكو الرجل العادي أعدادَ التلاميذ الكبيرة عند الشيخ، "فلم ينل كل طفل حقه من حسن التلاوة أمام الشيخ"، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية مطلع سنة 1937 بلا أن يحفظ الكثير من القرآن. أما رجل النخبة فقد بدأ الدراسة في الكتّاب ثم انتقل إلى مدرسة دارة عزة غرب حلب، وكان أصغر طالب فيها. ثم نقله والده إلى مدرسة حارم التي كان فيها "خيرة المدرّسين" سنة 1935.
منح الانتداب الفرنسي جبلَ العلويين والدروز حكماً ذاتياً بين 1920 و1936، فصار التعليم الرسمي فيها باللغة الفرنسية. في حين كان التعليم في باقي مناطق سوريا مزدوجاً يجمع بين الكتّاب والمدرسة الرسمية، وباللغة العربية. أي أن المناهج المدرسة الرسمية الحديثة كانت شبه علمانية، امتزج فيها التعليم التقليدي ديني الطابع في الكتّاب مع التعليم الحديث في المدرسة. وتؤكد هذا التعليمَ المزدوج شهاداتٌ جمعها عبد الله حنا وجمعها الدارسون في المعهد النقابي في دمشق، في كتابٍ بعنوان "صور من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين" نُشر سنة 2019.
تعثر جحجاج في المدرسة الرسمية ورسب في الصف الثاني ثم أعاد الصف الخامس أيضاً حتى نال الشهادة الابتدائية سنة 1944. ولكنه لم يفلح بدخول ثانوية المأمون أو الصناعة في حلب، فبدأ يبحث عن طريق آخر في فترة قلقٍ امتدت حتى منتصف الستينيات وكان ديدنها تقلّب المناخ والفقر والتهميش وعدم الاستقرار في عمل. بدأ جحجاح محاولة تعلّم صناعة الزجاج المنتشرة في منطقتهم، حسب ما يورد في المذكرات: "بدءاً من كاسات الحجامة والزبادي والصحون وكاسات الشراب وبلورات مصباح الكاز". أصابته أثناء التعلّم حروقٌ في رجليه ويديه، ثم عمل في هذه المهنة حتى 1947.
قرر بعد ذلك العودة للدراسة، فالتحق بثانوية التمدن الإسلامي الشرعية الداخلية في دمشق ودرس إلى جانبها لامتحان الصف التاسع (السرتفيكا)، وهي كلمة فرنسية تعني شهادة، ولكنه أخفق في كليهما. انتقل بعدها لمتابعة دراسة الصف التاسع في حلب ورسب فيه أيضاً. ويبدو أنه انتسب إلى أحد الأحزاب سنة 1951. ولا نعرف إن كان حزب البعث الذي كان نشطاً في أوساط الطلاب، أم الحزب العربي الاشتراكي الذي كان منتشراً في أرياف حماة وإدلب، وهو الأرجح.
عمل بعد رسوبه المتكرر معلماً بالوكالة في ريف حلب الشرقي، والمعلم بالوكالة وظيفة تدريسية تعطى لغير الجامعيين، وتقدَّم لامتحان الشهادة المتوسطة فرسب أيضاً. حاول مرةً أخرى فنجح، إلا أنه ترك التدريس في محاولة البحث عن مهنة أخرى. ولكنه عاد سنة 1954 مدرساً للأطفال المتخلفين دراسياً في قريته حفسرجة براتبٍ يدفعه الأهالي، ثم معلماً بالوكالة في قريتَي خربة الجوز وإسقاط في إدلب وفي ريف منبج شرق حلب قبل أن يعود مجدداً إلى حفسرجة. في قريته بدأ يستعمل كلمة "رفيق" في وصف بعض معارفه، وهي كلمة منتشرة في أوساط منتسبي الأحزاب اليسارية.
حاول جحجاح في تلك الفترة الانتساب إلى قوى الأمن والجيش مرتين لكنه لم يُقبل. ثم نجح بعد ذلك في أن ينضمّ إلى شرطة النجدة في دمشق سنة 1956، وحاول الترقي فتقدّم لدورة رقباء الشرطة ورسب، ثم ظلّ يتنقل في المناطق حتى استقالته من سلك الشرطة سنة 1962. ولم يكن هذا توجهاً خاصاً بالكاتب، ففي العقود الماضية انحدرت نسبة كبيرة من رجال الشرطة من محافظة إدلب، وخاصة من جبل الزاوية. وهي على غرار إدلب نفسها مهنة قلقة لا يعرف منتسبوها الاستقرار، فهم يتنقلون من مكان لآخر.
بدأ الريفي القَلِق مرحلةً جديدةً من حياته بعد انقلاب 1963 واستيلاء حزب البعث على السلطة. ويبدو أنه بدأ نمط حياة مستقرة موظفاً في معمل أدويةٍ خاص في مدينة حلب. ولكن القلق والاضطراب داهم الضفة الأخرى في مجتمع النخبة والاقتصاد مع قوانين التأميم. بدأت قوانين التأميم جزئياً بين سنتَي 1951 و1958، تبعها تعديلات لهذه القوانين في الستينيات والسبعينيات أتاحت لنظام حزب البعث توسيع سيطرته على مفاصل الدولة السورية. هاجر صاحب المعمل الذي عمل فيه جحجاح إلى بيروت بعد تأميم معمله، وكذلك فعل بعض الإقطاعيين الكبار بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. وفي فترة استقرار الهوامش مع تثبيت حكم حزب البعث، عمل موظفاً في مكتب الحبوب ومعمل بيرة ومديرية أوقاف حلب قبل أن يتقاعد سنة 1985. عمل بعد التقاعد محاسباً في القطاع الخاص.
تُظهر الشهادات التي نشرها عبد الله حنا لبعض المهمشين من محافظة إدلب مسيرةً مهنيةً مشابهة مليئة بالقلق وتبديل المهن وأماكن السكن. منهم يحيى دردورة من مواليد سنة 1922، والذي بدأ بسنّ اثنتي عشرة سنة عامل بناء ثم أجيراً عند صانع أحذية ثم فتح ورشة خاصة. انحدر حال المهنة مع دخول البضائع المستوردة، فاتجه إلى بيروت ليعمل بستانياً ثم عامل نسيج. وبعد 1963 استقرّ في إدلب موظفاً في معمل الغزل والنسيج حتى تقاعده.
بعد الثانوية انتسب شهيد إلى المعهد العالي للمعلمين، الذي افتُتح في مبنى كلية الحقوق الحالي سنة 1946، وكان ثالث فرع يُحدّث في جامعة دمشق بعد كليّتَي الطب والحقوق. ثم التحق بقسم الفيزياء في جامعة دمشق ليوفد بعدها إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية. عمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة دمشق ثم جامعة الرياض ليعود ويؤسس وزارة التعليم العالي ويكون أول وزرائها سنة 1966، ثم أول مدير لمعهد البحوث العلمية سنة 1971. بقيَ شهيد في المنصب حتى سنة 1994، إذ طلب إعفاءه من حافظ الأسد وأصبح في السنة التالية رئيساً لمجمع اللغة العربية في دمشق حتى سنة 2008.
إلا أن استقرار الهوامش الهشّ لم يدم سوى عقدين ونيف. مع منتصف التسعينيات بدأ تراجع أجور القطاع العام والتضخم النقدي، وعاد القلق وتبديل المهن والأماكن في الطبقة نفسها. ثم أصابت موجتا جفاف سوريا من سنة 1999 إلى 2001، ومن 2006 إلى 2009. فتقلصت المساحات الزراعية وعاد الاضطراب في المجتمع، حتى شهدت سوريا ثورة 2011.
وبين النموذجين، النخبة والهامش، يقع ما سمّاه المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو "الوجهاء الريفيين الأقل شأناً" في كتابه "فلاحو سوريا" الصادر بالإنجليزية سنة 1999. ونقع على هذا النموذج في الكتاب الذي وُزّع في حفل تأبين أستاذ الأمراض الجلدية الدكتور عبد الكريم شحادة في مدرج جامعة حلب سنة 2004. يذكر الكتاب أن شحادة وُلد في مدينة جسر الشغور سنة 1922، وهي على أطراف جبل الزاوية الغربية، ودرس في الكُتّاب ثم المدرسة الرسمية كالرجلين السابقين. وحاز شهادة التعليم الابتدائي، ولكنه دخل بعدها مرحلة القلق والحيرة. كانت فرصه أقلّ من رجل النخبة، ولكنها ليست معدومة مثل رجل الهامش، لأن والده ينتمي إلى فئة ما بين الطبقتين.
تقدَّم شحادة بطلب انتساب للثانوية الخسروية الشرعية في حلب، ورُفض لأن تأهيله العلمي الديني لم يكن كافياً. ولكن ابن عم والده المهندس نشأت وصديق والده القائم مقام الدكتور ظافر الرفاعي، وكلاهما تخرج من فرنسا، أقنعا والده بضرورة متابعة دراسته. ساعده الرجلان على نيل مقعدٍ مجاني في مدرسة التجهيز (التي عُرفت لاحقاً باسم المأمون) في حلب، وتخرَّج منها وعمره اثنتان وعشرون سنة.
استكمل الشاب الطموح مسيرته التعليمية بمساعدة أصدقاء والده. فدرس الطب في المعهد الطبي العربي واستكمل دراسته في باريس، لأن دراسة الطب هناك صارت أقلّ تكلفة بسبب انهيار سعر الفرنك الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية. تخرَّج طبيباً سنة 1951، وتابع التعلم والترقي حتى أصبح أستاذاً جامعياً وطبيباً معروفاً. وكان ثاني طبيب في شمال سوريا مختصاً بالأمراض الجلدية بعد الطبيب علي الناصر.
درست الباحثة دانا السجدي في كتابها "ذا باربر أوف ديماسكِس" (حلاق دمشق) الصادر سنة 2013 يوميات البديري الحلاق، وهو حلاق ورجل عادي في دمشق القرن الثامن عشر. ولكن يومياته التي اكتشفها الكاتب السوري الشيخ محمد سعيد القاسمي، ونُشرت بنسخة محققة بعد وفاته بأربعة عقود سنة 1959، تحوّلت إلى أحد أهم المراجع عن دمشق العثمانية.
أطلقت السجدي على هذه الفئة من كتّاب التاريخ غير المحترفين مصطلح "محدثي الكتابة"، وتعني مؤلفين من أصولٍ اجتماعيةٍ ليس لها صلة بالنخبة العلمية التقليدية. اختار هؤلاء كتابة التاريخ بنمط اليوميات التي عاصروها، لأنهم أرادوا الحديث عن ذاتهم. ولذلك اهتمّت مذكرات رجل الهامش الإدلبي بكتابة الذات لا التاريخ. فالأحداث التاريخية الكبرى مثل معاهدة الاستقلال سنة 1936 والاحتفالات التي رافقتها وجلاء فرنسا عن سوريا سنة 1946 والانقلابات العسكرية الكثيرة والوحدة مع مصر سنة 1958 ثم انقلاب البعث سنة 1963، كلّها تظهر في اليوميات خلفية للأحداث الذاتية لا أكثر. ولكن في مذكرات رجل النخبة نجد توازناً بين الكتابة عن الذات والتاريخ العام، وتكون الأفضلية للتاريخ العام أحياناً. فهو يقف عند الأحداث الكبرى ويحلّلها في سياقها السياسي والاجتماعي وتأثيرها على حياته.
نلاحظ أيضاً أن الشكل الفني عند محدثي الكتابة بسيط وضعيف، فهو ينزاح عن أشكال الكتابة التاريخية والأدبية المعروفة. فرجل الهامش الإدلبي يعتمد لتوثيق الأحداث التاريخية القديمة كتاب التاريخ المدرسي، وسردَ آراءه الشخصية ونصائحه الدينية في مواضع كثيرة.
ترى السجدي أن هذه الكتابة تخفي ظاهرةً أعمق شارك فيها النخبة والناس الأقلّ شأناً. وهي ظاهرة الحراك الاجتماعي الواسع عامودياً من طبقةٍ لأخرى، وأفقياً من مهنة لأخرى. وهو ما برز في مذكرات رجل الهامش.
تعاملت السلطة المركزية مع الجبل بمنطقها مع بقية المناطق الثائرة في الأطراف، فعاقبته بالقصف طيلة ثلاث عشرة سنة. وحاولت في البداية حصاره حتى لا تتسرب الثورة إلى خارجه، وهي الاستراتيجية الفرنسية نفسها مع الجبل في أثناء ثورة إبراهيم هنانو. إلا أن نظام الأسد اهتم مع حلفائه الروس والإيرانيين باستعادة السيطرة على المناطق التي اعتبرها "سوريا المفيدة". فركّز حربه على مراكز المحافظات الأخرى وطرد الثوار منها نحو إدلب والشمال السوري. وتكرر التهجير منذ التدخل الروسي نهاية سبتمبر 2015 حتى سنة 2018 في حمص وغوطة دمشق ودرعا، فتحوّل الشمال السوري إلى مدن من المخيمات والمهجّرين والدمار.
لم يرد النظام من "إدلب الهامشية" سوى الطريقين الدوليين، وقتل أو عزل من تجمّع من الثوار هناك. ولذلك أطلق وحلفاؤه حرباً شاملة على إدلب بين سنتَي 2019 و2020، سيطر فيها على مساحاتٍ واسعةٍ منها شملت الطريق الدولي بين حلب ودمشق. استمر الهجوم حتى عقد اتفاق وقف إطلاق النار بين الرئيسَين التركي والروسي في مارس 2020، ولكن النظام استمر في قصف المنطقة بوتيرةٍ متقطعة.
تسببت هذه الحرب بتهجير قرى بأكملها من جبل الزاوية والمناطق المحيطة به، وتحوّل بعدها إلى خط قتالٍ يشهد قصفاً مستمراً بالمدفعية وهجمات الطيران الانتحاري المسيّر. وكاد الجبل أن يتحول من التهميش إلى الماضي المنسيّ مثل مدنه المنسية.
"المدن المنسية" أو "المدن الميتة" تتجاوز في عددها سبعمئة، وهي مدن وبلدات أثرية بنيت بين القرنين الأول والسابع الميلادي وتمتد عبر محافظتي حلب وإدلب، وجبل الزاوية خاصة. دمّرها غزو فارسي قبل ظهور الإسلام بفترةٍ وجيزة، وظلّت بعدها مهجورة.
اشتهرت مدينة كفرنبل، جنوب جبل الزاوية، في الثورة السورية بلافتاتها الثورية المميزة، قبل أن تستولي عليها قوات النظام في حملتها العسكرية سنة 2019 وتحوّلها إلى مدينة منسية جديدة.
وقبل انهيار النظام بأشهر التقط ابن هذه المدينة الكاتب والصحفي محمد السلوم، في مقالٍ منشور على صفحته على فيسبوك، مفارقة المدن الميتة التي تسبب بها الغزو الفارسي والمدن الميتة الجديدة التي تسبب بها غزو جيش الأسد. إحدى هذه المدن القديمة هي شنشراح التي كان يُدهش لمنظر جدران بيوتها الواقفة بلا أسقف، وقد قارنها بصور الأقمار الصناعية لمدينته الميتة الجديدة كفرنبل بعد أن أضحت جميع بيوتها بلا أسقف وبقيت جدرانها واقفة أيضاً. دمّر الغزاة الجدد أسقف المنازل ليستخرجوا الحديد منها.
