كلمة راندا معروفي، إضافة لفوز فيلمها القصير الذي يرصد حياة عمال المناجم وأسرهم حولَ منجمٍ مهجور في مدينة جرادة، شمال شرق المغرب، مثَّلا علامةً على ما باتت تتمتع به مخرجات السينما المغربية اللائي تتوالى نجاحاتهن في مهرجانات ومسابقات دولية بارزة. فقبل "المينة" وفي دورة سنة 2023 من مهرجان كان، حقق الفيلم المغربي "كذب أبيض" للمغربية الشابة أسماء المدير نجاحاً مبهراً. إذ حصد الفيلم جائزة لجنة التحكيم في فئة "نظرة ما"، وجائزة "العين الذهبية" التي تُمنح لأفضل فيلم وثائقي.
أصبح حضور المخرجات المغربيات وفوز الأفلام المغربية معهن مكرَّراً في أبرز المهرجانات السينمائية حول العالم. إذ تشهد حركة السينما المغربية موجةً جديدة، يطبعها حضور كثيف للمخرجات المغربيات من أمثال راندا معروفي وأسماء المدير وصوفيا علوي وياسمين بنكيران.
اختارت المخرجات المغربيات صناعة الأفلام انطلاقاً من القضايا الاجتماعية المحلية والهموم والتطلعات اللصيقة بالمواطن المغربي. غير أن تناولهنَّ الصراعات الاجتماعية المغربية جاء متبايناً باختلاف تجاربهنّ. فمنهنَّ من اخترن عرض الصراعات الآنيّة الملحّة التي ما زالت تنتظر حلولاً ممكنة، ومنهن جرَّبن الغوص في الذاكرة الجماعية المشتركة وندوبها المنسية لأداء نوع من التطهّر عبر التذكر. واختارت أخريات مقاربة القضايا التي لا تزال تصنَّف ضمن الزوايا غير المطروقة أو المحرّمات في المجتمع المغربي.
يقول الكاتب والناقد السينمائي المغربي سعيد المزواري في حديث للفِراتس إنّه من الصعب تحديد إن كنا فعلاً بصدد موجة جديدة من السينما المغربية. إذ يرى المزواري أنّ "المصطلح استُهلِك لفرط استعماله"، وأنه يصعب الحكم "إن كان ثمة في حالة المغرب نوع من القطيعة مع الجماليات التي كانت تنتج من قبل في السينما المغربية". لكنه يؤكد مع ذلك على أن ثمة نوعاً من الحركيَّة (أي التماثل الفني) في السنوات الأخيرة لدى مجموعة من المخرجين الشباب. تظهر الحركية في "تواتر مقاربات جمالية جريئة إلى حد ما، يجمع بينها التركيز على سينما النوع، والمزج بين الأنواع السينمائية"، في إشارة للمزجِ بين تقنيات السرد الوثائقي والدرامي. وهو ما أتاح لهذه الأفلام طرقَ مواضيعَ "تخاطب طرحاً كونياً، مع أنها تتَّسم بالطابع المحلي". ما جعلها تحضر في مهرجانات عالمية، وتتوَّج بجوائز مهمة.
هذا الطابع المحليّ كان حاضراً بقوة في فيلم "المينة" الذي عُرض لأول مرة سنة 2025 ضمن فعاليات الدورة الرابعة والستين لأسبوع النقاد الموازي لمهرجان كان. وفيه تواصل المخرجة راندا معروفي ما بدأته في فيلميها السابقين "لو بارك" الذي عرض سنة 2015 و"باب سبتة" المعروض في 2019، وقد انتهجت فيهما طرح القضايا السارية في المجتمع المغربي. إذ يقارب "لو بارك" مشاكل الشباب مع البطالة والمخدرات وانتشار العنف في الأماكن العامة، عبرَ جولة في حديقة ملاهٍ مهجورة بمدينة الدار البيضاء. أما "باب سبتة"، فيتناول قضية التهريب المعيشي عبر باب سبتة، الثغر الإسباني عند الحدود المغربية الإسبانية شمال المغرب.
يُشيد سعيد المزواري في هذا الصدد بغنى تجربة راندا معروفي وتفرّدها. إذ إنها تتميّز باختياراتٍ فنية وشكلية متنوعة وجريئة، وتحرص دائماً على تسليط الضوء على الفئات المهمّشة في المجتمع المغربي وتسعى لجعلها في مركز اهتمام الحكي. وإن كانت أعمالها "تُغَيب بشكل غير مفهوم ولسنوات من المشاركة في المهرجانات السينمائية المغربية، كالمهرجان الوطني للفيلم القصير بمدينة طنجة".
تستوقف الخيارات الفنيّة الموفّقة للمخرجة من يشاهد ثلاثيتها وأحدثها "المينة". ففي "باب سبتة" نتبينُ الزاوية العليا للتصوير فنتابع منها المسار اليومي للنساء اللواتي يشتغلن في التهريب، وفي المقطع التشريحي الجانبي نرى داخل آبار الفحم في "المينة"، ما يقدم لنا رؤيةً وفهماً أفضل لظروف عمل المنجميين. وبهذا الاختيار الجماليّ الخارج عن العادة، كما يصفه المزواري، تُخرج راندا معروفي معيش هؤلاء الشخصيات من زاوية التناول التقليدية التي دأب عليها الإعلام بتركيزه على المرض والمعاناة.
يبدأ فيلم "المينة" داخل ما يبدو لنا في الوهلة الأولى منجماً للفحم، غير أنه في الحقيقة مجرّد محاكاةٍ لبئر فحم صمَّمته المخرجة وعملت على إعداده برفقة سكّان مدينة جرادة، شمال شرق المغرب. من بين هؤلاء السكان قدماء عمال شركة "مفاحم المغرب" التي أغلقَت سنة 1998. هذا العمل الجماعيّ طبعَ مسار الفيلم منذ البداية، فقد استغرق إنجاز البئر المثيل للمناجم أربع سنوات، قضت المخرجة جزءاً كبيراً منها في محادثاتٍ مطوّلة مع السكّان. بعضهم كان من كبار السن المتقاعدين الذين ينخرهم مرض "السيليكوز" بلا رحمة، وهو مرض رئوي مزمن ناتج عن استنشاق غبار "السيليكا" لفتراتٍ طويلةٍ، ويصاب به كثير من عمال المناجم. ولا يزال المرضُ يهدد الرجال والنساء ممن ينزلون إلى آبار الفحم غير المرخّصة، أو ما تسمى "السَّانْدْرِيَّات"، كل يومٍ تقريباً لتنجيم حطام بقايا الفحم مقابل مبالغ مالية بسيطة تتراوح ما بين خمسين وستين درهماً، تعادل نحو خمسة دولارات. أما البديل الاقتصادي الذي تحدثت عنه الدولة طويلاً إبان اعتزامها إغلاق "شركة المفاحم"، من قبيل إنشاء صندوق لتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة وإحداث مشاريع صناعية لتقديم بديل اقتصادي لعمال المناجم وأسرِهم، فظل "مجرد وعود جوفاء". العبارة ردّدها السكان في احتجاجاتهم المسماة "حراك جرادة" الذي بدأ في ديسمبر 2017.
تقول راندا في حوار مع موقع الجزيرة الوثائقية في مايو 2025 إنّ فيلمها لا يسعى "إلى تمجيد المعاناة ولا تجميلها، بل إلى ملامستها من الداخل بمقاربة جماعية في الكتابة والإنتاج". وشدّدت معروفي في خطابها على منصة تتويج مهرجان كان على أن عملها يهدف إلى "ردّ الاعتبار لمن أناروا تاريخ المنطقة قبل أن تطويهم صفحات النسيان الرسميّ". تقصد راندا قدماء عمال المناجم الذين تقدِّمهم واحدة من لقطات الفيلم وهم يحثّون بعضهم البعض على رسم ابتسامةٍ على وجوههم عند التقاط صورةٍ جماعية، رغم التعب ونظراتهم التائهَة وأجسامِهم المثقلَة الهزيلة في بدلة العمل الزرقاء وأدوات الحفر. تلك الهيئة استوحاها منهم فريق الفيلم عندما ارتدوا ملابس مماثلة أثناء عرضه في مهرجان كان، في التفاتةٍ تضامنية مع معاناة هؤلاء العمال. ولم يفُت فريق الفيلم أن يكتب أفراده على ستراتهم باللغة العربية عبارات تحيل على القضية الفلسطينية، مثل "راجعين يا هوى" أو "من البحر إلى النهر" أو "سنبقى"، في إشارة إلى وحدة قضايا المقهورين في كل مكان من الأرض.
هذا الالتزام بالأسئلة الاجتماعية الآنية والملحة واحدٌ من أبرز سمات أعمال المخرجة راندا معروفي. فقد سبق أن أوضحَت في مقابلة تلفزيونية معها على قناة "بي بي سي" سنة 2021، أنه لا يمكن المفاضلة بين الفئات المجتمعية وهمومها أو تهميش بعضها ولو مرحلياً، وأنّه يجب أن نسعى لأن تتحسن الأوضاع كلها بالتوازي ومرة واحدة.
تلك الرؤية التي تؤمن بوحدة الهموم، حققتها راندا بالبدء في العمل في فيلم "المينة" بعد سنوات قليلة من اندلاعِ"حراك جرادة"، إثر مصرع شقيقين شابين في بئر غير قانونية لاستخراج الفحم، بعد أن فاجأتهم سيول الأمطار. كانت تلك الميتة المأساوية المنعطف الأهم الذي خرج بعده المواطنون إلى الشوارع محتجّين ومطالبين بتنفيذ وعود الدولة، ورفع التهميش الاقتصادي والاجتماعي عن منطقتهم الفقيرة. لكن هذه الاحتجاجات التي ظلت تتجدد حتى مارس 2019، قوبلت بالقمع العنيف وإطلاق الحكومة وعوداً جديدة ظل أغلبها حبراً على ورق، تضمنت إعادة هيكلة النشاط المنجمي وتشجيع الاستثمار الفلاحي. مقابل الوعود الفارغة اعتُقل كثيرون من المشاركين في الاحتجاجات وصدرت ضدهم أحكام بالسجن.
كان أمين مقلش أحد هؤلاء المعتقلين من أبناء مدينة جرادة، شاعر وممثل لعب دوراً بارزاً في فيلم "المينة"، فقد أدار البحث عن الممثلين الملائمين لكل دور، وساهم في كتابة التعليق الصوتيّ وتقديمه. بل إنّه كان أحد ممثّلي الفيلم في المشهد الذي قدّم محاكاة لوقفة احتجاجية ضمن الأشكال النضاليّة التي عرفتها مدينة جرادة.
حاورتُ أمين وأخبرني أن ما دفعه للمشاركة بالفيلم كانَ إيمانه العميق برسالته، وأن العمل "استقبله كل المشاركين فيه بحبٍّ وإقبال ورغبة كبيرة في تمثيل المدينة أحسن تمثيل، خصوصاً وأنه جاء في سياق ما بعد الحراك". وأن مخرجة الفيلم راندا معروفي كانت ملمّة بمجموعة من التفاصيل والحيثيات و"لم تكل يوماً عن جمع المعلومات وتمحيصها". ويرى أمين أنّ الفيلم نجح في "صُنع صدى" لقضية سكان جرادة، ولفت أنظار العالم تجاه المدينة وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية التي ما زالت تنتظر حلولاً.
تقول راندا في حوارها المنشور في مايو 2025 مع الجزيرة الوثائقية، إنّها "بتوثيق مظاهر الانتظار القسريّ في حياة هؤلاء الناس، حاولتُ تصوير الزمن. لا على أنه حركة، بل حالة من الجمود تفرضها البُنى السلطوية". سعت المخرجة لمقاربة فكرة الحدود وتأثيرها على حيوات الأفراد بما يتجاوز الجغرافيا. لا بغرض مناقشة الوضع السياسي أو التاريخي لمدينة سبتة المغربية التي يحتلّها الإسبان، بل لحرصها على إيصال معاناة المواطن المغربي الذي يطحنه تكرار الكرّ والفرّ والتدافع من أجل خبز يومه في تلك المنطقة من البلاد.
صورت راندا الفيلم في مصنع مهجور نواحي مدينة تطوان شمال المغرب، وبالتالي كان على فريق العمل أن يعيد تركيب أهم عناصر الواقع التي تشكِّل المشهد اليومي في باب سبتة. سواء على مستوى الفضاء الذي أعدّوه بعناية، أو الحركات المتقنة والخبيرة للممثلين المنصرفين إلى أعمالهم في مربّعات متفرّقة بين رجال الجمارك الذين يفتشون أكياساً كثيرة، ورجال ونساء يعدّون بضائعهم ويربطونها في أكياس، أو يخفونها في أجزاء من أجسادهم أو سياراتهم بانتظار لحظة العبور.
يصوّر الفيلم هذه اللحظة مليئةً بالتدافع والعنف ومفتوحة على كل الاحتمالات، لاسيما وأن هناك مشهداً يقدم لنا تفاصيل تدريب رجال الدرك الإسبان على صدّ تدافع هذا الحشد البشري، وجرهم إلى المسارات الضيقة وكأنهم يدفعون بصخرة أو جدار. إذ إن العمل بالتهريب المعيشيّ في باب سبتة كان نشاطاً اقتصادياً ملتبساً يتداخل فيه ما هو قانوني وما هو محظور، حتى منعته السلطات المغربية أواخر سنة 2019.
فيلم "باب سبتة" لا يحكي لنا قصة محددة، ولا يحاول أن يشرح لنا الوضعية القانونية والاقتصادية أو التاريخية للمكان كأيِّ فيلم وثائقي اعتيادي. لكنه يقدم لنا إعادة تركيب بصرية لأهم عناصر عملية التهريب المعيشي، بما فيها من إذلال وعنف مادي ورمزي لآلاف الرجال والنساء من المغاربة.
قبل ذلك، قدمت راندا فيلماً تسجيلياً قصيراً هو "البارك" سنة 2015. انطلقت فكرته في البداية من مجموعة من صور "السيلفي" (الصور الشخصية الملتقطة ذاتياً) التي أصبحت رائجة على فيسبوك سنة 2014، تظهر شباباً يشهرون الأسلحة البيضاء ويفتعلون تكشيرات حادة أو ابتسامات، بهدف الظهور ولفت الانتباه. خلقت تلك الظاهرة ضجة كبيرة حينها، وأدت لاستنفار السلطات الأمنية المغربية، التي دخلت على الخط واعتقلت كل من يبدو شبيها أو يرتدي ثياباً مماثلة لأصحاب تلك الصور وأخضعتهم للتحقيق والتحري الجنائي.
تجول راندا بالمشاهد بين تلك الصور. تتحرك الكاميرا في جولة بطيئة تقابل بين الصورة والشخصيات الثابتة في وضعيّة واحدة. ويبدأ الفيلم بلقطة عامة لمنتزه "ياسمينة" وسط مدينة الدار البيضاء، مع خليط من الأصوات والكلمات المتنافرة التي تثير فضولنا، قبل أن يبدأ باستعراض الشخوص الذين تبدو حركاتهم وكأنها قد تجمّدت في الزمن. إنهم مجموعات من الشباب الذين لا زالوا يتجولون أو يبيتون دون مأوى في أركان هذا المنتزه الترفيهي الوحيد من نوعه في الدار البيضاء، مع أنه كان مغلقاً رسمياً منذ سنة 2011 ولم يُعد افتتاحه إلا بعد تصوير الفيلم.
قررت المخرجة العمل جماعياً مع الممثلين الذين اختارتهم من بين من صادفتهم في المكان عينه، وعاشت بينهم وخلقت معهم مساحة من الحرية وتبادل الآراء والقصص.
ما الذي حاول هؤلاء الشباب قوله بالتقاط الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. تلمع سواطيرهم المشرّعة في أغلبها ويتباهى الكثيرون منهم باستعراض الوشوم الكثيرة أو آثار الضربات والجراح القديمة على أجسادهم، أو يكتفون بالابتسامة أو رفع شارة النصر والتحديق بالأفق البعيد. أما وضعية التجمد التي يبدون عليها في الفيلم فقد تحيل إلى حالة العطالة الاجتماعية التي يرزحونَ تحت ثقلها.
يمنحنا الفيلم فرصة رؤية هذه الصور من كل الزوايا وفهم الظروف التي التقطت فيها. وقد سجّلت المخرجة الأصوات بمعزل عن الصورة قبل أن تدمجهما معاً. غلبت على الفيلم أصوات مشاجراتٍ على موقع يوتيوب، وأصوات حواراتٍ جانبية مع الممثلين وهي تشرح لهم فكرة الفيلم في البداية، أو أصوات من الطبيعة مثلاً.
وهكذا فإن العنف في الفيلم حسب المخرجة لم يأتِ من الصّور، بل من الشريط الصوتي المتوتر المرافق لها. وبهذا تظهر محاولة راندا في التجريب، متأثرة بنمط "الموجة الجديدة" للسينما. إذ يبدو الفيلم عملاً فيه الكثير من التشكيل وإعادة التوليف بين عناصر الواقع المعاش، كما تحب المخرجة التي تمارس الفن التشكيلي أيضاً. ويصبح "البارك" إعادة تركيب بصري وصوتي للواقع تستخدم فيه الأجساد والفضاءات، وتركز فيه على التفاصيل الصغيرة التي تضفي ثراءً وغنىً على كل مشهد.
في فيلمها تضع أسماء المدير التاريخ المغربي للفحص والتشكيك. وتسعى لإجلاء ما طاله من طمس الشواهد التاريخية المتصلة ببعض المحطات الأليمة من تاريخ المغرب، لاسيما تلك المتعلقة بالقمع السياسي الرهيب في سنوات السبعينيات والثمانينيات. وقد جعلها هذا الطمس تهتدي لحيلةٍ فنية فريدة هي إنشاء نموذج مصغر لحيّها، تتحرك فيه دمىً صغيرة تجسد شخصيات الفيلم.
أعادت المخرجة بناء مجسّمات مفصلة لحي أسرتها في مدينة الدار البيضاء، أما شخوص الحكاية فمعظمهم من أفراد عائلتها. ركزت المدير على أن يكون الفيلم عائلياً، الجدةُ فيه هي البطلة. مثلت الجدة في هذا الفيلم السلطة التي تسعى للسيطرة على الحكاية وفرض الرقابة على التاريخ. امرأة تكسر أحياناً المجسمات والدمى التي تعدّها المخرجة بمساعدة والدها الذي يشتغل بحرفة البناء. وتُحَرِّمُ الجدةُ الرسمَ أو الصور، باستثناء صورة الملك الراحل الحسن الثاني التي تعلقها باحترام في قلب البيت. وتطالب الجدةُ الجميع دائماً بالصمت والحذر وهي تمرر سبابتها على فمها، مذكرةً إياهم أنّ للحيطانِ آذان.
يبلغ طول فيلم "كذب أبيض" ساعة وستة وثلاثين دقيقة، ويبدأ بأجواء احتفال شعبي بليلة القدْر وسط عالم الدمى المصغر الذي ابتكرته المخرجة. وتروي أسماء لنا الأحداث، فتخبرنا أن تلك الليلة كانت مخصَّصة في المعتقد الديني لغفران الذنوب، وأنها بدورها قد خصصتها لغفران الكذبة البيضاء التي أخبرتها بها أمها عندما كانت طفلة. إذ إنها أمام إلحاح أسماء الصغيرة على أن تمتلك صورة من طفولتها، قدمت لها صورة أخرى لطفلة صغيرة تلعب مع صغار آخرين على أن تلك الطفلة الغريبة، هي أسماء نفسها. لتكتشف المخرجة الابنة فيما بعد أن بطلة الصورة هي فاطمة، طفلة من أطفال الحي الذين قتلهم تدخل الشرطة والجيش في مدينة الدار البيضاء لفض احتجاجات الحي بالرصاص سنة 1981.
يقول سعيد المزواري إنّ السينما تحيي الذاكرة المشتركة للمجتمعات، بحيث يصير من الممكن عندها أن نستخلص منها الدروس والعِبر. ويبدو أن هذه الرغبة في إعادة تناول الماضي من أجل التصالح معه، دفعت أسماء المدير للانطلاق من قصة عائلية شخصية نحو الماضي الجماعي. فما يحدث تحت سقف البيوت من تكتّم بشأن هذه الأحداث، على حد قولها في لقاء بثته قناة "ميدي 1 تيفي" سنة 2023، هو صورة عن ما يحدث في كل البلاد.
أرادت أسماء أن تقول لجيل جدتها إنّ المغرب قد تغير، وإنّ المجتمع المغربي أصبح حراً بما يكفي للتطرق لمثل هذه المواضيع. مع أنّها لم تكن تهدف لتوجيه الاتهام لأيّ كان، بل تسعى لإحياء الذاكرة المشتركة.
قابل حضور الصورة في بيت أسماء المدير غياب الشواهد والوثائق التاريخية عن هذه الأحداث الدامية. إذ ما يزال التناول الحذر يسود التعامل مع ملابسات تلك الفترة الحالكة من تاريخ المغرب، مع جهود هيئة "الإنصاف والمصالحة" التي استحدثها الملك محمد السادس في بداية عهده مطلع الألفية الجديدة، من أجل التصالح وجبر "سنوات الجمر والرصاص". إذ كان ذلك زمن الانتهاكات الجسيمة التي طالت كل من جرب أن يرفع صوته مدلياً برأي معارض في السبعينيات والثمانينيات.
عملت أسماء المدير على فيلمها عشر سنوات، حاولت أن تستكشف خبايا ذاكرة كل أفراد أسرتها، وعدداً من الجيران الذين شهدوا "يوم الإضراب" كما تسميه الجدة. كانت التفاصيل تحمل الكثير من الرعب، فقد سُحِلت جثثٌ في الشوارع ورفضت السلطات تسليمها للعائلات. واقتيد أشخاص إلى المخافر، بعد أن صادف وجودهم خارج بيوتهم اندلاعَ المظاهرات. وقد كُدِّست أجساد العشرات في غرف ضيقة ليموت عديدون منهم مختنقين. غير أن هذا المزيج القوي من ذكريات الصدمة الجماعية خُفِّفَ بنبرة حنين قوامها الكثير من الأغنيات الفرنسية والأناشيد مثل أغنية "سيتي أن جون ماغان" (كان بحاراً شاباً)، وأغاني فرقة "ناس الغيوان" المغربية التي رافقت تلك الفترة. وخففها أيضاً حديث الأب عن عشقه كرةَ القدم وحلمه أن يصير لاعباً محترفاً، مع أن هذا الحلم سيدفن في تراب ملعب الحي الوحيد الذي استولت عليه السلطات واتخذته مقبرة جماعية لجثامين ضحايا مجزرة "انتفاضة الكوميرا" أو انتفاضة الخبز في يونيو 1981، كما أسماها وزير الداخلية إدريس البصري في تلك الفترة ساخراً في رده على سؤال وُجِّهَ إليه في جلسة من جلسات البرلمان.
هل تعني القدرة على صناعة أفلام عن تلك الفترات الحالكة أن المغرب قد أضحى "مغرباً جديداً"، هذا ما أراد أن يقوله لنا الفيلم على الأقل. خرجَت الشخصيات عن صمتها شيئاً فشيئاً، وتملّكتها شهوة الحكي ليتبين لنا مع كل واحدة منها خيط جديد من خيوط الحكاية، حتى صار صمت الجدة معزولاً وينتمي إلى مخاوف زمن آخر، وغير مبرر إلى حد ما. أما بقية الشخصيات فباتت تفهم أن عليها أن تتكلم حتى تشفَى، بمن فيهم "سعيد"، الجار الذي نجا من الموت بأعجوبة بعد أن ضربته قوات الشرطة وسجنته في غرف التوقيف المرتجلة والضيقة مع آخرين.
تقول أسماء المدير في حوار مع منصة "أفغيكا أون إيغ" (أفريقيا على الهواء) سنة 2024: "أردتُ أن أقول إن المغرب قد تغير. إننا نعيش اليوم في مغرب مختلف وأفضل بكثير، وحر. وإننا نستطيع اليوم التحدث عن ماضينا دون خوف… لقد كان الأمر أشبه بجلسة علاج نفسيّ للجميع في هذا الفيلم".
يظهرُ فيلم "أنيماليا" الصادر سنة 2023، للمخرجة الشابة صوفيا علوي، مثالاً آخرَ على اجتيازِ الطرائق التقليدية للحكي السينمائي في المغرب. إنه فيلم خيال علمي يحكي عن غزو خارجي للبلاد، نكاد ندرك منه حضور كائنات فضائية وسط جو من المخاوف الجماعية والضبابية والغموض. ويناقش عبر بطلته الحامل والمتزوجة من رجل من الطبقة الموسرة أسئلة الطبقات في المغرب والفوقية التي تنظر بها إلى بعضها البعض. وهي فوقية مشوبة بالاحتقار من جهة، وغضب متوثب من جهة أخرى. ويتناول الفيلم نظرة المغاربة إلى الدين وأدواره في حياتهم وفهمهم للشعائر الدينية.
اعتمدتْ مخرجة "أنيماليا" على اللغة الأمازيغية في جزء كبير من حوارات فيلمها. وهو اختيار لافت، لاسيما وأنه يظهر واقعَ استخدام تلك اللغة قريباً مما هو عليه في الحياة اليومية. إذ لا تبدأ البطلة باستخدامها إلا عند محاولتها التقرّب من الراعي الأمازيغي الفقير الذي يساعدها حتى تهرب من الخطر الذي يحيق بها، رغبةً في اللحاق بوالد طفلها، عابِرَيْنِ سلسلة من كمائن الشرطة التي تصورها المخرجة مؤسسةً فاسدة.
ليست الاختيارات الجمالية لصوفيا علوي وليدة لحظة إنجاز فيلمها الطويل الأول "أنيماليا". إذ نلمح تباشيرها الأولى في فيلمها القصير "لا يهم إن نفقت البهائم" الذي صدر سنة 2019 وحصل سنة 2020 على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم بمهرجان "صندانس" في الولايات المتحدة الأمريكية، وحاز سنة 2021 على جائزة "سيزار" – وهي أرفع الجوائز السينمائية الفرنسية – لأفضل فيلم قصير.
كتبت المخرجة الشابة تعليقاً على هذه النجاحات تدوينة نشرتها عبر حسابها على إنستغرام جاء فيها: "شكراً على هذه المغامرة الرائعة… أردتُ أن أقدّم فيلماً عن التغيير، وعن القواعد المعيارية التي تقيدنا. دعونا ننتهز الفرصة لكسر قيودنا، الآن أكثر من أي وقت مضى، في هذا العالم المليء بالشكوك".
يحكي فيلم "لا يهم إن نفقت البهائم" قصة الراعي الشاب عبد الله، الذي تبدأ مغامرته عندما يقرر النزول إلى المدينة لابتياعِ العلف لبهائمه التي يوشك أن يقتلها الجوع في قريته الجبلية المحاصرة بالثلوج. غير أن هذه الوتيرة الهادئة للأحداث سرعان ما تتغير، عندما يكتشف أن المدينة باتت خاويةً تماماً إثر غزو فضائي. إنه فيلم خيال علمي بأسئلة كبيرة مرة أخرى. ومن هنا يسهل علينا تبينَ سماتٍ مشتركة بين أعمال صوفيا علوي، من أهمها تسليط الضوء على شخصيات من الهامش والمناطق الجبلية النائية، ومناقشة سؤال الدين والعادات في المجتمع المغربي، واستخدام اللغة الأمازيغية لأنّ "المغرب بلد أمازيغي، غير أن كثيراً منا ينسون ذلك" على حد قول المخرجة في حوار مع موقع الجزيرة الوثائقية سنة 2023.
أما المخرجة المغربية ياسمين بنكيران، فقد اختارت أن تقدم فيلماً من أفلام الطريق أو المغامرة، متتبعة مسار ثلاث بطلات في عملها الروائي الطويل "ملكات" الصادر سنة 2022. وتقول في تصريح نشرته صحيفة "العرب" سنة 2023، إنها أرادت أن تقدم "نوعاً جديداً من النموذج الأنثوي المغربي".
تلقّى الفيلم بعض الانتقادات السلبية التي وسمته بأنه "بلا قضية"، لأن واحدة من بطلاته هربتْ من السجن، تختطف طفلتها الصغيرة من مركز حماية الطفولة. وتُرغم شابة أخرى تحت تهديد السلاح على أن تقود بهنّ شاحنةً مسروقة في رحلة هروبٍ من الشرطة على امتداد المدن الجنوبية المغربية.
يحفَل هذا السفر الطويل بالعواطف والمفاجآت السيئة واللحظات الإنسانية الصادقة، ويحمل بعض التحولات أيضاً. إذ تصبح السائقة المُخْتَطَفَة متواطئة مع خاطِفَتِها في اللحظة التي تلمح فيها زوجها الذي يضطهدها، رفقة رجال الشرطة الذين يطاردون الشاحنة. إنها لحظة مفصلية تصير بعدها بطلات الفيلم فريقاً واحداً، ويكون لزاماً على هؤلاء "الملكات" أن يتدبَّرن أمر احتياجاتهن من طعام وشراب ووقود بالتعاون فيما بينهن، حتى الوصول إلى الجنوب المغربي. ويتماهيْنَ مع حكايات الطفلة الصغيرة عن ملكة من ملكاتِ الجن يرِد ذكرها كثيراً في التراث الشفهي المغربي، وهي "عايشة قنديشة" التي اضطهدها البشر وعرقلوا قدرتها على المشي، في كناية عن وضعية كل النساء اللواتي تسلب منهن حريتهنَّ وحقهنَّ في الحلم.
لقد صنعت ياسمين الفيلم الذي نقصها عندما كانت في السابعة عشر، على حد قولها في لقاء على قناة "ميدي 1 تيفي" سنة 2023. فقد كان أبطال أفلام المغامرة الغربية التي شاهدتْها من الرجال حصراً، أما احتمالية العثور على فيلم مغامرة مغربي أو فيلم خيال علمي آنذاك فكانت منعدمة. إذ كان علينا انتظار أفلام هذه الموجة الجديدة حتى نلمس جرأة السينما المغربية على تجريب كل الأنواع السينمائية.
