بين صورة السفاح ورجل الدولة.. جمال باشا في الرواية التركية

يحضر الجدل حول جمال باشا في المذكرات التركية وكتب المؤرخين.

Share
بين صورة السفاح ورجل الدولة.. جمال باشا في الرواية التركية
صورة جمال باشا مادة للصراع | تصميم خاص بالفراتس

لأحمد جمال باشا، قائد الجيش الرابع العثماني في الحرب العالمية الأولى، مكانةٌ جدليةٌ في التاريخ العربي الحديث، لاسيّما السوري منه. القائد الذي وصل دمشق في نوفمبر 1914 بصلاحياتٍ مدنيةٍ وعسكريةٍ مطلقةٍ لأنه وزير البحرية وقائد الجيش الرابع، فأصبح الحاكم الفعلي على بلاد الشام. مع بدايات قدومه أظهر نفسه مدافعاً عن التضامن الإسلامي ومقدّراً دورَ العرب، ونسج علاقاتٍ واسعةً مع النخب العربية والصحفيين والوجهاء ورجال الدين. إلا أن سياساته سرعان ما أدّت إلى توترٍ مع النخب الاجتماعية والسياسية العربية بعدما أعدم شخصياتٍ عربيةً اتهمها بالخيانة، ونفى بعضها وسجن البعض الآخر. وقد استند في اتهاماته إياهم إلى وثائق عُثر عليها في القنصلية الفرنسية في بيروت سنة 1914. 

وعلى مدار القرن العشرين أثارت شخصية جمال باشا جدلاً سياسياً وانقساماً في الأوساط العربية. إذ رسّخت الإعدامات سمعته حاكماً قاسياً في بلاد الشام. وعدّه القوميون العرب رمزاً لسياسة التتريك، ورأوا في سياساته طمساً لإمكانية التعايش السلمي ضمن إطار "السلطنة العثمانية"، ومقدمةً لإعلان الشريف الحسين بن علي الثورة العربية الكبرى في يونيو 1916. تبنّت الحكومات السورية هذا التوجه منذ زوال الحكم العثماني وإعلان الحكومة العربية بزعامة الشريف فيصل بن الحسين سنة 1918، وأصبح يوم إعدام القيادات العربية عيداً للشهداء منذ عشرينيات القرن الماضي حتى ألغي سنة 2025. إلا أن بعض الكتّاب العرب ذوي التوجه الإسلامي المتعاطف مع الحكم العثماني عدّ أولئك القيادات الذين أعدمهم جمال "عملاء"، مثلما أورد الشيخ السوري علي الطنطاوي في مذكراته "ذكريات" المنشورة سنة 2006.

عاد هذا الجدل إلى السطح سنة 2025 بسبب تعديلاتٍ أُدخلت على منهاج التاريخ للصف الثامن في سوريا، نصّت على أن السياسيين والمثقفين العرب الذين أعدمهم جمال باشا في دمشق وبيروت "عملاء للقوى الأجنبية". ما يمكن اعتباره تبرئةً لجمالٍ من وصمة تلك الإعدامات، ومن وصفه المشهور في الذاكرة العربية "السفاح". 

وعلى كثرة الاهتمام بشخصية جمال باشا، قلّما يناقش المثقفون العرب الكتاباتِ التركيةَ التي تتناول سيرته. انقسمت الروايات التركية حول جمال باشا وجمعية الاتحاد والترقي في مذكّرات معاصريه وكتابات المؤرخين الأتراك والإعلام. فعدّه بعضهم مسؤولاً عن القطيعة مع العرب. وقسمٌ عدّه رجلَ دولةٍ نفّذ مهمّاته. وآخرون رأوه عميلاً للغرب. جلّى هذا الاختلاف في أغلب الأحوال تباين خلفيات الكتّاب والمؤرخين الفكرية، واختلاف ظرف الكتابة التاريخي. فلم يكن الموقف من جمال عن شخصه دائماً، وإنما انعكاساً للانحيازات والتطورات السياسية في تركيا أيضاً. ولعلّ هذا ما يبقي الجدل حوله حيّاً حتى اليوم، ويتجدد أيضاً مع تحولات العلاقات العربية التركية وبروز مشاكل أو نقاشٍ حولها.


وُلد أحمد جمال باشا سنة 1872 لأسرةٍ عسكريةٍ عثمانية. والتحق بالجيش العثماني في شبابه، بالتوازي مع انضمامه للنواة السرّية المؤسسة لجمعية الاتحاد والترقي. وبعد الثورة الدستورية سنة 1908 التي أزاحت السلطان عبد الحميد الثاني، شغل مناصب إداريةً في ولاية أضنة ثم بغداد، وشارك في حروب البلقان بين سنتَيْ 1912 و 1913. وحين وقع انقلاب الاتحاد والترقي عاد إلى إسطنبول حاكماً عسكرياً أشرف على قمع المعارضة. كان جمال أحد ثلاثيّ الحكم في الاتحاد والترقي، إلى جانب رفيقيه أنور وطلعت. وشغل منصب وزير البحرية بداية 1914، ثم انتقل إلى سوريا قائداً للجيش الرابع وحاكماً عاماً على بلاد الشام في السنة نفسها. وقاد هناك حملتَيْ السويس سنتَيْ 1915 و1916 ضد الجيش البريطاني وهُزم في كلتيهما. حتى غادر سوريا سنة 1917، ثم غادر إلى المنفى مع ضباط الاتحاد والترقي عند هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى سنة 1918.

شهد الشام أثناء حكم جمال باشا تقلباتٍ سياسيةً كبيرةً، أهمها صدامه مع القادة العرب. بعد عودته إلى الشام من السويس مهزوماً واجه جمال نقداً من شركائه في جمعية الاتحاد والترقي، وواجه في الوقت ذاته تصاعداً في الحركة العربية المطالبة بالإصلاح الدستوري. في هذا الإطار، قبض جمال باشا على نحو أربعين مثقفاً وناشطاً عربياً، بدعوى اكتشاف أوراقٍ تثبت خيانتهم، فأحالهم للمحكمة العرفية التي شكّلها في عاليه بجبل لبنان، قضت بإعدام معظمهم بعد عفوه عن بعض الأفراد. أُعدم أحد عشر مثقفاً على أعواد المشانق في بيروت صباح يوم الواحد والعشرين من أغسطس سنة 1915، ثم أُعدم واحد وعشرون مثقفاً آخر يوم السادس من مايو 1916 في بيروت ودمشق. ونُفذت الإعدامات دون تصديق الحكومة العثمانية عليها. زاد هذا الحدث من التوتر في سوريا، وقرأه بعض المؤرِّخين والسياسيين مقدمةً للثورة العربية التي قادها الشريف حسين في العام التالي، وعدّوه بداية النهاية للحكم العثماني الأقطارَ العربية، محمّلين جمالاً مسؤولية انهيار الحكم العثماني. 

نشر جمال باشا مذكّراته سنة 1922، قبل أن يغتاله في السنة نفسها شابّان أرمنيّان. تكشف المذكرات عن نظرته إلى الأحداث التي وقعت أثناء حكمه سوريا، وتؤسس روايةً دفاعيةً صيغت بعنايةٍ لتبرير قراراته، بالتزامن مع اعتباره المسؤول الأول عن الإعدامات والقمع. وتبدو المذكرات محاولةً لإعادة رسم صورته قائداً واجه ظروفاً استثنائيةً في مواجهة الحرب العالمية الأولى ومحاولات تفكيك الدولة، لا حاكماً متعطشاً للسلطة أو القسوة.

يظهر جمال باشا في هذه المذكرات واثقاً من قراراته، غير نادمٍ على ما اتخذه من إجراءات. فهو يؤكد منذ البداية أن الإعدامات كانت مبنيةً على قناعةٍ راسخةٍ أن البلاد على وشك مواجهة تمرّدٍ واسعٍ تقوده النخب العربية. فكان ما عمله إجراءً وقائياً لحماية الأمن الداخلي في مرحلةٍ تهدّدت فيها الدولة من الخارج والداخل معاً. ويستند جمال إلى وثائق قال إنه حصل عليها من القنصلية الفرنسية في بيروت، إذ يشكّل هذا التأكيد المتكرر عن "الخطر الوشيك" حجرَ الأساس في روايته.

ويعزو جمال عدم طلبه موافقةَ ديوان الحرب العالي في إسطنبول على الإعدامات إلى طبيعة المرحلة والحرب الدائرة. إذ يرى أن الظروف لم تكن تسمح بالعودة إلى المركز في كلّ قرارٍ، وأن صلاحيات قادة الجيوش في زمن الحرب منحتهم الحق في التصديق على أحكام المحاكم العسكرية وتنفيذها. ينقل جمال المسؤولية من الحيز الشخصي إلى الإطار المؤسسي، فهو لا يقدم نفسه منفرداً بالقرار، بل مطبّقاً صلاحياتٍ مكفولةً له قانونياً، وإن كانت هذه الصلاحيات تُستخدم في أوسع صورها وأقساها.

يؤكد جمال مراراً في مذكراته علاقاته الطيبة مع العرب، وأنه لو كان يشكّ بخيانةٍ عربيةٍ قبل ذلك لما أرسل وحداتٍ من جيشه إلى الأناضول للمشاركة في الدفاع عن جنق قلعة ضد جيوش الحلفاء سنة 1915. ولكنه اتخذ قرارات الإعدام بعد أن "أذهله" اتساع المؤامرة. فهو يعتمد في روايته الدفاعية فكرةَ عقوبة الخيانة لا قمع المطالب السياسية. ولا يناقش طبيعة تلك الوثائق أو مدى تعبيرها عن هذه "الخيانة" أو "المؤامرة"، بل يستثمرها لتبرير سياساته ضرورةً نابعةً من إحساس بالخطر لا رغبةً في العقاب.

ولكن مقارنة مذكرات جمال بسياساته تكشف عن تناقضاتٍ تشكّك في صدق روايته. فهو يؤكد عدم نيّته استهداف الثقافة العربية أو الهوية المحلية. ولكن أعماله مالت إلى تعزيز سلطة الدولة العثمانية بتهميش الطبقة الوسطى العربية، ومحاولة خلق حالةٍ سياسيةٍ جديدةٍ يكون فيها الولاء للدولة مقدماً على الولاء للمنطقة. وتتضح هذه السياسة في تفسيره الإعدامات، إذ يعرضها وسيلةً لإعادة تشكيل العلاقة بين المركز والأطراف عبر "ضرب الرأس" بدل معالجة أسباب الحراك والمطالب العربية. وهذا يشبه نهجاً اتبعه الاتحاد والترقي في مناطق أخرى مثل البلقان.

تُظهر مذكرات جمال باشا أن الدولة كانت تعمل عمليةً جراحيةً قاسيةً ولكن ضرورية. ولكنها تكشف عن أزمةٍ في فهم بنية المشرق العربي وتعقيداته. فهي لا تعترف ببعد الحركة العربية الاجتماعي والسياسي، ولا تقرّ أن عنف السلطة قد يكون سبباً لا نتيجةً، بل تصرّ على أن الدولة كانت في موقفٍ دفاعيٍ دائم. وهي تكشف عن منطق السلطة العثمانية في سوريا في سنواتها الأخيرة. فهي لا تعرض رواية الذات وحدها، بلْ أيضاً صورةً عن العقل السياسي الذي حكم تعامل الاتحاد والترقي مع العرب قبل انهيار الدولة العثمانية.


حاول جمال باشا ترويج روايته الأحداثَ بكتابة مذكراته، لكن محاولته واجهت تحدياتٍ كبيرة. إذ زاحمه معاصروه من زملائه ومرؤوسيه العكسريين، ومعهم أعضاء الاتحاد والترقي والصحفيون وأقرباؤه، بمذكراتهم التي عرضت صورةً مركَّبةً عن شخصيته وسياساته. 

نشر الصحفي والضابط العثماني فالح رفقي أتاي مذكراته "زيتين داغي" (جبل الزيتون) سنة 1932. ولعلّها من أهمّ الشهادات التركية التي رسمت صورة جمال باشا في الذاكرة التاريخية، إذ كان مرافقاً له في بلاد الشام أثناء الحرب العالمية الأولى. وتأثرت كتابته بالتوجهات القومية للجمهورية التركية في أعوام تأسيسها الأولى بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي رأى العربَ غرباءَ عن الأتراك. ولكن رواية رفقي تظلّ أقرب إلى توثيق المرويّات داخل المؤسسة العسكرية العثمانية ممّا هي إلى الخطاب الجمهوري.

يرسم رفقي صورةً مركَّبةً عن جمال باشا. فهو عسكريٌ مثقفٌ حادّ المزاج يفتقد المرونة السياسية، قليل الصبر على المخالفين، ولا يدرك التحولات التي كانت تمرّ بمجتمعات المشرق العربي. وهو قائدٌ لا يخفي اعتقاده بأن الصرامة جزءٌ من طبيعة القيادة، وأن الحزم هو الوسيلة الوحيدة لضبط الإقليم. وهو ما جعله في موقع الصدام مع النخب العربية المحلية وفق رفقي، الذي يقول: "أسّس جمال باشا عهداً من الإرهاب، واشتهر بمحاكمة وإعدام نحو أربعين قومياً عربياً اتهمهم بالفتنة".

يقول رفقي إن هذه الشخصيات العربية حوسبت على تهمٍ سبقت الحرب العالمية الأولى، لذلك بقوا في سوريا ولم يغادروا. وتساءل إن كان ذلك انتهاكاً للقوانين والعدالة. وينقل أن إسطنبول أصرّت أن يعاد النظر بالقضية في وزارة الحرب، وتدخّل أنور باشا للإفراج عن الشيخ الحمصي عبد الحميد الزهراوي، فيما تدخّل طلعت باشا للإفراج عن السياسي الدمشقي شفيق مؤيد العظم. ولكن جمالاً أصرّ على إعدامهم خشيةَ نقض القرار إذا انتقلت الملفات إلى إسطنبول، وذلك وفقاً لصلاحيةٍ أُعطيت للقادة العسكريين في الحرب. وأشار رفقي إلى أن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي كانوا يعادون كل الأقليات، بما في ذلك الألبان والأرمن واليونانيون والعرب. وكان معظم من أعدموا في بيروت من الشباب القوميين الذين "ساروا بشجاعةٍ وثباتٍ من السجن إلى المشنقة منشدين الأناشيد العربية"، وفق وصف رفقي.

يناقش رفقي الشائعات التي طالت قائده عن نيّته الانفصال عن الدولة. فيذكر أن جمالاً شعر بالعزلة عن القيادة المركزية في إسطنبول، وخاصةً بعد الخسائر العسكرية وتدهور وضع الدولة، ولمّح إلى أنه فكر بالتفاهم مع الحلفاء لتأسيس حكومةٍ شبه مستقلةٍ في سوريا تضمن بقاء النفوذ العثماني في المشرق بصيغةٍ جديدةٍ، وهو ما لا يمكن بحسب رفقي إلّا باحتلالٍ أجنبي. ولكنه قال إن جمال باشا لم يكن يملك هذه الجرأة. 

تظهر الخلافات بين ثلاثيّ الاتحاد والترقي في مذكرات رفقي. فهو يروي أن طلعت باشا تسبّب بأزمةٍ بين جمال باشا والصدر الأعظم وأخفى عن جمالٍ تحالفه مع الألمان وأجبره على مغادرة إسطنبول. وينقل عن طلعت قوله حين توجّه جمال لحملة السويس ضد الحلفاء سنة 1915 إنه حتى لو لم تُفتح مصر فإن جمال باشا "إما أن يستشهد، أو عندما يدمَّر جيشُه سينقذنا من نفسه بإطلاق النار على رأسه". يصوّر رفقي شعور العزلة والاستهداف السياسي لدى جمال باشا. إذ كان يعتقد أن رفيقيه طلعت وأنور يتعمَّدان تهميشه وإبعاده عن مراكز القرار، وكان يستبطن القلق من موقعه داخل منظومة الاتحاد والترقي.

يبدو جمال باشا في هذه المذكرات قائداً صارماً فشل في فهم المجتمع المحلي، والرجل الثالث في قيادة الاتحاد والترقي الذي لم يحظَ بمكانة رفيقيه السياسية. وهو كذلك الأكثر مسؤوليةً عن القطيعة التي نشأت لاحقاً بين العرب والدولة العثمانية، وساهمت سياسته في تقويض شرعية الدولة العثمانية في بلاد الشام.

كان رفقي مرافقاً لجمال باشا وتابعاً له، ينتقده ولكن يحترمه. وفي المقابل تأتي مذكرات رئيس أركان الجيش الرابع علي فؤاد إردن من موقعٍ أقرب إليه في التراتبية. في مقدمة كتابه "بيرينج دونيا هاربيندي سوريي هاتيرالاري" (مذكرات سوريا في الحرب العالمية الأولى) المنشور سنة 1945، قال إردن إنه انتظر أربعين عاماً لنشر مذكراته، وهو ما يمنحها طابعاً تأملياً في الماضي يختلف عن النصوص التي كتبت في أجواء الحرب أو بعدها مباشرة. في هذه المذكرات صَوَّر إردن جمال باشا قائداً ذكياً ذا حسٍّ تنظيميٍ وبصيرةٍ إدارية. ووصفه أنه "رجلٌ يعمل بلا كلل"، وأنه لم يكن مجرد قائدٍ عسكريٍ في سوريا بل كان حاكماً مدنياً أيضاً، يمارس مهماته من موقعٍ يجمع بين سلطة الجيش وإدارة الولاية.

وفي موضوع الإعدامات، يصف إردن تردّده بين واجب الطاعة العسكرية وقناعته أن قائده تجاوز حدود القانون بإصراره على هذه الإعدامات. وروى زيارةَ رئيسِ المحكمة العسكرية مكتبَ جمال لطلب إعادة النظام في بعض الأحكام، واتفاق الجميع على وجوب اقتصار الإعدام على ثلاثة متهمين أو أربعةٍ، والاكتفاء بحبس المتهمين الآخرين أو معاقبتهم بالأشغال الشاقة. رفض جمال التوصيات وأمر بتنفيذ الأحكام فوراً، مستنداً إلى صلاحياته قائدَ جيشٍ في الحرب. ومرّت عملية التصديق على الأحكام بتوترٍ كبير. إذ اضطر المستشار القضائي إلى وضع عبارة "بأمر من القائد الأعلى" على هامش الوثيقة دون توقيعه، بعدما أيقن أن جمالاً سيوقّع على القرار بنفسه ولا فائدة من محاولة إقناعه خلاف ذلك، وفق إردن. ويبدو إردن نفسه مدركاً خطورة القرار، ولكنه كان في موقعٍ يصعب فيه مخالفةُ قائد الجيش، الذي كان قائداً حاسماً لا يقبل المجادلة، ويعدّ الترددَ ضعفاً واللينَ مظهراً للفشل في زمن الحرب.

يفسر إردن تجاوز جمال باشا القانونَ برؤيته السياسية التي ربطت بقاء الدولة العثمانية في المشرق العربي بالقضاء على النخب المحلية التي عدّها خطراً على وحدة الدولة. كان جمال مؤمناً أنه ينفذ واجباً وطنياً ولو كانت نتائجه قاسية. ولكن إردن يؤمن أن هذه السياسات قد خلّفت آثاراً كارثيةً على المدى البعيد، إذ دمّرت الثقة بين السكان المحليين والدولة، وأسهمت في تعميق الشعور القومي العربي ضدّ الأتراك والرابطة العثمانية. وباختصارٍ، فقد كان جمال باشا في رواية إردن يجمع بين القدرة الإدارية والصلابة المفرطة، والنزعة الإصلاحية والرغبة في السيطرة، وبين الولاء للدولة والانفصال النسبي عن واقع المجتمعات التي حكمها. 

لم تقتصر المذكرات التي تناولت جمال باشا على الضباط العسكريين، بل شارك فيها أيضاً صحفيّون. لعلّ أهمّهم محيي الدين بيرغن، الذي نشر مذكّراته في سلسلة مقالاتٍ بين سنتَيْ 1936 و1937 وطُبعت في كتاب "اتحاد فه ترقي ده أون سنه" (عشر سنوات في الاتحاد والترقي) سنة 2006.

رأَسَ بيرغن تحرير جريدة "طنين"، اللسان غير الرسمي للاتحاد والترقي، التي ساهمت في الدعاية الحربية في الحرب العالمية الأولى، في عهد حكم جمال باشا في سوريا. وتبدو شهادته دليلاً على مزاج النخبة الاتحادية حينئذٍ بقدر شهادته على شخصية جمال نفسه. 

يرى بيرغن أن جمال باشا كان يحتقر الشكوى ويعتبرها ضعفاً لا يليق بالقائد. ويكرّر عنه قولاً أصبح لاحقاً جزءاً من صورته في الذاكرة التركية: "لم أشتكِ يوماً في حياتي، وأحبّ أن يُشتكى منّي، فأنا لا أشتكي أبداً". ووفق بيرغن، فرض جمالٌ سلطاتِه في سوريا إذ عدّ نفسَه صاحبَ القرار الأوّلَ والأخيرَ الذي لا يحتاج لتوقيع رئيس الأركان أو المستشار القضائي في محاكم الحرب، لأن القوانين الاستثنائية في زمن الحرب كانت تمنح قادة الجيوش حقّ التصديق على الأحكام وتنفيذها.

تكشف رواية بيرغن رؤيةَ جمالٍ نفسَه المؤتمَن الوحيدَ على سلطة الدولة في واحدةٍ من أصعب الجبهات. من هنا يمكن فهم سبب تحوّل جمال باشا في المخيال العربي إلى رمزٍ للحكم المطلق، بينما هو في بعض الكتابات التركية نموذجٌ للقيادة الصلبة التي واجهت حرباً كونيةً بموارد محدودة.

ويظهر جمال باشا قائداً يعيش بين عالمين. الأول عالم الاتحاد والترقي الذي كان فيه رجلاً سياسياً أكثر منه عسكرياً، والثاني عالم المشرق العربي الذي أصبح فيه حاكماً مطلقاً، يجمع بين سلطة الجيش وسلطة الولاية. ولذلك كانت سوريا ساحةً يسعى منها إلى إثبات أن "الدولة لا تزال موجودة"، حتى ولو كان ثمن ذلك قسوةً مفرطةً على السكان المحليين.

تكشف رواية بيرغن قناعاتٍ داخل الاتحاد والترقي حيال سياسة جمال باشا. فمع ظهوره بصورة القائد القوي الصارم، إلّا أنه عجز عن فهم الضرورات الاجتماعية والسياسية للمجتمع العربي، والسوري خاصة. تلك القوة التي رأى فيها جمال ضمانةً للسيطرة أصبحت بمرور الوقت مصدراً للنفور والرفض، وباتت جزءاً مما أنهك الوجود العثماني في المشرق في سنواته الأخيرة. تدعم شهادة بيرغن كون الرجل انعكاساً دقيقاً للأزمة التي عاشتها الدولة العثمانية. فقد كانت دولةً تتشبث بالمركزية والصرامة بينما تتسارع حولها تحوّلاتٌ سياسيةٌ وقوميةٌ لم تكن مستعدةً لاستيعابها.

داخل الاتحاد والترقي أيضاً، ولكن في الجانب الآخر من جمال باشا، تَعرِض مذكرات أحد الموظفين العثمانيين المقرّبين من طلعت باشا، وهو علي منيف، منظوراً مختلفاً عن تلك الشهادات التي وثّقت مرحلة جمال باشا في سوريا من داخل المؤسسة العسكرية. 

لم يكن منيف ضابطاً في الجيش الرابع أو شاهداً رافق جمال باشا مثل رفقي أو إردن. بل كان موظفاً إدارياً أوفدته الحكومة المركزية إلى لبنان بهدف إعادة تنظيم الإدارة وتهدئة التوترات التي خلّفتها سياسات جمال باشا. ولذلك تحمل شهادته قيمةً خاصةً، لأنها شهادة رجلٍ من جهاز الدولة المدني وجد نفسه مضطراً للتعامل مع آثار الحكم العسكري الصارم. 

جمع المؤرخ التركي طه طوروس مذكرات منيف من لقاءاتهم معاً في ثلاثينيات القرن الماضي، ونشرت سنة 1996. ويروي منيف أن أصعب ما واجهه في عمله بلبنان لم يكن الفقر أو الحرب أو الاضطراب السياسي، بل شخصية جمال باشا نفسه. فهو يصف بأسفٍ الجهد المستمر الذي اضطر إلى بذله من أجل "إصلاح ما أفسده" جمال باشا في علاقته مع السكان. ويشير إلى أن اللبنانيين كانوا ينظرون إلى جمال بريبةٍ وخوفٍ، وأن أسلوبه المتشدد في الحكم ترك في نفوسهم أثراً من النفور لا يمكن تجاوزه بسهولة. كان وجود منيف في لبنان بهدف مداواة الجرح السياسي الذي أحدثته أعمال جمالٍ القائمة على الشدّة والردع.

وتتضمن شهادة منيف جانباً من نظرة النخبة الاتحادية إلى أداء جمال، يبدو مختلفاً عن رواية بيرغن. فيذكر أن طلعت كان يرى في جمال سبباً في تأجيج الأزمة في بلاد الشام بدل احتوائها، وأن إرسال منيف إلى لبنان كان محاولةً لخلق توازنٍ بين قبضة الجيش وإدارةٍ أهدأ. ويعكس هذا صراعاً داخل السلطة نفسها، بين جناحٍ يؤمن أن الولاء لا يُنال إلا بالشدّة، وجناحٍ آخر يرى أن الإفراط في الضغط يعجّل بالانفصال والانفجار.

تكشف هذه الوثيقة عن جانبٍ من مأزق الدولة العثمانية في أعوامها الأخيرة، حين حاولت الجمع بين مركزيةٍ عسكريةٍ متشدّدةٍ وحاجةٍ ملحّةٍ إلى سياسةٍ أكثر مرونةً في ولاياتٍ ذات حساسيةٍ سياسيةٍ عالية. ومنيف لا يتردد في تحميل جمال باشا مسؤولية التباعد بين الدولة والسكان. 

لعلّ آخر شهادةٍ شخصيةٍ تحدثت عن جمال باشا هي مذكرات حفيده الصحفي حسن جمال. يمثِّل جمال الحفيد صوتاً عائلياً يحاول التعامل مع إرث جدّه الملتبس، وتتداخل مذكراته بين الذاكرة العائلية والجدالات السياسية حول تاريخ الدولة العثمانية. 

وُلد جمال الحفيد بعد مقتل جدّه باثنين وعشرين عاماً، ونشر كتابه "هايات إشتي بويلي غيجيب غيديور" (هكذا تمضي الحياة) سنة 2018. وينقل فيه آخر رسالةٍ من جدّه إلى أبيه "يا بنيّ ليس لديّ ما أورثه إليك سوى اسمي"، وبقي هذا الاسم حاضراً في العائلة ومذكرات الحفيد. يقول الحفيد إن جدّه لم يورثهم سوى اسمه، وإن العائلة أمكنها العيش أعواماً بعد سقوط الدولة العثمانية بفضل مجموعةٍ من الألماس كانت تملكها جدّته، بقيت مورد العائلة الماليّ الوحيد بعد فرار جدّه إلى ألمانيا مع طلعت وأنور سنة 1918.

تُعدّ شهادة الحفيد استمراريةً لحضور جمال باشا في النقاش التركي المعاصر، الذي لا ينفصل عن التحولات السياسية في تركيا الحديثة، إذ أصبح النقاش حول العثمانيين جزءاً من نقاش الهوية. ولذلك ظل جمال حاضراً في كتب المؤرخين الأتراك، ودرسه الجيل اللاحق من الأكاديميين، خاصةً الذين تخصصوا في جامعاتٍ غربيةٍ، ضمن مقارباتٍ مركّبةٍ عن طبيعة الدولة والمجتمع وتحولاتهما وقتئذ. 


لا تقتصر مناقشة سيرة جمال باشا على معاصريه. بل تمتد إلى الأوساط الأكاديمية، إذ حظيت سيرته باهتمامٍ كبيرٍ بين المؤرخين الأتراك المتلاحقين.

لم ينظر المؤرخ التركي حسن كايالي إلى جمال حالةً استثنائيةً أو قائداً منفلتاً من سلطة الدولة المركزية، بل أحد أكثر الرجال تجسيداً للتحولات العميقة التي عرفتها الدولة العثمانية في أعوامها الأخيرة.

في كتابه "أراب آند يَنغ توركس [. . .] " (العرب وتركيا الفتاة: العثمانية والعروبة والإسلامية في الإمبراطورية العثمانية) المنشور سنة 1997، يرى كايالي أن الصراع بين جمال والحركة العربية لم يكن نتيجةً مباشرةً لمخاوف أمنيةٍ ظرفيةٍ كما ادّعى جمال لاحقاً في مذكراته، وإنما كان نتيجة رؤيةٍ سياسيةٍ متكاملةٍ داخل صفوف الاتحاد والترقي ترى أن الحركات القومية غير التركية – وعلى رأسها الحركة العربية – خطرٌ على مشروع بناء دولةٍ حديثةٍ ذات هويةٍ سياسيةٍ مركزية. 

ويذهب كايالي إلى أن جذور هذه الرؤية سبقت الحرب العالمية الأولى، وأن الاتحاديين كانوا يعُدّون مطالب الحركة العربية باللامركزية شكلاً من الانفصال مهما قُدّمت في صيغةٍ إصلاحيةٍ، وهو ما جعلهم يميلون إلى التعامل مع النخب العربية عقبةً أمام توحيد السلطة.

تعددت دوافع جمال باشا، بحسب كايالي. فهو لم يرَ في الحركة العربية تهديداً عسكرياً وشيكاً بقدر ما رآها حاجزاً اجتماعياً وسياسياً يمنع تحويل السكان العرب إلى "عثمانيين مثاليين". وبذلك لم تكن الإعدامات ردّ فعلٍ مبالغاً فيه، بل امتداداً لمنطقٍ اتحاديٍ هدفُه المركزيّ القضاءُ على أيّ بنيةٍ محليةٍ قادرةٍ على منافسة الدولة في المشرق العربي. لم تكن سياسات جمال باشا في هذا السياق مجرد تصرفاتٍ فرديةٍ، بل جزءاً من سلسلة إجراءاتٍ اتخذتها حكومة الاتحاد والترقي منذ أعوامٍ سبقت الحرب. ومن ذلك مراقبة النشاط السياسي العربي، والتضييق على الجمعيات، ومحاولة إعادة تشكيل العلاقة بين المركز والولايات. وقد جاءت الإعدامات والنفي في سوريا ولبنان أشدّ مراحل هذه السياسة تطرفاً، ولكنها في الوقت نفسه انعكاسٌ دقيقٌ لجوهر توجهات الاتحاديين.

وتبرز أهمية قراءة كايالي في تعاملها مع جمال باشا فاعلاً سياسياً داخل منظومةٍ لا يمكن فصلها عن بنيتها الفكرية. فهو ضابطٌ اتحاديٌّ قبل أن يكون والياً على بلاد الشام، ورجلٌ ينفذ برنامجاً مركزياً قبل أن يكون صاحبَ تقديراتٍ ذاتية. ولعلّ هذا ما يميّز تحليله، إذ يُخرِج جمالاً من دائرة "السفّاح الفرد" أو "المنقذ الوطني"، ليضعه ضمن مسارٍ تاريخيٍ طويلٍ لكسر نفوذ الأعيان وبناء السلطة المركزية بلغ أوجَه مع الاتحاد والترقي.

ولعلّ كتاب المؤرخ التركي طلحة جيجك، "وور آند ستيت فورميشن إن سيريا" (الحرب وإعادة تشكيل الدولة في سوريا) المنشور سنة 2016، أهم المحاولات الأكاديمية الحديثة لتقييم مرحلة حكم جمال باشا في بلاد الشام. فبدل التركيز على شخصية جمال "السفّاح" كما في الذاكرة العربية، أو "القائد القومي الصلب" كما في بعض الكتابات التركية، يحاول جيجك مقاربته داخل بنية الدولة العثمانية في أعوامها الأخيرة. ومن تحليل نسقٍ معقدٍ من السياسات الإدارية والاجتماعية والعسكرية، التي شكّلت مجتمعةً رؤية جمال باشا لطبيعة الحكم وضرورات الحفاظ على الدولة.

ينطلق جيجك من فرضيةٍ رئيسةٍ مفادها أن جمال باشا لم يكن محض قائدٍ عسكريٍ متعطشٍ للسلطة، بل كان يحاول ضمن حدود أدواته ووفق ما أتاحت له الظروف، إعادة بناء حضور الدولة العثمانية في سوريا بإصلاحاتٍ إداريةٍ وتقنيةٍ تهدف إلى تقوية المركز وتوسيع نفوذه المباشر. ويبرز في هذا الإطار تركيزه على مشروعات البنية التحتية وتنظيم البلديات وتحديث قطاعات النقل والمياه، وتأسيس مؤسساتٍ تعليميةٍ جديدةٍ، إلى جانب إطلاق صحيفة "الشرق" في أبريل 1916 التي أراد لها أن تكون وسيلةً لبثّ خطاب "العثمانية الإسلامية" في مواجهة المدّ القومي العربي. ومن هذه الزاوية يبدو جمال لدى جيجك موظفاً كبيراً يحمل هاجس "إعادة بناء الدولة"، لا مجرّد ضابطٍ يمارس سلطته في الفراغ.

ولا ينكر جيجك الجانب القمعي من سياسة جمال ضد الحركة العربية النامية، ولكنه يراها امتداداً لمنطق دولة الاتحاد والترقي، التي رأت في العروبة حركةً سياسيةً تهدّد وحدة الدولة وتُعطل مشروعها في خلق رعايا عثمانيين مخلصين. ولذلك سعى جمال إلى عَثْمَنة السوريين جزءاً من رؤيةٍ مركزيةٍ تهدف إلى تعديل علاقة السكان بالدولة، وإزالة الطبقات الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تصنع حاجزاً بين الطرفين. وبذلك لم يكن القمع مجرد فعلٍ انتقاميٍّ، بل أداةً داخل مشروعٍ أكبر لإعادة إنتاج السلطة وولاءاتها المحلية.

ويرى جيجك أن جمال باشا كان يعتقد أن النخب السياسية العربية تشكّل عقبةً أمام بناء نموذج الدولة الحديثة كما يتصورها. ولذلك صعدت سياسة الإعدامات والنفي، من وجهة نظره، وسيلةً لضرب هذه الطبقة وإعادة تشكيل المجتمع بما يضمن ولاءه للسلطنة. ولم يكن ذلك بسبب خشيته تمرداً عسكرياً وشيكاً، كما كتب لاحقاً، ولكنه كان يسعى إلى تفكيك البنى الاجتماعية المحلية التي رآها خطرةً لأنها تستمدّ شرعيتها من خارج إطار الدولة المركزية. 

ينقل هذا التفسير الحدثَ من معناه الأمني المجرّد إلى بنية الحكم نفسها، ويجعل الإعدامات جزءاً من هندسةٍ سياسيةٍ تهدف إلى صياغة علاقةٍ جديدةٍ بين المركز والولايات. 

ويرى جيجك أن هذا التناقضَ انعكاسٌ لأزمة الدولة الاتحادية نفسها، التي حاولت أن تجمع بين الوعود الإصلاحية والطابع الأمني الصارم، لكنها أخفقت في إدراك عدم كفاية القوة وحدها لكسب ولاء السكان، وأن التوترات الداخلية في السلطنة لم تكن ممكنة المعالجة بمجرد إعادة تنظيم الوظائف الإدارية أو إنشاء مؤسساتٍ حديثة.

تُظهر قراءة جيجك في جمال باشا صورةً معقّدةً لرجلٍ لم يكن شريراً مطلقاً ولا بطلاً قوميّاً، بل قائداً عثمانياً ينتمي إلى جيلٍ حاول إنقاذ الدولة بأدواتٍ أخفقت في نهاية المطاف بسبب تناقضاتها الداخلية. وقد صوّره جيجك "رجلَ دولةٍ قمعياً"، يجمع بين خطاب العثمانية الإسلامية والعنف السياسي، ويطمح إلى تحديث الدولة بأدواتٍ تنتمي إلى عصرٍ سلطويٍّ قديم.

ووفق جيجك، فلم يكن جمال مجرد سفّاحٍ كما صوّرته الذاكرة العربية، ولا مجرد موظفٍ مظلومٍ كما حاولت بعض الروايات التركية اللاحقة تلميعه. بل كان فاعلاً سياسياً تشكّلت تجربته في تقاطعٍ بين مشروع دولةٍ تتهاوى، وواقعٍ اجتماعيٍ عربيٍ كان يتّجه نحو بلورة هويته الخاصة، وصراعٍ عالميٍ أعاد رسم خريطة الأمم والشعوب.

أمّا المؤرخ التركي سليم ديرينغل فقد درس جمال باشا من زاوية موقعه داخل بنية الدولة ومنطقها السياسي أيضاً، بلهجةٍ نقديةٍ أعلى. في كتابه "ذي أوتومان توايلايت إن ذي أراب لاندز" (أُفول العثمانيين في البلاد العربية) المنشور سنة 2019، لا يراه حالةً استثنائيةً أو شذوذاً عن بنية الدولة، بل التجسيد الأوضح لما يسميه "العقل البيروقراطي السلطوي" الذي حكم سلوك الدولة في أعوامها الأخيرة. فجمال في تحليل ديرينغل رمزٌ لبنية الدولة نفسها، التي جمعت بين التحديث العسكري والقمع السياسي في مركّبٍ واحدٍ، وأنتجت طبقةً إداريةً ترى في ممارسة القوة غايةً لا مجرد وسيلة.

تقتضي فكرة ديرينغل المركزية أن جمعية الاتحاد والترقي لم تنتقل بالسلطنة من السلطانية التقليدية إلى الدولة الحديثة، بل إلى شكلٍ جديدٍ من الاستبداد البيروقراطي، أكثر تنظيماً وأشدّ قسوةً، وأقلّ قدرةً على بناء شرعيةٍ سياسيةٍ لدى السكان. وكان جمال نفسه مثالاً على القائد الذي يؤمن بالتحديث التقني، ولكنه يفشل في إدراك أن هذا التحديث يفقد قيمته إذا لم يكن مصحوباً بفهمٍ اجتماعيٍ وسياسيٍ للبيئات التي تُطبّق فيه. وهكذا يصبح جمال، في قراءة ديرينغل، ضابطاً مثالياً للدولة المركزية، ولكنه في الوقت نفسه ممثّلٌ أعمى تجاه واقع المجتمعات العربية.

ويذهب ديرينغل إلى أن جمال باشا في أعوام حكمه في سوريا جسّد لحظة الانفصال الكامل بين الدولة العثمانية وشعوبها غير التركية. فلم تكن السياسات القمعية مجرد أفعالٍ فرديةٍ، بل نتيجةً مباشرةً لأولوية المركزية في تفكير الدولة التي تضع الإخضاع مكان المشاركة السياسية، وتتعامل مع المطالب المحلية بمنطق "الفتنة" لا أنها جزءٌ من تحوّلٍ اجتماعيٍ طبيعي.

ويرى ديرينغل أن جمالاً لم يدرك عمق التحولات الفكرية والاجتماعية التي بدأت تتكوّن في المشرق العربي منذ عقود. جمال باشا تأثر بالعقل الاتحادي ونظر إلى القومية العربية مؤامرةً خارجيةً لا حركةً فكريةً أو اجتماعيةً في طور التشكل. ولذلك لجأ إلى الأدوات الأمنية وحدها، معتقداً أن القوة وحدها تكفي لإعادة دمج المناطق العربية داخل المشروع العثماني. ومن هنا جاءت سياسة الإعدامات والنفي أقصى تجلّيات هذا المنطق، لا حدثاً معزولاً، بل استمراراً مباشراً لرؤيةٍ تعُدّ بقاء الدولة أهمّ من المجتمع، وترى المركز أهمّ من الأطراف.

يشير ديرينغل إلى استمرار خطابٍ تركيٍ سائدٍ تتمحور نظرته إلى العرب حول فكرة "الطعنة في الظهر"، إذ يَرَى العربَ خونةً ومثيري فتنةٍ تعاونوا مع العدو لإسقاط الإمبراطورية. وأدّى ذلك إلى ظهور جيلٍ كاملٍ من السياسيين في الجمهورية التركية الفتيّة رأوا فقدانَ الولايات العربية "وداعاً سعيداً"، وخاصةً في سنوات الجمهورية الأولى. أصبح موضوع "خيانة العرب" هو الحديث السائد، وعُرض على هذا النحو في الكتب المدرسية التركية حينذاك "سليلُ النبيّ الشريفُ حسين اختارَ قبولَ ذهبِ العدوّ، واستبدل بشرف الإسلام مملكةً تحت حماية الإنجليز، ودخل في منافسةٍ مع أعداء الإسلام على سفك الدماء التركية الطاهرة، مع عرب الصحراء والمدن في مركبه".

كان جمال باشا، في قراءة درينغل، أحدَ أسباب سقوط الدولة، بل أحد الوجوه التي جعلت هذا السقوط يبدو محتوماً بسبب الفجوة الكبيرة بين السلطة والمجتمع. فقَمْعُه العربَ وغيرَهم لم يكن قراراً فردياً اتخذه في لحظة توترٍ، بل انعكاساً لنمط من الحكم ترسّخ عبر عقودٍ، يقوم على بناء جيشٍ قويٍ وإدارةٍ مركزيةٍ، من دون بناء قاعدةٍ شرعيةٍ سياسيةٍ لدى الشعوب. لم يكن جمال باشا إلا "الذراع الصلبة" لهذا النمط، وحضورُه في سوريا كان لحظةً تكثّفت فيها كلّ تناقضات الدولة وظهرت بأوضح صورها.

لم تقتصر مقاربة جمال باشا في كتب المؤرخين الأتراك على علاقته مع النخب العربية وطريقة حكمه في سوريا، بل نوقشت أيضاً علاقته مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، إذ رُمي بتهمة "خيانة"، وهي نيّته الانفصال عن الدولة لصالح الاتفاق مع البريطانيين.


لعلّ أشهر من تبنّى رواية خيانة جمالٍ لصالح الحلفاء ونَشَرَها، الرئيس التركي تورغوت أوزال الذي حكم بين سنتَيْ 1989 و1993، وجدّدت كلماتُه الجدل في جمال باشا في النقاش التركي الحديث. وتعود القصة إلى حوارٍ صحفيٍ سُجّل سنة 1991، ولم يُنشر إلّا بعد أعوامٍ، لأن أوزال اشترط حينئذٍ عدم نشره، وعرض فيه روايةً صادمة. إذ اتّهم جمالاً بالعمالة للبريطانيين، وعدّ أدواره في سوريا ولبنان جزءاً من مخططٍ بريطانيٍ لإثارة العداء بين العرب والدولة العثمانية. 

استند أوزال إلى روايةٍ غير موثقةٍ، مفادها أن جمال باشا تلقى تعليماتٍ من لندن بجمع بنات العلماء في دمشق في أحد المنازل وإجبارهنّ على شرب الخمر والتحرّش بهن، بهدف خلق حالةٍ من النفور العربي تجاه السلطة العثمانية بالطعن في أخلاقها الإسلامية. ويؤكّد أوزال أن جمال باشا تقاضى راتباً من البريطانيين مقابل تنفيذ هذه الأدوار.

تكشف رواية أوزال أن صورة جمال باشا داخل الذاكرة التركية لم تكن محصورةً بين التمجيد القومي أو الإدانة الليبرالية، بل كانت أيضاً مادةً يستخدمها السياسيون المعاصرون لتفسير صراعات الحاضر. فيبدو أن أوزال المعروف بنهجه الإصلاحي ومساعيه لإعادة دمج البعد الإسلامي في الحياة السياسية التركية استخدم نقد جمال باشا والاتحاديين لتقويض شرعية الإرث الكمالي التقليدي، وإبراز أن تركيا الحديثة لا يمكن أن تُبنى على سياسة القطيعة مع ماضيها العثماني أو مع هويتها الإسلامية.

ناقش مؤرخون أتراكٌ هذه التهمة. ففي كتابه "ألمان كايناكلارينا غوري جمال باشا" (جمال باشا حسب المصادر الألمانية) المنشور سنة 1999، عرض رمضان جالك واحدةً من أكثر القراءات تفصيلاً لعلاقة جمال باشا والحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى. درس جالك المراسلات التي تطرقت إلى احتمال انشقاق جمال عن الدولة العثمانية أو سعيه لتأسيس كيانٍ مستقلٍ في سوريا. وتميزت دراسته بتحليل الوثائقِ الدبلوماسية، ما يجعلها أقرب إلى تفكيك شبكةٍ من التصورات والاتهامات التي أحاطت شخصية جمال باشا، أكثر من كونها إثباتاً قاطعاً لأيّ مشروعٍ انفصالي.

عرض جالك برقيةً من وزير الخارجية الروسي سازونوف إلى سفراء بلاده في باريس ولندن وروما فحواها أن جمال باشا قد يُقدِم على الثورة ضد إسطنبول إذا حصل على ضماناتٍ من الحلفاء. ويشير جالك إلى أن البرقية تكشف عن محاولات استغلال التوترات داخل الدولة من أجل تفكيكها من الداخل، أكثر مما تؤكد مخطط جمال باشا. فالمصادر الغربية لم تكن متفقة دائماً على قدرتِه أو نيّتِه الثورةَ ضد إسطنبول. وفيما نقلت تقارير قدرتَه على قيادةِ حركةٍ انفصاليةٍ، رأتْ أخرى أنه لا يملك القاعدة الاجتماعية والعسكرية اللازمة لهذا المشروع، وأن الضباط الأتراك المقربين منه كانوا سيتخلّون عنه لو أعلن العصيان. وتشير وثائق جالك إلى أن البريطانيين كانوا يتعاملون معه بحذرٍ، ومع ذلك اهتمّوا بفتح قنوات اتصالٍ غير مباشرةٍ معه. ليس لاعتقادهم إمكانيةَ نجاح مشروعٍ انفصاليٍ، بل لإرباك القيادة الاتحادية وزرع الشكوك داخل صفوفها، في إطار حربٍ نفسيةٍ تهدف إلى إضعاف الجبهة العثمانية.

وصلت هذه الشائعات وقتئذٍ إلى إسطنبول والصحافة، مما زاد حذرَ جمال باشا وجعله أحرص في إدارة علاقاته السياسية ضمن الحرب. وتتضمن دراسة جالك أيضاً وثائق سوفييتيةً لاحقةً في سنة 1924، تفيد أن جمال باشا والحلفاء تواصلوا أواخر 1915، وأنه طلب في إحدى الاتصالات ضمانَ استقلال سوريا وفلسطين وبلاد الرافدين والجزيرة السورية وشمال العراق ومنطقة أرمينيا وكيليكيا (جنوب شرق تركيا الحديثة)، مقابلَ مساعدته في الاستيلاء على السلطة في إسطنبول وتحرير الأرمن.

وعلى أهمية هذه الوثائق، إلّا أنها لا تكفي لإثبات جدّية جمال باشا في هذا المشروع، لأن كثيراً من الاتصالات كانت أشبه بجسّ النبض في لحظةٍ سياسيةٍ مضطربةٍ، لم تكن فيها عند أيّ جهةٍ رؤيةٌ متماسكةٌ للمستقبل. ويرى جالك أيضاً أن جمال باشا لم يكن يملك القدرة على إطلاق ثورةٍ في سوريا، لأن سياساته القاسية ضدّ السكان العرب جعلته شخصاً مكروهاً لدى النخب المحلية، ما تركه عاجزاً عن بناء حركةٍ سياسيةٍ أو اجتماعيةٍ تستند إليها محاولة الانفصال عن المركز. 

تدلّ وثائق دراسة جالك على أن جمال باشا كان في نظر الحلفاء شخصيةً يمكن استغلالها لزعزعة السلطنة، ولكنه كان في نظر حلفائه الألمان قائداً وطنياً مخلصاً لا يمكن أن يتورط في مشروعٍ انفصالي. صورة جمال باشا هنا أنه ليس رجلاً يصنع مؤامراتٍ كبرى، ولا رجل دولةٍ نزيهاً بالمطلق، بل كان محورَ صراعاتٍ دوليةٍ وجدَت حكمَه في سوريا فرصةً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. 


لم ينَلْ جمال باشا في الذاكرة التركية الحديثة المكانةَ الرمزيةَ التي حصل عليها أنور باشا، أو الجدلَ الواسعَ الذي أحاط طلعت باشا. تحوّل أنور إلى رمزٍ قوميٍ بعد مقتله بنيران الجيش السوفييتي الأحمر سنة 1922، فيما ظل اسمُ طلعت مرتبطاً بملفاتٍ كبرى أهمّها اتهامه بالمسؤولية عن مذابح الأرمن. أما جمال باشا فقد كان شخصيةً هامشيةً لا تحمل بطولةً ملحميةً ولا مأساةً كبرى، بل ترتبط بأحداثٍ مؤلمةٍ في بلاد الشام. ولهذا لم تتبوّأ صورته حيزاً كبيراً في الخطاب الثقافي التركي، ولم تُشيَّد له تماثيل أو يُحتفَظ بِاسمه في الرواية الرسمية، على عكس رفيقيه.

تُظْهر هذه المكانة الهامشية طبيعةَ أدواره داخل الدولة، فلم يكن مهندسَ القرار الاتحادي بل منفّذه الأكثر صرامةً في الجبهة العربية، وظلّ طيلة مسيرته أسير الثنائية بين كفاءته الإدارية وتصلّبه السياسي. ولم يكن بين الثلاثيّ الاتحاديّ رأسَ المشروع، بل تجسيداً لحضوره العسكري والإداري، والوجهَ الأصلب في سياسة المركز تجاه الأطراف.

يعكس تناول الإعلام التركي المعاصر شخصيةَ جمال باشا استمرارَ الانقسام التاريخي حول إرثه، إذ لم تتشكل حوله روايةٌ موحدةٌ، بل ظلّ موضوعاً مثيراً الجدلَ. وتتنازعه ثلاث قراءاتٍ رئيسة. الأولى قراءةٌ قوميةٌ تميل إلى تنزيه الاتحاديين. والثانية قراءةٌ نقديةٌ ترى فيه نموذجاً عن فشل الحكم العثماني في الولايات العربية. وقراءةٌ ثالثةٌ تستند إلى انحيازاتٍ فكريةٍ وسياسيةٍ معاصرةٍ تواجه الإرث الكمالي أو تدافع عنه.

في لقاءٍ تلفزيونيٍ مع المؤرخ ألبير أورتايلي سنة 2023، وصف جمالاً أنه "لم يكن رجل دولةٍ ناجحاً"، وأن قوميته التركية جعلته عاجزاً عن فهم التحولات الاجتماعية في بلاد الشام. بينما تبنّى آخرون مواقف أكثر حدّةً، مثل المؤرخ مصطفى أرماغان الذي كتب مقالاً سنة 2025 قال فيه إن جمال باشا أخطأ إستراتيجياً حين اعتقد أن بإمكانه "تتريك العرب بالقوة"، معتبراً أن سياسات جمال باشا في التهجير والقمع أدّت إلى خسارة العثمانيين الولاياتِ العربيةَ وعمّقت النزيف السكاني والسياسي في فلسطين.

تكشف هذه اللقاءات والمقابلات المستمرة في الإعلام التركي أن جمال باشا ما يزال رمزاً مفتوحاً للتأويل، فصورته ليست ثابتةً، بل قد تتأثر بحسب اللحظة السياسية والاتجاه الفكري. وفي كلّ مرّةٍ يعود النقاش في الهوية العثمانية أو "خيانات العرب" أو إرث الاتحاد والترقي، يستعاد جمالٌ مرآةً لهذه الأسئلة، لا شخصيةً تاريخيةً فحسب. ولذلك ظلّ حضوره في الإعلام أكبر من حضوره في الذاكرة الرسمية، وأقرب إلى مادّةٍ للصراع الثقافي حول الماضي، أكثر من روايةٍ متّفقٍ عليها.


يكشف تتبّع صورة جمال باشا عبر المصادر التركية أن الجدل في شخصيته لا يتعلق به وحده، بل يعكس صراعات الهويات والأزمات التي رافقت المشرق العثماني في أعوامه الأخيرة، وتركيا الجمهورية في مراحل تشكّلها. فالرجل الذي ظهر في الذاكرة العربية رمزاً للقمع والتتريك والإعدامات، يظهر في الذاكرة التركية منقسماً بين صورة القائد الصارم والإداري المجتهد ورجل الدولة المأزوم، وأحياناً الحلقة الأضعف في ثلاثي الاتحاد والترقي.

لا يحضر جمال باشا في المصادر التركية المتنوعة شخصاً مستقلاً عن زمنه ومنظومته. بل ممثّل بنيةٍ سياسيةٍ مأزومةٍ، تتأرجح بين مركزيةٍ خانقةٍ وطموح تحديثٍ متعجّل. فهو مقتنعٌ بقدرة القوة على تحقيق الاستقرار، وعاجزٌ عن قراءة التحولات الاجتماعية والفكرية في الولايات العربية. وقد كان هذا التناقض عنصراً رئيساً في سياساته في سوريا ولبنان، حيث تحوّل الحزمُ إلى قسوةٍ والمركزية إلى قطيعةٍ والإصلاح المؤسسي إلى أداةٍ لتكريس السيطرة.

تبيّن الدراسات التركية أن الإعدامات التي ارتبطت بِاسم جمال باشا لم تكن مجرّد قرارٍ شخصيٍ، أو ردّ فعلٍ على خطرٍ مباشرٍ، بل امتداداً لرؤيةٍ اتحاديةٍ ترى في النخب العربية تهديداً لبقاء الدولة، وفي الإدارة الصارمة وسيلةً لإعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف. غير أن هذه السياسات جاءت بنتائج عكسيةٍ، إذ عمّقت الشرخ بين العثمانيين والعرب، وسرّعت القطيعة التي مهّدت لاحقاً للثورة العربية الكبرى وانهيار النفوذ العثماني في المشرق العربي. 

يتحول جمال باشا هنا من شخصيةٍ تاريخيةٍ إلى رمزٍ لانهيار مشروعٍ سياسيٍ كاملٍ، لم ينجح في التوفيق بين ضرورات الحكم الإمبراطوري والتحولات القومية والاجتماعية.

ولا تزال صورة جمال باشا مادةً للصراع حول الهوية التركية ذاتها، وحول إرث الاتحاد والترقي وموقعه في الوعي المعاصر، عدا عن الصراع حول العلاقة مع العرب. فالرجل لم يختفِ من التاريخ، بل ظل عالقاً في الجدل بين الإسلاميين والقوميين، وبين المدافعين عن الإرث العثماني ومنتقديه، وبين من يراه ضحيةً لظروف الحرب أو أحد صنّاع مأساة العرب والعثمانيين معاً.

ولذلك، ليست أهمية دراسة جمال باشا في تقييمه أخلاقياً أو تبرئته سياسياً، بل في فهم السياق الذي صنعه وصنع تحوّلاته. فهو مفتاحٌ لقراءة مرحلةٍ كاملةٍ، ورجلٌ تحوّل من قائدٍ عثمانيٍ إلى رمزٍ للشرخ الكبير بين المشرق العربي والدولة المركزية في حينه، ورمزٌ أيضاً لأزمة العلاقات بين العرب والأتراك التي ظلّت نقاشاتها حاضرةً حتى بعد رحيله.

اشترك في نشرتنا البريدية