تسكن الحكايات الشعبية والأمثال والحجّايات (الأحاجي) قلب الثقافة المغربية، مثل نبضٍ ينبعث من أعماق التاريخ محمّلاً بنَفَس الجدّات وحكمتهن، ليجسد قيم المجتمع وتقاليده. فقد ظلّت أشكال التراث الشعبي الشفهي إحدى ركائز تشكيل وجدان المجتمع المغربي، ووسيلةً فعّالةً لنقل التجارب والقيم وتمكين الذاكرة الشعبية من البقاء في مواجهة النسيان. وبقيت أشكال هذا التراث حاضرة. سواءً كانت منطوقةً على ألسنة الجدّات، أو مسرودةً في حلقات الساحات العمومية والأسواق الشعبية، أو مغناة في أهازيج فن العيطة وأشعار الملحون.
ومع أن هذه الذاكرة الشفهية لم توثَّق في معظمها، إلا أنها بقيت حاضرةً بقوةٍ في الوجدان الثقافي المغربي، وكانت اللبنة الأولى التي تكوَّن منها شغف كثير من الكتّاب بالحكي. فالحكايات الشعبية أو الأمثال أو الحجّايات هي أول نصٍّ أدبيٍّ يتلقاه الطفل في محيطه الأسري والاجتماعي، لتشكّل بذلك تراثاً حياً صار اليوم مهدداً بالاندثار، بفعل العولمة والتحولات الاجتماعية.
ومع تشكّل الأدب المغربي الحديث، لاسيما منذ الخمسينيات، بدأ بعض الكتّاب يشعرون بحاجةٍ ملحّةٍ إلى مدّ الجسور بين هذا التراث الشعبي الشفهي الغني وبين الأعمال الأدبية المكتوبة. فتعاملوا معه بطريقتين، الأولى توثيقه كما هو، والثانية تذويبه في قوالب سردية. تبرز هنا تجربة الكاتب محمد البوعبيدي نموذجاً سعى إلى توثيق الحجّايات عبر كتابه "مائة حجاية وحجاية" الصادر سنة 2021، وتجربة القاص أحمد بوزفور الذي عمل على تذويب الذاكرة الشفهية والموروث الثقافي الشعبي واستثماره في جزءٍ من كتاباته السردية.
تمثِّل كلّ واحدةٍ من التجربتين وجهاً من أوجه تعامل الأدب المغربي مع الذاكرة الشفهية. إذ سعت إلى إنقاذها من النسيان واستكشاف إمكاناتها، وإعادة بعثها تراثاً حياً ينخرط في أسئلتنا الراهنة. فهي أداةٌ فنيةٌ ومعرفيةٌ في عصر التطور التقني وانفراد الوسائل التقنية بالإنسان، مع بروز مؤشراتٍ تنبئ بأننا نعاصر آخر جيلٍ من الجدّات الحكّاءات.
أما الحكايات الشعبية، فتتميز ببنيةٍ سرديةٍ واضحة المعالم، تضمن لها التلقّي الشفهي السلس والانسياب الخيالي. تبدأ غالباً بمقدمةٍ افتتاحيةٍ شهيرةٍ من قبيل: "كان يا سيدي حتى كان، حتى كان الله في كل مكان"، أو ما يشبهها. وهي عبارات تؤسس لعالم الحكاية المفارق الواقع، وتنقل المستمع مباشرةً إلى فضاءٍ افتراضيٍّ تؤدي فيه الحكاية وظائفَ عديدة. إذ تقول سمية فالق، الأستاذة في كلية الآداب واللغات جامعة عباس لغرور خنشلة بالجزائر، في دراستها "بنية المقدمات والخواتيم في الحكاية الشعبية المغربية" المنشورة سنة 2021، إن هذه المقدمات هي "البوابة التي يمكن من خلالها العبور إلى النص المركزي"، وتؤدّي وظائف متعددة، منها تهيئة المتلقي نفسياً ليدخل في عالم الحكاية. وتؤكد فالق أنّ حرص الرواة على ذكر اسم الله في المقدمات دليلٌ على تمسّكهم بالدين قيمةً راسخةً في الوجدان، بما تحمله من معانٍ روحيةٍ ودلالاتٍ رمزيةٍ تشير إلى حضور الخالق في كلّ زمان ومكان، وإلى خضوع الوقائع لقضائه وقدره.
بالمقابل، تُختتم الحكايات الشعبية بعباراتٍ مثل "ومشات حِجَّايتنا من واد لواد وبقينا حنا مع ولاد لجواد [الأجواد]". وهو ختامٌ يُبرِز سلاسة انتقال السرد من راوٍ إلى آخر، ويرسّخ طبيعة الحكاية مُلكاً مشتركاً يتناقله الناس ويحافظون بها على استمرار قيمهم وتقاليدهم. ويمثّل الباحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث في المغرب محمد فخر الدين، في كتابه "الحكاية الشعبية المغربية: بنيات السرد والمتخيل" الصادر سنة 2014، لدور الحكاية في استمرار الجماعة والعلاقات الاجتماعية السائدة وتمرير القيم والمُثل الاجتماعية من جيلٍ إلى آخر بفم "جدٍّ يهمس لأذن أب، يهمس بدوره لابنٍ يهيّئه لينقل ما سمعه إلى غيره، بعد أن يتم ترسيخه ونقشه في ذاكرته".
وتتميز الحكايات الشعبية ببنيةٍ خطيةٍ موحدة. تبدأ الحكاية من مشكلة أو مأزق يعيشه البطل، يليه سير نحو تحقيق رغبةٍ أو تجاوز محنةٍ، ثم تأتي النهاية السعيدة أو العِبْرة. وتكون الشخصيات غالباً نمطية. زوجة الأب الشريرة والفتاة المظلومة والعجوز الحكيمة والوحش الغامض والسلطان الجائر.
خلف هذه البساطة الظاهرة، هناك حكاية منظوماتٍ ثقافيةٍ وأخلاقيةٍ تعكس تصوّر المجتمع للخير والشر والقوة والضعف، ومختلف العلاقات داخله. يعمّق كتاب فخر الدين هذه الرؤية ويشير إلى أن الحكايات الشعبية ليست مجرد فعلٍ مسلٍّ، إنّما تتجاوز ذلك لتكون آليةً رمزيةً لتفسير العالم وإعادة إنتاج السلطة ونقل القيم. فالحكاية تجسّد الصراع الأبدي بين الخير والشر، وتعِين المتلقّي على التمييز بينهما بدقة، وذلك بالانتصار للمظلوم. يؤكد فخر الدين أن هذه الحكايات الشعبية تدفع الطفل إلى التعامل مع قيمتَي الخير والشر بطريقةٍ نفعية. فهي، بانتصارها للخير، توجّهه إلى القيام به لأن فيه مصلحته ومصلحة الجماعة.
يتفق الحاج بن مومن، الباحث في المعهد الجامعي للبحث العلمي في الرباط، مع هذه الرؤية في ورقة "الحكاية الشعبية في التراث المغربي" المنشورة سنة 2005. يؤكد بن مومن على أن الحكاية الشعبية مرآةً للمجتمع الذي "انبعثت من مخيّلته، وترتبط به ارتباطاً عضوياً حيث تستطيع أن تكشف الغطاء عن ذهنيات أفراده، وأن تفصح عن ماهية اعتقاداتهم".
لا يمكن فصل بنية الحكايات الشعبية ومختلف مكوّنات الذاكرة الشفهية عن السياق الذي تُتداول فيه. لقد شكّلت المجالس العائلية، وفن الحلقة في الساحات والأسواق الشعبية، أهم فضاءات نقل الأمثال والحكايات الشعبية بين الأجيال. كان "الحكواتي" في الأسواق والساحات شخصيةً محوريةً تُنصِت إليها الجموع، وتدفع لها مبلغاً من المال مقابل المتعة والدهشة التي تحصل عليها. كانت هذه الجلسات متنفساً للإنسان المحب لفن الحكي، وفيها تصبح الحكاية ملكاً للسامعين مثلما هي ملك الراوي.
كانت الجدّات في المجالس العائلية مصدراً لهذه الدهشة، وكنّ يعتبرن الحكايات الشعبية والأمثال والحجايات وسيلةً لإعداد الأطفال لمواجهة العالم. يشير محمد فخر الدين إلى أن "الأشخاص في مجتمع الحكاية الشعبية سِجِل لما تكّلم به غيرهم. وحفاظهم على هذا الكلام يتخذ طابعاً مقدساً، لأنه مرتبط بتقديس الأسلاف وتمجيد الماضي، عن طريق تحيين أشكاله الشفاهية لمواجهة مشاكل الحاضر وبناء تطلعات المستقبل".
بدأ هذا الإرث يختفي مع تحوّل أسلوب العيش في المجتمع المغربي، وتراجع نمط العائلات الكبيرة أمام انتشار نمط العائلات الصغيرة التي تضمّ فقط الوالدين والأبناء، وانحسار المجالس العائلية. فلم تعد هناك حلقات ترفيهٍ رجاليةٍ في الأسواق الشعبية، ولا حكّاءات في المنازل، بل حلّت الهواتف والتلفزيونات واللوحات الإلكترونية محل سردِ الآباء والأجداد.
يبرز الكاتب المغربي محمد البوعبيدي من بين الكتّاب الذين اختاروا الاهتمام بالآداب الشعبية بروح الوفاء لأصلها الشفهي. فكتابه "مائة حجاية وحجاية" ليس تجميعاً للحجّايات وحسب، وإنما إنقاذ لذاكرةٍ شخصيةٍ وعائليةٍ وجماعية. فقد أراد الكاتب جمع الآداب الشعبية وتدوينها وتفسيرها ودراستها جزءاً من الذاكرة المشتركة. يجمع البوعبيدي حالياً الحكايات الشعبية والأمثال ويدوّنها، انطلاقاً من قناعته بأن "مكوّنات الأدب الشعبي كلّها تنبع من منبعٍ واحدٍ وتتقاطع في غاياتها. فكم من حكايةٍ شعبيةٍ أصبحت مثلاً يُستشهد به، وكم من مثلٍ شعبيٍّ يختزل حكايةً كاملة".
يضرب البوعبيدي مثلاً على طريقة عمله بالحجاية التي تقول "حاجيتك على راه راه والغوت وراه"، والتي فسّرها بأنها تقول: "إني أراه إني أراه والصراخ خلفه بغرض الاستغاثة، والناس يتبعونه ويستنجدون رغبة في القبض عليه". فمع أنّ بعض التأويلات الشعبية تشير إلى أن المقصود من المثل الذئب أو اللص، إلا أن التأويل الشائع هو تلك الشخصية المعروفة في الموروث الشعبي المغربي باسم "حديدان الحرامي". وهي شخصية أسطورية في الحكايات المغربية عُرفت بذكائها وحنكتها ومكرها. وبهذا، مَن يعرف حكاية حديدان الهارب دائماً وأبداً هو الأقرب لفكّ لغز هذه الأحجية.
وتحكي إحدى الحكايات التي وثّقها البوعبيدي عن رجلٍ أراد أداء فريضة الحج، لكنّه كان مضطراً لتأمين أبنائه السبعة قبل أن يشدّ الرحال. لذلك وحرصاً على سلامتهم، شيّد لكلّ واحدٍ منهم بيتاً من مادةٍ مختلفةٍ حسب طلبه، إما تراب أو زجاج أو خشب أو حجر. لكنّ القدر لم يكن رحيماً. فهجمت الغولة وتمكنت من تدمير البيوت الضعيفة واحداً تلو الآخر، مفترسةً أصحابها. وحده حديدان نجا من المصير نفسه، بعدما اختار أن يكون بيته من حديد، فكان أشدّ صلابة من أن تخترقه الغولة. ومن هنا اشتُق اسمه "حديدان الحرامي"، أي المخادع.
لم تستسلم الغولة، فقد خدعته وأوقعت به، ثم احتجزته في قفصٍ ريثما يسمن ويصلح طعاماً. وحين قررت التهامه، فوّضت الأمر لابنتها الشعثاء. غير أن حديدان اقترح عليها تمشيط شعرها. فاستغفلها وذبحها ثم طبخها وارتدى ملابسها، وقدّمها طعاماً للغولة التي لم تشكّ في شيء. وبهذه الطريقة وبمكره المعهود، انتقم حديدان وسقَى الغولة من الكأس نفسه الذي سقت منه إخوته. لم يكتفِ بذلك، بل أشعل النار في بيتها وخرج من الحكاية ظافراً، بعدما حوّل نجاته إلى انتقام.
على هذا المنوال، تتناول حكايات حديدان الحرامي مجموعةً من المواقف والأحداث التي يبرز فيها ببراعته في خداع الآخرين والتغلّب عليهم، بفضل ذكائه وحيلته. وغالباً تدور هذه الحكايات في سياقاتٍ اجتماعيةٍ أو اقتصادية. يستغل حديدان ضعف خصومه، أو غرورهم، ليقلب الموازين لصالحه ويهرب في نهاية كل حكاية. ومع أنّه يحمل صفة الحرامي، إلا أن الغالب أن يُنظر إليه بطلاً شعبياً يضحِك الناس ويثير تعاطفهم.
في رحلة تدوينه لهذه الحجايات، أراد محمد البوعبيدي الاقتصار على وضع شرحٍ معجميٍّ للكلمات في اللهجة الدارجة المغربية. فقد رأى الكاتب أنّ بعضها عصيٌّ على الفهم حتى على المغاربة، لما تتمتع به الحجاية من قوةٍ وتكثيف. غير أن هذا التوجه طاله التعديل حين وجد أن الشرح المعجمي وحده قد لا يعطي للقارئ فرصةَ فهمِ مغزى الحجاية، التي هي في الأصل "جملة تحتمل عدة معانٍ"، كما يقول في كتابه. فلجأ إلى تقديم الحجاية كما يتداولها المغاربة، ثم دراسة معجمها وتفسيرها وربطها تارةً بالمثل وتارةً بالحكاية وتارةً بمكونات الأدب الشعبي والفصيح، وذلك قبل تقديم حلٍّ لها.
تحدثتُ مع البوعبيدي عن دوافعه لتدوين الثقافة الشعبية. قال لي إنها "دوافع مركبة"، فهو ابن البادية الذي تشبّع منذ الطفولة بالأمثال والحجّايات والحكايات الشعبية. فقد كانت هذه الأشكال تتجلى في كلّ مناسبات واحتفالات سكّانها، وقد أدرك أن هذه الآداب الشعبية هي التي تعكس حقيقة الإنسان المغربي وتفصح عما في داخله. وأشار إلى أن مصدر حكاياته هو والدته ونساء أخريات تميِّزهن ذاكرتهن القوية وأسلوبهن السلس في تملّك ناصية اللغة العامية والأدب الشفهي. وكُن "خزاناً حياً" للذاكرة الشفهية، يُعِدن إنتاج الحكايات الشعبية والحجايات والأمثال بكامل تفاصيلها وتشويقها ومخزونها الرمزي في ليالي الشتاء الطويلة.
يرى البوعبيدي أنّ هذا التراث، عندما ينتقل من الشفاهية إلى الكتابة، لا يكون "مادةً تدوَّن" فقط. يتحوّل أيضاً بنيةً سرديةً تجسّد نمطاً من الرؤية للعالم. ولهذا، فإن الحفاظ عليها هو في جوهره حفاظٌ على الهوية الرمزية للمجتمع. لكن هذا الحفاظ يفقدها الكثير من خصوصياتها.
يميّز البوعبيدي بين الشفاهية والكتابية فنَّين منفصلَين. قال لي إن "لكلٍّ منهما خصوصياته الجمالية وآلياته التعبيرية". فالكتابة فن بصريّ يُبنى على القراءة الصامتة وإعادة التلقي، بينما الشفاهية فن سمعيّ يعتمد على الإلقاء ونبرة الصوت وطريقة الأداء. وإذا كانت الكتابة تدوِّن النص باسم صاحبه وتثبِت ملكيته الفردية، فإن الشفاهية تُنتج نصاً جماعياً، "يشعر كل من يرويه أو يؤديه بأنه يمتلكه، وله حرية التصرف فيه بحسب السياق والحضور".
يعتبر البوعبيدي أنّ الكتابة "تجمّد النص" وتفصله عن ظروف أدائه، بينما الشفاهية تُبنى على اللحظة وعلى التفاعل بين الراوي والمستمع. فتكتسب بذلك طابعاً حياً وحسِّياً لا يمكن نقله كاملاً إلى الورق. ولهذا، يعتبر أن "عملية تدوين الذاكرة الشفهية هي انتقالٌ من وسيطٍ إلى آخر ومن عالمٍ إلى عالم، بما يفقد الحكاية كثيراً من خصائصها الأصلية". فالجدّات، على سبيل المثال، "كنّ يروين الحكايات ليلاً على ضوء الشموع، وسط أجواءٍ حميمة ومشاعر مترقّبة. وهي أجواء لا تنقلها الكتابة التي تُقرأ في الصباح، أو في أي وقتٍ، دون شرط السياق".
مع ذلك فإن واقع اليوم، حسب البوعبيدي، وبما يشهده من تحوّلاتٍ اجتماعيةٍ وتراجع في فضاءات الحكي التقليدية "يفرض علينا تدوين هذا التراث الشفهي. لا بوصفه بديلاً عن الأداء، بل باعتباره ضرورةً لإنقاذ الذاكرة الجماعية من الاندثار". بهذا المعنى يغدو التدوين ملاذاً أخيراً للذاكرة الشفاهية ووسيلةً لحفظها من النسيان. تكون الكتابة بذلك امتداداً للشفاهة ضمن شروط العصر، وهي التي تمكّن هذه الذاكرة من العبور نحو الأجيال الجديدة. وهنا تبرز مسؤولية الأدباء في الحفاظ على الذاكرة الشفهية، وإعادة تفعيلها داخل خطابٍ ثقافيٍّ يواجه العولمة والتغييرات الاجتماعية.
يمثل محمد البوعبيدي الاتجاه الأول من تعامل الأدب المغربي مع الحكايات الشعبية، أي الاتجاه التوثيقي الذي يرى فيها مادةً تراثيةً معرّضةً للاندثار. ويطمح للحفاظ عليها كما هي، دون محاولة تفكيكها أو إعادة تذويبها في قوالب سردية. ينطلق هذا الاتجاه من الذات كي يعيد الاعتبار لأصوات النساء خاصةً، والموروث الثقافي عموماً. أما الاتجاه الثاني، فيمثله القاص المغربي أحمد بوزفور الذي عمل على تذويب الحكايات الشعبية في قوالب سردية. لا تظهر الحكاية في نصوصه وثيقةً تراثيةً، بل محرّكاً يُغذّي نصوصه المكتوبة بلغةٍ سرديةٍ رشيقة.
يظهر توظيف بوزفور واستثماره للحكايات الشعبية ضمن مشروعه السردي انطلاقاً من العناوين التي يختارها لقصصه، وتعكس حضوراً كثيفاً للتراث الشفهي واللهجة الدارجة المغربية. وهكذا يصبح عنوان قصته "صياد النعام"، المنشورة ضمن مجموعته القصصية التي تحمل نفس العنوان سنة 1993، نموذجاً يحضر فيه روح التعبير الشعبي الشائع والتركيب اللغوي المحلي. فهو مستمَد من المثل الشعبي القائل: "صياد النعام يلقاها يلقاها"، والذي يُضرب للتعبير عن حتميةِ مواجهة العواقب لمن يغامِر أو يُقدِم على فعلٍ صعب، سواء أكانت نتائج ذلك النجاح أم الفشل. ويُستخدم عادةً للتنبيه من المخاطر، أو للسخرية ممن نال جزاءه.
يتجاوز بوزفور مسألة اقتباس عناوين قصصه من التراث إلى إعادة صياغة هذا التراث داخل القصة نفسها. إذ نجد في قصة "الغابر الظاهر"، ضمن كتاب "ديوان السندباد" الصادر في طبعته الثالثة سنة 2017، تلاقحاً فنياً بين الشفهي والمكتوب. يمكن تلمّس خصائص الحكايات الشعبية من عناصر متعددة، منها افتتاحها بصيغةٍ حكائيةٍ تقليديةٍ وتوظيف السجع والتقفية وحتى اختيار عنوانها "الغابر الظاهر"، وهي عبارةٌ مستمَدةٌ من اللهجة الدارجة المغربية. وتعني كلمة "الغابر" الشيء القديم أو المُنقضي، بينما تشير كلمة "الظاهر" إلى الحاضر أو الواضح. مما يوحي بأن الماضي (الغابر) لايزال حياً ومؤثراً في الحاضر، حتى في المشروع السردي لأحمد بوزفور، الذي تظهر فيه الحكايات الشعبية القديمة لتكون جزءاً من القصة السردية المعاصرة.
تبدأ قصة "الغابر الظاهر" بعبارةٍ تحاكي مقدّمة الحكايات الشعبية. إذ يفتتحها بالقول: "كان حتى كان، في قديم الزمان، كانت العرجا تنقز الحيطان، والعورا تخيط الكتان، والطرشا [الصمّاء] تسمع الخبر فين ما كان". ولا يستحضر بوزفور هذه العتبة شكلياً فقط، وإنما يعيد توظيفها لخلق بنيةٍ سرديةٍ هجينةٍ تجمع بين التقاليد الشفهية المتوارثة من الجدّات والرواة الشعبيين والكتابة الأدبية. ففي الحكايات الشعبية، تُعدّ شخصيات مثل "الطرشا" و"العورا" و"العرجا" رموزاً للفكاهة وأحياناً للخوارق الشعبية، وأداةً لقلب المألوف. وهو ما يظهر في هذه القصة، إذ يُسنِد إليها الكاتب أفعالاً غير متوقعة. فالصماء تسمع، والعوراء ترى بدقة، والعرجاء تقفز الحيطان. وهذا التناقض بين الوصف والقدرة يشدّ انتباه السامع ودهشة الأطفال.
لا يتوقف التوظيف عند هذا الحد. فالقصة في مجملها تستعير من الحكايات الشعبية عالمها الرمزي. إذ تبدأ الطبيعة بالتكلّم: "قالت الأشجار: ماتت الأم. قالت الأحجار: تزوج الأب. قال اليوم: لا يرضى الأطفال الظلم [. . .]". وهنا تتجلى سمةٌ بارزةٌ من سمات الحكايات الشعبية التي تُسند الكلام أحياناً إلى عناصر الطبيعة، وتمنحها صفات بشرية تُقرّبها من المستمع وتمنحها تأثيراً وجدانياً أعمق. وذلك في إطارٍ استعاريٍّ يجعل السرد أكثر حياةً وحيوية.
نسف أحمد بوزفور في هذه القصة البناء التقليدي للحكايات الشعبية، التي تنتهي بانتصار الخير على الشر. لا تنتهي القصة بنهايةٍ سعيدةٍ ولا تُنهي الظلم، بل تلمح إلى دوامه الأبدي سلسلةً لا تنقطع. فالمظلوم يُصاب بعدواه، ويغدو مشروعَ ظالمٍ يمارس القهر على غيره، في دورةٍ عبثيةٍ تفضح توارث الظلم في البنية الاجتماعية والنفسية.
يتضح من مجمل قصص بوزفور أنه مشبَّع بروح التراث الشعبي، ومولَع بتوظيف الحكاية على نحوٍ واسعٍ وعميقٍ في تجربته السردية. وقد أكد على ذلك الناقد المغربي إدريس الناقوري، بالقول إنّه يصعب فهم أبعاد قصص بوزفور ودلالاتها "بمعزل عن السياقات الفنية التي تؤطرها الحكاية الشعبية التي تدعمها خلفية دينية، أو تلتحم بها مواقف فكرية تعكس فلسفة القاص ورؤيته للعالم".
يتجاوز استثمار أحمد بوزفور مكونات الذاكرة الشفهية حدود الحكاية. فهو يعتمد في نصوصه القصصية على الأمثال الشعبية كذلك. في قصة "غيابات القلب"، يغلي السارد الحليب. وقبل أن يشربه، ينفخ فيه ليبرده. فيتذكر أمّه الراحلة التي كانت تردّد مثلاً شائعاً يقول: "اللّي ينفخ على الحليب يشتاقو". وهو مثلٌ يعني في سياقه الشفهي البسيط أن من يترفّع عن النعمة يُحرَم منها، ليتحوّل هذا المثل من حكمةٍ شعبية إلى جرحٍ حيٍّ وشعورٍ غامرٍ بالحزن والحنين.
تُظهِر تجربة بوزفور أن الأمثال تتسلل إلى قصصه بتلقائية. فهي تنبثق من عمق التجربة الداخلية للشخصيات حين تعبّر عن مشاعرها أو آرائها، أو تتجلى في موقف السارد من الأحداث والشخوص، ما يجعل منها مكوّناً أصيلاً من البنية السردية. يتضح ذلك أكثر في قصته "صياد النعام" عندما يجد حاجّ مسنّ، كان يوماً من رجال المقاومة الذين حملوا السلاح لمقاومة المستعمر الفرنسي، نفسه في مواجهة أخلاق ابنه التاجر الذي يهرّب السلع ويغش الزبائن ويتلاعب بالنساء والأطفال. فيعلّق الرجل في لحظة تأملٍ مريرةٍ قائلاً: "النار تلد الرماد"، وهو مثل شائع يتجاوز دلالته البسيطة ليصبح مجازاً مركباً يختصر رؤيته للتاريخ الوطني. فالنار هنا تشمل الجيل الذي صنع الاستقلال، والرماد يرمز إلى ما أعقب ذلك من انحدار. إذ تحوّلت النضالات النبيلة إلى مكاسب شخصية هزيلة.
هكذا يصير الأدب المغربي بمثابة مأوى للذاكرة الشعبية، يعيد عبره الكتّاب بناء مكوّناتها ويعطونها حياةً جديدةً داخل سياقاتٍ معاصرة. ما يجعل من الأدب مجدِّداً للذاكرة في الحاضر، وليس حارساً لها فقط. وفي زمنٍ تهيمن فيه الصورة وتُختزل فيه المعرفة في مقاطع قصيرةٍ على الشاشات، تظلّ الكتب قادرةً على استدعاء أصوات الجدّات ونبرة الحكي التي ظلّت تنساب من جيلٍ إلى جيل عبر تلك العبارة التي تُختتم بها الحكايات الشعبية المغربية: "ومشات حجايتنا من واد لواد، وبقينا حنا مع ولاد لجواد".
