دفعتني إجابته للتفكير في قدرة الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً، على تعزيز الشعور الوطني وتعريف الجماعة السياسية التي ينتمي إليها الفرد. في كتابه "إيدونتيته: لا بومب آ غيتاردومون" (الهويات: القنبلة الموقوتة) المنشور سنة 2014، يحاج عالم الاجتماع الفرنسي جون كلود كوفمان أن تشجيع الجماهير المنتخباتِ الوطنية في مباريات كرة القدم، سواء في المدرجات أو أمام شاشات التلفزيون هو التجلي الأكثر كثافة للشعور الوطني. تبدو حجة كوفمان وجيهة، إذ يساهم اشتراك الناس في التشجيع في المباريات الحماسية، التي يصفها الكاتب البريطاني جورج أورويل بأنها "حرب بلا رصاص"، في تعزيز التجربة والهدف المشتركَين بين الجماهير، ويمثل اشتراكهم في هذه التجربة الأساس لتكوين هويتهم الجمعية.
لم يكن الأمر كذلك في سوريا. في تجربتِي الشخصية، لم أرتبط في سنوات نظام الأسد بالمنتخب السوري لكرة القدم. لم أتحمس لتشجيعه ولم أتابع أخباره ولم أحرص على الاجتماع مع الأصدقاء لمشاهدة مبارياته، ولم تُشعرني إنجازاته التي طالما أهداها اللاعبون والإدارة للرئيس وابنه بالفخر. كان للمنتخب في تلك السنوات أنصارٌ تحمَّسوا له وتابعوا أخباره، ورأوه رمزاً للهوية السورية حتى مع معارضة بعضهم حكم الأسد. لكنني وكثيرٌ من السوريين رأيناه منتخب الأسد لا منتخب سوريا، ورأيناه رمزاً لنظام أجرم في حق شعبه، فلم يربطنا به رابط.
تحولت كرة القدم في سوريا أثناء سنوات حكم نظام الأسد من مجال تعزيز الهوية الوطنية إلى ساحة انقسام بين السوريين. إذ أدى توظيف النظام الكرةَ للدعاية السياسية، وهيمنة رجاله على الأندية والاتحادات أثناء سنوات حكمه إلى عزوف قطاعات من الجماهير عن تشجيع المنتخب والتفاعل مع المباريات. ومع اندلاع الثورة سنة 2011، استعمل النظام الملاعبَ الرياضية في حملته العسكرية لقمع الثوار. وقمع اللاعبين الذين أيدوا المتظاهرين وقتلهم وأقصاهم عن المشاركات المحلية والدولية. وبعد سقوط نظام الأسد، تنفتح فرصة استعادة كرة القدم دورها في تعميق الشعور الوطني الجامع وتهميش مخاطر الاقتتال الطائفي.
انتشرت كرة القدم في العقود اللاحقة في مسارين. كان أولهما شعبياً. إذ سرعان ما وجدت اللعبة طريقها إلى الساحات والمروج العشبية، حيث لعبها الناس متحللين من القواعد الصارمة لأبعاد الملعب وقوانين اللعب، على نحو ساهم في زيادة شعبية كرة القدم بين السوريين. وأما المسار الثاني فاتسم بالرسمية. إذ تشكَّلت فرق المدارس ومن بعدها فرق الأندية التي صارت أساس مجال كرة القدم المتمثل في الاتحاد والأندية والمنتخب.
ارتبطت نشأة الأندية بالظرف السياسي الذي عاشته سوريا. مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918 انهار الحكم العثماني، وتأسست المملكة العربية السورية تحت حكم الملك فيصل الأول، واستمرت حتى فرض الانتداب الفرنسي سنة 1920. وفي هذه الفترة تشكلت حياة اجتماعية وسياسية جديدة عامرة بالأحزاب والجمعيات والأنشطة الاجتماعية. مثلاً، تأسس "النادي الشرقي" المرتبط بالشركات الأجنبية سنة 1919، لكنه لم يستمر طويلاً. وبعد الانتداب ساهم الأخوان الأيبش في تأسيس نادي بردى في دمشق سنة 1926، ليكون أول نادٍ رياضي وطني خالص لأبناء البلد.
سرعان ما تحولت الأندية ساحات وطنية تتجاوز حدود الرياضة. في السنوات التالية لتأسيس نادي بردى، أسست بعض العائلات السورية المؤثرة أندية رياضية لترسيخ مكانتها الاجتماعية، مثل نادي معاوية الذي أنشأه الزعيم السياسي خالد العظم سنة 1932. ويحكي السياسي البعثي أكرم الحوراني في مذكراته المنشورة سنة 2000 مشاركته في تأسيس نادي أبي الفداء في مدينة حماة سنة 1930 ليساهم مع أندية أخرى في النضال ضد الانتداب الفرنسي الذي بلغ ذروته في احتجاجات سنة 1945 ضد سلطة الانتداب.
مثَّلت الأندية الرياضية حجر الأساس لكرة القدم السورية، الذي اكتمل بنيانه المؤسسي في العقود التالية. في سنة 1936 تأسس الاتحاد السوري لكرة القدم، أحد أقدم اتحادات الكرة في آسيا وفي العالم العربي. وفي السنة التالية، انضم الاتحاد الناشئ للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، قبل أن ينضم للاتحاد الآسيوي سنة 1969. وفي سنة 1961 نظّم الاتحاد مسابقةَ كأس الجمهورية للمرة الأولى بمشاركة ستة عشر نادياً، ثم انطلقت مسابقة الدوري السوري الممتاز لكرة القدم سنة 1966 بمشاركة ثمانية أندية.
تغير الوضع بعد انقلاب حزب البعث وسيطرته على الحكم سنة 1963. يحكي زين الدين، الذي ترأس والده النادي بين سنتي 1958 و 1968، للفِراتْس واقعةً تكشف أسباب هذا التغيير. في نهاية الستينيات حضر محافظ حلب البعثي مباراة لفريق النادي، وشاهد حماس الجماهير في التشجيع. وبعد المباراة، قال لرئيس النادي "ما هذا يا أستاذ؟ يمكن أن تعملوا لنا ثورة في البلد"، في إشارة لما يشكله تجمع المشجعين من قوة جماهيرية قد تستخدم للتأثير السياسي.
ومع تولي حافظ الأسد الحكم سنة 1971 بسط النظام سيطرته المركزية على المجال الرياضي. فأُنْشِئ الاتحاد الرياضي العام في نفس السنة ليدير الرياضة في سوريا، ثم صدر المرسوم التشريعي رقم 38 لسنة 1972 الذي نظم الحركة الرياضية في البلاد، وضم المؤسسات الرياضية تحت جناح حزب البعث.
تمتع الاتحاد الرياضي باستقلالية اسميَّة أمام الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي يحظر تدخّل الحكومات والأحزاب السياسية في عمل الاتحادات الوطنية. لكنه كان في الحقيقة يتبع القيادةَ القُطرية لحزب البعث مباشرةً. إذ كان الحزب يعيّن رئيسَه الذي يرشحه في انتخابات صورية، لا تختلف عن سائر الانتخابات في عهد الأسد، يهيمن عليها الحزب ويضمن فوز مرشحيه فيها.
اختير مرشحو البعث في الانتخابات على أساس الولاء للحزب، لا الخبرة في الإدارة الرياضية. وجاء معظمهم من الجيش والشرطة. فتولى اللواء موفق جمعة مثلاً إدارة الاتحاد الرياضي العام سنة 2010، مع اقتصار خبرته في الإدارة الرياضية قبلها على رئاسته اتحاد ألعاب القوى بين سنتي 1986 و 2005، وهي رياضة غير شعبية. وفي لقاء مع إذاعة "سوريانا إف إم" في يناير 2019 قال جمعة إن شخصيّته العسكرية ساعدته على إدارة الاتحاد الرياضي العام، وعبَّر في لقاء مع إذاعة "شام إف إم" في الشهر نفسه عن عدم حبّه كرة القدم، اللعبة الشعبية الأولى في سوريا.
ومع فرض النظام سيطرته المركزية على المجال الرياضي، أعاد تسمية الأندية لتتوافق مع شعاراته ومشروعه السياسي. فتغير اسم نادي أهلي حلب، الذي تأسس سنة 1949، إلى نادي الاتحاد الرياضي سنة 1972. ونادي دمشق الأهلي، الذي تأسس سنة 1932، إلى نادي المجد. وبالتوازي مع تغيير الأسماء دمج النظام الأنديةَ، في خطوة هدفت "لتسهيل السيطرة المباشرة لكوادر الحزب مع عدد أقل من الأندية" بحسب زين الدين. اندمج نادي الجلاء، الذي تأسس في اللاذقية سنة 1947 مع أندية الحرية واللواء سنة 1971 تحت اسم نادي القادسية. ثم اندمج مرة أخرى مع نادي النهضة الذي تشكل من اندماج أندية اللاذقية والعربي والوثبة سنة 1977 ليشكلوا نادي تشرين، تخليداً للحرب التي خاضتها سوريا ومصر ضد إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1973، والتي ادَّعى نظام الأسد الانتصار فيها.
حوَّل هذا التغيير أسماء الأندية ساحة معركة بين النظام وجماهير الكرة. إذ أصرت الجماهير، وخاصة كبار السن منهم، على تجاهل الاسم الرسمي الذي اختاره النظام للنادي والتمسك بالاسم الأهلي الموروث الذي يشكل جزءاً من هويتهم. يشير زين الدين إلى أن الأسماء الأهلية للأندية أظهرت انتماءها المناطقي، فارتبط أهل المنطقة بها وساهمت في تعزيز شعورهم بالانتماء والفخر المحلي. فالهوية في حلب مثلا تقوم على ثلاثة أسس يجتمع الحلبيون عليها، قلعة حلب والمطرب صباح فخري ونادي أهلي حلب. وفي دير الزور، بحسب حديث الصحفي فراس علاوي للفِراتْس، يجمع الأهالي الفخر بثلاثة، الجسر المعلق وطبق البامية ونادي الفتوة.
لهذا السبب، لم تندثر أسماء الأندية الأهلية. بل استمر تداولها بين الجماهير حتى عاد بعضها اسماً رسمياً للنادي بعد اندلاع الثورة السورية، مثل نادي الاتحاد الذي استمرت الجماهير في تسميته الأهلي حتى قرر مكتبه التنفيذي سنة 2022 إعادة اسمه إلى أهلي حلب، ونادي المجد الذي أُعيد تسميته دمشق الأهلي في أغسطس سنة 2025.
لم يكتفِ نظام الأسد بتغيير أسماء الأندية. بل أمَّم هذه الكيانات الأهلية وحوَّلها مؤسسات تخدم مشروعه السياسي وينتفع منها رجاله، ويدير بها علاقاته الزبائنية بالقيادات المحلية، على نحو أدى لعزوف قطاعات من الجماهير عن متابعة النشاط الرياضي والتفاعل معه.
وبتزايد أزالَ النظام الطابعَ الأهلي لهذه الإدارات، والمتجلي في انتخابها من أعضاء جمعياتها العمومية، فأفرغ الانتخابات من مضمونها، ورشَّح رجاله وفرضهم على الإدارات. يتذكر زين الدين طبيعة الانتخابات التي فتحت باب "تغلغل [البعثيين]، وسيطرتهم على كل الإدارات". كانت الانتخابات "شكلية"، يترشح فيها للمجلس المكوَّن من سبعة مقاعد أربعة أعضاء في حزب البعث، ضمنهم المرشح لرئاسة النادي، ويضمن بهم الحزب الأغلبية في مقاعد الإدارات. ومع هؤلاء المضمون فوزهم بالانتخابات يفوز ثلاثة آخرون من غير الحزبيين، يشترط للسماح لهم بالفوز تقديمهم "فروض الطاعة" للنظام.
رأى نظام الأسد في المجال الرياضي فرصة لتبييض وجهه محلياً ودولياً. في سنة 1980 أعدمت قوات سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد مئات المعتقلين في سجن تدمر. وفي سنة 1982 ارتكبت قوات الجيش السوري مذبحة في مدينة حماة راح ضحيّتها الآلاف. هذه الجرائم، إلى جانب مجازر أخرى في مدينة جسر الشغور وحي المشارقة في مدينة حلب، مع المصير المجهول لعشرات الألوف من المعارضين وضعت النظام في مرمى النقد، فسعى لتبييض سمعته برعاية المسابقات الرياضية.
في العقود التالية نظمت سوريا عدداً من الفعاليات الرياضية سعى النظام فيها للترويج لقيادته وإعادة ترتيب أوضاعه في المنطقة، وترسيخ وضعه داخلياً. فنُظمت دورة ألعاب البحر المتوسط سنة 1987 في مدينة اللاذقية. استغل النظام الحدث لتأكيد شعبية حكم الرئيس حافظ الأسد ورسوخه، إذ هتف جمهور حفل الافتتاح بحياته وكتب المشاركون في الحفل بأجسادهم عبارة "سوريا الأسد تحيي المشاركين من القلب" بعدة لغات، مع إشارة لكونه من دعاة السلام، واختتم الحفل بأغانٍ أنشدت في مديحه. واستغل النظام الدورة في تيسير الصعود السياسي لباسل الأسد، نجل الرئيس ووريثه المحتمل، والذي ألقى كلمة الرياضيين في الدورة عضواً في منتخب سوريا للفروسية.
وحين استضافت سوريا دورة الألعاب العربية السابعة سنة 1992، وظَّفتها لخدمة أهدافها الخارجية. نُظِّمت الدورة عقب حرب الخليج الثانية التي انتهت بقيادة الولايات المتحدة حلفاً عسكرياً لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، ومؤتمر مدريد للسلام الذي أطلق عملية التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني المباشرة. وفي ظل إعادة بناء التحالفات الإقليمية، لم يُدعَ العراق للمشاركة في الدورة خشية انسحاب دول الخليج من البطولة خاصة الكويت والسعودية، التي حرص النظام على استمرار دعمها الحيوي الاقتصادَ السوري.
على أن توظيف النظام المجالَ الرياضي لم يقتصر على تنظيم الفعاليات الكبرى. بل استغل النظام المسابقات الكروية المحلية في توزيع الامتيازات على "المحاسيب" على نحو يخدم مصالحه ويرسخ نفوذه. إذ كان النظام، بحسب علاوي، "يوزع كل شيء حسب المنافع، بما في ذلك المكاسب السياسية والاجتماعية والاقتصادية"، وكانت أندية كرة القدم ومسابقاتها، بسبب شعبيتها الكبيرة وما يترتب عليها من مكاسب مادية واجتماعية، ضمن هذه الامتيازات.
ومع سيطرة محاسيب النظام على إدارة الأندية، ساهمت العوامل السياسية في تحديد الفائزين في مسابقات الكرة المحلية. يمكن رصد ذلك من نتائج فريق نادي الجيش، الذي تأسس سنة 1947. يختلف النادي عن الأندية الأخرى في عدم استناده لقاعدة أهلية من الأعضاء والجماهير، إذ يتبع إدارة الإعداد البدني في القوات المسلحة. وكانت إنجازات النادي في بداياته محدودة، فلم يفز حتى سنة 1973 إلا ببطولة واحدة هي بطولة كأس الجمهورية السورية التي حصدها سنة 1967. وبعد تولي الأسد الحكم، أصبح الفريق منافساً دائماً على بطولة الدوري السوري، ففاز بها ست عشرة مرة، ليصبح أكثر الأندية فوزاً بالبطولة.
استندت نجاحات نادي الجيش إلى امتيازاته المؤسسية أكثر من كفاءة إدارته الرياضية. إذ وفَّر له الضباط المشرفون عليه ميزانية من خزينة القوات المسلحة. واستفاد من ميزة استقدام أفضل اللاعبين من أندية أخرى للَّعب في صفوفه بدلاً من أدائهم الخدمة الإلزامية في الجيش.
على أن نادي الجيش لم يكن المستفيد الوحيد من العلاقة بالسلطة. في ثمانينيات القرن العشرين أصبح فواز الأسد، ابن شقيق رئيس الجمهورية حينئذ حافط الأسد، الرئيس الفخري لنادي تشرين. وتروي شهادات كثيرة أن الأسد اعتاد دخول الملعب برفقة حاشيته المدججة بالسلاح لترهيب اللاعبين والجمهور. يروي الصحفي عبد السلام حاج بكري في مقال منشور سنة 2024 أنه كان شاهداً في مباراة ناديي تشرين وحطين سنة 1986، إذ أشرفت المباراة على نهايتها مع تقدم حطين بهدف، حين رفع الحكم رايته معلناً عن تسلل لاعب تشرين رائد جورية، فصرخ فواز الأسد بالحكم لإنزال رايته ليسجّل لاعب تشرين هدف التعادل بعد أن توقف لاعبو النادي الآخر عن الجري.
أفسد هذا التنظيم مسابقات الكرة المحلية. في سنوات حكم عائلة الأسد تكررت حوادث التلاعب في نتائج المباريات في المسابقات المحلية لتحقيق مكاسب مالية أو سياسية. فحلَّ الاتحاد الرياضي العام مثلاً مجالس إدارات ثمانية أندية في نهاية موسم 2000 - 2001 لثبوت تورّطها في التلاعب بنتائج مباريات الجولة الأخيرة من الدوري. ومع تكرّر الأمر، قررت اللجنة الأولمبية السورية سنة 2009 تحقيقاً شاملاً أسفر عن إدانة كثير من الأندية واللاعبين بالتلاعب. وأدين نائب رئيس لجنة الحكّام في الاتحاد حينها باستخدام علاقاته الشخصية مع الأندية، فكان يغيّر حكّام المباريات بعد تسميتهم وقبيل المباريات بناءً على طلبات الأندية. وكشف التحقيق قبول عدد من الحكام الرشى. أدى كلّ ذلك إلى الإضرار بمصداقية الدوري السوري وجعل الجماهير تشكك في نزاهة المنافسات.
لم يحقق المنتخب السوري انجازات رياضية تتناسب مع عراقة تأسيس اتحاد الكرة الوطني. فعلى مدار نحو تسعين سنة، لم يتأهل المنتخب السوري لنهائيات كأس العالم لكرة القدم. ولم يفز قط بكأس آسيا التي كان إنجازه الأفضل فيها في ست عشرة مشاركة، التأهل لدور الستة عشر سنة 2023. أما أفضل إنجازات المنتخب فكانت وصافة كأس العرب ثلاث مرات في سبع مشاركات، والفوز ببطولة اتحاد غرب آسيا مرة واحدة في ثماني مشاركات.
لم يكن هذا العجز عن تحقيق إنجاز رياضي مصادفة. بل كانت له أسباب موضوعية، منها تراجع الاعتماد على المعايير الرياضية في اختيار الإدارات الرياضية، وكذا في اختيار أعضاء المنتخب. يقول زين الدين إن أعضاء اتحاد الكرة كانوا يتدخلون في اختيار لاعبي المنتخب الوطني، متجاوزين الفنيين المتخصصين. ويؤيده تصريح الهولندي مارك فوته في أغسطس 2024، مدرب منتخب الشباب السابق، بأنه اختار عدم تجديد عقده مع المنتخب بسبب تدخل أعضاء الاتحاد وتحكمهم في الأمور الفنية "بما فيها اختيار اللاعبين".
ومع حرص النظام على تحقيق إنجازات كروية يعزز بها الشعور بالفخر الوطني، لجأ لأساليب غير رياضة. فبحسب تحقيق استقصائي للوحدة السورية للصحافة الاستقصائية "سراج"، تلاعب النظام في أعمار لاعبي منتخب الشباب الذي فاز بكأس أمم آسيا للشباب سنة 1994، بإصدار جوازات سفر مزوّرة خصيصاً لهم. يساعد ذلك الكشف على تفسير تفوق منتخب الشباب السوري، الذي تأهل لنهائيات كأس العالم أربع مرات، مقابل المنتخب الأول.
أثر السلطوية على إدارة كرة القدم لم يقتصر على تزوير أعمار اللاعبين. بل أدى لإفشال برنامج الكرة النسائية. في سنة 2005، تشكَّل أول منتخب نسائي سوري لكرة القدم، في ظل تشجيع الاتحاد الدولي الاتحادات الوطنية على دعم الكرة النسائية. حقق المنتخب المركز الثالث في مشاركته الأولى في كأس اتحاد غرب آسيا في نفس السنة. إلا أن المنتخب سرعان ما تعثر، وعجز عن تحقيق أي إنجاز آخر. وبلغ تراجعه في تصفيات كأس آسيا سنة 2017 أن استقبلت شباكه سبعة وثلاثين هدفاً في ثلاث مباريات فقط.
في حديثها مع الفِراتْس أرجعت ميادة الكبة، المسؤولة في الاتحاد العام لكرة القدم النسائية سابقاً، هذا التراجع لأسباب غير رياضية. إذ أكدت أنها حين بدأت عملها لم تجد صعوبة في العثور على لاعبات متميزات للمشاركة مع المنتخب، سواء من طالبات المعهد الرياضي وخريجاته أو من المدارس. بيد أن المشكلات ظهرت لاحقاً حين بدأ أعضاء الاتحاد التدخل لاختيار لاعبات المنتخب، واختاروا لاعبات غير متمكنات أسقطوهن على المنتخب "بالبراشوت"، أي أنهن انضممن للمنتخب بالواسطة لا بالكفاءة. أما السبب الثاني لتراجع المنتخب فعدم الاهتمام به. إذ لم تشعر الكبة وزملاؤها بوجود اهتمام حقيقي بالمنتخب، الذي تشكَّل إجراءً شكلياً لإرضاء الاتحاد الدولي، دون وجود رغبة حقيقية في توسيع قاعدة ممارسة كرة القدم.
ساهمت هذه العناصر مجتمعة في إضعاف العلاقة بين المنتخب والجمهور، وفي تصوير المنتخبات ممثلة للنظام لا الوطن، فانصرف الجمهور عنها. وتجلى عجز المنتخب عن تعزيز الانتماء الوطني في مناسبات عدة، أهمها المباراة الحاسمة بين منتخبي سوريا والعراق للتأهل إلى كأس العالم سنة 1986. لُعبت المباراة في مدينة الطائف السعودية في ظل توتر العلاقات بين البلدين من جهة، وفي أعقاب المجازر التي ارتكبها نظام الأسد بحق معارضيه من جهة أخرى. وبحسب الصحفي علاوي، حاول النظام استغلال المباراة في الشحن ضد العراق، بيد أن الكثير من أهالي المنطقة الشرقية من سوريا شجّعوا المنتخبَ العراقي تعبيراً عن معارضتهم نظام الأسد الذي رأوا المنتخب ممثلاً له.
ساهمت التطورات اللاحقة في تعميق الرابط بين الكرة السورية والنظام، وإضعاف علاقتها بالمعارضة. ففي مارس سنة 2004، استضاف نادي الجهاد بمدينة القامشلي ذات الأغلبية الكردية فريق الفتوة من مدينة دير الزور في مباراة بالدوري السوري. أثناء المباراة تبادلت الجماهير الهتافات الاستفزازية ورشق الحجارة، ثم تطوَّر الأمر لاشتباكات تدخلت قوات الأمن لفضها باستخدام الذخيرة الحية، على نحو أدى لوقوع إصابات كثيرة في صفوف أنصار نادي الجهاد. سرعان ما اتخد الصدام بعداً سياسياً، وانفجرت الاحتجاجات في المدن والمجتمعات الكردية في سوريا، وتحول فريق الجهاد رمزاً للأكراد، والعنف الذي واجهه به النظام تعبيراً عن التهميش الذي يعانيه الأكراد في ظل حكم الأسد.
مع بداية الثورة طلب النظام من اللاعبين والمسؤولين الكرويين الدعم والتأييد. شارك بعض رموز الكرة في هذه الدعاية السياسية، فكافأهم النظام بالمناصب والمال. كذلك كوفئ بعض مؤيدي النظام ورجاله، أو "الشبيحة" في المصطلح السوري، بمناصب أساسية في الاتحاد والأندية.
أما من امتنع عن التأييد فاضطهد وأُقصي من الساحة الكروية. بل أوذي بعضهم بدنياً مثل جهاد قصاب، قلب دفاع نادي الكرامة والمنتخب الوطني، الذي اعتقل سنة 2014 وأعدم في سجن صيدنايا في سبتمبر سنة 2016 بسبب احتجاجه على النظام. واضطر غيرهم للهروب طلباً للسلامة، مثل فراس العلي، لاعب منتخب سوريا وناديَي الطليعة والشرطة، والذي انشقّ عن معسكر المنتخب واتّجه ليعيش بالمخيمات. أما عبد الباسط الساروت، حارس مرمى نادي الكرامة للشباب ومنتخب شباب سوريا، فتخلى عن مسيرته الرياضية والتحق بصفوف الثورة، ثم انضم للمعارضة المسلحة إلى أن قتِل سنة 2019.
هكذا رُسمت حدودٌ جديدة للمجال الكروي الرسمي قلصت من تأثيره الشعبي. فتلاشى التمييز بين النظام والوطن واقتصر المجال الرسمي على المجاهرين بتأييد النظام، وتحوَّل الآخرون أعداء. وإذا كانت كرة القدم في تعريف الكاتب البريطاني "حرباً بلا رصاص"، يتميز فيها الحليف من العدو دون أن يقتل أحدهما الآخر، فإنها تحولت في الحالة السورية حرباً شاملة. إذ حوَّل نظام الأسد الملاعب والمنشآت الرياضية قواعد عسكرية، استخدمها في حربه على المعارضة.
بدأ استخدام الملاعب عسكرياً بعد أسابيع قليلة من اندلاع المظاهرات. في 18 مارس 2011، هبطت المروحيات العسكرية في ملعب مدينة الباسل الرياضية في درعا، المعروف شعبياً باسم "ملعب البانوراما"، حاملةً القوات التي قتلت أول المتظاهرين في الثورة. وفي الأشهر والسنوات التالية، تحوَّل ملعب العباسيين في دمشق والمدينة الرياضية في اللاذقية مواقع تَجمُّع للقوات المسلحة ومراكز احتجاز للمعتقلين ومهابط للطائرات المروحية. أما ملعب الحمدانية في حلب، فصار مركزاً لمرابض المدفعية التي تقصف أحياء المدينة الشرقية حتى سيطر النظام عليها بدعم روسي سنة 2016.
مع تلاشي الحدود الفاصلة بين النظام والوطن، فقدت كرة القدم السورية جاذبيتها. من جهة ساهمت العسكرة في إضعاف مستوى الأندية. بحسب ميادة الكبة، اعتمدت الأندية منذ تأميم مجال الكرة على تمويل النظام، الذي قلَّ بعد الثورة. ومع ضعف الموارد انخفض مستوى المنافسة. ومن جهة أخرى، عزفت الجماهير عن تشجيع الفرق ومتابعة مباريتها بسبب انحياز الإدارات للنظام في حربه على الناس. مثلاً، يروي الصحفي الرياضي محمد المضْحي، أحد أنصار نادي الفتوة ممثل مدينته دير الزور، حماسه للنادي في سنوات ما قبل الثورة، ثم تركه "تشجيع كرة القدم السورية بالكامل" بعد الثورة، إذ لم يعد فيها من يمثله.
لم يكن المنتخب السوري بمعزل عن هذه التحولات. بل برز ساحةَ معركة بين الهوية الوطنية والسيطرة السياسية. كنت وغيري من السوريين قبل الثورة نشاهد مباريات المنتخب السوري بقلبين: واحد يتمنى خسارته، خاصة عندما يرفع اللاعبون صورة بشار الأسد ويهدونه الفوز إن فازوا، والآخر يتمنى فوزه لأنه يحمل اسم سوريا. ومن ناحية أخرى، كانت لدي رغبة عميقة في انتصارهم لأنهم يحملون اسم سوريا في نهاية المطاف.
ومع اندلاع الثورة، قلَّ الالتفاف حول المنتخب وتشجيعه. مثلاً، يحكي الدكتور زيدون الزعبي، الباحث في الهوية الوطنية والذي أصر على تشجيع المنتخب مع معارضته الأسد، مشاهدته مباراة المنتخب الوطني ضد استراليا في تصفيات كأس العالم 2018. شاهد الزعبي المباراة مع زملائه في العمل، الذين أطلقوا على المنتخب اسم "منتخب البراميل"، في إشارةٍ إلى استخدام النظام البراميل المتفجرة ضدّ الشعب. أما الصحفي أنس عمّو، الذي امتنع عن تشجيع المنتخب، فيروي للفراتس لقاءه المخرج الأمريكي ستيف فينارو من شبكة "إي إس بي إن" في تركيا سنة 2017 للحديث عن المنتخب. أمضى عمّو يومين يحكي للمخرج استخدام نظام الأسد المنتخبَ في تبييض وجهه، ويسرد الانتهاكات التي ارتكبها بحق المدنيين. ظنَّ المخرج أنه يبالغ، لكنه عاد بعد خمسة أشهر من البحث، انتهت بإنتاج فيلم قصير بعنوان "منتخب الدكتاتور" يقول له: "ما رأيته في الواقع كان أقسى مما وصفته لي".
لم يمض وقت طويل على سيطرة المعارضة المسلحة على إدلب شمال غرب سوريا سنة 2015 حتى ظهر فيها مجال كرة قدم مستقل. إذ تأسست فرق تعكس هويات أهل المحافظة والنازحين إليها من سائر المحافظات الواقعة حينئذ تحت سيطرة نظام الأسد، مثل نادي "حمص العدية". وهكذا تشكلت في كل مدينة من المدن "المُحرَّرة" سوريا مصغَْرة، فيها تمثيل للمدن المختلفة تتنافس في كرة القدم. مثَّلت هذه الظاهرة بحسب الزعبي فعلاً مقاوماً لمحاولة تقسيم البلاد، ومؤكداً على وحدة السوريين.
جذب مجال كرة القدم المؤمم التابع للنظام المخلصين له وكافأهم. فبحسب منظمة "مع العدالة" السورية، عمل مدلول عزيز مع جبهة النصرة بين سنتي 2012 و2015. ومع دخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) دير الزور تصالح مع النظام، وأسس فرقة مسلحة عشائرية مؤيدة للأسد. فكافأه النظام في السنوات التالية وولاه رئاسة نادي الفتوة. استخدم عزيز النادي ذا الشعبية الكبيرة لتبييض سمعته، فاستقدم له اللاعبين من المحافظات المختلفة، وفاز معه بلقبي الدوري والكأس في موسم 2023-2024. ومع نجاحاته الرياضية، انتُخب في مجلس الشعب سنة 2020.
وكذلك، تحوّل عمر العموري من معتقل في سجون يشرف عليها التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"، ومتهم بعضوية التنظيم والوساطة بينه وبين النظام في تجارة النفط، إلى رئيس لنادي الكرامة في حمص سنة 2024. واتهمته مواقع محلية مثل "فرات بوست" أنه كان عضواً في التنظيم وعمل وسيطاً في تجارة النفط بين "داعش" ونظام الأسد، وأن له علاقات مباشرة مع حسام قاطرجي، رجل الأعمال القريب من الأسد.
أما الإعلامي شادي حلوة، الذي عمل مراسلاً حربياً يغطي معارك قوات نظام الأسد في مختلف المناطق عقب الثورة السورية، فرأس مجلس إدارة نادي أهلي حلب سنة 2024، قبل أن يفرّ من سوريا في أيام عملية "ردع العدوان" التي أدت لسقوط النظام ديسمبر 2024.
تحوّل شعار المنتخب السوري إلى الأخضر محاكياً العلم السوري الجديد. وفتح سقوط النظام الباب أمام توحيد مجالي كرة القدم الأهلي والرسمي المؤمم. فمع سقوط النظام، اختفت القوة التي استند إليها المجال الرسمي والتي حوَّلته أداة سياسية لتكريس السلطة والدعاية، فعمِّقت التوترات العرقية والسياسية بدلاً من أن تكون مساحات للتواصل والاحتفاء بالجمال الرياضي. أما المجال الأهلي، الذي نشأ جزراً منعزلة في المدن التي حكمتها الفصائل المعارضة لحكم الأسد، فلم يعد مضطراً لهذا الانعزال والتفرق، وصار بإمكانه المساهمة في تعزيز الهوية الوطنية السورية.
تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة دور الرياضة بما يتماشى مع التغيرات التي تطمح إليها البلاد. يتطلب ذلك فصل الرياضة عن التدخلات السياسية وإنشاء نظام رياضي يقوم على الكفاءة والنزاهة، مع التركيز على دعم المواهب المحلية، وتحسين البنية التحتية الرياضية، وإتاحة الفرص للجميع في بيئة تنافسية صحية. إصلاح كرة القدم في سوريا لا يقتصر على تحسين الأداء الرياضي، بل يجب أن يتجاوز ذلك ليصبح أداة لتقريب الناس بمختلف انتماءاتهم، وإعادة الثقة بينهم، وتخفيف آثار الانقسامات التي خلفتها السنوات الماضية. حتى تكون كرة القدم طريقاً لاستعادة الفخر والانتماء إلى وطن يليق بتطلعات السوريين.
