"الضريبة الوردية".. نساء ليبيا بين قيود الحركة والبحث عن بدائل تنقل آمنة

تواجه النساء في طرابلس الليبية قيوداً على حركتهنّ مع ارتفاع كلفة سيارات الأجرة النسائية وعدم شعورهن بالأمان.

Share
"الضريبة الوردية".. نساء ليبيا بين قيود الحركة والبحث عن بدائل تنقل آمنة
الفضاء الاجتماعي قيّد حركة النساء، إلا أنّه أعطى فرصة اقتصادية لنساء أخريات | تصوير أميرة النعال

في ظهيرة قائظة من صيف العاصمة الليبية طرابلس، كنتُ أنتظر سيارة الأجرة التي حجزتها بواسطة تطبيق "توربو"، أحد التطبيقات المحلية للنقل. يوفّر التطبيق خيارات طلب سيارة عادية بعشرةِ دنانير ليبية (1.85 دولاراً أمريكياً) أو أخرى مُرفهة بثلاثة عشر ديناراً أو ثالثة تقودها امرأة بسبعة عشر ديناراً. اخترتُ الخيار الأخير بلا تردّد لأني لا أريد ركوب سيارة أجرة يقودها رجل وأنا أعيش في بلدٍ يُحمِّل أهلُه النساءَ عبء تنقلهن ويرى خروجهن من البيتِ بلا محرم فعلاً مشبوهاً.
بينما كانت السيارة تقترب من موقعي، تأملتُ المفارقة في أن هذا التطبيق الذي يقدّم حلولاً ذكية للنقل، لا يبدو أنه يبيعنا نحنُ النساء سوى وهم الخصوصية، لربما مستغلاً شعورنا بالخوف. ففي مدينة طرابلس حيث تتآكل البنية التحتية وتغيب تحديثات شبكات النقل العام منذ عقود، يبدو أن الأمان أصبح منتجاً يُباع ولا يُمنح. وكما تفعل نساء كثيرات بدأن مشاريعهن من المنزل هرباً من مخاطرة التنقل، أجدني لا أدفع فقط الأجرة مقابل رحلة مريحة، إنّما أشارك في تمويل هندسة اجتماعية غير معلنة.
تجربتي الشخصية اليومية صورة مكررة لتجارب معظم النساء في طرابلس ممن يستخدمنَ وسائل النقل الخاصة مثل سيارات الأجرة أو تطبيقات النقل. وربما تبدو تجربة نساء المدينة أيسر مما تواجهه النساء في بقية أنحاء ليبيا. فكل يوم تدفع الليبيات ضريبةً ماليةً اجتماعيةً في تفاصيل حياتهن، وهو ما يعكس حالة الاضطراب التي يعيشها المجتمع والقيود التي تحاصر المرأة. مع ذلك وجدتْ نساءٌ كثيرات في هذه الأزمة فرصةً للعملِ سائقات للسيدات، إمّا عبر شبكة علاقاتهن الاجتماعية أو باستخدامِ تطبيقات النقل المنتشرة في البلد، ليصبحنَ جزءاً مما يسمى "الضريبة الوردية". ولهذه الضريبة ما لها وما عليها.


تُعَرِّفُ مجموعة "تقاطعات" النسوية في الأردن في كتيّبها "الاقتصاد النسوي، دليل معرفي"، المنشور سنة 2025، الضريبة الوردية بأنها "التفاوت والتكلفة الإضافية لأسعار المنتجات الاستهلاكية الموجهة للنساء مقابل تلك الموجهة للرجال [. . .] والتي تُعرف اصطلاحاً بالضريبة الوردية". وهذه الفروقات تتجاوز الخدمات أو المنتجات النسائية لتشمل المنتجات والخدمات المقدمة للجنسيْن.
الضريبة الوردية ليست ضريبةً رسمية بالمعنى القانوني، لكنها أشبه بتكلفة غير مرئية أو غير معلنة. إذ لا تفرضها جهة تشريعية صراحةً وإنما تظهر في فروقاتِ الأسعار بين المنتجات أو الخدمات الموجّهة للنساء مقارنة بنظيراتها الموجّهة للرجال. ويختلف الموقف تجاه هذه الظاهرة. يعترف بعض الباحثين بوجودها انعكاساً لتفاوتات قائمة على النوع الاجتماعي، كما جاءَ في دراسةٍ عنوانها "ذا بينك تاكس أند جيندر برايس ديسباريتي إن بيرسونال كير" (الضريبة الوردية والتفاوت في كلفة الرعاية الشخصية بين الجنسين) منشورة سنة 2024، لمجموعةِ باحثين. وأظهرتْ الدراسة أنّ هناك فجوة في تسعيرِ موادِ العناية الشخصية مثل الشامبو ومعدات الحلاقة بين الجنسيْن.
في المقابل ينكر آخرون وجود هذه الضريبة، ويرون أن الفروق تعود فقط إلى اختلافات في طبيعة المنتج أو النسخة المخصّصة للنساء، لا لسياسة ممنهجة، منها دراسة أصدرتها عدة باحثات عنوانها "إنفستيغيتنغ ذا بينك تاكس" (التحقيق في الضريبة الوردية) سنة 2024. وجدت الدراسة أن منتجات النساء كانت في معظم الفئات أقل سعراً من نظيراتها الرجالية.
أثبتت دراسات مقابلة أن الخدمة أو السلعة قد تكون مطابقة تقريباً للمنتج الموجّه للرجال، ومع ذلك تباع بسعر أعلى عند توجيهها للنساء، ومنها دراسة بعنوان "فروم كريدل تو كرين" (من المهد إلى اللحد) الصادرة عن إدارة شؤون المستهلكين في مدينة نيويورك سنة 2015. خلصت الدراسة إلى أنّ النساء يدفعن أكثر مقابل منتجات وخدمات مماثلة لما يستخدمه الرجال، وذلك بتحليل أسعار منتجاتٍ مثل ملابس الأطفال للجنسيْن أو الألعاب أو الملابس اليومية من شركات عالمية مثل شركة "غاب" للملابس، أو "تويز آر أس" للألعاب، أو "ليفايز" للجينز. تشير الدراسة إلى أنّ ألعاب الفتيات الصغيرات تزيد 7 بالمئة في السعرِ على ألعابِ الفتيان.
لا يتوقف الأمر على المنتجات الاستهلاكية، فهناك أيضاً ما يسمى "الضريبة الوردية للتنقل" أي التكاليف الإضافية التي تتحملها النساء مقارنة بالرجال لضمان تنقّل آمن. إذ تقول هانا كايس، الزميلة في المنتدى الاقتصادي العالمي، في مقالها "مايند ذا جندر غاب" (انتبه للفجوة بين الجنسين) المنشور سنة 2023، إنّ غياب الأمن وضرورة تجنّب التحرش يدفع النساء في كثير من مدنِ العالم إلى اللجوء لوسائل أكثر كلفة مثل سيارات الأجرة أو تطبيقات النقل الخاصة بدل المواصلات العامة.
وهذا ما أكدته المسؤولة في مبادرة النقل المستدام الألمانية، سينا دجين، في مدونتها على موقع المبادرة بعنوان "ريثنكنغ ببلك ترانسبورتايشن فور ومنز سيفتي أند سيكيورتي" (إعادة التفكير في المواصلات العامة من أجل أمن النساء وسلامتهن)، المنشورة سنة 2021. وتوضح دجين أن النساء يفضلن وسائل النقل المدفوعة على الحافلات وقطار الأنفاق تجنباً للمضايقات، ما يزيد العبء المالي عليهن. تصبح النساء في قطار الأنفاق في مدينة نيويورك مثلاً أكثر عرضة لحوادث السرقة والتحرش، فقد سُجِلت ثلاثمئة وأربعين قضية سرقة في 2015 فقط. وفي مدوّنة في البنك الدولي سنة 2021 عن مدينة كيتو في الإكوادور، كتبها عدة باحثين، تبيّن أن النساء ينفقن ما يقارب 25 بالمئة أكثر من الرجال على التنقل. ليس فقط نقداً بل كذلك في الوقت والجهد نتيجة أنماط السفر المتقطعة المرتبطة بأدوار رعايةِ العائلة والتسوق.
هذه المعطيات تكشف أن الفوارق في تجربة النقل ليست مسألة ثقافية محلية فقط، بل ظاهرة عالمية تعكس اختلالات بنيوية تؤثر على النساء اقتصادياً واجتماعياً.
في ليبيا تتعاظم الضريبة الوردية لتشملَ الأماكن العامة مثل المقاهي والمطاعم والمصائف. فالبلد محكوم بمجموعة من التقاليد المحافظة التي تقيّد حركة المرأة ومشاركتها في الفضاء العام. بينما يزيدُ وضع المواصلات العامة في البلد عموماً من العقبات أمام النساء. فالليبيون يعتمدون غالباً على السيارات الخاصة، وتتصدر البلادُ قائمة الدول الإفريقية الأكثر امتلاكاً للسيارات. ولذلك يندرُ وجود المواصلات العامة خارج حدود مدينة طرابلس، بل في طرابلس نفسها تقريباً اختفت المواصلات العامة أكثر من ثلاثين عاماً قبل عودتها سنة 2019.


يشير الكاتب الليبي محمد النعاس في مقاله "تشريح سيارة الإيفكو قبل أن تموت" المنشور سنة 2021، إلى أن بداية تراجع قطاع المواصلات العامة في ليبيا سُجّلت حين أوقفتْ المملكة الليبية في الستينيات حركة السكة الحديدية الإيطالية التي كانت تعمل بين المدن. فقد فضلتْ السلطات التوسع في تجارة السيارات ودعم المحروقات.
ويرى النعاس أن هذا القرار كان قصير النظر في بلد شاسع والترابط بين مدنه وقراه ضعيف، إذ أدى إلى زيادة العزلة بين سكانه وإضعاف فرص اندماج المجتمع. ويضيف الكاتب أن نظام القذافي لم يمنح المواصلات العامة أولوية واكتفى بإنتاج حافلات "الإيفكو" وتوزيعها عشوائياً، ضمنَ سعيِه إلى نقلِ كافة المسؤوليات إلى الشعب تعبيراً عن "سلطة الشعب" التي قامت في الثاني من مارس سنة 1977. و"الإيفكو" في ليبيا اسم الحافلة الإيطالية من شركة إيفكو التي كانت ترتبط بصفقات توريد مع السلطات الليبية منذ تأسيس شركة الشاحنات والحافلات سنة 1976. هذا الأمر ترك الركاب في مواجهة خيارات محدودة في ظل غياب بنية تحتية منظمة لمحطات التوقف أو خطوط النقل المنتظمة.

بشكلٍ فيه شيء من التواطؤ العاطفي بدأت أستأنس برحلات الإيفكو

حالة المواصلات في ليبيا لا تعكس مجرد أزمة خدمية، إنما تمتد لتكشف عن موقع المرأة في الفضاء العام. فمحدودية النقل العام تعني أن حرية تنقل النساء ليست حقاً مضموناً، بل امتياز تملكه من تتوفر لها سيارة أو دعم عائلي أو اقتصادي. وفيما تعتبر تطبيقات التوصيل الوسيلة الأحدث للتنقل في ليبيا، إلا أن هناك وسائل أخرى أقدم وأكثر بداهة وأقل تكلفة، لكنها محكومة أيضاً بمنطق يشوبه الشك والرقابة. أما عنّي، فتمنحني حافلة الإيفكو راحةً نسبية. فهي مساحة عامة معلنة لها حدودها وأعرافها، على عكس وسائل النقل التي يقودها الرجال، مثل سيارات الأجرة، التي تبقى مصدر قلق في مجتمع يرى التنقل الأنثوي فعلاً يحتاج تبريراً أو مرافقة.
ولي مع الإيفكو تجربةٌ طويلة. فبعد تخرّجي سنة 2018 من كلية اللغات بجامعة طرابلس، ولأني أعيش في طرابلس بلا سيارة ولا أملك أغلب الوقت رفاهية المواصلات الخاصة، وجدت نفسي أتعلّم على مهل فنون ركوب حافلات الإيفكو. تعلمتُ ببطء قراءة المحطات وفهم الإشارات المتبعة لكل محطة، وإتقان اللغة غير المكتوبة التي تحكم المقاعد والعادات في هذا الهيكل. في البداية تعلمت أين أجلس، ومتى أقبل كرسياً يُعرض عليّ ومتى أعتذر بلطف أو أتجاهل العرض. وتعلمتُ متى أرفع صوتي وسط ضجيج الموسيقى لأطلب من السائق التوقّف. وكيف ألاحظ أن إحدى النساء بحاجة إلى من يسندها، فأمدّ يدي لها.
تحولت الحافلة إلى رفيقة يومية تساعدني، ولو بصمت، على مواجهة نوبات القلق والاكتئاب. صار جلوسي قرب النافذة طقساً صباحياً أراقب عبره المدينة وأحاول استعادة علاقتي بالمكان. كنت أبحث عن طريقة للانتماء من جديد ولو عبر الزحام، وساعدتني الإيفكو في اكتشاف مسارات المدينة و فهمها.
في رحلاتي الأولى في الإيفكو كنت أرسل موقعي المباشر لإخوتي وصديقاتي عبر برامج المراسلة، فقط لأطمئن أنني لن أختفي من الوجود. سهّل سكني وسط العاصمة الأمر، فالمحطات واضحة وخطوط النقل متكررة. أما في الأطراف، فالشبكة محدودة والأشياء بالتالي خاضعة للارتجال والتوصية، وتتباين خطوط الحافلات وركابها من شارعٍ لآخر. بل إنّ بعض المسارات لا تزال تقلقني لقربها من معاقل المجموعات المسلحة التي تنتشر في المدينة، أو لمرورها بأحياء ارتبطت في ذاكرة المدينة بالمخدرات والعنف، أو ببساطة بسبب طرقاتها المكسّرة.
وعلى ارتباطي العاطفي بحافلة الإيفكو، إلا أن الخدمة لا تقدم حلاً مستداماً وناجعاً لتنقل النساء في المدينة. وتشبهها في ذلك حافلات النقل العام الجديدة التي توفرّها شركة "السهم" منذ سنة 2019. لا تستقل كل النساء هذه الحافلات لأنّ سائقيها، كما يقول النّعاس في مقالتهِ، ينظر لهم "علاوة على تهورهم في القيادة وعدم احترامهم لقواعد المرور، على أنّهم 'رْديف'، والرديف بتسكين الراء هو خلف القبضاي، وهم غالباً من أبناء الشوارع الذين يظن المجتمع المحيط بأنّهم لم يتلقوا التربية ولا التعليم المناسبين، هم متمردون بطبيعتهم، لا يحترمون أحداً. البعض كانوا يتمادون في إطلاق لفظ مجرمين عليهم".

أصبحت السيارات رفيقات النساء في مواجهة أزمات الحياة

ومع ازديادِ قيودِ التنقل على النساءِ، بحثنَ عن طريقةٍ تمكنهنّ من تجاوز المحرمات الاجتماعية، فكانَ الخيار أن يبدأن الاعتماد على نساءٍ أخرياتٍ لنقلهنّ. وعن هذا تكتب ريما إبراهيم في الفصل الثالث في كتابِ "فايولنس آند سوشال ترانسفورميشن إن ليبيا" (العنف والتحولات الاجتماعية في ليبيا) المنشور سنة 2023، فتقول إنّه خلال سنوات الحرب الأهلية وتردي الأوضاع الاقتصادية منذ 2011 أصبحتْ "السيارات رفيقات النساء في مواجهة أزمات الحياة". وتضيف أن قيادة النساء سياراتهن "يقلل الاعتماد على المواصلات العامة والرفض الاجتماعي – وأحياناً المخاطر – التي تأتي معها". وتقول ريما إنّ هذا دفع نساء عديدات في المدنِ والقرى لتقديم خدماتِ النقل لغيرهنّ، مستغلّاتٍ تسامح المجتمع المتزايد مع قيادةِ المرأة للسيارة، لاسيما أنّ السائقة في العادة قريبةٌ للعائلة أو إحدى الجارات أو من معارفها.
فهمَ أصحاب تطبيقات النقل هذه القضية، وبدأوا يتعاملون مع سائقات مستقلات يسجلنَ على منصاتهم ويستخدمن التطبيق لتوصيل النساء. ومع أنّ هذه التطبيقات بدأت تلقى رواجاً منذ سنة 2019، إلا أنّ تطبيق "توربو" مثلاً لم يفتح المجال للنساءِ إلا سنة 2022. وهناك إعلان لتطبيق يُدعى "رحّال" سنة 2020 يلعب على نغمةِ انعدام الخيارات أمام الفتيات، إذ يصوّر بطريقة كوميدية فتاة يرفض أبوها وأخوها توصيلها فتأتي رسالة التطبيق في النهاية "ريّحي راسك ونزلي رحال".


مع اعتمادي شبه الكلي على حافلات الإيفكو، إلا أنني أجدُ نفسي أحياناً مرغمةً على اختيارِ خدمات التوصيل النسائية المتاحة، لاسيما عندما تكون والدتي الكفيفة بصحبتي. فالمشي معها وإن في المشاوير القصيرة صعبٌ في مدينة مثل طرابلس. إذ أجدُ الأرصفة مغلقة بسببِ سيارات ركِنت فوقها، فأنحشر وأمي في أحد الأزقة، أو أتعثر بحواف الأرصفة، فيما تقبض أمي على ذراعي كأنها ترى من خلالي.
كنت مرةً أرافق والدتي بعد موعد طبي في مشفى لا يمر بقربه أي خط مواصلات عامة. وجدتُ نفسي مضطرة لاستخدام أحد تطبيقات التوصيل الجديدة. بدا السائق ودوداً لكنه لم يتوقف عن الحديث، وكأنه يجري استبياناً غير رسمي لصالح الشركة ويشرح مزايا التطبيق بحماس. حين أخبرته أنني أجد الأسعار مبالغاً فيها خصوصاً للنساء، ابتسم بدهشة وقال: "السيارات التي تقودها نساء أأمن، ولذلك السعر أعلى". ثم أضاف بنبرة تصالحية: "وفي نساء يفضّلن السائقين الرجال … كل وحدة وراحتها". عند وصولنا، طلبتُ أن ينزلنا في مكان يبعد عن بيتنا، فعلى قوتي وقدرتي على الرد على أي تعليق من إخوتي قد يعتبروننا "مخطئات" أو "مريبات"، لم يكن لدي طاقة لخوض نقاش جديد معهم حول البديهيات.
تشاركني لمياء الطالبة والممرضة تجربة مشابهة. إذ تقول لي إنّها حين تركب سيارات الأجرة تطلب من السائق إنزالها في شارعٍ جانبيٍ بعيدٍ عن منزلها. تضيف: "لا أريد للسائق أن يعرف عنواني. غياب الثقة والخوف من المطاردة يدفعني لذلك. حتى لو كان الوقت يقترب من الغروب، فأنا أتجنب النزول مباشرة أمام بيتنا، خاصة أن الحي يعج بالشباب".
وفي حديث لي مع الناشطة النسوية الليبية أسماء خليفة، أشارتْ إلى أن الخوف من النظرة الاجتماعية هو أحد الأسباب غير المرئية التي تُجبر النساء على دفع تكلفة مادية ونفسية مضاعفة للتنقّل. وتشير أسماء إلى أن أزمة التنقّل للنساء في ليبيا ليس سببها ضعف البنية التحتية أو ندرة الخيارات وحسب، بل في غياب الاعتراف المجتمعي باستقلالِ النساء وحقهنّ في امتلاك مساحات عامة والتنقّل فيها بحرية. تردف أسماء: "في شبابي بين 2008 و2009 كنت أستعمل المواصلات العامة، عندما كان الوضع الأمني أفضل نسبياً من اليوم. لكن حتى حينها كان التحرش يلاحقنا، خاصة في مناطق أطراف المدينة، حيث خطوط النقل محدودة وغير آمنة ليلاً وأحياناً حتى نهاراً".

النساء لا يشعرن بالأمان أثناء الانتظار في المحطات خاصة ليلاً

تربط أسماء خليفة بين هشاشة البنية التحتية وانعدام الأمان، وبين القيود المفروضة اجتماعياً على فرص النساء في العمل والتعليم. تقول: "العائلات تحدّ من حركة النساء لأنهن لا يملكن وسيلة تنقّل آمنة، ولأن الدولة لا توفر لهنّ حماية. مع انتشار الخطف والسلاح والمجموعات المسلحة، صارت الشوارع عبئاً حقيقياً". تضيف أن ما يُتاح للنساء من مساحات عامة مجرد حضور هشّ ومشروط مثل المقاهي والمطاعم المصنّفة للعائلات فقط، وهي في رأيها "لا تمنح النساء شعوراً بالملكية أو السيادة على المكان، بل تبقيهن تحت رقابة المجتمع وشروطه".
تتفهم أسماء تزايد الاعتماد على المواصلات النسائية الخاصة على تكلفتها. إذ لا يمكن للنساء أن يثقن بأصحاب سيارات الأجرة من الرجال، وهكذا يخترن الأمان ودفع مبالغَ أعلى للخدمة نفسها. تقول: "في النهاية، الأمان لا يُقدّر بثمن". لكنها تشير إلى أن هذا الخيار ليس متاحاً للجميع، وتحديداً النساء النازحات أو القادمات من مناطق نائية واللاتي يدفعن الثمن الأكبر، إذ يفرض عليهن غياب المواصلات خياراتٍ قاسية كترك الدراسة أو الزواج المبكر.
وعلى اختلاف السياقات الثقافية بين الدول، إلا أن تجارب النساء عالمياً في عدم الأمان في فضاء النقل العام تبدو متشابهة، وإن اختلفت تفاصيل تجاربهن ودرجة الخوف. فقد كتبتْ سوبيه تشوذوري، الباحثة في جامعة أوكلاند النيوزيلندية، سنة 2020 دراسة بعنوان "إكزاميننغ وومنز برسبشن أوف سيفتي دورنغ وايتنغ تايمز" (الكشف عن نظرة النساء للأمان أثناء الانتظار). شملت الدراسة 448 امرأة من أوكلاند يستخدمن المواصلات العامة، وتوصلت إلى أن أكثر من نصف تلك النساء لا يشعرن بالأمان أثناء الانتظار في المحطات خاصة ليلاً، فيعتمدن على هواتفهن لتقليل القلق وليبقين متيقظات ويَتَصنَّعن الثقة بأنفسهن أثناء الانتظار.
ويشير تقرير صحيفة واشنطن بوست بعنوان "أوبر إز تستنغ أ وومن أونلي درايفرز" (أوبر تجرّب خدمة سائقات نساء) منشور سنة 2025، إلى أن ميزة اختيار المرأة السائقة في أوبر استجابةً مباشرةً إلى طلبات النساء في الولايات المتحدة الراغبات في اختيار سائقات إناث. حتى في أماكن مثل أوروبا وأمريكا الجنوبية ظهرت هذه المطالب، بغضِ النظرِ عن التباين الكبير في التوترات الثقافية المرتبطة بالاختلاط أو العنف الجنسي.
تبدو الحالة في المدن الكبرى مثل طرابلس أفضل بكثير مقارنة بالمدن الصغيرة والداخلية والبعيدة عن المركز مثل مدينة زوارة، الواقعة على بعد مئة وعشرين كيلومتراً غرب طرابلس. إذ يعاني قطاع المواصلات في المدينة فراغاً له أثرٌ كبيرٌ خاصة على النساء. توضح إحدى ساكنات زوارة، عزيزة المنصوري المتخصصة في برامج الحماية بالشراكة مع إحدى المنظمات الدولية، في لقائي معها أن غياب المواصلات العامة في المدينة يجعل التنقل داخلها مقتصراً على امتلاك سيارة خاصة. فالخيارات البديلة تكاد تكون معدومة، إذ لا يقبل المجتمع استخدام الدراجات أو الدراجات النارية. ولا يُعدُ المشي خياراً عملياً ومريحاً، فالأرصفة شبه غائبة خارج طرابلس.
تضيف عزيزة أن النقص في وسائل النقل ترافقه مشكلات أخرى مرتبطة بالشعور بالأمان. فهي ترى أنّ بعض الأحياء مثل المدينة القديمة بزوارة، والتي يقطنها مهاجرون غير نظاميين، غير آمنة ومشبوهة. خاصة مع عوامل إضافية مثل انقطاع الكهرباء المتكرر والفقر، ما يزيد من احتمالية السلوكيات العنيفة سواء من السكان المحليين أو المهاجرين. وتقول عزيزة إن أكثر المواقف استفزازاً للنساء داخل زوارة هي حين يلاحقهنّ رجالٌ بسيارات بنوافذ معتِمةَ لا يُعرف من بداخلها، لاسيما في فترة القيلولة أو في ساعات المساء المتأخرة.
تبقى تكلفة المواصلات في زوارة مرتفعة عند الاستعانة بالسائقات المستقلات. ومع صغر حجم زوارة وغياب الازدحام المروري، إلا أن أسعار الخدمة لا تبدو متناسبة مع ما تقدمه. تؤكد عزيزة على أن الحل يكمن في توفير وسائل نقل عامة وشاملة داخل المدينة "لما ستمنحه من حرية وسرعة وأمان في التنقل".
ترى أسماء خليفة أن النساء يُحمّلن مسؤولية الانتهاكات الاجتماعية التي يتعرضن لها، بدلاً من محاسبة المعتدين أو الاعتراف بالمشكلة. تقول: "المرأة دائماً هي التي تدفع الضريبة، لأنها اختارت أن تكون في الشارع أو تدرس أو تعمل. بدلاً من أن يقرّ المجتمع بالتحرش فعلاً مرفوضاً، يُحمّل المرأة وحدها المسؤولية وكأنها اختارت كسر القواعد". وتضيف أسماء أنّ فرص عمل كثيرة في ليبيا خاصة بالنساء، تُبنى على امتلاك وسيلة نقل خاصة، لذا "صار من الطبيعي أن يُطلب من الموظفة أن تمتلك سيارة، لا لضمان كفاءتها، بل لضمان أنها قادرة على الحضور بأمان. وهذا يقصي النساء الفقيرات أو المهمّشات من السوق تماماً".
حين تواصلت مع شركة "توربو" للاستفسار عن سبب ارتفاع أسعار الرحلات التي تقودها نساء، كان الرد أنها "وسيلة لدعم تمكينهن المهني". غير أن هذا الفرق في التكلفة يتحول إلى عبء إضافي تتحمله الراكبات لا الشركات. فالنساء من ذوات الدخل المحدود يُقصين من الخيارات الآمنة. وفي غياب تطبيق القوانين تحدد السوق من يستحق الحماية وفق شروط تبدو غير عادلة تعيد إنتاج الفجوة بين الجنسين بدلاً من ردمها.
لم تبدأ فكرة فرق السعر هذه مع ظهور التطبيقات، بل سبقتها النساء أنفسهن عندما دخلن هذا المجال. رفعت السائقات الأسعارَ لأسباب متباينة، أولاً لتكون نوعاً من الضمان الرمزي في حال تعطل السيارة أو التعرض لأي خطر، وأيضاً لإقناع عائلاتهن بأن هذه المهنة محترمة ليتجاوزنَ النظرة الدونية لسائقي الأجرة. إلا أن دخول التطبيقات على الخط كرّسها، فظلت الأسعار أعلى من دون أن تُقدَّم بالمقابل ضماناتٍ أقوى أو حلولاً أكثر عدالة.


مع أنّ الفضاء الاجتماعي قيّد حركة النساء، إلا أنّه أعطى فرصة اقتصادية لنساء أخريات. التقيتُ حنان عمر (اسم مستعار) لتحدّثني عن رحلتها في مجال النقل الخاص داخل مدينة طرابلس. قالت لي حنان إنّها وجدت نفسها مضطرة لاختيار القيادة بالنساء "بعد محاولات عديدة للتوظيف في مجالات مختلفة دون جدوى". وتضيف حنان: "كنت مدفوعة أيضاً بإدراكي لمعاناة النساء في طرابلس مع وسائل النقل. ولأنني أحب السيارات ولا أشعر بالخوف من الطرق، عرضت الفكرة على عائلتي فقبلوها ودعموني، خاصة أنني رغبت في التعرف على شوارع العاصمة بعيداً عن الحي الذي أقطنه".
مع الوقت أحبتْ حنان المهنة لأنها منحتها علاقات اجتماعية قيّمة. إذ وجدتْ متعة كبيرة في التعرف على النساء والتواصل معهن. تقول لي: "كثير من الصداقات نشأت خلال الرحلات، منها من رافقتهن منذ أول دخولهن الجامعة وحتى تخرجهن، ومنها من شاركنني تفاصيل حياتهن الخاصة". لكنها لا تنكر أنّ عملها مليءٌ بالتحديات، فأحياناً تجد نفسها في مواجهة مواقف إنسانية صعبة، مثل "الراكبة التي بكت وهي تروي لي عن تعرضها للعنف الأسري، ولم أعرف حينها كيف أساعدها مما أشعرني بالعجز الكبير".
تؤكد حنان على أنّ عملها سائقة يوفر للنساءِ الشعورَ بالأمان الذي يبحثنَ عنه أثناءَ تنقلهن. وتقول إنّها بنت ثقة مع عميلاتها، وهي ثقة امتدت حتى لعائلاتهن. حتى إن بعض الطالبات ينسقن جداول محاضراتهن وفق أوقات حنان، وأصبح غيابها عن العمل يربك حياتهن.
في المقابل لا يخلو عمل حنان من المخاطر. أخبرتني أنّها تعرّضت للمضايقات والمعاكسات، وتشعر بمسؤولية مضاعفة حين تكون مسؤولة عن مجموعة من الفتيات في السيارة، فهن عندها "أمانة". تردف: "أصعب اللحظات حين تتعطل السيارة ليلاً أو يقترب المساء والراكبات معي. لذلك التزمت بالعمل في المناطق المعروفة لي فقط، وتجنبت التوصيل إلى أماكن بعيدة مثل خلة الفرجان وصلاح الدين [ضواحي طرابلس الجنوبية] حفاظاً على الأمان".
لا تستخدم حنان تطبيقات التوصيل لأنها تفرض قيوداً عليها وتحدُّ من استقلاليتها. وعلى عكسِها، وجدتْ سُكينة نفسها تعمل سائقةً معتمدة على تطبيق توربو. عبرت لي عن مخاوفها بشأن الأمان أثناء استخدام التطبيق، مشيرة إلى أن ارتباطها المهني به يقتصر على صورة جواز سفرها ورخصتها، دون وجود عقد رسمي مع الشركة .
تقول سكينة: "أفكر دائماً ماذا لو حصل لي حادث أو تعرض لي أحد ما، لا توجد طريقة لتعويضي أو حتى إنقاذي عند الضرورة لو تعرضت لمأزق أمني، خاصة أن الشركة لا تملك أي وجود فعلي على الأرض". مع ذلك ترى سكينة في التطبيق فائدة كبيرة فهو يوفر لها عملاءَ جدداً يتواصلون معها مباشرةً دون العودة إلى التطبيق. وبهذا تستخدم التطبيق فقط في أوقات فراغها أو عند الحاجة.
لا يقتصر ما تعانيه السائقات المستقلات على المشكلات والعقبات الاجتماعية، بل قد تصل إلى مخاطر أمنية حقيقية. التقيتُ فاطمةَ، إحدى السائقات المستقلات في طرابلس، وقالت لي إنّها لا تجد عملها سهلاً، فأحياناً تجد نفسها في مواقف خطيرة. وأضافتْ ضاربةً مثلاً: "عندما طلبت مني إحدى الفتيات توصيلها من منزلها إلى بيت آخر بدا مشبوهاً حين وصلنا. شعرتُ حينها بالمسؤولية تجاهها لصغر سنها، والخوف على نفسي لأنني لا أعرف ما الذي يمكن أن أتعرض له".
واجهت فاطمة مواقف مشابهة من قبل، منها اعتراض الجيران عليها عندما أوصلت سيدة إلى منزل تبين لها لاحقاً أنه يخص أحد المهاجرين غير النظاميين. لكنها تجدُ في انضمامها لشبكة سائقين من نساء ورجال على مجموعات في واتساب مكاناً آمناً لمشاركةِ خبرتها والتبليغ عن المشاكل التي تواجهها. تقف المجموعة إلى جانب السائقين والسائقات عندما يواجهون موقفاً غير عادل. تعلق فاطمة أنّها جربتْ مثلاً ركوب سيارة أجرة يقودها رجل وقد سرق منها حقيبتها التي تحمل فيها أموالها، لكنها استخدمتْ التطبيق وتمكّن السائقون من مساعدتها والوصول إلى السارق في ساعات. وتضيف: "بل إن بعض رجال الأمن يتعاونون معنا بشكل متخفي داخل هذه المجموعات".
لا تقتصر إجراءات فاطمة على طلب المساعدة فقط من زملاء المهنة عبر مجموعات واتساب، بل تتخذ خطوات وقائية أخرى. تعلق: "أي سيدة أجد أن وضعها مشبوه، أنقل كل بياناتها، من رقم الهاتف إلى مكان سكنها والوجهة التي قصدتها، إلى مجموعة تضم رجال الأمن. وأبلغ التطبيق الذي أتعامل معه بأي اشتباه وأضيف هذه الملاحظات إلى حسابها الخاص".
هذه الممارسات تمنح فاطمة شعوراً بالأمان، لكنها تثير في الوقت نفسه أسئلة عن الحق في الخصوصية. خاصة أن المعلومات الشخصية للنساء تتداول في فضاءات رقمية مفتوحة، ما قد يعرضهن لأخطار من نوع آخر. وبين الحاجة للحماية والخوف من التعدي على الخصوصية، تجد سائقات كثيرات أنفسهن أمام معادلة صعبة لا تملك القوانين المحلية حلولاً واضحة لها.


أدرجت الأمم المتحدة سنة 2015 ضمن أهداف التنمية المستدامة هدفاً خاصاً بالمدن، هو الهدف الحادي عشر الذي يدعو إلى ضمان "مدن شاملة آمنة قادرة على الصمود ومستدامة" مع الاعتراف بالنساء إحدى الفئات الأكثر عرضةً للتمييز في الفضاء العام. وبعد عام جاءت "الخطة الحضرية الجديدة" للأمم المتحدة لتشدد على ضرورة إنهاء العنف والتحرش ضد النساء في الأماكن العامة والخاصة، واعتماد تخطيط حضري يراعي النوع الاجتماعي.
لكن في طرابلس، حيث يتآكل حضور الدولة وتترك المواصلات لإدارة فردية أو لشركات خاصة، تبدو هذه الالتزامات الأممية بعيدة عن الواقع. هنا لا يمثّل النقل العام مجرد خدمة ناقصة، بل يكشف عن خلل أعمق. مدينةٌ تُجبر نساءها على دفع ثمن إضافي غير مرئي للخوف، وهو ثمن يتحول يومياً إلى ضريبة وردية تكرّس التمييز الاقتصادي والاجتماعي ضدهن.

اشترك في نشرتنا البريدية