كيف نصبر على الجوع.. تجارب الحصار من جنوب دمشق إلى غزة

كتبتُ هذا المقال إلى الذين شبِعوا من الجوع وارتمَوا في أحضان الأرض بحثاً عن رشفة ماءٍ، وإلى تلك الأرواح الهائمة في شوارع حيّ التضامن ومخيم اليرموك وبيت حانون وجباليا. نجونا إلى حينٍ وبقينا أحياء.

Share
كيف نصبر على الجوع.. تجارب الحصار من جنوب دمشق إلى غزة
توفّي 219 فلسطينياً، بينهم 37 طفلاً، في مخيم اليرموك وحده نتيجة الحصار والتجويع | خدمة غيتي للصور

في العقود الخمسة الأخيرة كابدت شعوبٌ عربيةٌ عدّةٌ الحصار والتجويع. فقد عانى العراقيون قرابة ثلاث عشرة سنةً من الحصار الدولي الذي فرضه قرار مجلس الأمن 661 سنة 1990. وُوظّف الحصارُ سلاحاً للتجويع، رافقه تسييسُ العقوبات وتمديدُها حتى الاحتلال الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين في 2003. خلّف الحصار مقتلةً بشريةً وكوارث اقتصاديةً واجتماعية. وحسب بعثة العراق الدائمة في مجلس الأمن، فإن نحو مليون ونصف مليون عراقي توفّوا بسبب الحصار والأمراض الناجمة عنه. كذلك ما أحدثه قرار مجلس الأمن 748 سنة 1992 عقب أزمة طائرة لوكربي من كوارث إنسانيةٍ واقتصاديةٍ على الشعب الليبي وقطاعات الدولة استمرت أحد عشر عاماً. أمّا قطاع غزة، فقد واجه حصاراتٍ متعددةً ومتشابكةً منذ "انسحاب" القوات الإسرائيلية منه سنة 2005. وكان أقساها ما شهده في الحرب الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر 2023، حين استعملت إسرائيلُ الحصار والتجويع سلاحاً مع المدفعية والطيران في تقويض المدن وتجمعاتها البشرية.

كان حصار العراق وليبيا بقرارٍ دوليٍ، وكان حصار غزة من كيانٍ استيطاني. أما في سوريا، فكان الحصار مفروضاً من الدولة نفسها على شعبها. ففي أربع عشرة سنةً من الثورة السورية اتّخذ نظام بشار الأسد الحصارَ والتجويع سلاحاً في حربه على الثورة السورية وحواضنها الاجتماعية. أطلق أنصارُ الأسد على الحصار شعارَ "الجوع أو الركوع". وامتدّ الحصار على عموم الجغرافيا السورية بدرجاتٍ متفاوتة. طوّر المحاصَرون أساليب مقاومةٍ ونجاةٍ من الحصار والتجويع. وكانت أقسى درجاته في جنوب دمشق، حيث عشتُ حصارَها ونجوتُ منه. واليومَ أعود إليه لمقارنته أدواتٍ وأسلوباً وظروفاً مع حصار غزة، وأستعرض دليلاً للمحاصَرين من أجل النجاة من الجوع والبرد والمرض واليأس.


سُمّيَت مناطق "جنوب دمشق" بهذا المصطلح في سنوات الثورة السورية بسبب تمايز المناطق حسب السيطرة وخطوط القتال. فهي عشرون منطقةً جنوب طريق المتحلّق الجنوبي للعاصمة دمشق وبين طريق مطار دمشق الدولي شرقاً وطريق دمشق عمّان الدولي غرباً. يُقدّر عدد سكانها قبل الثورة بنحو 500 ألف نسمة. وتتوزع تبعيّتها إدارياً على محافظتَيْ دمشق وريف دمشق.

وقعت ستّ عشرة منطقةً تحت أعمالٍ عسكريةٍ وحصارٍ في الثورة السورية، وهي: أحياء مخيم اليرموك والحجر الأسود والقدم (منطقة المادنية فقط، شرق طريق درعا دمشق السريع) والعسالي والتضامن (الجزء الجنوبي) والسيدة زينب ويَلْدا وبَبّيلا وبيت سحم وعقربا وحجيرة والبويضة والسبَيْنة (تتضمن السبَيْنة الصغرى ومخيم اللاجئين الفلسطينيين) والبحدلية والذيابية والحسينية (معها مخيم اللاجئين الفلسطينيين).

في الثلث الأخير من سنة 2012 انتشر الثوار في محيط دمشق، وحاولوا وصلَ مناطق سيطرتهم من الغوطة الشرقية إلى الغربية مروراً بجنوب دمشق لصنع طوقٍ حول العاصمة. كان طريقُ مطار دمشق الدولي عقدةَ الوصل والمعارك، وقَطَعَه الثوارُ ناريّاً مدّةَ أسابيع. ولكن قوات النظام سيطرت على بلدة عقربا مطلع سنة 2013، فقطعت طرق الإمداد العسكري للثوار بين الغوطة الشرقية وجنوب دمشق، وأبعدت الثوار عن مطار دمشق الدولي، وسيطرت على الطريق والمساحات الفارغة حتى بلدة الكسوة، فرسمت خطوط الجبهات العسكرية بين جنوب دمشق والغوطة.

تزامنت معركة عقربا مع سيطرة الثوار على مخيم اليرموك في 17 ديسمبر 2012، ورسمت خطوط المواجهة بين العاصمة وجنوبها. ثم سيطروا على البلدات المحاذية لطريق دمشق درعا القديم من الخط الغربي، فأصبحت منطقة جنوب دمشق مطوقةً بالجبهات العسكرية.

فرضت المعارك العسكرية اتفاقياتٍ آنيّةً نصّت على إنشاء نقاط عبورٍ وحواجز بين مناطق السيطرة العسكرية المختلفة، كان أهمّها على مداخل مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين وبلدات السبينة والحسينية والبويضة. سُمح للسكان المدنيين في مناطق سيطرة الثوار العبورُ من تلك المعابر في أوقاتٍ محدّدةٍ في النهار، في حين منع النظامُ إدخالَ الموادّ الطبّية ومستلزمات المشافي، وحدّد كمّيات الموادّ الغذائية المسموح إدخالها. استمرّ عمل الحواجز حتى منتصف سنة 2013، وتخلّلتها حالات اعتقالٍ وإخفاءٍ قسريٍّ كثيرة. أغلقت قوّاتُ النظام المعابرَ بالتدريج، بدءاً من البويضة ثم السبينة ثم الحسينية وانتهاءً بمعبر مخيم اليرموك بتاريخ 18 يوليو 2013.

بعد إغلاق المعابر، انتقلت المنطقة من الحصار الجزئي إلى الحصار التام. وهكذا انتهى تأسيس قواعد "الجوع أو الركوع"، ودخلت مناطق جنوب دمشق مرحلةَ المجاعة الحقيقية بعد أشهرٍ فقط من إغلاق المعبر الأخير. مع إطباق الحصار، تزامن هجومٌ عسكريٌّ واسعٌ من قوات النظام وحزب الله اللبناني وفصائل فلسطينيةٍ مواليةٍ للنظام وميليشياتٍ محليةٍ وأجنبيةٍ مدعومةٍ من إيران. كان هدفُ الحملة تأمينَ محيط مقام السيدة زينب قرب العاصمة دمشق أولاً، والسيطرة على المساحات الزراعية التي قد تساعد سكان مناطق جنوب دمشق على مقاومة التجويع ثانياً. سيطر النظام وحلفاؤه على ستّ بلداتٍ وأحياءٍ في الربع الأخير من سنة 2013، وهي البحدلية والذيابية والحسينية ومخيّمها، وكذلك البويضة والسبينة وحجيرة.

تكمن أهمية هذه المناطق بوقوعها في محيط العاصمة دمشق، ولأنها مناطق زراعيةٌ واسعةٌ ومحاذيةٌ الطريقَ الدوليَّ بين دمشق والجنوب. فَقَدَ الثوّارُ مساحاتٍ من سيطرتهم وأراضيَ زراعيةً وانحسر وجودهم بين 150 ألف مدنيٍّ في أحياء القدم (المادنية) والعسالي والحجر الأسود ومخيم اليرموك والتضامن ويلدا وببيلا وبيت سحم.

منعت قوات النظام فتح المعابر الإنسانية وإدخال المساعدات الغذائية والطبية إلى المناطق المحاصرة ما بين يوليو 2013 وفبراير 2014. تخلّل ذلك مساعداتٌ إنسانيةٌ محدودةٌ للاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك. ووثّقت لجانٌ حقوقيةٌ وفاة العشرات نتيجة نقص الأدوية والغذاء والبرد. وتوفّي، حسب مجموعة العمل من أجل فلسطينيّي سوريا، مئتان وتسعة عشر فلسطينياً، بينهم سبعةٌ وثلاثون طفلاً من اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك وحده نتيجة الحصار، عدا الضحايا السوريين.

ووثّقتُ أثناء وجودي في المنطقة، ثم عملي في توثيق الانتهاكات، عشرات حالات القنص التي استهدفت مدنيّين حاولوا الوصول إلى البساتين الزراعية الممتدة على خطوط الجبهات العسكرية لأجل قطف محصولٍ ورقيٍّ شتويٍّ مثل السبانخ والفجل والخبيزة والبقدونس، أو للخروج من الحصار من ثغراتٍ على خطوط المواجهة.

كثيرٌ من محاولات الخروج الجماعي للسكان انتهت بمجازر. كان أبرزُها مجزرة بيت سحم في دمشق، التي قُتل فيها نحو خمسةٍ وأربعين شخصاً في 8 ديسمبر 2013، ومجزرة علي الوحش في 5 يناير 2014، التي فُقد فيها نحو ألفٍ وأربعمئة مدنيٍّ في غضون ساعاتٍ بعد إعلان النظام السماح بمرور المدنيين من مخيم اليرموك. نفّذت قواتُ النظام المجزرةَ وميليشياتٌ عراقيةٌ ولبنانية. وقد قال للفِراتْس المحامي محمد شوربة إن السجلّ المدني وثّق ستمئةٍ وخمسين اسماً من المفقودين على أنهم وفياتٌ، وبقي الآخَرون مجهولي المصير.

استمرّت المعارك وجولات المفاوضات التي انتهت بتوقيع الفصائل ووجهاء البلدات الثلاث، يلدا وببيلا وبيت سحم، اتفاقيات هدنةٍ تحت مظلة "لجنة المصالحة الوطنية" في فبراير 2014. وبذلك خَفّ الحصار التامّ عن البلدات الثلاث لتعود إلى حصارٍ متقلّبٍ بين الجزئيّ والتامّ حسب سير المفاوضات طيلة أربع سنواتٍ لاحقة. وحصلت اتفاقيةٌ مشابهةٌ في حيَّي القدم والعسالي بداية 2015. ولكن بقيت أحياء الحجر الأسود ومخيم اليرموك والتضامن خارج الاتفاقيات، وتحت الحصار والجوع الأقسى، ما خلق مظلوميةً وشروخاً اجتماعيةً بين سكان مناطق جنوب دمشق.

سياسة الحصار والتجويع
ركعت هذه المناطق أمام التجويع وفرض نظام الأسد وحلفاؤه شروطهم

نجحت سياسة التجويع بعد إغلاق المعابر الإنسانية وإحكام الرقابة على خطوط التماس. تلا ذلك دفعُ السكان بالقوة العسكرية والقصف إلى المناطق العمرانية وحرمانهم من المنطقة الزراعية، ثم فرضُ الحصار في فصل الشتاء حين تنبت المحاصيل الورقية. ركعت المنطقة أمام التجويع، وهكذا فرض النظام وحلفاؤه شروطهم العسكرية والسياسية، وحَيّدوا الفصائل ودورها العسكري في تهديد العاصمة دمشق حتى تهجير الثوّار منها في مايو 2018.


في الحرب الإسرائيلية على غزة، كان مسارُ الحصار والتجويع مشابهاً. فقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 9 أكتوبر 2023 قراراً عسكرياً بقطع إمدادات الغذاء والماء والكهرباء ووقف حركة المعابر مع قطاع غزة. وقبل هذا التاريخ كانت المعابر العاملة هي معبر إيرز (بيت حانون) المخصص لحركة الأفراد شمال القطاع، ومعبر كرم أبو سالم (كيريم شالوم) في جنوبه للأغراض التجارية. واعتمد قطاع غزة قبل السابع من أكتوبر 2023 على الواردات الإسرائيلية بنسبة 75 بالمئة، والباقي من الواردات المصرية. عقب قرار غالانت، الذي صاحَبَه قصفٌ منهجيٌ واسع النطاق، عُزل قطاع غزة عن العالم الخارجي وبات سكّانه يعتمدون على مخزونهم من السلع والمواد الغذائية وما يُنتج داخل القطاع على محدوديته. ساعد الضغط الدولي بإدخال المنظمات الدولية مساعداتٍ متقطعةً ومحدودةً مقارنةً بحجم الحاجة الكبير، والتي تُقدّر ما بين خمسمئة وستمئة شاحنة بضائع يومياً قبل الحرب، وبالتحكم الإسرائيلي الكامل. وقد أطلق الصحفي الأمريكي توماس فريدمان على سياسة الحصار والتجويع والتدمير الإسرائيلية بداية الحرب وصفَ "قواعد حماة"، نسبةً إلى سياسة حافظ الأسد في حصار سكان مدينة حماة السورية وتدميرها عقب تمرد الإخوان المسلمين سنة 1982.

في حديثي معه، قال لي المهندس الزراعي محمود العلوي المقيم في القطاع إن الحصار تسلسل بدءاً مع الاجتياح البرّي نهاية أكتوبر 2023، وقطع الطريق في محور نتساريم الذي فَصل محافظة غزة والشمال عن محافظات الوسط والجنوب، ثم التوسع البرّي في مراحل لاحقةٍ داخل شمال القطاع وتفريغه من السكان تحت ضغط القتل والحصار. تزامن الاجتياح مع وقف دخول المساعدات اللازمة من طعامٍ ووقودٍ للسكان أو المستشفيات أو محطات معالجة المياه، ما فاقم سوءَ الأوضاع الصحية وانتشار الأوبئة والأمراض، ثم انقطاع الغذاء ودخول هذه المناطق في مرحلة المجاعة.

ومع قطع إسرائيل المياه والكهرباء واستهداف الآبار ومصادر الكهرباء الذاتية، كألواح الطاقة الشمسية، وتجفيف الأراضي الزراعية أو تجريفها أو اقتطاعها، حُرم السكان من مصادر الاكتفاء والأمان الغذائي البديل. ومع الدخول البرّي ألجأتهم إلى أماكن الإخلاء أو "قائمة بلوكات"، وأُبقي 80 بالمئة من السكان في "المنطقة الإنسانية" التي تمتد من مخيمات النصيرات وبلدة الزوايدة ومدن دير البلح وخان يونس في شريطٍ ضيّقٍ لا يتجاوز ثلاثة كيلومتراتٍ وبطول أحد عشر كيلومتراً. حُرموا من أيّ مساحةٍ صالحةٍ للزراعة، بحسب ما قال لي الباحث الاقتصادي المقيم في غزة خالد أبو عامر.

ويُذكر أن نسبة الأراضي الزراعية قبل الحرب شكّلت نحو 30 بالمئة من مساحة القطاع، جرّفت إسرائيل معظمها واقتطعته. قال العلوي إن الأراضي الزراعية في غزة كانت تنتج محاصيل حدَّ الاكتفاء الذاتي كالزيتون، وتزيد على 60 بالمئة لبعض أنواع الخضار والفواكه.


شكّل سلاحُ التجويع في سوريا مجتمعاً تأقلم نوعاً ما مع حالة الحصار جنوب دمشق بأدواتٍ بسيطةٍ وإمكانياتٍ محدودة. استطاع سكان المنطقة الصمود أطول ما بوسعهم أمام الحصار والجوع بابتكار حلولٍ وبدائل ساعدت في تغطية الاحتياجات الأساسية –بالحدّ الأدنى– كالغذاء والمستلزمات الطبّية والتدفئة والمحروقات والزراعة.

وفي ذلك الاتجاه، في الربع الأول من سنة 2014، أسّس ناشطون (وأنا منهم) في جنوب دمشق "تجمّع ربيع ثورة". عمل التجمع على مواجهة تيار المصالحات وعلى توثيق الانتهاكات، فضلاً عن نشاطاتٍ مدنيةٍ وفنّية. عُنْوِنَ أحدُ البرامج المصوّرة التي أعدّها التجمع "حاصِر حصارَك" للبحث عن سبل مقاومة سلاح التجويع التي ابتكرها سكان جنوب دمشق. ومع حصار غزة الأخير منذ السابع من أكتوبر 2023، شكّلت تجربتُنا منطلقاً دفعني إلى التواصل مع محاصرين في غزة لإرشادهم إلى ابتكارات محاربة الجوع التي مرّ بها جنوب دمشق، ولتعلّم طرقٍ جديدةٍ في حوار الجوع بين محاصَرٍ ومحاصَرٍ، بدءاً من بدائل التدفئة والوقود وليس انتهاءً بسبل توفير البدائل الطبّية والغذاء.


يعتمد السوريون مادة المازوت (الديزل) في التدفئة. وقد دفعهم شحّ المازوت إبّان الحصار إلى تفقّد مخازن المؤسسات العامّة، ثم المنشآت المدنية والمعامل، ثم المنازل والمحالّ التجارية. لم يدم البحث طويلاً، فالحاجة أكثر ممّا وُجد. لذا انتقل المحاصَرون إلى مدافئ الحطب، وبدأ قطع الأشجار. ثم اقتحموا معامل الخشب وورشات النجارة، حتى نفد الخشب أو غلا ثمنه في السوق. بلغ سعر طنّ الحطب نحو ثمانين دولاراً بداية الحصار، ثمّ غلا ثمنه إلى مئةٍ وخمسين دولاراً، مقارنةً بخمسةٍ وعشرين دولاراً في مناطق سيطرة النظام. فيما قُتل وأصيب العشرات في الأراضي الزراعية أثناء بحثهم عن الحطب برصاص قنّاصي النظام. إذ كلّما دنوتَ من شجرةٍ لتقطعها بحثاً عن دفءٍ، كنتَ تقترب من قبرك، كما كان يقول الناس وقتها.

مع غلاء الحطب، لجأ المحاصَرون إلى أثاث المنازل المدمَّرة، ثم الأثاث الخشبي غير المتضرّر، إلى أن وصلوا إلى الألبسة والأحذية وأشعلوا بها المدافئ. وكعادة سوق الحصار، أصبحت الألبسة والأحذية البالية تباع بأسعارٍ أعلى. ولكن توصّل المحاصَرون إلى الحلّ الأكثر استدامةً، وهو استحضار الطرق البدائية القديمة في الأرياف السورية "الجَلّة". والجلة مزيجٌ من روث الحيوانات يضاف إليه التبن، أي مخلّفات الشعير، وتُشَكَّل بعد مزجها أقراصاً دائريةً تُترك لتجفّ وتُستعمل في المدافئ. بلغ سعرها نحو عشرة دولاراتٍ للطنّ الواحد، مقارنةً بـثمانين دولاراً لطنّ الحطب.

وتعويضاً عن فقدان غاز الطبخ، ظهرت "تنكة النشارة" طريقةً بديلة. ويُعتقد أن أصولها تعود إلى أفغانستان. وهي وعاء صفيحٍ معدني يوضع فيه فتات الخشب مضغوطاً قبل أن يُفرغ من داخله بإطارٍ دائريٍ، ويُشعل من الأسفل.

حوّل المحاصَرون أنواع البلاستيك جميعها إلى مازوت وبنزين بجودةٍ رديئةٍ، لتشغيل مصادر الطاقة والسيارات، بوسائل تكريرٍ بدائيةٍ تُسمّى "الحرّاقات". انتشرت مجموعات جمع البلاستيك في خطوط الجبهات العسكرية والمنازل المهدمة لجمع أيّ مادّةٍ، كالخزانات وألعاب الأطفال وأكياس النايلون، ثم تقطيعها إلى جزيئاتٍ صغيرةٍ بآلة تكسير. وضعت بعد ذلك في الحرّاق، وهو خزّانٌ معدنيٌ يوضع على موقد نارٍ بدرجة حرارةٍ عاليةٍ تصهر ما بداخلها من بلاستيك وتحوّله إلى غازٍ يمرّ من أنابيب إلى أحواض مياهٍ باردةٍ من أجل إحداث عملية التكاثف، أو ما يُعرف بتحويل الغاز إلى سائل.

أمّا عن البدائل الطبّية، فقد أقامت الهيئة العامّة الطبّية في جنوب دمشق ورشةً طبّيةً لصناعة محلول السيروم، المستخدم في التعقيم وتنظيف الجروح، والمصنوع في ظروفٍ مخبريةٍ بدائية. أتاح السيروم المصنّع بعض الوقت للهيئة الطبية لتقدر على مواجهة استنزاف مخزونها الأساسي الشحيح أصلاً، مع إدراكها منذ بداية تصنيع السيروم عدم تساويه مع آليات التعقيم المتطورة. لذلك لم يستخدم السيروم المصنّع وريدياً، بل استعمل بمحدوديةٍ لغسيل الجروح فقط، أي لم يكن بديلاً عن السيروم الطبّي الأساسي.

واتخذت الهيئة الطبية موادّ متوفرةً في المنطقة بدائلَ عن الشاش الطبّي وخوافض اللسان الخشبية، وهي لوحٌ رفيعٌ لخفض اللسان عند الفحص الفموي أو الحلقي. إضافةً إلى حوجلات تفجير الصدر، وهو جهازٌ يمنع تجمع السوائل داخل الصدر في الإسعاف، بحسب ما قال للفِراتْس الدكتورُ وردان الناصر والممرّضُ محمود قدّور في الحصار. وفي مواجهة نقص الأدوية والمضادّات الحيوية، اضطرّت الهيئة لاستعمال الأدوية منتهية الصلاحية والقريبة من الانتهاء، ولجأت إلى تبليغ السكان بضرورة التبرع بجميع الأدوية المتوفرة لديهم، كما صرّح لنا عضوُ الهيئة الطبّية الصيدلانيُ سليم شهلا الذي كان من المحاصَرين.


لَم يختلف السياق الغزّي كثيراً فيما يتعلق المحروقات. ففي الساعات الأولى التي تلت هجوم السابع من أكتوبر، انتقل قطاع غزة إلى استنزاف مخزونه الذاتيّ والمحدود من المحروقات. فُقدت هذه المواد من الأسواق بعد أسبوعٍ تقريباً، واستعاض السكان عنها بالحطب والخشب بديلاً لغاز الطبخ والتدفئة، ولجؤوا إلى عربات الدوابّ، أو ما يسمّى "الكارّة"، بديلاً عن السيارات.

تحدّثت الفِراتْس مع الشابّ أحمد أبو العمرين، الذي نزح بعد أسبوع من الحرب من مدينة غزة إلى منطقة المواصي في خان يونس جنوباً، وأخبرنا عن الحلول التي لجأت إليها عائلته بديلاً عن المحروقات. يقول إن عوائل غزة استعملت الحطبَ وأثاثَ المنازل المهدّمة للتدفئة، ثمّ مع تفاقم الحصار "صرنا نستعمل أيّ شيءٍ، كالبلاستيك والأحذية والكرتون أو الملابس القديمة"، والتي استُعملت بديلاً عن غاز الطبخ أيضاً.

ويضيف أبو العمرين أن سكان القطاع لجؤوا إلى استعمال عربات الدوابّ والدراجات الهوائية، بديلاً للسيارات. حتى صار من لديه عربةٌ يخاف من استعمالها بسبب استهداف الطيران الإسرائيلي أيَّ شيءٍ متحرّك، إذ لم تَسلَم حتى عربات فرق الإسعاف والإغاثة من القصف الإسرائيلي.

وكما عانى محاصَرو سوريا من النقص في الخدمات الطبية، عانى القطاع الطبّي في غزة نقصاً حادّاً في المستلزمات الطبّية والدوائية. تضرّرت قدرة الكوادر الطبّية والمشافي حدَّ العجز، خصوصاً في شمال غزة، بل توقفت بعض المراكز الطبية تماماً، مثل مستشفى بيت حانون الذي أغلق في الأسبوع الأول للحرب نتيجة القصف والاستهداف وأوامر الإخلاء الإسرائيلية. وتفاقمت المأساة مع قتل أكثر من ألفٍ من الكوادر الطبية، وكثافة تدفق الإصابات اليومية بسبب القصف والقنص وانتشار الأوبئة والأمراض.

في حديٍ إلى الفِراتْس، قالت الممرضة إسلام، وقد عملت في مركز هالة الشوّا الطبّي في مخيم جباليا، إن مرض الجرب انتشر بين المحاصَرين لكن الخطورة بدأت حين ظهر مرضٌ جلديٌ لم تستطع الكوادر الطبّية تشخيصه. بدأ هذا المرض بندبةٍ كحرقٍ بسيطٍ ثم انتشر إلى أن أصبح كحرقٍ من درجةٍ ثانيةٍ، واضطرت الكوادر الطبية للتعامل معه والتجريب. فبعد المسح بمحلول السيروم استُعمل مرهم "سلفات النيومايسين"، وهو من بعض المستلزمات الطبّية التي كانت تأتي وتنقطع من المعابر حسب تطورات المفاوضات. ولكن كما قالت إسراء، "كثيراً ما استنزفنا مخزوننا الطبّي والدوائي، وبات المرضى بلا دواء".

غير بعيدٍ عن ذلك، تحدثت السيدة نور الجماصي للفرِاتْس عن تجربتها بالإنجاب في الحصار. أنجبت الجماصي طفلها تحت القصف في مجمع الصحابة الطبي، بمنطقة حيّ الدرج في مدينة غزة، في فبراير 2024. وبعد ثلاثة أيامٍ نزحت عائدةً إلى حيّ الرمال وسط المدينة، بعد أن توغّلت القوات الإسرائيلية في محيط المجمع الطبّي.

كان هاجس الأمهات الأول هو الاضطرار إلى تغذية الأطفال بالحليب المصنوع، والذي لو توفّر فسيكون فاحش الغلاء. فقد بلغ سعر عبوة، بسعة أربعمئة غرام، من خمسة عشر إلى خمسةٍ وعشرين دولاراً. ترى الجماصي أنها وطفلها نجيا بشقّ الأنفس من هذه الحاجة. ولكن حاجة الأمّ المرضعة إلى التغذية في الحمل وبعده كانت تواجه ندرة الغذاء وغلاء أسعاره أيضاً. إذ لم تستطع العائلة شراء اللحوم، التي وصل سعر الكيلوغرام الواحد منها خمسين دولاراً ثم ارتفع إلى مئةٍ وخمسين دولاراً، ووصل سعر بيضة الدجاج الواحدة إلى دولارين. أما الخضراوات فكانت نادرةً وبسعر ثلاثين دولاراً للكيلوغرام. وتزامنت ولادة نور مع تفاقم قسوة الحصار بين شهرَي فبراير ومارس 2024، لذا اعتمدت على الحلاوة والمكسرات ولو بكمياتٍ قليلةٍ حتى شهر أبريل حين وصلت مساعداتٌ محدودةٌ، على حدّ قولها.


بالعودة إلى السياق السوري ولكن هذه المرّة من زاوية الغذاء والزراعة، هناك بُعدٌ أوسع من شأنه أن يوضّح كيف طوّر السوريون سبلاً لمواجهة التجويع. فبعد فقدان المساحات الزراعية ورصدها بالقناصة، لجأ قلّةٌ من سكان جنوب دمشق، ممّن يجيدون فلاحة الأرض والزراعة، إلى تحويل أسطح منازلهم حدائق. وحسب ما أخبر الفِراتْس السيد محمد الخطيب، من سكان المنطقة ومن أوائل المدنيين الذين حوّلوا أسطح منازلهم حدائق، فقد كان ذلك مشروعاً فردياً أمّن حاجات الأسرة الأساسية بالحدّ الأدنى من البقوليات والخضراوات.

وبما أنها عصب العمل الجماعي، استثمرت المنظمات الإغاثية والأهلية جهودها في زراعة ما استطاعت من مساحاتٍ جغرافية في المنطقة العمرانية. زرعت المحاصيل الشتوية بين الأزقّة والمقابر وساحات المدارس وحتى الملاعب الرياضية. وكان ثمّة محاولةٌ للإنتاج الحيواني وبدء مشروع استزراعٍ سمكيٍّ، ولكنه لم ينجح بسبب نقص المعدّات. وقد كنتُ مع المحاصَرين شاهداً على هذه المحاولات.

تدرجت قسوة الجوع في المناطق المحاصَرة في سوريا. فمع إغلاق المعابر في يونيو 2013، فُقدت مادة الطحين والخبز الطازج. وإذا وُجد، كان الكيلو بسعر خمسين إلى مئة دولار. ولأن الأفران كانت معطلةً قبل الحصار، لجأ السكان إلى البحث أو شراء الخبز الجافّ والمخزّن بسعر عشرين دولاراً للكيلو. ويوماً بعد يومٍ صاروا يأكلون الخبز المتعفن بعد تنظيفه إلى أن فُقد بالكامل. استعاضوا عنه بطحن العدس الذي بلغ سعره بين خمسين إلى مئة دولار للكيلو، وجعلوه خبزاً إلى أن فقد أيضاً، ثم خلت المنطقة من أيّ بديلٍ عن الخبز.

بعد أشهرٍ قليلةٍ في مطلع أكتوبر 2013، صار المصدر الأساسي للسكان هو الحشائش والخضراوات المتوفرة، كالسبانخ والفجل والقريص. وشيئاً فشيئاً برزت عشبةٌ وحّدت موائد معظم سكان الحصار. عشبةٌ اسمها "رجل العصفورة". وهي عشبةٌ مُرّةٌ تنبت في الحدائق والبساتين وأرصفة الطرقات.

قال لنا أحد الفلاحين وقتها إنها متوفرة بكثرةٍ لأن البقر والمواشي ترفض أكلها. كنا نجمع "رجل العصفورة" ونسلقها ثلاث مراتٍ قبل أكلها. ثم تحولت إلى سلعةٍ في الأسواق تُباع بالكيلو، وبسعرٍ وصل نحو عشرة دولارات. تسببت تلك العشبة بمئات حالات التسمم الغذائي بين سكان الحصار، وأنا من بينهم. وسقط العشرات قتلى وجرحى برصاص قناصي النظام والميليشيات الموالية له عند ابتغائهم التقاط حشائش ونباتاتٍ من البساتين القريبة من المناطق العسكرية.

تحدّثت الفِراتْس مع الشابّ محمد العيسى الناجي من رحلة جمع النباتات، الذي قال: "ذهبتُ يوماً مع شبّانٍ من حيّ الحجر الأسود إلى تلك البساتين. وصلنا بعد الفجر وبدأنا نجمع ما تطاله أيدينا، لنكتشف بعد دقائق أننا وقعنا في كمينٍ لقنّاصٍ بدأ استهدافنا. هربنا من الرصاص تاركين خلفنا جثة شهيدٍ بين الحشائش".

أما اللحوم والدواجن فقد كانت نادرةً في أشهر الحصار الأولى، وبسعر مئةٍ إلى مئةٍ وخمسين دولاراً للكيلو إنْ توفّرت، ولكنها اختفت لاحقاً. وإذا اضطرّ فلاحٌ لذبح إحدى مواشيه قبل نفوقها بسبب قلّة العلف أو الأمراض، كان يبيع عظامها بسعرٍ مرتفع. وقد كنتُ محظوظاً حين اشتريت مرّةً رأس بقرةٍ بأربعين دولاراً.
لم ينقطع اختراع الحلول والبدائل، إذ توجّه آخَرون إلى تقشير ورق الصبار والفجل وطبخها كالبطاطا. ثمّ ظهرت "شوربة البهارات" مع بداية سنة 2014، وهي أقسى مراحل الحصار. "شوربة البهارات" كانت حساءً من ماءٍ وبهارٍ فقط. بهارات البصل أو الجبنة أو الكباب، أو أيّاً ما توفّر من معامل "الشيبس" التي كانت في المنطقة. ابتكرتُ طريقةً لتكثيف هذا الحساء بإضافة دقيق الذُرة ليبقى مدّةً أطول في المعدة. وبعد نجاح التجربة تبنّتها بعض المنظمات الإغاثية في المنطقة وصارت توزعها وجبةً رئيسةً، وأحياناً تقدمها مع كميةٍ قليلةٍ من الخضراوات أو البقوليات والأرز إذا توفرت هذه الموادّ. وكان ذلك قليلاً. أمّا ما يُباع في السوق، فقد بلغت تكلفة الوجبة الواحدة للأسرة، والمكوّنة من خضراواتٍ أو بقايا طعامٍ وشوربة بهاراتٍ فقط، بين أربعين إلى ثمانين دولاراً.

بدأت مناشدات المؤسسات الطبّية والحقوقية وتحذيراتها منذ إغلاق المعابر في يونيو 2013 من رزوح أطفال جنوب دمشق تحت سوء التغذية ونقص الدواء، وطالبت بإعادة فتح المعابر وإدخال الغذاء والدواء وحليب الأطفال فوراً. تحققت الكارثة حين بدأت أسماء الأطفال القتلى نتيجة الجوع ونقص التغذية تظهر في نشرات الأخبار، وخصوصاً في فترة الحصار التامّ بين أكتوبر 2013 إلى فبراير 2014. ومنهم الطفلة الرضيعة ملك جمعة في 11 أكتوبر 2013، والطفل عبد الحيّ يوسف في الثاني من نوفمبر للعام نفسه. هما اثنان من بين سبعةٍ وثلاثين طفلاً قتلهم الجوع والحصار في مخيم اليرموك وحده، بحسب تقرير مجموعة العمل لأجل فلسطينيّي سوريا، وهي المجموعة التي وثّقت مقتل مئتين وتسعة عشر فلسطينياً في المخيم، عدا السوريين والمناطق الأخرى.

قُدّر عدد الأطفال الرضّع دون السنتين في مناطق جنوب دمشق بألف طفلٍ إبّان الحصار. وكان تأمين حليب الأطفال أكبر تحدّيات العوائل. قابلت الفِراتْس السيدة هزار سوخطة وزوجها محمود المصري، اللذَيْن عاشا مدّة الحصار التامّ في مخيم اليرموك وبلدة يلدا، جنوب العاصمة، مع أطفالهما الثلاثة. كانت الطفلة الكبرى سيدرا في عامها السادس، وتصغرها بعامين ساندي التي تعاني اضطراب طيف التوحد، والصغرى سلام وليدة الحصار.

قالت هزار للفِراتْس إن ساندي كانت ترفض الطعام سوى الحليب، والزيت والزعتر أحياناً. ومع انعدام الغذاء وحليب الأطفال المصنوع بسبب إغلاق المعابر، كانت تتوجه مع زوجها كلّ يومٍ فجراً من مخيم اليرموك مشياً على الأقدام إلى يلدا. وهناك كان فلاحٌ يبيع حليب البقر يعطي لكلّ فردٍ لتراً واحداً بسعر اثني عشر دولاراً، مقابل أقلّ من عُشر دولارٍ في العاصمة آنذاك. لاحقاً نفقت إحدى بقراته، فصار يبيع ربع لترٍ للفرد فقط. كانت هزار تقف في دور الزبائن النساء ويقف محمود في دور الرجال ليحصلا على حصّتَيْ حليبٍ، ثمّ تمزج الحليب مع ضعفه من الماء لتشرب ساندي والرضيعة سلام أكبر قدرٍ ممكن.

بدأت تجربة الطفلة الصغرى سلام مع مأساة الحصار منذ ولادتها في 15 ديسمبر 2013، كما ترويها أمّ سيدرا: "ذهبتُ وزوجي في طريقنا اليومي لشراء الحليب لطفلتنا ساندي. كنت حاملاً في الشهر الثامن، ولكن لم نجد الفلّاح يومها، وتجمّع هناك مدنيّون غاضبون يبحثون عنه مثلنا. خفتُ كثيراً حينها من فقدان حليب ساندي. قالت لي امرأةٌ إن بائعاً للَّبَن قرب جامع الصالحين في يلدا يتوفر لديه الحليب. ذهبنا إليه ولكن رفض بيعي وشتمني. تدخّل زوجي وحصل شجارٌ قبل أن نكتشف أنه يعمل مع تنظيم داعش. هاجم عناصر التنظيم زوجي وضربوه وأصابني الضربُ أيضاً، فنُقلت إلى المستشفى وولدت ابنتي هناك على الفور. بعد رحلة التعب والجوع والخوف والضرب، سمّيناها سلام".

أخبرتنا سيدرا بأن شقيقتها سلام وُلدت بوزن أقلّ من كيلوغرامَيْن. وقال الأطباء إنها تحتاج إلى وحدة الحضانة الطبّية لتعيش. لم تكن النقاط الطبّية في كلّ المنطقة تمتلك هذه الأجهزة، ولكن مقاتلاً في الجيش الحرّ سمع صدفةً حديثَ الكادر الطبّي، وقال إنه شاهد هذه الحواضن في مستشفىً مدمّرٍ على خطوط القتال في مخيم اليرموك، فأخذ ممرّضين معه وسحبوا الجهاز تحت خطر القتل. سَلِمَت بذلك سلام، ولكن بقيت حياتها مهدّدةً بعد ذلك، فلا تجد الأم لنفسها طعاماً يمكّنها من الإرضاع، وحليب الأطفال المصنوع مفقودٌ من المنطقة كلّها. بحثت العائلة عن بقايا حليب لدى السكان المحاصَرين وفي المنازل المهجورة. ولكن بعد أسبوعٍ من ميلاد سلام، دخلت مساعداتٌ إنسانيةٌ مخصصةٌ للّاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك، وكانت تحوي حليب أطفال. أهدى الفلسطينيون المحاصَرون في المخيم شيئاً من ذلك الحليب إلى سلام، شريكتهم في الجوع والحصار.

من جهته قال محمود المصري، والد الطفلة سلام، للفِراتْس إنه توغّل في مناطق الاشتباك وخطوط الجبهات ليفتّش المنازل أو بقاياها عن الحليب أو أيّ طعام، ووجد في إحدى الجولات الاستكشافية كيلوغراماً كاملاً من حليب الأطفال منتهي الصلاحية وأعطاه لبناته الثلاث. ووجد مرّةً كيس زيتونٍ استهلكوه بمعدّل ثلاث حبّات زيتونٍ في اليوم. ووجد مرّةً أخرى سرب عصافير على سطح منزلٍ فتبعه، آملاً أن يتجمع على بقايا طعام. تحقّق الأمل ووجد كيس أرزٍ وزنه نحو خمسة كيلوغرامات.

قال لي أحد رفاق الحصار إنه طوّر طرقاً خاصّةً للبحث عن الطعام تنطلق من تقمّص شخصية الطفل، فالطفل يعبث بالطعام ويخبئه ويرميه في أماكن منسية. وكان ينجح فعلاً بالعثور على الطعام في الخزائن أو تحت الأسرّة. ومع بلوغ الجوع وفقدان الطعام وبدائله درجة الموت، أصدر مشايخ ووجهاء جنوب دمشق فتوىً شرعيةً بجواز أكل لحوم القطط والكلاب. ومن تجربتي أعرف كثيرين عملوا وفق الفتوى.


اختلفت خيارات بدائل الغذاء في حصار غزة، حسب المناطق ومراحل الحرب والحصار. بات غالبية السكان يعتمدون وجبةً واحدةً في اليوم، ثمّ رغيفاً واحداً. وحين منعت إسرائيل دخول طحين القمح، لجأ السكان في بعض المناطق إلى طحن المعكرونة وتحويلها إلى خبز. وفي مناطق أخرى، لا سيّما في شمال غزّة وقد بدأت إرهاصات المجاعة بالظهور في يناير 2024، لجأ الناس إلى طحنِ علف الحيوانات من شعيرٍ وذرةٍ ثمّ خَبزِه. وكانت طريقة خبز جميع الأنواع على "الصاج" للاقتصاد في الطحين وزيادة كميات الخبز. والصاج هو لوحٌ معدنيٌ دائريٌ مقعرٌ تُوقد النار من أسفله فيصبح سطحاً ساخناً لخبز العجين. وقد وصل سعر كيس الطحين في بعض مناطق غزة في الشهور السابقة لهدنة يناير 2025 إلى ثلاثمئة دولارٍ، مقابل ثلاثين دولاراً قبل الحرب.

نفدت الدواجن واللحوم الحمراء والبيض والحليب ومشتقّاته من أسواق القطاع بعد نحو شهرين من بدء الحرب. حينئذٍ فسدت الأطعمة المفرّزة في المستودعات مع انقطاع الكهرباء. وقدّر المهندس محمود العلوي الضررَ الذي لحق الثروة الحيوانية في القطاع بنسبة 80 بالمئة. وقال للفِراتْس إن سعر كيلو اللحم وصل سبعين دولاراً، وتكلفة وجبة الغداء للأسرة بلغت ستّين إلى مئةٍ وعشرين دولاراً مقارنةً بأقلّ من عُشر المبلغ قبل الحرب.

بدأ العمل الإغاثي مطلع سنة 2024 بعد ثلاثة أشهرٍ من الحرب، حين فتحت مصر بتوافقاتٍ دوليةٍ معبر رفح لمرور الشاحنات. ورافق ذلك ظهور مؤسساتٍ وجمعياتٍ إغاثيةٍ مموّلةٍ محلياً ودولياً وفّرت وجبات طعامٍ من المواد المتوفّرة في الأسواق. خصصت لتوزيعها "تكايا"، والمفرد "تكية"، وهي مطبخٌ خيريٌ لإطعام المعوزين. وعلى دور التكايا المهمّ في تخفيف المجاعة بين النازحين الذين فقدوا مصادر دخلهم وأموالهم، إلّا أنها لم تشمل جميع مناطق النزوح والتي ضمّت حسب هيومن رايتس واتش 85 بالمئة من سكان القطاع.

قصفت إسرائيل مناطق النزوح، والتي صُنّفت في بداية الحرب حسب المتحدث بِاسم الجيش الإسرائيلي "مناطق آمنة". قتل الطيران الإسرائيلي عاملين في الإغاثة ومشاريع التكايا، ومنهم فريق منظمة "المطبخ العالمي" في أبريل 2024. وأدّى ذلك مع تجميد الحسابات البنكية ووقف تحويل الأموال من الخارج ومنع دخول الموادّ التموينية، إلى توقّف عشرات التكايا عن العمل، في حين قلّل آخَرون أيام العمل إلى يومين أو ثلاثةٍ في الأسبوع.

حسب ما أخبرنا خالد أبو عامر،كان مصدر الغذاء الأشيع هو المعلبات التي توزعها المنظمات الدولية والإغاثية. ولكن لوفرة هذه المعلبات كانت تباع في الأسواق وتُترك ساعاتٍ طويلةً تحت الشمس، فتتلفُ دون معرفة الباعة والمشترين. ما سبّب مشاكل صحّيةً عدّةً، مثل التسمّم والتقيّؤ ومشاكل القولون والصداع. كذلك شاع تفتيش المنازل الفارغة مع نزوح الأهالي، فكان النازحون يأخذ ما يحتاجونه من طعامٍ وأغطيةٍ وملابس. وشاعت أيضاً السرقة والتخريب. وانتشرت تجارة الأثاث المسروق أو حطب الأثاث المدمّر، حسب ما قال أبو عامر. 

أخبرني الشابّ أحمد أبو العمرين، الذي عاش الحصار والتجويع في خان يونس، أن اعتمادهم الرئيس كان على معلبات المنظمات. وبعد وقف توزيعها باتت الاستدانة وشراء المعلبات من الأسواق بأسعارٍ مضاعفةٍ عدّة مرّاتٍ هي الخيار الوحيد للعائلة. كان بعضها منتهي الصلاحية فتسبّبت له ولأفراد عائلته بحالات تسمّمٍ شديد. أمّا وجبات المنظمات التي توزعها التكايا فكانت وجبةً واحدةً محدودة الكمّية لا تكفي أسرةً واحدة. وبلغ ضغط الجوع، كما يقول، أنْ تهجّم جموعٌ من المحاصرين على تكايا الطعام لأخذ حصصٍ أكبر، ما حرم آخَرين من حصصهم.

ألقت طائرات المساعدات من عدّة دولٍ مناطيد تحمل موادّ إغاثيةً على المناطق الفارغة غالباً. ولكن بعضها سقط على المخيمات وتجمعات الناس وتسبّب بوفياتٍ وإصاباتٍ، وسقط بعضها في البحر وتلف بعضها الآخَر. يقول أبو العمرين "كنا نخاف منها أكثر مما فرحنا بها".

توفّي أربعون طفلاً بعدّة أمراضٍ نتيجة نقص الغذاء والرعاية الصحّية، حسب تصريح "حماس" في يونيو 2024. وعانى السكان في شمال القطاع، وبدرجةٍ أقلّ في الجنوب، في توفير حليب الأطفال. قال خالد أبو عامر إنّ توفّر الحليب كان شبه معدومٍ وإنّ جلّ وفيات الأطفال بسبب الجوع كانت في الشمال، وإنّ عددهم ربما بلغ نحو مئتي طفلٍ حتى اتفاق الهدنة في النصف الثاني من يناير 2025.

تحدثت مجلّة الفِراتْس مع الصحفية لميس الهمص التي عاشت الحصار والحرب في مخيم جباليا شمال القطاع مع زوجها وأطفالها الأربعة. وقالت إنّ الغذاء فُقد مطلع سنة 2024 وبدأت ملامح المجاعة بعد نفاد المخزون في الأشهر السابقة. بلغ الجوع أوجَه بين يناير ومارس. اشترت العائلة آخِرَ كيلوغرامٍ من طحين القمح بسعر ثلاثةٍ وثلاثين دولاراً، ثمّ لجأت إلى طحن حبوب الذرة، ثمّ بات الاعتماد على علف الدوابّ والأرانب بعد طحنه وخبزه. كانت المعاناة النفسية بإقناع الأطفال بأكله توازي معاناة فقدان البدائل.

أما الخضراوات والفواكه فكانت معدومة. لجأ بعض السكان إلى الزراعة على نطاقٍ محدودٍ وفاشلٍ غالباً. وكانت الحشائش، حسب ما تقول الهمص، هي مصدر الغذاء الأساس. منها نبتة الحميض المُرّة التي كانت تُسلق بالماء الحارّ حتى تصلح للأكل. وقد تسبّبت بكثيرٍ من الأمراض والأعراض الجانبية، مثل ما سبّبته نبتة رجل العصفورة في جنوب دمشق.

أضافت الهمص: "أُصبت وزوجي وأطفالي بنزلاتٍ معويةٍ وتسمّمٍ وإسهالٍ والتهاباتٍ بسبب المياه غير الصالحة للشرب، وعانت عائلتي أزمةً صحّيةً من نقص الأدوية. واستغنيتُ عن فوط الأطفال لعدمها ببدائل بدائية. أطفالي الأصغر لم يعرفوا ما هي الفواكه إلّا بعد الهدنة. استغرَبوا الموز والبندورة ولحم الدجاج. أعطيت ابنتي حبّة موزٍ فخافت منها في البداية، ثمّ أمسكتها وأكلتها مع قشرتها".

تحدثت الفِراتْس أيضاً مع الصحفية مها شهوان التي عاشت الحصار مع زوجها في مدينة الزهراء وسط القطاع من 13 أكتوبر 2023 حتى 22 فبراير 2024. نزحت شهوان من مدينة غزة في الأسبوع الثاني للحرب. وحين انتقل القصف إلى الزهراء نزح معظم الأهالي جنوباً، ولكن بقيت وزوجها فيها مع مئةٍ وعشرين شخصاً فقط من أصل نحو ستّة آلافٍ قبل الحرب. توزّع الباقون، كما تقول، على منزلين ومدرسةٍ، وأصبحت الطرقات إلى خارج الزهراء في مرمى قناصة الجيش الإسرائيلي، وبدأ نقص الغذاء ينذر بمجاعةٍ مُقبلة. نفد الخبز بعد قصف الأفران، ونفد الطحين.

تقول شهوان: "كان حصارنا في فصل الشتاء، ولم يبقَ لنا إلّا ما تنبته الأرض من حشائش، الحمصيص والخبيزة والرجلة والقريص وورق التوت. كنا نذهب نحن النساء تحت الخطر إلى البساتين الملاصقة للخطوط العسكرية ونجمع الحشائش على صوت القصف والرصاص أمام القناصين والدبابات الإسرائيلية". وأضافت أنهم صنعوا من هذه الحشائش المقطوفة تحت النار وجباتٍ تذكّر –ولو في الوهم– بوجباتٍ طبيعيةٍ كالسماقية والملوخية وورق العنب.


قد تنتهي المأساة وتنهي الاتفاقيات عمل الحواجز العسكرية، وتفكّك الحشود العسكرية على خطوط القتال، ومعها تخفّ وطأة الحصار والجوع. لكن هذا، وفي أحيانٍ كثيرةٍ، لا يعني نهاية الطريق للضحايا. وهنا أستذكر كيف وقف مراسل الجزيرة مؤمن الشرافي على أطلال بلدة الشوكة في رفح يغطي دخول قافلات المساعدات الإنسانية من معبر كرم أبو سالم، التي تلت اتفاقية التهدئة في 19 يناير 2025. ويذكّرني المشهد بصديقي الصحفي بهاء دبوس حين وقف قرب معبر ببيلا سيدي مقداد الرابط بين مناطق سيطرة النظام وأحياء جنوب دمشق، ونقل خبر دخول أولى قافلات الغذاء إلى مناطق جنوب دمشق بعد التوصل إلى هدنةٍ عسكريةٍ بين النظام السوري السابق والجيش السوري الحرّ. لكن مع هذا، ظلّ صدى الحصار حاضراً، وتفاصيله وانعكاساته النفسية مستمرة في حياتنا اليومية.

حتى اليوم، كلّما ذهبتُ إلى المتجر لشراء احتياجات عائلتي في إسطنبول، أتجنّب شراء البطاطا. لا أريد رؤيتها. فهي تعيدني إلى ذاكرة الحصار وما وراءه من قصصٍ مؤلمة. في الربع الأخير من سنة 2013 أُصبتُ في صدري، وسكنتُ في منزلٍ في شارع الثلاثين بمخيم اليرموك. وفي أحد الأيام، أهداني صديقي كريم حبّة بطاطا كان قد وجدها عند نقطةٍ عسكريةٍ للنظام بعد اقتحامها بمعارك في حيّ القدم الدمشقي. خبّأها تحت فراشي وذهب قبل أن تختفي في بطن أحد الزوار. الزائر أبو كاسم كان جائعاً ككلّ المحاصَرين، وجد حبّة البطاطا وأخذها وذهب. وبعد أيامٍ ضربتُه على وجهه لأجل حبّة البطاطا هذه. أنّبني الصديق نعمان عبدو الجندي، الذي قتله الحصار ولم ينجُ معنا، بأن الإنسان في الجوع يفقد آدميّته ويصبح بغرائز الحيوان. وأكمَل: "رفيقك أبو كاسم أكل الكفّ على وجهه لأنك تحيونت [تصرفت كالحيوان]، وحيونتك مفهومة، لا تحمّلها كثير".

كانت المشاجرات ظاهرةً جمعيةً في مجتمع الحصار، وكثيراً ما تحوّلت إلى اشتباكاتٍ مسلّحةٍ بين الأفراد، أو تسبّبت بحالات طلاقٍ بين الأسر. قالت لي الصحفية مها شهوان: "في زمن الجوع، رأيت الأطفال يسرقون الطعام ويتقاتلون لأجل حبّة تفاح. هناك طفلٌ جلس قربي وتناول أكثر من مئة حبّة تمر. كان الخوف من الجوع يسيطر على الجميع، خصوصاً الأطفال، فكانوا –مثل القطط– يحاولون تخزين الطعام في داخلهم قبل فقدانه".

كانت شهوان تتواصل مع سكان مخيم اليرموك أيام حصاره ويحدثونها عن أكل الحشائش وقسوة الجوع. قالت للفِراتْس: "كنت أقول لنفسي هل هذا الشيء حقيقي؟ واليوم أتذكّر أهل اليرموك بعد أن عشت التجربة نفسها، وأمتنع عن أكل الخبيزة، لا أريد رؤيتها".

وأخبرتني السيدة آلاء أبو ماضي في إسطنبول عن شعورها "باستمرارية الحصار وشبح الجوع". فبعد أكثر من ستة أعوامٍ على خروجها وتهجيرها من جنوب دمشق، ما زالت تحفظ الخبز الجافّ حتى يتعفّن فترميه من شرفة منزلها إلى العصافير والطيور. وما زالت تكره طعم بعض أنواع البهارات، ما سبّب لها مشاكل مع أسرتها أحياناً. وتكره الأبواب الموصدة، إذ تذكّرها بحالة الحصار.

ترك الحصار والتجويع الأثر ذاته على السيدة هزار سوخطة، التي تعيش الآن مع عائلتها في كندا منذ 2017 بعد خروجهم من الحصار. أخبرتني عن تكريمٍ في المدرسة حصلت عليه ابنتها سيدرا التي أتمّت ثمانية عشر عاماً اليوم، إذ استدعت المدرسةُ الكندية الأهلَ وسألتهم باستغرابٍ عن صحّة ما كتبته سيدرا عن حياة الحصار. بقيت ذاكرة الجوع وقلق الأهل مع سيدرا بعدما عبرت سنواتٍ وقارّاتٍ وأصبحت شابّةً في كندا.

وفي غزة، قال لي الشابّ أحمد أبو العمرين: "عدتُ مع أمي وإخوتي إلى مدينة غزة، ووجدنا منزلنا متضرراً بفعل القصف. ولكن لا مشكلة، سنرمّمه ونعيد إعمار مدينتنا". ولكن مع صدق خطاب الإصرار الذي عبّر عنه أحمد، فإن مقاطع الفيديو والتقارير الصحفية تُظهر آثار الحصار على صحّة أهالي القطاع. فهم يعانون اليوم فقدان الوزن والصداع والغثيان والإرهاق الجسدي المستمر، بسبب حرمانهم مدّةً طويلةً من مصادر البروتين واللحوم وأنواع الغذاء المتعددة والمياه النظيفة، عدا العبء النفسي الذي لا يزول.

وما يزيد الطين بلّةً هو عودة إسرائيل لقصف قطاع غزة وإغلاق المعابر وإيقاف تدفق المساعدات الإنسانية بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 3 مارس 2025. بعد أن كانت، وفي انتهاكٍ صارخٍ لبنود الاتفاق، رفضت استئناف تنفيذ المرحلة الثانية وباقي الاستحقاقات الإنسانية من المرحلة الأولى ومنها إدخال آلاف البيوت المتنقلة والخيام للنازحين، مشترطةً موافقة "حماس" على طلبات نتنياهو بإطلاق سراح أسرى إسرائيليين خارج إطار اتفاق وقف إطلاق النار من غير الالتزام بإنهاء الحرب. ومنذ اللحظة الأولى لإعلان إغلاق المعابر وعودة القصف الإسرائيلي، قفزت أسعار الموادّ الغذائية مجدداً، وسط مخاوف حقيقيةٍ من نفاد الغذاء وتكرار مشاهد المجاعة كما في سنة 2024.


في الحصار، تختلط سُبل مقاومة سلاح التجويع. ويتخبط الفرد المحاصَر ما بين أخلاقيات النجاة الفردية والجماعية، بصراعٍ داخليٍ يشنّ حروبه بين الفردانية والتشاركية في المصير. تراه يشارك الآخرين بقطعة خبزٍ متعفّنٍ، أو يتستر خلف ركام منزلٍ يأكل بقايا حلوى وجدها تحت سريرٍ، أو يصغي جيداً لصدى جولات التفاوض، سواءً كانت تحت وقع القذائف والصواريخ أو التجويع. فما يهمّ الفرد الجائع أن يتخلص من آلام الأمعاء الفارغة، وأن يحافظ على ما تبقّى من وجدانه. وكلّما اشتدّ الجوع تنازل الناسُ عن جزءٍ من آدميّتهم، وضعفوا أمام رغيف خبزٍ طازج، أو الحلم بهذا الرغيف.

كتبتُ هذا المقال إلى الذين شبِعوا من الجوع وارتمَوا في أحضان الأرض بحثاً عن رشفة ماءٍ، وإلى تلك الأرواح الهائمة في شوارع حيّ التضامن ومخيم اليرموك وبيت حانون وجباليا، نساءً ورجالاً، شيوخاً وأطفالاً. نجونا إلى حينٍ وبقينا أحياء.

اشترك في نشرتنا البريدية