في طهران، كان صنّاع القرار يواجهون ارتباكاً واضحاً بين الإصرار على إنكار واقع سقوط الأسد ومحاولة التكيف السريع مع معطياتٍ جديدةٍ، بينما حاول الإعلام الرسميّ التقليل من أهمّية الحدث. لاحقاً، اعترف لاريجاني أن بشار الأسد نفسه لم يكن يتوقع هذا السقوط، في إقرارٍ ضمنيٍّ بأن هذا التحوّل تجاوَز الحسابات التقليدية وفَرَضَ مساراتٍ غيرَ متوقعةٍ أعادت رسم خرائط النفوذ الإقليمي.
يشمل التحليل وسائل إعلامٍ مطبوعةً ومرئيةً وإلكترونيةً، تنتمي إلى طيفٍ واسعٍ من التوجهات الثورية والمحافظة والإصلاحية والمعتدلة. بما فيها وكالة الأنباء الرسمية، التي تميل حالياً إلى الإصلاحيين، والتلفزيون الإيراني الرسمي.
بُني هذا الرصد على مراجعةٍ واسعةٍ للمواد الإعلامية المنشورة في المدّة ما بين بدء معركة "ردع العدوان" في 27 نوفمبر 2024 إلى ما بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر بهدف بناء صورةٍ لتبدُّل السياسات التحريرية التي تقف وراء تلك الرسائل صعوداً وهبوطاً، منذ بدء المعركة حتى سقوط الأسد.
شمل التحليل صحفاً مطبوعةً، هي صحيفتا "شرق" و"اعتماد" ذواتا التوجه الإصلاحي، وصحيفتا "كيهان" و"وطن أمروز" ذواتا التوجه المحافظ، إضافةً إلى "جمهوري إسلامي" ذات النهج الوسطي المعتدل.
أما في الإعلام الإلكتروني، فقد ركّز الرصد على وكالات أنباء "فارس" و"تسنيم" و"مهر" الموزعة بين الخطاب الثوري والمحافظ. وشمل التحليل وكالة الأنباء الإيرانية ووكالة "إيلنا"، والموقع الإخباري التحليلي "انتخاب"، وجميعها تعكس التوجهات الإصلاحية. مع التركيز على التلفزيون الإيراني، الوسيلة الإعلامية المرئية الأوسع انتشاراً في إيران والتي تمثل الخطاب الرسمي لها.
قدّمت وكالة أنباء "مهر" مبرّراتٍ لاستخدام مصطلح "الإرهابين" في وصف جميع المقاتلين وفصائلهم، مركزةً على اتحاد الفصائل المقاتلة تحت قيادة هيئة تحرير الشام "المصنّفة منظمةً إرهابيةً عند الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة". تلك الصياغة استهدف غرس التشكيك في مشروعية فصائل المعارضة، وتقويض صورتها أمام الرأي العام الإيراني.
لكن مع مؤشرات انهيار نظام الأسد، بدأ هذا النهج الإعلامي يشهد تغيّراتٍ واضحةً، وكان ذلك أوضح في التلفزيون الرسمي الإيراني. ففي بداية المعركة استخدم تعبيراتٍ مثل "الإرهابيون التكفيريون المرتبطون بالقاعدة" و"الميليشيات الإرهابية"، عند الإشارة إلى المعارضة المسلحة. لكن مع اقتراب سقوط الأسد تغيّر الخطاب تدريجياً. فقبل يومين من السقوط، بدأ استعمال مصطلحات "الجماعات المسلحة" و"المعارضة المسلحة للحكومة السورية". ولكن وسائل الإعلام الإيرانية عادت بعد يومٍ لاستخدام وصف "الإرهابيين" في وصف المجموعات نفسها، واستمرت على هذا الخطّ حتى الساعات الأولى غداة سقوط الأسد.
تعكس التقارير الإخبارية التي بُثت يوم السقوط هذا التحوّل المتذبذب في اللغة الإعلامية. ففي بداية اليوم أشارت وسائل الإعلام الإيرانية إلى "تسلل تنظيم هيئة تحرير الشام الإرهابي إلى دمشق"، ولكن بعد ساعاتٍ قليلةٍ استعملت وصف "الجماعات المسلحة" الذي استمر بعد ذلك.
استعمل الطرفان، الإصلاحي والمحافظ، وصف "الإرهابيين" قبل سقوط الأسد. ولكن بعد سقوطه، تغيّر الأسلوب والخطاب. أظهرت وكالة "تسنيم" المحافظة ووكالة "إيلنا" ذواتا التوجه الإصلاحي تناقضاً وعدم انسجامٍ في الخطاب. إذ استخدمتا بعد سقوط الأسد مصطلحَي "الجماعات المسلحة" و"الجماعات الإرهابية" بالتبادل خصوصاً في الحديث عن هيئة تحرير الشام، وإن كان المصطلح الأول أكثر وروداً. مثالٌ على ذاك الارتباك خبران نُشرا في اليوم نفسه في وكالة "تسنيم" بعد أربعة أيامٍ من سقوط الأسد. كان عنوان الأول "هل سيكون العراق الهدف التالي للإرهابيين"، وعنوان الثاني "مدينة دير الزور تحت سيطرة مسلحي المعارضة".
لم تغيّر الصحف المحافظة في وسائل الإعلام الإيرانية عموماً من لغتها الإخبارية، سواءً قبل إسقاط الأسد أو بعده. ومنها الصحيفتان المحافظتان "كيهان" و"وطن أمروز"، والصحيفة المعتدلة "جمهوري إسلامي" التي تُبقي على مسافةٍ من الإصلاحيين والمحافظين على حدٍّ سواءٍ، إذ استمرت تلك الصحف في استخدام مصطلح "إرهابيين" قبل سقوط الأسد وبعده. أما صحيفة "شرق" الإصلاحية فقد تحوّلت نحو مصطلح "الجماعات المسلحة"، وصحيفة "اعتماد" الإصلاحية أيضاً أبقت على مصطلح "المتمردين" الذي كانت تستعمله قبل سقوط الأسد.
في البداية أنكرت وسائل الإعلام الإيرانية المحافظة أخبار الانتصارات التي حققتها قوات ردع العدوان. فركّزت وكالة أنباء "فارس" مثلاً على إظهار تقدم جيش الأسد وصموده، وأكدت قدرته على مواجهة الهجوم وضخّمت من حجم عملياته على الأرض. واحدٌ من عناوين الوكالة قبل أسبوعٍ من سقوط الأسد كان "استهداف قافلة إرهابيين في إدلب من قِبل وزارة الدفاع السورية".
استمرت وسائل الإعلام الإيرانية في محاولات تحجيم الحدث حتى الساعات الأولى التي تلت سقوط الأسد. فاستضاف التلفزيون الرسمي خبراء ومحللين سياسيين دفعوا بأن سقوط الأسد لا يمثل أزمةً لإيران، بل فرصةً جديدة. وفي نشرة أخبار الثامنة مساءً بالتوقيت المحلي لطهران، في يوم السقوط على قناة "خبر"، تحدّث أول الخبراء المُستَضافين بنبرة متفائلة وإيجابية. إذ عدّ أسلوبَ تعامل "الجماعات المسلحة" بعد سيطرتها على دمشق عقلانياً، ووصف التغيير السياسي في سوريا بأنه يحدث بطريقةٍ هادئة. وسعى إلى تحليل الوضع الجديد واستكشاف الفرص المحتملة لإيران، وتصوير إنهاء حكم الأسد فرصةً في إعادة بناء "مستقبل مشرق للمقاومة" وإيران.
من بين محاولات التقليل من شأن سقوط الأسد لإيران، جاءت تصريحات نشرها موقع "انتخاب" نقلاً عن محمد بيات، الخبير الإيراني بشؤون الشرق الأوسط. قال بيات إنّ الدرس الذي يجب أن تستخلصه إيران من سقوط الأسد هو ضرورة الحذر في تعريف محور المقاومة، "إذ إن هذا المحور يعني وجود قاعدةٍ اجتماعيةٍ تسعى إلى مواجهة نظام الهيمنة، بينما الأسد لم يكن محبوباً حتى بين العلويين أنفسهم". وعن كيفية إيجاد قواسم مشتركةٍ مع الإدارة السورية الجديدة، كرّر بيات تصريح هيئة تحرير الشام ألّا مشكلة لديها مع إيران، مقترحاً الاستعانة بالتواصل مع تركيا وقطر لفتح مسار للحوار مع "الإخوان المسلمين"، مما قد يساعد على التحرك نحو خفض التوتر.
وبرّرت وكالة "فارس" سقوط الأسد بأنه "مؤامرات خارجية ضد سوريا"، وأكدت على "استمرار طريق المقاومة بدون دمشق". وكانت الوكالة قبل سقوط الأسد قدّمت رواياتٍ بطوليةً عن صموده وحتمية انتصار حلفاء المقاومة في سوريا، ولكن تغيّر الخطاب بعد السقوط من "انتصار وشيك" إلى تبرير الهزيمة و"الحفاظ على روح المقاومة".
عدّت وكالة "تسنيم" المحافظة معركة ردع العدوان بمثابة "فتنة جديدة" في سوريا، كما عنونت تقريرها في اليوم الأول من المعركة، وربطت فيه بين بدء الهجوم ووقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. عدّت الوكالة "ردع العدوان" معركةً إقليميةً تستهدف محور المقاومة، وأنّ ثمّة مؤامرةً خارجيةً كانت العامل الرئيس وراء السعي لإسقاط الأسد. وفي تقريرٍ سَبَقَ سقوط الأسد، نقلت "تسنيم" عن "مصادر عبرية" لم تحددها أن "ترامب وتركيا وإسرائيل هم من خططوا للأزمة السورية".
اكتسب إطار المؤامرة الخارجية زخماً أكبر بعد خطاب المرشد الإيراني علي خامنئي في الحادي عشر من ديسمبر 2024، بعد ثلاثة أيامٍ من سقوط الأسد. أكّد المرشد في خطابه دورَ الولايات المتحدة وإسرائيل ودولةٍ إقليميةٍ لم يذكر اسمها (يرجّح أن مقصوده تركيا)، في التخطيط لإسقاط النظام السوري. نتيجة ذلك، ضخّمت وسائل الإعلام الإيرانية المحافظة والتلفزيون الرسمي هذا الإطار في رواياتها الإعلامية، وكثفت الحديث عن الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وبعض الدول العربية بكونِها الدولَ "المتآمرة" لإسقاط نظام الأسد.
صحيفة "كيهان" المقربة من المرشد الإيراني تبنّت إطار المؤامرة الخارجية قبل سقوط الأسد وبعده. وفورَ سقوطه نشرت تقريراً بعنوان "سقوط دمشق.. نهاية مهمة الإرهابيين وبداية هيمنة أمريكا". وفي تحليلها عدّت سقوط النظام استكمالاً للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة. وأكدت في تقريرٍ آخَر بعد ستّة أيامٍ من سقوط الأسد أن تركيا وإسرائيل قد خطّطتا لسقوط الأسد بهدف تقسيم سوريا.
صوّرت "كيهان" مرحلةَ ما بعد الأسد فترةً من الفوضى وانعدام الأمن. وتظهر تغطيتها تقارير عن الاقتتال بين الفصائل المعارضة ونهب الممتلكات العامة، وركزت على الهجمات الإسرائيلية على البنية التحتية السورية وسياسات الرئيس التركي التوسعية عواملَ ترسم مستقبلاً قاتماً لسوريا.
بالمثل ركزت صحيفة "جمهوري إسلامي" على المؤامرة الخارجية، لكنها اتهمت روسيا. واتخذت في ذلك اتجاهاً مختلفاً عن عموم وسائل الإعلام الإيرانية، التي عدّت انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا سبباً من أسباب السقوط السريع للأسد، إلّا أنه لم يضع روسيا ضمن المتآمرين كما فعلت "جمهوري إسلامي". على سبيل المثال، في 18 ديسمبر 2024 نشرت الصحيفة افتتاحيةً بعنوان "درس من صفقة سوريا"، وَصَفَت فيه الولاياتَ المتحدةَ وروسيا بأنهما الطرفان الرئيسان اللذان أبرما صفقةً بشأن سوريا، تليهما تركيا وإسرائيل. في التقرير صُوِّرَت روسيا على أنها "خائنة" عقدت صفقةً مع الغرب لتحقيق مصالحها الخاصّة، متجاهلةً تحالفها مع إيران ونظام الأسد. ومع ذلك، في الأيام التالية ركّزت الصحيفة بتوسّعٍ على ما رأته دوراً إسرائيلياً في إسقاط الأسد، في اتّساقٍ مع الخطاب الإيراني التاريخي عن المواجهة بين إسرائيل و"جبهة المقاومة".
ومن العوامل الداخلية التي ركّز عليها الإعلام الإيراني: الوضع الاقتصادي والفجوات العرقية والطائفية وغياب الحريات السياسية واستبداد الأسد والفساد الاقتصادي والإداري وضعف الجيش. وأعيد تأويل هذه العوامل لتُناسب المشهد السياسي في إيران. فقد سعت وسائل الإعلام الإصلاحية إلى إبراز أهمية دور الشعب في الحكم وتسليط الضوء على الحريات السياسية والاقتصادية، وعُدَّ سقوط الأسد نتيجةً حتميةً لتجاهل هذه العوامل. كان خطاباً عن الوضع الداخلي في إيران أكثر منه عن سوريا.
أعاد الإصلاحيون قراءة الأحداث السورية بعدسة السياسة الإيرانية الراهنة. مثلاً، في 9 ديسمبر 2024 نشرت وكالة "إيلنا" تحليلاً عنوانه "بشار الأسد وعلاقته بمشروع قانون العفة والحجاب"، ربطت فيه سقوط الأسد بعلاقته وشعبه مستخدمةً مفاهيم مثل "احترام حقوق الشعب" و"التسامح"، وربطتها بالمشهد السياسي والاجتماعي الإيراني. عدّت الوكالةُ المحسوبة على التيار الإصلاحي مشروعَ قانون "العفة والحجاب" الإيراني الذي يعارضه الإصلاحيون مشابهاً لحالة الأسد.
كذلك ربط موقع "انتخاب" الإصلاحي القضية السورية بالساحة السياسية الداخلية. فاستغلّها لتسليط الضوء على الخلافات الداخلية على قضايا مثل "الحجاب" و"حجب تطبيقات الإنترنت" في إيران، واعتبار التيار المنافس الذي يدعم تدخل الدولة في فرض الحجاب وحجب تطبيقات الإنترنت "ضد التنمية".
ونشرت صحيفة "شرق" تقريراً بعنوان "قصة سقوط" بعد يومٍ واحدٍ على سقوط الأسد، ركزت فيه على عوامل مثل الاستبداد السياسي والفساد الإداري والسياسي وغياب الإصلاحات والأزمة الاقتصادية وانعدام الدعم الشعبي وتآكل الدولة بسبب الحرب الأهلية، وعَدَّتْها السببَ الرئيس في سقوط الأسد. وغطّت الصحيفة بعض تصريحات الإدارة السورية الجديدة، مثل عدم فرض الحجاب إجبارياً، باعتباره "خطوة نحو تعزيز الحريات الشخصية والاجتماعية". سعت الصحيفة بهذا إلى تقويض خطاب التيار الأصولي المنافس في إيران.
في المقابل، استغلت المواقع المحسوبة على الاتجاه الأصولي والمحافظ الإشارة إلى العوامل الداخلية لسقوط الأسد في سياقاتٍ يمكن استعمالها إيرانياً ضد الإصلاحيين. فوكالة "تسنيم" رأت في تنفيذ السياسات الاقتصادية الغربية وعدم الاهتمام برفاهية الشعب سبباً من الأسباب الرئيسة لفشل الأسد. وحمّلت الوكالةُ الغربَ المسؤولية، في امتدادٍ لخطابٍ شائعٍ في الداخل الإيراني ضدّ مؤيدي الليبرالية واقتصاد السوق الحرّ.
وفي 16 ديسمبر نشرت وكالة "تسنيم" أيضاً مقالاً تحليلياً بعنوان "منطق اللا منطق"، استعرضت فيه سقوط الأسد لتوضيح أن "تكلفة المقاومة أقل من تكلفة المهادنة". وتناولت تاريخ المفاوضات الإيرانية مع الدول الغربية، مشيرةً إلى "خيانة الغرب التزاماته"، وإلى أن الحوار معه ليس خياراً موثوقاً. وكالة أنباء "فارس" أيضاً ركزت على ثنائية المقاومة مقابل المهادنة، وعدّت المهادنةَ واحداً من عوامل سقوط الأسد، واستغلت هذا التحليل في تحدّي خطاب "حكومة الوفاق الوطني" للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.
تناولت صحيفة "كيهان" الأحداث السورية من زاويةٍ أُخرى، فوصفت الغرب بأنه "متآمر"، "استعماري"، "مجرم"، و"داعم للإرهاب". واستخدمت مصطلح "الانحياز للغرب" في الإشارة إلى الذين يتبنّون الخطاب الإصلاحي داخل إيران. وشكّكت الصحيفة في جدوى "التفاوض مع الغرب" باستحضار تجربة سوريا. في مقالٍ تحليليٍ بعنوان "درس سوريا" نشرته الصحيفة في 15 ديسمبر 2024، ربطت بين "الثقة في الغرب وإلقاء السلاح" و"المؤامرات الخارجية"، وعدّت هذه الثقةَ من أسباب سقوط الأسد. وحذّرت من أن "التفاوض مع الأعداء قد يؤدي إلى تحويل إيران إلى سوريا أخرى". استعملت "كيهان" سوريا لتعزيز "الرهاب من الغرب" و"الرهاب من التفاوض"، في مواجهة الحكومة الإيرانية وخطابها السياسي.
وتبنّت وسائل الإعلام الأصولية الأخرى والتلفزيون الرسمي الخطاب نفسه، إذ عدّت "ابتعاد الأسد عن المقاومة" و"ضعف الروح القتالية لدى الجيش السوري" و"الثقة في وعود الغرب" عوامل أساسيةً في سقوطه.
ودعمت صحيفة "شرق" الإصلاحية، قبل سقوط الأسد، مواقف الحكومة بشأن التفاوض والحوار مع الدول المجاورة والمعارضة السورية. وبعد سقوط الأسد شدّدت الصحيفة، تماشياً مع مواقف الحكومة، على ضرورة "تشكيل حكومة شاملة" في سوريا.
كانت صحيفة "اعتماد" الأجرأ، فنشرت على صفحتها الأولى غداة سقوط الأسد صورة امرأةٍ سوريةٍ تحمل الورود في أحد شوارع دمشق وترفع شارة النصر احتفالاً بسقوط الأسد، وكان عنوان تغطيتها "القرار بيد الشعب". حَوَت التغطية مقابلةً مع رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني سابقاً حشمت الله فلاحت بيشة، والذي نصح الحكومة الإيرانية بالاعتراف بمطالب الشعب السوري والتواصل مع الإدارة الجديدة في سوريا لضمان المصالح الإيرانية. وقال بأن نظام الأسد لم يكن داعماً حقيقياً للقضية الفلسطينية، بل استغلّها لضمان بقائه.
ردّت صحيفة "كيهان" الأصولية على تغطية "اعتماد" بعنوانٍ عريضٍ "التشابه العجيب بين الجولاني وبعض الإيرانيين الموالين للغرب"، اتهمت فيه بعض الإصلاحيين الإيرانيين بتبنّي خطاب "الجماعات الإرهابية مثل هيئة تحرير الشام وزعيمها الجولاني"، الذي قالت إنه انتقل من القاعدة إلى أداةٍ أمريكيةٍ في سوريا. ووصفت خطاب الإصلاحيين بالتناغم مع الأجندة الغربية بدلاً من الدفاع عن مصالح إيران ومحور المقاومة.
غطى التلفزيون الرسمي ووسائل الإعلام الأصولية بعض مواقف الحكومة ووزارة الخارجية بخصوص التفاوض والتفاعل مع حكام سوريا الجدد. ولكنهم، بالتركيز على مفهوم المقاومة، سعوا إلى إضعاف خطاب الحكومة والإصلاحيين.
في هذا الإطار، يصوّر الإعلام انعدام الأمن والفوضى وصراع القوى واغتيال العلماء النوويين السوريين وتدمير البنية التحتية الدفاعية على يد إسرائيل، باعتبارها عناصر تشكّل الصورة القاتمة للمرحلة الجديدة. هذا الخطاب، بعد التقليل من كارثية التحوّل السوري وأهميته على إيران، أحد الأطر المتكررة في التلفزيون الرسمي عن سوريا. إذ قارَنَ الوضعَ السوريّ بالليبيّ بعد "الإطاحة بالأنظمة بدعم من القوى الأجنبية"، ما يتضمن رسالةً بأن سقوط الأنظمة يفضي إلى عواقب مدمّرة.
صوّرت وكالة الأنباء الإيرانية أيضاً مرحلة ما بعد الأسد حقبةً من الفوضى وعدم الاستقرار، بالتركيز على الاضطرابات الداخلية في سوريا والهجمات الإسرائيلية والوجود التركي، وترويج فكرة تعاونٍ سرّيٍ بين "الجماعات المسلحة السورية" وإسرائيل.
ونشرت وكالة أنباء "تسنيم"، المقربة من الحرس الثوري الإيراني، في الحادي عشر من ديسمبر مقالاً عنوانه "بفرماييد شام" أيْ "تفضلوا على العشاء" (شام تعني بالفارسية العشاء، وبفرماييد شام هو برنامجٌ ترفيهيٌ للطبخ). حاول كاتب المقال إظهار أن إسقاط الأسد قد كلّف السوريين خسائر كبيرةً، ما يعني ضمنياً التحذيرَ من خطاب إسقاط النظام في إيران أيضاً. وساهمت وكالة "مهر" المحافظة في هذا الخطاب أيضاً وتناولت مواضيع مثل "تقسيم سوريا" و"اغتيال العلماء السوريين" و"الهجمات الإسرائيلية" و"اعتقال العلويين". تسبب سقوط الأسد بحسب هذه التغطية بهذه الكوارث، ما يتضمن تحذيراً للمشاهدين من تبنّي هدفٍ مشابهٍ في إيران.
لم تهتم وسائل الإعلام الإيرانية بالتحقق من الأخبار قبل نشرها. فقد تبيّن مثلاً أن خبر اغتيال عالِمٍ نوويٍّ في دمشق مفبركٌ، ولكن ذلك لم يمنع وسائل الإعلام الإيرانية من إعادة نشره على نطاقٍ واسع.
كثّف التلفزيون الرسمي هذه الرسائل في تقاريره وبرامجه التحليلية مكرّراً بثّ خطابات المرشد، وكذلك فعلت صحفٌ مثل "كيهان" و"وطن أمروز" ووسائل الإعلام المحافظة، فبشّرت بانتصار المقاومة وتحقُّق وعود المرشد. وكرّرت بثّ خطب أئمة الجمعة وتصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني التي تنشر الأمل بالنصر بعد الصبر والتضحية والصمود.
على الجانب الآخَر، صوّرت بعض وسائل الإعلام الإصلاحية سقوط الأسد هزيمةً لإيران، ولكن بتلميحاتٍ مواربة. وعدّته درساً يجب استيعابه مركزةً على الخسائر المالية والبشرية التي تكبدتها إيران في دعم النظام السوري، وعلى الضعف الاستخباراتي الإيراني في التنبؤ بتطورات الأحداث.
عدّت صحيفة "اعتماد" سقوط الأسد "هزيمة لإيران" صراحةً وضمناً في العديد من المقالات، واستخدمته أداةً لنقد السياسات العامة للدولة. على سبيل المثال، نشرت الصحيفة في 10 ديسمبر مقالاً بعنوان "الهزيمة المعرفية"، بقلم الكاتب المعروف عباس عبدي، وصف فيه سقوط الأسد بالهزيمة الكبيرة لإيران ووجّه انتقاداتٍ حادّةً إلى الشخصيات السياسية. وانتقد عبدي تبرير السياسيين الإيرانيين لهذه الهزيمة.
وركّزت وسائل الإعلام المحافظة على "توضيح أسباب وجود إيران في سوريا ودعمها الأسد". وأَوْلَت اهتماماً خاصاً "بأهمية شهداء الدفاع عن المراقد في تعزيز جبهة المقاومة"، والتي تسمّيهم إيران "شهداء حرم"، واعتبرت الدفاع عن دور هؤلاء بمثابة "جهاد التبيين" كما تصفه. وكذلك فعلت وكالة "مهر" التي أعادت التذكير "بشهداء المراقد" وشرعية تضحياتهم، وأنهم سببٌ في تعزيز جبهة المقاومة.
وانشغلت بعض الوسائل الإعلامية المحافظة بنزع الشيطنة عن صورة بشار الأسد، مؤكّدةً دعمه المقاومة في مدّة حكمه سوريا، وذلك لتبرير حجم الدعم الإيراني له. وحاولت هذه الوسائل التشكيك بحجم جرائم الأسد ودموية نظامه، والطعن بمصداقية تقارير سجن صيدنايا العسكري.
أبرزت وسائل الإعلام المحافظة أطر "المؤامرة الخارجية" و"المقاومة أو المهادنة" و"انعدام الأمن والفوضى"، في حين ركّز الإصلاحيون على العوامل الداخلية للسقوط و"الحوار والتفاوض".
وحاول كلّ طرفٍ، بإعادة قراءة الأحداث في سوريا بما يتناسب مع المشهد السياسي في إيران، تهميشَ خطاب الطرف الآخَر والتقليل من شرعيته. فتحولت الأحداث السورية وسقوط الأسد إلى موضوعٍ لتنازع الرؤى بحسب الاصطفافات والمعسكرات السياسية الداخلية.
وتعكس التغييرات في اللغة الإعلامية، مثل استخدام مصطلحات "الإرهابيين" أو "الجماعات المسلحة"، تغيّرَ مصطلحات وسائل الإعلام وفق تطورات الأوضاع الميدانية على الأرض.
يؤكد التقييم العامّ للرواية الإعلامية الإيرانية عن سقوط نظام الأسد أنه لم تظهر روايةٌ متجانسة. يعود السبب الرئيس في ذلك إلى تضارب الخطاب السياسي للحكومة الإيرانية من جهةٍ، ومراكز صنع القرار الأخرى المتمثلة بالمرشد الإيراني وقادة الحرس الثوري. وكذلك سرعة التطورات السورية التي لم تسمح للمنافذ الإعلامية برسم سياسةٍ تحريريةٍ متماسكةٍ وثابتة. ونهايةً بالاستقطابات السياسية الداخلية التي حوّلت تصوير الحدث السوري إلى أداةٍ في صراعاتها.
