لقد أدرك الفلسطيني أنّ الفاقةَ والحاجة وغياب التنظيم تقود إلى مزيدٍ من الضياع وغياب القانون ومصارعة الناس بعضهم بعضاً على الموارد، وهذا ما كان لزاماً على السياسي أن يبدأ بردمه. ليس بالضرورة أن يكون غرضُ تقديم الحماية أو الرعاية استقطابَ الناس لأغراض المعارضة السياسية، كما في الدول الديمقراطية. بل كان في بداياته، وقد استمر لعقود، لأغراض وطنية ودينية تُمكِّن النّاس وتحرّضهم ضدّ الاحتلال باستمرار. نجحت كلٌّ من منظمة التحرير الفلسطينية وحماس بعد المراكمة في مسار الدعم الاجتماعي في دفع الناس إلى الانخراط في النضال بدءاً من نهاية السبعينيات وليس انتهاءً باليوم، بعد انخراط المجتمع في الاقتصاد الإسرائيلي منذ نكسة 1967 التي عاشوا بعدها قرابة عقدٍ ونصف من الركود النضالي في الأرض المحتلة. وفي اللحظة التي تحوّل فيها هذا الدعم المتناثر إلى ظاهرةٍ تُقدِّم بديلاً وتطمينات مادية للمجتمع والمقاتل وحاضنته بعد إصابته أو "استشهاده"، أصبح الانخراط السياسي والعسكري يتنامى تدريجياً حتى نضج في انتفاضة الحجارة سنةَ 1987.
بعد سنوات من الضياع والتشتت بدأ الشبان الفلسطينيون لملمةَ أنفسهم وتنظيمها في دول الشتات، خصوصاً في بلدان الخليج التي قدّم فيها هؤلاء الشباب كفاءاتهم العلمية وجدارتهم العملية. حصّلوا مقابلها مصادر دخل مريحة، ودعماً سخيّاً من شعوب تلك البلدان. وبتعبير رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية محمود عباس، فقد ظنَّ الغرب والإسرائيليون أنَّ الفلسطيني سينسى قضيته تدريجياً مع تحسن أوضاعه المادية في الشتات. كانت النتيجة خلافَ المأمول، إذ أسس مجموعةٌ من الشبان العاملين في قطر والكويت والسعودية حركةَ فتح، ويقول محمود عباس الذي كان من هؤلاء الشبان: "حين تتحسن ظروفك المادية تصبح قادراً على التفكير في النضال".
تلاقت لحظات نضوج المشاريع السياسية تلك، منتصف الستينيات، مع القرار العربي بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، لتكون ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في كل مناطق وجوده بقيادة أحمد الشقيري. كان من المؤسسات والهيئات التي أسستها المنظمة مؤسسة رعاية الشهداء والجرحى والأسرى سنة 1965، وما زالت أكبر مؤسسة فلسطينية نضالية ترعى شؤون كل مَن تضرر من الاحتلال وتحمي عائلته من الفقر والتشرد والتسول. إلا أنّ عمل مؤسسة رعاية الشهداء ظلّ ضعيفاً مثل كثيرٍ من مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بدايةَ التأسيس. مع التحاق الفصائل الفلسطينية بالمنظمة بعد معركة الكرامة سنة 1968 بقيادة ياسر عرفات، تطورت المؤسسات تدريجياً وتحوّل دور مؤسسة رعاية الشهداء تحولاً كبيراً سنة 1979 عندما قررت المنظمة أن تشمل خدماتُها كلَّ "شهيد" وجريح وأسير فلسطيني، مدنياً أو مقاتلاً، داخل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية أو خارجها، بل وشملت عرباً وأجانب قاتلوا من أجل فلسطين.
حازت مؤسسة رعاية الشهداء والجرحى والأسرى على نفوذٍ مالي ضخم ذي أثر كبير في حماية المتضررين من إسرائيل. ففي الدورة الأولى من مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1964، أي مع إطلاق منظمة التحرير الفلسطينية، اتُّفق على عدّة بنود تخصُّ مصادرَ التمويلِ وحجم الميزانيّات التي كانت تتلقّاها المنظمة عربياً. وفي البند الرابع من القرارات المالية ورد التالي: "يُجبى للصندوق القومي رسمٌ قدره خمسة فلسات عن كل برميلٍ من المواد البترولية المصدّرة من البلاد العربية المنتجة للنفط". وفي البند السادس: "تقوم اللجنة التنفيذية [لمنظمة التحرير الفلسطينية] بالاتصال بالدول العربية لفرض رسومٍ إضافية لصالح الصندوق القومي على ما يلي: 1- رسم تحدده كل دولة عربية على جميع البضائع المستوردة والمصدّرة على أن يضاعَف هذا الرسم بالنسبة للبضائع الكمالية أو شبه الكمالية كأدوات الزينة والعطور والمشروبات الروحية والسجائر وما شابه ذلك، 2- رسم تحدده كل دولة عربية على تذاكر الطائرات، 3- رسم تحدده كل دولة عربية من قيمة رسوم الموانئ والمطارات".
وبما أن ميزانيةَ مؤسسة رعاية الشهداء تابعةٌ ميزانيةَ الصندوق القومي الفلسطيني، فإننا نرى أثر الصّرف المالي في الميزانيات السنوية التي كانت تنفَق على عائلات "الشهداء" والجرحى والأسرى والعوائل المتضررة. قبيل انتفاضة الحجارة سنة 1987 كان عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل حوالي ثلاثة آلاف، وارتفع في العامين الأولين من الانتفاضة إلى أربعة آلاف منهم سبعمئة وخمسون سُجّلوا في قيود منظمة التحرير الفلسطينية بتكلفة سنوية بلغت خمسة ملايين وستمئة ألف دولار أمريكي. وارتفع عدد الأسرى من سبعة آلاف قبل الانتفاضة إلى أربعة عشر ألفاً في أثنائها، من أصل إجماليٍّ بلغ خمسة وستين ألف أسيرٍ خُصّص لهم ستة عشر مليوناً وثمانمئة ألف دولار سنوياً. وازداد عدد الجرحى من ألفين وخمسمئة قبل الانتفاضة إلى ثمانين ألفاً، منهم ألف وخمسئة يعانون عجزاً دائماً، وقد خُصّص مبلغ أربعة ملايين وثمانمئة ألف دولار سنوياً لأربعة آلاف جريح. بينما قُدمت مساعدات مؤقتة لثمانية وعشرين ألف جريح بتكلفة أربعة ملايين دولار سنوياً في أول عامين من الانتفاضة لعدم وجود عجزٍ دائم، إنما فترة علاج قصيرة وراحة.
قدّمت المنظمة مخصّصات مالية لنحو واحد وثلاثين ألف موظف في الضفة الغربية وقطاع غزة، من بينهم اثنان وعشرون ألف موظف تأثروا بقرار فكِّ الارتباط القانوني والإداري للضفة مع الأردن في صيف 1988 وثلاثة آلاف موظف في قطاعات البلديات والأوقاف والقضاء الشرعي وخمسمئة مهندس، وعاطلين عن العمل بإجماليٍّ قدره ستة وأربعون مليوناً ونصف المليون دولار. وقرابة ستة آلاف حالة مسجَّلةٍ لأسباب نضالية وإعادة بناء البيوت التي هدَّمتها إسرائيل قبل الانتفاضة وفي العامين الأولين منها. فبلغ مجموع المستفيدين من خدمات منظمة التحرير الفلسطينية واحداً وثمانين ألف شخص، بتكلفة ثمانية وسبعين مليون دولار سنوياً. حتى سنة 2010 توسَّعت ميزانية المؤسسة لتستوعب كلَّ من تضرَّر في الانتفاضة الثانية سنة 2000 والعدوان على غزة بين سنتي 2008 و2009، وما بينهما من ضحايا في المواجهات في الضفة والقطاع. وصلت التغطيات الماليّة قرابة مئة وخمسة ملايين دولار.
استمرَّت مؤسسة رعاية الشهداء في حماية كلِّ مَن يتضرَّر من إسرائيل في أي منطقة، ولم تكن المؤسسة انتقائية أو مسيّسة حينها ولا تميّز بين "شهيد" وآخر، حتى من أعضاء حركتَي حماس والجهاد الإسلامي مع عدم انخراطهما في المؤسسة أو اعترافهما بها.
بعد دخول القضيّة الفلسطينيّة نفق الانقسام سنة 2007 ونشوء سلطتين في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، أقرَّت السلطةُ الفلسطينيةُ التي تحتكر منظمة التحرير سياساتٍ على القطاع لتضييق الخناق على حماس. أصدر محمود عباس، قائد فتح والمنظمة والسلطة، قراراً في سنة 2012 بقطع مخصصات كل عائلة "شهيد" أو جريح له علاقة بحركتَي حماس والجهاد في مؤسسة رعاية الشهداء. صرّح للفِراتْس أحدُ كبار المسؤولين الماليين في حركة حماس في مقابلةٍ خاصّة أنّ حماس اضطرت إلى كفالتهم وتعويضهم جميعاً. كان عددُهم 2029 عائلة، 1425 منهم عائلة "شهيد" وستمئة وأربعة عوائل جرحى، بتكلفة شهرية بلغت قرابة ثمانمئة ألف دولار شهرياً. ثم قرَّر عباس منعَ استقبالِ أسماء أفراد أسرٍ جديدة من قطاع غزة بعد سنة 2012، قبل عدوان ذلك العام، سواء كان ذلك لأفرادٍ مدنيين أم عسكريين تابعين لحركات المقاومة في القطاع، ما انعكس عقاباً لمليوني إنسان، حتى لو كان "شهيداً" أو جريحاً "غزياً" ينتمي لحركة فتح. حسب عبّاس فإن على السلطة التي "تقرر" خيار الحرب في غزة أن تتحمّل تعويض آلاف الجرحى وأيتام "الشهداء" ضحايا حروب إسرائيل المتكررة على القطاع.
على النقيض من قرار عباس، وفي اتِّساقٍ مع سياسة منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها، تقدّم مؤسسة رعاية الشهداء منحاً كاملة لأبناء "الشهداء" وزوجاتهم في الجامعات الفلسطينية في القطاع ذات الرسوم التعليميّة الباهظة ولا تلتفت هذه المنح لانتماء الطّلاب السياسي. مع مكرمة حجٍّ لكل عائلات "الشهداء" في القطاع، بحدود خمسمئة مكرمة سنوياً. اتهمت حماس السلطة بالتمييز وإقصاء ذوي عائلات "شهداء" حماس عدة مرات من المكرمة.
مع كل ما سبق، لم تَسْلم مؤسسة رعاية الشهداء من الانتقادات من داخل منظمة التحرير الفلسطينية. كما في مقال يوسف عبد الحق "الحماية الاجتماعية للنضال الفلسطيني" في مجلة "صامد" المنشورة سنة 1990، إذ انتقد غياب العمل الاجتماعي وسوء التقدير الإداري في طريقة احتساب مخصصات المستفيدين والفوارق الشاسعة بين دولة وأخرى. وورد نقد من مؤسسات الشفافية، مثل تقرير أمان سنةَ 2010، عن غياب القوانين في كثير من الأحيان أو الاختلاسات مالية أو سوء الإدارة والمتابعة، وغيرها من الانتقادات.
سياسياً، أثقل اشتعال الانتفاضة الأولى في 1987 اجتماعياً واقتصادياً كاهلَ الغزيين نتيجة الإضرابات والعصيان المدني وسحب تراخيص العاملين في الاقتصاد الإسرائيلي وإغلاق المعابر أمامهم، لأن الاعتماد على العمل في إسرائيل كان كبيراً. وزادت حالات الاعتقال، أي غياب رب البيت، فوصلت إلى مئة ألف حالة في أثناء الانتفاضة وعشرات آلاف الجرحى وهدم آلاف المنازل والمباني السكنية وإغلاقها. نتيجة العنف الإسرائيلي زادت الحاجة إلى مضاعفة عمل المؤسسات الخيرية لإعالة الناس، مع انخفاض الدخل وتزايد نسب الفقر في المجتمع الغزي. واعتمد كثيرٌ من عائلات غزة الفقيرة على تربية الدواجن في "حاكورة" المنزل، بينما لجأت بعض ربات البيوت إلى مساعدة جيرانها في أعمالهم المنزلية للحصول على معونةٍ مادية بسيطة.
كانت لحظة الانتفاضة الأولى تأسيسية في تاريخ الجمعيات، فقد نشأت عشرات منها وتوسعت الجمعيات السابقة التي كان عددها مطلعَ الانتفاضة سبعاً وثلاثين. منها جمعية الصلاح والشابات المسلمات والمجمع الإسلامي الذي أسسه الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس. وأصبحت أكثر تنظيماً وخبرة وكوّنت شبكة علاقات خارجية داعمة مالياً من اللجان الشعبية في قرى الداخل ومدنه، أو ما يُعرف بالخط الأخضر، والبلدان العربية والإسلامية خصوصاً في الخليج. ومنذ فجر الانتفاضة حتى يوم السادس من أكتوبر 2023 تجاوز عدد الجمعيات في القطاع الأربعمئة، وما بينهما شهدت المؤسسات الخيرية عمليات صعود وهبوط شديدة ومتناقضة من ذروة المصادر المالية والتسهيل والرعاية القانونية والسياسية في القطاع حتى تضييق الخناق عليها "لتأديب" الغزيين وحماس خاصةً. وقد مرَّ التضييق في عدة مراحل في العقود الثلاثة اللاحقة.
كانت المرحلة الثانية مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وبدء ما سُمّي "الحرب على الإرهاب". فقد شهدت المؤسسات والجمعيات انتكاسة كبرى، وأُغلقت جمعيات وسحبت تراخيص وأُغلقت حسابات بنكية للعشرات منها، كالنجدة العالمية والأرض المقدسة، واعتُقل عددٌ من العاملين فيها. تزامن هذا مع إغلاق مؤسسات خيرية في أوروبا وأمريكا وبعض الدول العربية ممّن له صلة بتلك الجمعيات بذريعة "مكافحة الإرهاب" في العالم.
في المقابل سعت دولٌ عدّة لتقديمِ مساعدات كبرى أسهمت في التعويض عن الضَّرر الذي أصاب الجمعيات الخيرية، خصوصاً أنَّها تزامنت مع اشتعال الانتفاضة الثانية سنة 2000. أعلنت العراق في مارس 2002 زيادة دعمها عائلات "الشهداء" إلى خمسة وعشرين ألف دولار لكلِّ عائلة. في حين وصل حجم التبرعات من اللجنة الشعبية السعودية لدعم الانتفاضة منذ اشتعالها آخر سبتمبر 2000 حتى أبريل 2002 قرابة سبعة وستين مليون دولار.
في مقابلات صحفية سابقة، صرّح رائد العمل الخيري في قطاع غزة أحمد الكرد (المتوفي سنة 2020) أنّ اللجنة ساعدتْ في فترات متباعدة أربعمئة أسرة "شهيد" في الضفة الغربية وقطاع غزة بخمسة آلاف وثلاثمئة دولار لكلِّ أسرة، وساعدتْ ثمانية آلاف جريحٍ في الضفة وغزة بمبلغ 1325 دولاراً أمريكياً، وأعانت ألفي عائلة أسير بقرابة 2650 دولاراً، مع دعمٍ يصل إلى الصندوق القومي الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير.
أما المرحلة الثالثة من مراحل التضييق فكانت قبل وقوع الانقسام الفلسطيني ونشوء السلطتين في الضفة وغزة في 2007. أدركت الولاياتُ المتحدة مركزيةَ تلك الجمعيات في رعاية المجتمع الفلسطيني وحمايته، فسعت إلى التعويض عن الضرر الناتج عن سياسات مكافحة الإرهاب بعد 2001. أعلنت مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس في إحدى زياراتها المنطقةَ سنة 2006 عن "تخصيص مليار دولار بديلاً عن الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الجمعيات الإسلامية الفلسطينية"، ما فُهم على أنه محاولة لإخضاع المؤسسات لتوجهاتها الثقافية والانتقائية في اختيار السكان في عملية التوزيع. ولكن بعد أشهر تلقَّت الجمعيات الضربة الثانية، لتنتقل من السياق الدولي والإقليمي في مكافحة "الإرهاب الإسلامي" إلى عقابٍ محلي ضدّ حركة حماس وسكان قطاع غزة كلهم.
رأت السلطة الفلسطينية وحركة فتح أنَّ حماس تُهيمن على المجتمع بفضلِ ما تُقدِّمه للناس من خدمات ومعونات بالمؤسسات، لذلك عمدتا على مراحل إلى تحجيم عملها والتضييق على أدوارها. فقررت السلطة الفلسطينية منذ لحظة الانقسام أن تُحمّل حماس مسؤوليةَ كلِّ الكوارث الإنسانية الناجمة عن "انقلابها" في غزة، وفق رواية السلطة. ففي أغسطس 2007 أعلنت حكومةُ رئيس الوزراء سلام فياض حلّ أرصدة مئة وثلاث جمعيات في الضفة والقطاع وتجميدها، ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية يومها شكرَ رئيسِ الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت الرئيسَ الفلسطيني محمود عباس على هذا القرار. كان القرار قبيل حلول شهر رمضان، ممّا ضاعف ضرر السكان والعائلات الفقيرة التي كانت تنتظر المساندة والدعم في هذا الشهر الذي تتضاعف فيه ميزانيات الجمعيات الخيرية بفضل أموال الصدقات والزكاة والتبرعات من أنحاء العالم الإسلامي.
جاءت المرحلة الرابعة مع اشتعال فتيل الثورات العربية سنة 2011. تضرَّرت المؤسسات الخيرية في القطاع نتيجة نشوء مأساة عربية جديدة في سوريا واليمن وغيرهما، من لجوء الملايين في الخيام ومئات آلاف الضحايا والجرحى، إذ اتَّجه قطاع كبير من تمويل المؤسسات الخيرية في أرجاء العالم العربي والإسلامي من فلسطين إلى سوريا واليمن وبلدان لجوئهم.
أما المرحلة الخامسة في سلسلة التضييق على الجمعيات فبدأت سنة 2017 حين انتقل الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى سياسةٍ جديدةٍ مع قطاع غزة. قُطعت رواتب آلاف الموظفين الحكوميين وخُصم ما بين 50 و70 بالمئة من رواتب آلاف آخرين، وأُوقفت رواتب 277 أسيراً في القطاع. وطالتْ العقوباتُ تجميدَ الأرصدة وإغلاق حسابات 90 بالمئة من الجمعيات الخيرية. كذلك حُرم أكثر من عشرين ألف يتيم من الكفالات وخمسين ألف عائلة من أصل مئة ألف من المساعدات. وما زالت تلك السياسة العقابيّة مستمرّة حتى اليوم.
استُثنيت الجمعيات الخيرية السلفية من إغلاق الحسابات المصرفية التي تصل إليها التبرعات من الخارج ومن شبكاتهم السلفية في أنحاء العالم الإسلامي. صرّح للفِراتْس أحد المقرّبين من التيار السلفي في القطاع أن السلفيين في حالة حربٍ باردة مع حركة حماس والإخوان المسلمين، وكانت هذه المؤسسات تفصل أي موظف يشيد بحماس، وتمنعُ تقديم مساعدات أو كفالة أيتام لهم صلة بحماس. لذلك كان عمل الجمعيات الخيرية السلفية يصبُّ في صالح محمود عباس.
أدركت إسرائيل مع الانتفاضة الثانية أهميَّةَ العملِ الخيري في تعزيزِ تماسكِ الحالة النضالية في القطاع، انطلاقاً من تجربة الحركة الصهيونية نفسها التي نشطت في جمع الأموال نهايةَ القرن التاسع عشر، وبنت منها مشاريعها السياسية والعسكرية. لكن إسرائيل طورت مع الوقت سياسات مركّبة تجاه هذه المؤسسات. فهي من جهة تدرك مخاطرها ومن جهة لا تريد انفجار المجتمع الغزي في وجهها بسبب سياسات الحصار والتضييق، أي أن يعيش سكان القطاع فوقَ الماء بلا غرق، وفق تصريح وزير الدّفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان حين سُئل عن السّياسة الإسرائيليّة تجاه القطاع. وقد سبق أن صرَّح مدير مكتب شارون ومهندس خطّة الانسحاب أحادي الجانب سنة 2005 دوف فايسغلاس أنّ "الغزّيّين سيظلّون ملتزمين بحميةٍ غذائيّة دون دفعهم للموت جوعاً". لذلك سمحت إسرائيل بالمساعدات والضخ المالي بالقدر الذي تراه يتسق مع تلك الخطوط العريضة. فمثلاً، خلّفت مسيرات العودة التي أطلقتها حركة حماس سنة 2018 على الحدود الإسرائيلية مع القطاع بغرض فك الحصار ما يزيد عن تسعة عشر ألف جريح، حسب مركز الميزان لحقوق الإنسان. في حين ترفع وزارة الصحة في غزة العدد إلى ما يقارب ثلاثين ألفاً. وبُترت أقدام أكثر من مئة غزّي بسبب إطلاق رصاصات متفجّرة على المتظاهرين، مما جعل الأوضاع كارثية على المتضررين الذين رفض محمود عباس منذ 2012 استقبال أسمائهم في مؤسسة رعاية الشهداء. ومنذ المسيرات سمحت إسرائيل بإدخال مساعدات قطرية شهرية للقطاع بقيمة عشرين مليون دولار، وبحسب المسؤول المالي التابع لحماس الذي قابلناه، فإن عشرة ملايين منها كانت مساعدات توزع نقداً على الغزيين "بغض النظر عن الانتماء". وتكفل باقي المبلغ بثلاثة آلاف جريح من المتضررين في المسيرات، ودُفع لهم ما بين مئة دولار إلى ألف شهرياً، حسب نسبة العجز.
ويضيف هذا المسؤول المالي للفِراتْس أن استهداف المؤسسات يأخذ مدى أبعد من الضغط على الحركة، بل يراها سياسات ضد سكان القطاع قبل أي تصنيف آخر. لأن هذه المؤسسات تؤدي دوراً تراحمياً في مجتمع الفقراء والأيتام والجرحى وذوي "الشهداء" وأصحاب البيوت التي دمَّرتها إسرائيل، وهناك مئات الجمعيات الخيرية لا صلة لها بحركة حماس البتة. مع ذلك فقد ساندت حماس، بحسب المسؤول، الجمعياتِ المقربة منها حين أغلقت وضعفت، واضطرت الحركة إلى دعمها من ميزانياتها الخاصة لسدّ عجز الجمعيات بعد سنة 2017، وهو ما جعل معارضي حماس يتهمونها بتبييض الأموال والفساد المالي.
قدَّمت المؤسسات الخيرية عدداً كبيراً من الخدمات وأنواعاً شتى من الرعاية. الجانب الأول منها الخدمات الصحية بأسعارٍ رمزية أو مجاناً للعائلات الفقيرة والأيتام والجرحى وعائلات "الشهداء" والأسرى. قُدمت الخدمات الصحية في مستشفى دار السلام في خان يونس التابع للمجمع الإسلامي، الذي دُمِّر في السابع من أكتوبر، ومستشفى يافا في دير البلح التابع لجمعية الصلاح. إلى جانب عشرات المراكز الطبية والمستوصفات، كمركز الإصلاح الطبي الخيري في غزة وعيادة القدس وعيادة الفاروق للأسنان في خان يونس. وقد استفاد مئات الآلاف من خدمات هذه المراكز، ففي سنة 2004 قدم القطاع الصحي التابع لجمعية الصلاح خدمات لستمئة وأربعين ألف شخص، و177 ألف شخص في سنة 2006، وفي سنة 2009 استفاد مئتا ألف شخص، وفي سنة 2011 استفاد نحو مئتي ألف شخص.
الجانب الثاني تقديم خدمات تعليمية للأيتام وفئات أخرى محتاجة. فلدى المجمع الإسلامي، وهو المؤسسة الخيرية التي أسسها الشيخ أحمد ياسين في 1973، مدارس الأقصى الثلاث التي تستقبل أربعمئة إلى سبعمئة طالب وطالبة، ولديهم كذلك سبع عشرة روضة أطفال، منها إحدى عشرة في محافظة غزة وست في محافظة خان يونس، تضم ثلاثة آلاف طفل، وللمجمع مركزٌ لمحو الأمية للكبار يخرّج سنويّاً ستين شخصاً. أما جمعية الصلاح الإسلامية، المؤسسة نهاية السبعينيات، فلها مدرستا الصلاح الخيرية للبنين ومدرسة خديجة للبنات، وتستوعبان 1540 طالباً وطالبة، وسبع رياض أطفال تضمُّ 1262 طفلاً. هناك أيضاً جمعية الشابات المسلمات، أول مؤسسة نسوية إسلامية في غزة انطلقت في 1981، ولديها ثلاث عشرة روضة أطفال وخمس حضانات موزّعة على طول القطاع، وخمس مراكز محو أمية للكبيرات. وتوفر جمعيات أخرى مكتبات عامة للأطفال، كمؤسسة إنقاذ الطفل. تقدّم هذه المدارس وغيرها تعليماً بمعايير جيدة بلا رسوم، ووجبات غذائية وحقائب وكتب مدرسية ومواصلات وزي مدرسي، وتُقدّم بعضُ الجمعيات دروسَ تقوية لطلاب المدرسة الأيتام بأسعار رمزية.
بهذه الخدمات التعليمية أمكن دمجُ العملِ الدعوي والتعليمي، مثل مراكز تحفيظ القرآن وعلومه. فالمجمع الإسلامي يرعى ثلاثين مركز تحفيظ، وترعى جمعية الصلاح ثلاثة وثلاثين مركزاً، وجمعية الشابات المسلمات 149 مركزاً تُخرِّجُ ثمانين دورة سنوياً. أمَّا دارُ القرآن الكريم والسنة فهي المؤسسة الأبرز في هذا المضمار، وقد أسَّسها الشيخان عبد الرحمن الجمل وعبد السميع العرابيد في 1995. كانت قد انشقت عن المجمع الإسلامي لأنَّ القائمين عليها فضَّلوا إبعادها عن الأجواء السياسية، مع أن الشيخ الجمل عضو في حركة حماس وأصبح لاحقاً أحد نوابها في المجلس التشريعي. وقد نجح الشيخان بالنأي عن أي استقطابٍ سياسي داخلي، وحظيت الدار بإجماع أغلب المكونات السياسية في القطاع. وفي مقابلةٍ أجريناها مع أحد العاملين فيها، أخبرنا أن جُلّ ميزانية المؤسسة كان من تجار القطاع بمختلف انتماءاتهم السياسية، وكانت آلاف العائلات الفتحاوية والحمساوية وغيرهم تفضَّل أن ترسل أبناءها لحفظ القرآن فيها لأنها بعيدة عن الولاء للفصائل. فمنذ تأسيسها حتى سنة 2021 تخرج فيها خمسة وعشرون ألف حافظ وحافظة للقرآن الكريم، بينما حفظ أجزاء من المصحف مئة وستة آلاف طالب وطالبة. كذلك تخرج في دورات السنة النبوية والعلوم الشرعية التي تقيمها الدار 151 ألفاً، وقبل حرب الطوفان خرجت دار القرآن ألفاً وأربعمئة حافظ وحافظة.
من أهم جوانب عمل هذه المؤسسات، التي يرتبط معظمها بحركة حماس، الاهتمامُ بالأيتام وإدماجهم في منظومتها التربوية والدعوية. صرّحت للفِراتْس ثلاثُ شخصيات مرتبطة بهذا النشاط أن ما نسبته 50 إلى 65 بالمئة من الأيتام في القطاع تحت رعاية هذه المؤسسات. فمثلاً تقيم جميعة الشابات المسلمات ما يزيد على خمسة وسبعين مخيماً صيفياً سنوياً يلتحق بها ثمانية آلاف طالبة، مما يجعلها منظومة متكاملة تحيط الأيتام وأبناء الفقراء.
كانت هذه المؤسساتُ التعليميةُ قبلَ تأسيس السلطة الفلسطينية تضع مناهجها التي تراها مناسبة لتوجهاتها، ومع تأسيس السلطة أصبحت مناهجها مزيجاً من خبرات المؤسسات ومناهج التربية والتعليم الرسمية، وأصبحت تخضع لرقابتها، وهو ما يبدو عدمَ رغبة هذه المؤسسات الاصطدام مع السلطة والعكس. ولكن بسبب نشاط أعضاء هذه المؤسسات، وخصوصاً مراكز تحفيظ القرآن، في الأعمال السياسية والعسكرية المعارضة للسلطة أو إسرائيل، كان رد فعل السلطة عنيفاً ضد العمل الخيري وخدماته في الضفة الغربية بعد الانقسام سنة 2007. طاردتْ الأجهزةُ الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية العملَ الدعوي والتعليمي وراقبت المساجد، وهو ما قاد إلى تجريف هذه البنية من داخل الضفة لاستنتاجها أنَّ تمدّد هذه المؤسسات أضرَّ بها في قطاع غزة وعزَّز من فرص خصومها. وفي الشهر الأول من صدامات سنة 2007، أي مع سيطرة حماس على الحكم في غزة، سُجّلت سبع حالات اعتداء من السلطة وتخريب مؤسسات خيرية في الضفة الغربية. في المقابل سجَّلت حماس ستة عشر اعتداءً على مراكز ومؤسسات خيرية أهلية تتبع حركة فتح أو لا صلة لها بحماس، كاقتحام جمعية الحياة والأمل في غزة ومؤسسة رعاية الشهداء في خان يونس ومؤسسة الوسام لرعاية الجرحى في رفح.
الجانب الثالث من خدمات هذه الجمعيات الخيرية يشمل الطرود الغذائية والاستهلاك واستدامة المشاريع. فقد وفَّرت ملايين الطرود الغذائية سنوياً ووزعتها على البيوت، وقدَّمت بطاقات هدايا لشراء الاحتياجات من نقاط محددة. امتدَّ عملُ الجمعيات إلى إقامة مشاريع إفطار جماعية في مختلف أنحاء القطاع، التي تتضاعف في رمضان والأعياد، بالإضافة إلى تقديم الملابس وترميم البيوت المتهالكة والمساعدات المالية المرسلة من دول عربية وإسلامية التي تصلُ أربعمئة دولار للأسرة الواحدة. ففي سنة 1992، في أثناء الانتفاضة الأولى وقبل اتفاقيات أوسلو، كان المجمع الإسلامي وحده يتكفّل بخمسمئة أسرة في خان يونس. ووزعت جمعية الصلاح سنة 2004 في أثناء الانتفاضة الثانية مساعدات مالية وصلت 47315 فرداً، تتفاوت المساعدات بحسب تقدير نسب الفقر بين العوائل.
أخبرنا أحدُ العاملين في هذه المؤسَّسات أنَّه عندما بدأ التسييس يدخل أروقة بعض المؤسّسات الخيرية بعد سنة 2007، وخصوصاً تلك التي تتبع حماس، أصبح نصيب حواضن حماس من المساعدات أكبر. يضيف أنَّ نسبةً كانت مخصصة للحركة تتصرف بها لدعم حواضنها حصراً، ولكن هذه الحواضن بحاجة حقيقية نتيجة الضرر الواقع عليهم من حرمانهم العمل في إسرائيل وتهميش كثير منهم من العمل في مؤسسات السلطة الفلسطينية.
بين سنتي 2005 و2008، لاسيما مع بداية الحصار الإسرائيلي في 2007، كان جزءٌ كبيرٌ من عمل المؤسّسات يركّز على المساعدات الاستهلاكيّة الأساسيّة. وبعدَ 2010 مع ارتفاع معدَّل البطالةِ الذي وصل 45 بالمئة شعرت الجمعيات بالحاجة إلى تطوير العمل الخيري البسيط إلى تنموي. بدأ التحول تدريجياً في عددٍ من الجمعياتِ لإقامةِ مشاريع استثمارية تُحقِّقُ فائدةً مستدامةً للعائلات الفقيرة. مع وجود جمعيات ومؤسسات تُقدم هذا النوع من المشاريع، مثل الأونروا و"اليو أن دي بي" (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) إلا أن شرائح كبيرة كانت ترفض التوجه إليها لأنها تقوم على القروض الربوية. وحين بدأت بعض الجمعيات الإسلامية والأهلية تقديم قروضاً بحدٍّ أدنى من الفوائد وفي كثير منها بلا فوائد، اتجهت أعداد كبيرة إلى الجمعيات للحصول على القروض. أقامت بعضُ المؤسسات أيضاً دوراتٍ تدريبية لربات البيوت على أعمال حرفية.
أثرت مشاريع القروض نفعاً في حياة كثيرٍ من العائلات. وفي مقابلة خاصّة، قال لنا أحد أبناء المستفيدات من برنامج القروض، إنه بعد وفاة والده ذهبت والدته إلى تعلّم الخياطة في إحدى الجمعيات فقدَّموا لها آلة خياطة للعمل من المنزل، وقد أعانتهم وهم أربعة أطفال على بؤس الحال، ممّا جعلهم يستمرون في دراستهم إلى أن تخرَّجوا من الجامعات. في دراسة "دور الجمعيات الخيرية والإغاثية في الاقتصاد الفلسطيني: دراسة حالة قطاع غزة" لأستاذ الاقتصاد في الجامعة الإسلامية محمد مقداد، المنشورة سنة 2005، ومن مقابلاته مع مئتين وخمسين فرداً يتلقّون المساعدات من الجمعيات، خلص إلى أنَّ 75.4 بالمئة منهم عدّوا أنَّ حصولهم على القروض ودعم المشاريع الريادية التي قدموا عليها أسهَمَ في تحسّن ظروفهم المادية كثيراً.
الجانب الرابع من عمل هذه المؤسسات كان كفالة الأيتام. ترهق الحروب المتتابعة على قطاع غزة سكانَها وتخلّف بعد كلِّ جولة قتال آلاف الأيتام. فعدوان 2008 و2009 خلّف ألفاً وخمسمئة يتيم، وعدوان 2012 ترك خلفه 224 يتيماً، ومن عدوان 2014 خرج 2035 يتيماً. في سنة 2016 وصل عدد الأيتام في القطاع إلى عشرين ألفاً، 34.2 بالمئة منهم من عمر 5 سنوات إلى 11 سنة. أمّا سنة 2021 فقد وصلَ عددهم ستةً وعشرين ألف يتيم بما يشمل 241 يتيماً. وخلفت حرب السابع من أكتوبر 2023، حسب أرقام الأمم المتحدة، ما بين سبعة إلى ثمانية عشر ألف طفل يتيم في أنحاء القطاع حتى تاريخ نشر المقال.
كانت الجمعيات تكفل جزءاً كبيراً من أيتام القطاع وتقدّم لهم مبالغ مالية شهرية، وكلّما زاد العدد بعد كل حرب قلّت نسبة المبالغ المالية على الآخرين لتوزيع أكبر قدر ممكن على الأيتام. في 2006 كانت جمعية الصلاح متكفلة بثمانية آلاف وثلاثمئة يتيم، والجمعيات السلفية تتكفّل بقرابة ألفي يتيم، وجمعية الوئام التابعة للأردن متكفّلة بألف وخمسمئة يتيم ممّن تقلّ أعمارهم عن ثلاثة عشر عاماً منذ سنة 2011. وقد وسَّعت مؤسسة الوئام عملها لتشمل رعاية شاملة لليتيم منذ سنة 2016.
يُكفل اليتيمُ بعرض حالته على مَن يرغب في الكفالة وهم من خارج القطاع، خصوصاً في الخليج ومن العرب والفلسطينيين في أوروبا وأمريكا، فيُكفل حتى سن السادسة عشر، وثمّة كثير من الكافلين يستمرُّون بكفالة اليتيم حتى انتهاء تعليمه الجامعي. ويحافظ الكافل والمكفول عادةً على روابط تجمعهما بتبادل الرسائل والمكالمات الهاتفية، لكن تبقى الجمعية وسيطة بينهما.
في حالات أخرى قد تكون أقل شيوعاً، تتطور علاقة اليتيم والكفيل خارج إطار الجمعيات. يأخذ الكفيل على عاتقه رعاية اليتيم. يزوّجه أو يبني له بيتاً أو يموّله ليُكمل تعليمه الجامعي، ومنهم حتى من يساعده في تحصيل وظيفة. والناس الذين ينتمون لهذه الحالة عادة يحافظون على "سرهم".
حسب دراسة محمد مقداد آنفة الذكر، انتقدت شرائح من الغزيين بعض الجمعيات بسبب المحسوبية والواسطة، وكانوا يشعرون أن هذا السلوك حرمهم من المساعدات. تعمل جُل المؤسسات الخيرية في القطاع بلا نظامٍ دقيقٍ أو تنسيقٍ في جمعِ أسماء الأيتام والعائلات الفقيرة، فينتهي المطاف ببعضها إلى الاستفادة من أكثر من جمعية لتقترب من مستوى الرفاهية وتُشكِّل استدامةً ماليَّةً لها ولأفرادها في وضعهم الاجتماعي، تضعهم في الطّبقة الوسطى.
منتصف التسعينيات توفي أبو أحمد تاركاً خلفه ستة أطفال في بنايةٍ يقطن فيها مع إخوته السبعة، وإخوته في حالةٍ "مستورة" أي بالكاد يتكفلون بمعايشهم، ويصعب أن يتحملوا تكاليف أبناء أخيهم. ولكن في خمسة عشر عاماً، سجلت أم أحمد أبناءها في قرابة اثنتي عشرة جمعية خيرية، فتمكنت من شراء عدة أراضٍ بمساحة مجموعها سبعة دونمات وبنت بيوتاً لأولادها الذكور الثلاثة، وتخرجوا جميعاً من مدارس المجمع الإسلامي وأتموا التعليم الجامعي في الجامعة الإسلامية. صار أكبر الذكور داعية ونقيباً في جهاز الشرطة والثاني ممرضاً والثالث يعمل في التجارة والبرمجة، في حين بقي أبناء عمومتهم على حالهم. وحالة أم حسن لا تختلف كثيراً، فقد تمكنت من سداد دين زوجها البالغ عشرة آلاف دولار، وألحقت أبناءها الثلاثة في مدارس الصلاح، وفي أربع سنوات اشترت قطعة أرض أسّست عليها بناءً لولديها الذكور مستفيدة من الجمعيات. وثمّة كثيرٌ من العائلات على ذات المسار، لكن بعد سنة 2015 لم يعد هذا المسار متاحاً بسبب تشديد الخناق على الجمعيات وقلة المساعدات التي تصل.
ويبقى تداخل المشهد الخيري مع المسائل السياسية والسياقات المحلية والإقليمية والدولية أهم المعضلات في هذا المجال. وإن كانت ظروف الاحتلال وما نتج عنها من فرقة سياسية بين أطراف المشروع الوطني الفلسطيني قد فرضت هذا التداخل وعقَّدت مشهد العمل الخيري، يبقى الثابت أن النضال الفلسطيني تحّل، لا سيما في السنوات القليلة الماضية والعدوان الشامل على غزة، إلى قضيةٍ إنسانيةٍ بجزءٍ كبيرٍ منه. وهو ما كثَّف الضوءَ على السؤال الإنساني الآن قبل السؤال السياسي حتى يتسنى للغزيين استنهاض أنفسهم من جديد. وعليه فإن مقولة العمق العربي ليست شعاراً يُرفع، فقد ظلَّت المساعداتُ الإنسانيةُ عقوداً وسيلةً لدعم صمود الفلسطينيين، والكثير ممّن عمل في المؤسسات الخيرية يُدرك أبعاد هذه المسألة.