استمع لهذه القصة
(معظم المشاركين طلبوا حذفَ أسمائهم أو الاكتفاءَ بالأسماء الأولى مخافةَ الفصل من الجامعة)
أُخْلِيَ مخيَّمُ الاعتصام في جامعة كولومبيا بعدَ ستٍّ وثلاثين ساعةً من نصبه؛ إذ طَلبَت رئيسةُ جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، من شرطةِ نيويورك دخولَ الحرمِ الجامعيّ. اعتقلت الشرطةُ أكثرَ من مئة طالب وطالبة، وفَصَلَت الجامعةُ العشرات منهم وطردتهم من المساكن الجامعية. رَدَّ مئاتُ الطَّلبة على ذلك، متسوِّرين سياجَ الحديقة المجاورة، ومتابِعين العملَ في ذلك المخيم. لَم يتظاهر كثيرٌ من هؤلاء الطلاب نصرةً لفلسطين مِن قَبْلُ، لكنهم تحفَّزوا ما إنْ رأوا أصدقاءَهم يُعتقلون ويُعاقبون. أخبرَني طالبٌ في السنة الثانية، عضوٌ في منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام": "لَم تكن قضيةُ فلسطين مُلِحَّة أخلاقياً لِأَكثَرِنا. ولكن الآن بدا الأمرُ لسواد الطلاب شخصياً جداً".
هذا التحوّل الشعوري انعكاسٌ لتحوّلات الرأيِ العامِّ اليومَ في قضية فلسطين وإسرائيل؛ إذ أصبح الدعمُ الماليُّ والعلَنيُّ لإسرائيل، الذي كان غيرَ مشروطٍ عقوداً من الزمن، موضعَ تساؤلٍ بين المُنتمين إلى الحزب الديمقراطي الذي تعاطَفَ بعضُ أعضائه مع الفلسطينيين أوّلَ مَرّة. وربما كانت الاحتجاجاتُ لدوافع شخصيةٍ، لا سيّما لدى أبناء المجموعاتِ المهمَّشةِ لأسبابٍ عِرقيةٍ وجنسيةٍ، الذين قارَنوا بين نضالهم ونضال الفلسطينيين ضد الاحتلال الذي تموِّله الضرائبُ الأمريكية، فوَجَدوا فلسطينَ قضيةً شخصيةً لهم، كما حصل مع طلبة جامعة كولومبيا.
بعد انقضاء اثني عشر يوماً، فَضَّت الشرطةُ المخيَّمَ الآخَرَ في ويست بارك بعنفٍ أشدّ. وأوقفت الإدارةُ العملَ الجامعيَّ، وسمحت لشرطة نيويورك بالدخول مَرَّةً أُخرى. تُظهِر مقاطعُ فيديو على الإنترنت عناصرَ الشرطة يَطرحون الطّلابَ أرضاً ويدحرجونهم على السلالم ويصرخون فيهم. وبعد يومين من اجتياح مبنى الجامعة، أكّد مكتبُ المدّعي العامّ لمنطقة مانهاتن أن ضابطاً في شرطة نيويورك قد أطلق النار خطأً على أحد المباني التي استولى عليها الطّلبة في اليوم السابق. لَم يُصَبْ أحدٌ بالرصاص، لكن اقْتِيدَ مِئةٌ ونَيِّفٌ من الطلّاب خارج الحرم الجامعي بعنفٍ أَسْفَرَ عن إصاباتٍ حَسْبَ إفادتهم.
نَصَبَ الطّلبةُ أكثرَ من مئةٍ وأربعين مخيَّماً في أَحْرامِهِم الجامعيةِ، في مختلف قارّات العالم، من لندن وباريس إلى طوكيو وبيروت وسيدني. وفي أمريكا اعتُقِلَ أزْيَدُ من ثلاثةُ آلافِ شخصٍ الشهرَ الماضي، ووَاجَهَتْهُم الشرطةُ مواجَهةً عنيفةً، لا سيّما في احتجاجات طلبة جامعة جنوب كاليفورنيا.
مع ذلك، فالحركة الطلّابية والحملة القمعية ضدّها، كلاهما في زخمٍ مستمرّ. ولو التفتنا إلى الوراء لرأينا أن مخيم جامعة كولومبيا ما هو إلا نموذجٌ مصغَّرٌ لِما أَصْبَحَ حركةً عابرةً للأقطار. فكلَّما زادَ عددُ الطّلبة المعاقَبين لأعمالهم الاحتجاجية على الحرب في غزة، ازدادت حماستُهم وجَذبوا مزيداً من الناس إلى الاحتجاجات.
لقد أَصْبَحَت مَطالبُ المبادِرين بالتخييم في جامعة كولومبيا أساساً لنداءات طلبةِ الجامعات الأُخرى ممّن انضمّوا لاحقاً إلى الحملة، والتي تدعو الجامعاتِ إلى سحبِ استثماراتِها مع الشركات الداعمة لإسرائيل. إن الهتافَ الذي أمسى يُستعمل عالمياً الآن "اكشفوا الاستثمار، اسحبوا التمويل، أبداً لن نتوقف، أبداً لن نَقِيل" يتضمن مَطلَبَ الكشفِ عن الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة التي تستفيد منها جامعة كولومبيا بفضل الاحتلال الإسرائيلي والحملة العسكرية على غزة، كما يتضمّنُ مَطلَبَ سَحْبِ تلك الاستثمارات. وتطالِبُ الحملةُ أيضاً بتحصينِ الطّلبة وأعضاء الهيئات التدريسية المشاركين في الاحتجاجات على إسرائيل، أو المُصرِّحين بدعمهم فلسطينَ، مِن الإجراءات التأديبية الأكاديمية السابقة أو اللاحقة.
انتشرت مخيماتُ التضامن بعد سبعةِ شهورٍ تقريباً من الحرب على غزة. فاقَمَت الاكتشافاتُ المُرَوِّعةُ الأخيرةُ مخاوفَ الطّلبةِ، إذ رُصِدت ثلاثُ مقابرَ جماعيةٌ في غزةَ أثبتَت مقتلَ أربعمئة فلسطينيٍ وفلسطينيةٍ آخَرين، وكانت جُثَثُ أكثرِهم مكبَّلةَ اليدين، سواءً جثث الأطفال وأفراد الطواقم الصحية. دُمِّرت كل جامعات غزة، وقُتل أكثرُ من أربعةٍ وثلاثين ألف فلسطينيٍ في الحرب حتى الآن.
وافَقَت إدارةُ بايدن مؤخَّراً على رَفْدِ إسرائيلَ بسبعة عشر مليار دولار إضافية على رُغْمِ النداءات الدولية التي تدعو ما يجري في غزة "إبادةً جماعية" و"تهجيراً قسرياً" للسكان المدنيين، ومع غزو رفح، المدينةِ التي لجأ إليها مليونٌ ومئتا ألف نازحٍ فلسطينيٍ في قطاع غزة بأمرٍ من حكومةِ إسرائيل. وعليه، فإن الإدارة الأمريكية تَتجاهلُ مذكّرةً كَتَبَها محامو وزارة خارجيّتها تُحَذِّر من مغبّة انتهاك خمس وحداتٍ إسرائيليةٍ قانونَ ليهي الأمريكي، وهو وثيقةُ ضمانٍ أمريكيٍ لحقوق الإنسان في مناطق الحروب، ممّا قد يَحُولُ بين أمريكا ومساعدةِ إسرائيل عسكرياً. وتبدو واشنطن متعاميةً عن تهديد المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكّرةِ اعتقالٍ بحق نتانياهو.
هذه ليست المرّة الأولى التي تُحتلّ فيها قاعة هاملتون. ففي أبريل سنة 1968 احتلَّ مئاتُ الطّلبة القاعةَ احتجاجاً على حرب فيتنام وعلى استثمارات جامعة كولومبيا في الشركات المستفيدة من الحرب، فضلاً عن معاملة الجامعة لطلبَة الأقليات وعلاقتها بالحي المحيط، الذي كان سكّانُه في الغالب من غير البِيض. عندما استولى الطلابُ السودُ من جمعية الطلبة الأفريقيين الأمريكيين على قاعة هاملتون، زارها ثوريّون مثل كوامي توري وجميل الأمين وسمّوها "القلعة السوداء". بعد أسبوعٍ من استيلائهم على المبنى سَمحت إدارةُ الجامعة لشرطة نيويورك بدخول الحرم الجامعي حيث اعتقلت ما يَرْبُو على سبعمئة شخص.
احتُلَّت القاعةُ مَرّةً أُخرى سنة 1985، وأعاد الطّلبةُ تسميتَها "قاعة مانديلا" نسبةً إلى الزعيم المناهض للفصل العنصري نيلسون مانديلا، وطالبوا بسحب الاستثمارات من دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما فعلته إدارة الجامعة خريفَ ذلك العام.
يصادِفُ يومُ الثلاثين من أبريل، الذي أزالت فيه السلطات الأمريكية المخيمَ وطَردت الطّلبةَ من قاعة هاملتون، الذكرى السنويةَ السادسة والخمسين لاكتساح القاعة عام 1968. تشابَه الاحتجاجان بالتاريخ والأسباب؛ أي تمويلِ أمريكا احتلالاً أجنبيّاً أو حرباً أجنبية، وبقمع حرية التعبير عند الاحتجاج على تصرّفات أحد حلفاء أمريكا أو عنف جهاز الشرطة. في المخيم تحدّثَ بعضُ قدامى الخريجين عن المظاهرات التي شاركوا فيها عام 1968. وحذَّر الخريجون الطّلبةَ من أن جامعة كولومبيا قد تكرر الأسلوب نفسه الذي اتّبعَته في قمع الاحتجاجات عقب الحركة المناهضة للحرب في حرمها الجامعي قبل عقود، لكن باللجوء إلى وسائل مقبولة، كالتباهي بأن ثقافة الحرم لديها "ثورية" أو تكريم المشاركين والمشاركات في الاحتجاجات بغيةَ احتوائهم بدلاً من شيطنتهم على يد الإدارة والمحتجّين المضادّين ووسائل الإعلام.
احتفى الطلبةُ بالشهر الذي احتَجّ فيه أسلافُهم في الجامعة قبل ستة وخمسين عاماً. ونصب منظِّمو احتجاجات طلبة كولومبيا وبارنارد خِيَمَهم في اليوم نفسه مع جلسة استماع عن معاداة السامية في مبنى الكونغرس الأمريكي، وذلك بقصد جذب انتباه وسائل الإعلام، وتحويل التركيز إلى الحرب المستمرة في غزة أيضاً. لحسن حظّ الطّلبة، كانت جلسة الاستماع التي سُمّيت "كولومبيا في أزمة: ردّ جامعة كولومبيا على معاداة السامية" مهزلةً إعلامية. حَضَرَ الجلسةَ كلٌّ من نعمت شفيق والرئيسان المشاركان في مجلس الأمناء كلير شيبمان وديفيد غرينوالد والرئيس المشارك لفرقة العمل المَعْنِية بمعاداة السامية ديفيد شيزر. وأدلى كلٌّ منهم بشهادتِه عن معاداة السامية في الحرم الجامعي أمامَ لجنة التعليم وتطوير القوى العاملة. جاءت جلسة الاستماع وسط تحقيقٍ مستمرٍ أطلقته وزارة التعليم الأمريكية عن "فشل جامعة كولومبيا في حماية الطّلبة اليهود".
شاهد المتفرّجون نعمت ثلاثَ ساعات متواصلة وهي تردّ على اتهامات النوّاب الجمهوريين في اللجنة بالتغاضي عن معاداة السامية في الحرم الجامعي، والسماح بتفشّي المشاعر المعادية لإسرائيل لدى الطلبة. أثيرت النقاطُ المتوقَّعة عن شعاراتٍ مثلَ "من النهر إلى البحر، ستتحرّر فلسطين" و"عولِموا الانتفاضة"؛ الكلمة التي لفظتها النائبةُ الجمهورية من ولاية ميشيغان ليزا ماكلين: "انفضاتة". طُرِحت في الجلسة أيضاً بعضُ الأسئلة ذات الصبغة الدينية؛ إذ وجَّه النائبُ الجمهوري من ولاية جورجيا ريك آلين السؤال التالي إلى نعمت شفيق: "هل تريدين من إله التوراة أن يلعن جامعة كولومبيا؟" ثم اقترحَ أن يأخذ الطّلبةُ المحتجّون المؤيدون لفلسطين دروساً في الكتاب المقدس.
أجابت نعمت ذات الأصول المصرية على الأسئلة مباشرة ولم تذكر التمييز العنصري الذي ينالُه منذ أكتوبرعددٌ من الطّلبة العرب والمسلمين والسود واليهود المؤيدين فلسطينَ، والذي أسفر حتى تلك اللحظة عن أكثر من خمس عشرة حالة فَصل، وأكثر من تسعين إجراء تأديبيّاً، وتعليقِ عمل المنظمتَين الطلّابيتَين الرئيسيتَين الداعمتَين فلسطين، مع ما تداوله الطّلبة عن هجومٍ كيماويٍّ نفّذه جنديّان إسرائيليان سابقان. في جلسة الاستماع ذُكرت بعضُ المنظمات الطلّابية التي تصدّرَت أسماؤها عناوينَ الصحف الرئيسية لأسبابٍ مختلفة، كمنظمة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" ومنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" ومنظمة "نزع الفصل العنصري" بجامعة كولومبيا. لم يصدّق الطّلبة والخريجون أن التوترات في حرمهم الجامعي أصبحت مسألة وطنية. أمّا المنظّمون الخريجون أمثال داراليزيا أفيلا شيفاليير، خرّيجة دفعة 2016 وإحدى العضوات المؤسِّسات لمنظمة نزع الفصل العنصري بجامعة كولومبيا، فلم تتخيل أنها ستشهد ذلك في حياتها، وقالت: "هناك شيءٌ صادمٌ لدى سماع أنّ الحملةَ التي أطلقناها من غرف سكننا الجامعي مصدرُ تهديد".
إذا كان نصبُ مخيمات في كولومبيا المحفزَ الرئيسيَّ لحركة طلّابية عالمية مستمرة، فهو ليس أساسَ الحركة الطلّابية الشاملة لإجبار الجامعات على سحب استثماراتها من إسرائيل. فقبل عقودٍ نشطت وتعاونت منظمات مثل "طلّاب لأجل العدالة في فلسطين" التي تأسست في 1993، و"لجنة التضامن الفلسطيني" في أكثر الجامعات والمدن الأمريكية. ثم برزت جهود هذه المنظمات في آراء الهيئات الطلّابية مع الوقت. ففي الأسبوع الماضي مثلاً صوَّتت كلية كولومبيا للفنون الحُرّة على سحب الاستثمارات الإسرائيلية بمعدل مشاركة بلغ 40 بالمئة من الطلبة، وصوتّ ثلاثةٌ من كلّ أربعةٍ من المقترعين لصالح سحب الاستثمارات. وفي كلّية بارنارد صوَّت 91 بالمئة من أصل 55 بالمئة من الطّلبة الذين شاركوا في الاستفتاء لصالح سحب الاستثمارات.
بدأت حملةُ المطالَبة بسحب الاستثمارات الإسرائيلية في حرم جامعة كولومبيا في الانتفاضة الثانية سنة 2002، حينَ وقَّع الطّلبةُ وأعضاءُ هيئة التدريس عريضةً بالمَطلب واجهَت رفضاً حازماً من مدراء الجامعات، واندلعت التوترات بين الطّلبة وأعضاء هيئة التدريس. أصبحت الحركةُ أكثرَ رسمية على مَرِّ السنين وأسفرت عن تشكيل منظمة نزع الفصل العنصري بجامعة كولومبيا سنةَ 2016. قالت شيفاليير في العام نفسه أنّ هدف المنظمة اقتصر على إجراء استفتاءٍ أو تصويتٍ لرصد رأي الطلبة بشأن سحب جامعة كولومبيا استثماراتِها من الشركات التي تستمدّ أرباحها الأساسية من الأعمال التجارية في إسرائيل أو بالشراكة معها، وقالت: "لم نكن لنحقق هذا في 2016". وبعد مرور زهاءِ عقدٍ من الزمن، ما تزال شيفاليير تقضي معظم أيامها في المخيمات لدعم الطّلبة الذين "يحملون الشُّعلة" ويواصلون ما بدأته هي وزملاؤها.
أسّسَت هذه الطالبة علاقاتٍ قويةً مع أقرانها في منظمتَي "الصوت اليهودي من أجل السلام" و"طلّاب لأجل العدالة في فلسطين"، لكنَّها عانت كثيراً بسبب فقدان مكانتها بين أصدقائها وزملائها اليهود. وقد أثار ارتداؤها الكوفيةَ في الحرم الجامعي ردودَ فعلٍ قاسيةً ممّن كانوا أصدقاءها قبل أشهُر فقط. أفصحت الطالبة قائلة: "لم أعد أشعر بالأمان عندما أرى يهوداً آخَرين في الأماكن العامة الآن، ولم أعد أفكِّر أهذا الشخص أم ذاك من قومي؟ أصبح الأمر أشبه بالمقامرة".
كانت هذه الطالبة صهيونيةً ككثير من الطّلبة اليهود في المخيم إلى أن التقَت بفلسطينيين في المرحلة الثانوية وتعرَّفت على تاريخ عائلاتهم. أعلنت الطالبة دعمها فلسطين أوّلَ مرة في في حرب غزة سنة 2021 ما أشعل شرارةَ صِدامها مع المجتمع اليهودي الأوسع. استهدف كثيرون هويتَها اليهودية والمثليَّة، لتوبيخها على دعم الفلسطينيين، قائلين إنها لن تتمكن من إعلان مثليّتها في فلسطين لأن "الناس هناك يكرهون المثليَّة". ولقّبها بعضهم باسم "كابو" وهو مصطلح يشير إلى السجناء المتعاونين مع النازيين في معسكرات الاعتقال، وهي أَحَطُّ إهانةٍ يمكن توجيهها في المجتمع اليهودي.
قالت الطالبة: "إنهم يحبّون أن يلقِّبوا بهذا من يَرونهم خونةً للشعب. ويحبّون حقاً فرضَ العزلة الاجتماعية على أمثالي، بقولهم مثلاً ’سيَخجَلُ والِداكِ مِنكِ‘ أو ’أنتِ خائنةٌ لشَعبِك‘. إنَّ لكلِّ واحدةٍ منّا حكايةٌ. لقد نجا أجدادي من المجازر، وترعرعتُ بين الناجين والناجيات. وأودُّ صُنع مستقبلٍ يهوديٍ سيجلب لأجدادي الفخر".
وقالت الطالبة إن اهتمامَ الحكومةِ ووسائلِ الإعلام بالطّلبة القلقِين من الاحتجاجات في الحرم الجامعي خيّبَ أملَها بصِفتها طالبةً يهودية، فقد زاد من شعورها بالمسؤولية عن معارضة السردية اليهودية السائدة، مع أنها تذود عمّا تعتقد أنه كفاح أسلافها الذين عانوا بدورهم من الاضطهاد.
وقالت الطالبة إن جلسة الاستماع في الكونغرس "كانت تلخيصاً مثالياً لنهجِ اليمين المسيحي في استيعاب قضية معاداة السامية. لطالما تضامَنَ المجتمعُ اليهوديُ في أمريكا مع الحركات الأُخرى، لأننا فئةٌ مهمَّشةٌ ونقف إلى جانب الجماعات المهمَّشة الأُخرى. أما الآن، فإن اليمين المسيحي يضعُنا إزاءَ جميع الفئات المهمَّشة الأخرى، ويستخدمنا كقطعة شطرنج".
بالنسبة إلى الطّلبة الفلسطينيين، مثل طالبة الدكتوراه سيرينا، كان التضامنُ تجربةً مهلِكةً، خصوصاً لتهديده فرصَ التعليم والعمل. ومثل الكثيرين من الطّلبة اليهود القلقِين حيالَ الاحتجاجات والمخيمات، قالت سيرينا إن تجربتها في كولومبيا كانت "صادمة، ومشحونة، ومحبطة للغاية".
وقالت سيرينا: "مع الحِداد على ما يحدث في بلدي، ورؤية عائلتي ومجتمعي عُرضةً للتدمير هناك، عانينا التعاملَ مع صدمةٍ أشدَّ هنا إثرَ هجومٍ كيماويٍ على الطّلبة المحتجّين آنفاً. وأَبطأَت الجامعةُ أيّاماً لترُدّ. لم أتلقَّ إلا النزرَ القليل من الدعم. صدرت تصريحات مختلفة عن الإدارة ومكتب رئيسة الجامعة دعماً للجماعات الأُخرى. لكن لم يصدر إقرار بحق الطّلبة الفلسطينيين ومعاناتهم".
على أن تهديدات شرطة نيويورك والحرس الوطني أَقَضَّت مضجعَ سيرينا في مخيم التضامن، إلا أن راحةَ وجودِها في بيئةٍ حاضنةٍ غلبت على الأصوات الزاجرة من خارج بوابات كولومبيا. "لا يوجد حدثٌ أو منطقةٌ أو مبنىً في هذه الجامعة بهذا القَدْر من التنوّع. إننا خليطٌ من الأعراق والثقافات والديانات. لقد أقمنا عروضاً موسيقية وثقافية من مختلف أنحاء العالم، ورقصنا الدبكة، وأدينا الصلاة على الطريقة الإسلامية، وتناولنا عشاء السبت وطبق السدر اليهوديَين، وشاركنا في جلسة تأمُّل بوذية في الصباح. إنه مجتمع جميل بنيناه بسواعدنا، من غير دعمٍ من الجامعة، وإنما بالمعونة المتبادلة لبعضنا البعض".
غير بَعيدٍ عن المخيم، داخل محيط الحرم الجامعي، يمكن للشخص أن يشعر بالتفاعل مع الاحتجاجات سواءً بالدعم أو بالمعارضة. في أحد الأيام، مررتُ بلافتةٍ كُتب عليها "احموا الأقصى"، فسمعتُ شابة خارج المخيم تقول لصديقتها وهي ترسل نظراتٍ مشمئزة: "عليهم أن يشكروا إسرائيل على حماية الأقصى من إيران". مِن وقتٍ لآخَر، كان المحتجّون المضادّون يجتمعون خارج المخيم حاملين عَلَم إسرائيل أو لافتةً عليها صورُ الرهائن الذين أسرَتهم حركةُ حماس وحلفاؤها في السابع من أكتوبر. وسواءً داخل المخيم أو خارجه، لم تكن هناك رَدّة فعلٍ تُذكر عند تفاعل أحد المحتجّين المضادّين مع الموجودين داخل المخيم. عندما سار المحتجّون المضادّون عبر المخيم، لم يُعِرْهم طلبةُ المخيم سوى القليل من الاهتمام. وخلال اليوم، تحلَّق العديدُ من الطلبة الذين دعموا نشاطات المخيم ولكنهم لم يكونوا مستعدين للتضحية بدراستهم الجامعية. مايكل، طالب سنة أولى في جامعة كولومبيا فضَّل ألّا يفصح عن اسمه الأخير، وقف خارج المخيم في التاسع والعشرين من أبريل، اليوم نفسه الذي علَّقت فيه إدارة الجامعةُ دراسةَ معظم طلبة المخيم. قال مايكل: "لقد جئتُ فوراً بعد امتحان اللغة الإسبانية النهائي. الكثير منّا يقف هنا لدعم المخيم ونشاطات الطّلبة. لكن لا يمكننا أن نخاطر بتعليق دراستنا". يوماً بعد يوم، شبكَ أعضاءُ هيئة التدريس في الكلية أذرعهم مع أعضاء منظمة طلّاب لأجل العدالة في فلسطين أمام مدخل المخيم لحمايته من مثيري الشغب.
على مدخل المخيم، توجد قائمةُ قواعد ولافتةٌ تتغير كلَّ يوم. في الأيام القليلة الأولى، رُفعت لافتةٌ أعدَّها "الصوت اليهودي من أجل السلام"، تُظهر صورةَ شفيق وعبارةَ "شبات شالوم، يا حقيرة. مع الحب، الصوت اليهودي من أجل السلام". كان المخيم سيلاً من الكُوفِيّات واليارمولكات، يتدفق بين صفوف الخِيَم المغطّاة بالملصَقات. في منتصف الحديقة، خُصِّصت مساحةٌ للطقوس والمناسبات الأُخرى، مثل صلوات المسلمين، إحياء السبت اليهودي، أو قيام أحد الضيوف بإلقاء دروسٍ عن تاريخ معاداة السامية وإلغاء العبودية. وخارجَ كلِّ حشدٍ يبدو طلبةٌ يَدرسون لامتحاناتهم النهائية، أو يؤدّون واجباتِهم الأكاديمية، أو يتسوقون على الإنترنت، أو يتصفحون وسائل التواصل الاجتماعي لتغطية الحركةِ المتناميةِ وأنفسِهم أيضاً. وعلى وقعِ ضربات الطبول والهتافات الاحتجاجية يمكنك سماع ضجيج أصوات الشرطة ومروحيات وسائل الإعلام والطائرات المسيَّرة.
ربما كان تقديمُ الأطعمة، أو ما أطلق عليه الطّلبة اسم "الوَفرة"، أكثر ما أثارَ الإعجابَ في المخيم. فمع القيود الشديدة المفروضة على الحركة، لم يكن ثمّةَ نقصٌ في المواد الغذائية والمشروبات والأدوية والبطانيات أو الخِيَم. وطوال مدّة الاعتصام، استمر أهالي نيويورك الذين لم يتمكّنوا من المرور عبر نقاط الأمن بإيصال الإمدادات إلى داخل الحرم الجامعي بمساعدة الطّلبة الذين تسمح هوياتهم بالدخول والخروج منه. وجَّه المنظّمون والمنظّمات مراراً أوامرَ لطلبة المخيم بألّا يجلبوا المزيد من الطعام، لأنه كان هناك فائضٌ بالفعل. وراعى المنظِّمون جميعَ القيود الغذائية والدينية لطلبة المخيم، بما في ذلك الطعام الكوشر والحلال والنباتي وذلك الخالي من المكسرات. على أن المخيم كان بعيداً عن بوابات الجامعة الرئيسية، إلا أنه غُذيَ واستمرّ بفضل مجتمع المدينة خارج الأسوار.
بمرور الوقت، شهد المحتجّون والمحتجّات تحوُّلَ المخيم إلى علامةٍ فارقةٍ في "الانتفاضة الطلّابية"، بالطريقة نفسها التي أصبحت فيها حديقة زوكوتي في نيويورك قِبلةً لأنصار حركة "احتلّوا وول ستريت" سنة 2011. كما أصبح مَعْلَماً يمرُّ به السياسيون والناشطون لإبداء التضامن، بما يثير حفيظة الطّلبة بعض الأحيان. فمثلاً، عندما زارت المخيمَ عضوةُ الكونغرس الأمريكي الديمقراطية في مدينة نيويورك ألكساندريا أوكازيو كورتيز، أصدرت منظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين بياناً ينتقد زيارتها كما لو أنها محاولة "لاستيعاب" الحركة، وهو شعورٌ لا يشاطره المحتجّون قاطبةً. وفي بيانٍ لها، قالت المنظمة: "إننا نرى الساسة على حقيقتهم. الذين ظلّوا صامتين ورفضوا الاعتراف بتواطؤهم في الإبادة الجماعية. الذين يأتون الآن إلى حرمنا الجامعي كي يلتقطوا صوراً تدعم حملاتهم الانتخابية". كذلك قامت النائبة الديمقراطية من ولاية مينيسوتا إلهان عمر، والمرشحة الرئاسية جيل ستاين، والمفكِّر الناشط كورنيل ويست، بالمرور من الحديقة، فضلاً عن شخصيات فلسطينية بارزة مثل معتز عزايزة، الذي اشتُهر لتوثيقه الأشهُرَ الأربعة الأولى من الحرب قبل هروبه من غزة، والذي قال مخاطباً المحتجّين والمحتجّات: "غزة ترى ما تفعلونه من أجلِها. شكراً جزيلاً على ما تفعلونه. هذا أول مكان يجعلني أشعر أن عملي على الأرض نشاطٌ مثمِر".
شريف طالب ماجستير مصري، شهد ثورة 2011 في ميدان التحرير في القاهرة عندما كان مراهقاً. قال إن المشاركة في مخيم التضامن في كولومبيا ذكَّره بالانتفاضة التي اندلعت في مصر، وأن مخيم التضامن مع غزة، أو "المنطقة المحرّرة"، تشبه ساحة التحرير، شَبَهَ نعمت شفيق برئيسِ مصر عبد الفتاح السيسي.
نعمت شفيق أصبحت أول امرأة ترأَسُ جامعةَ كولومبيا في 2023. وُلدت نعمت في مصر وأمضت طفولتها المبكرة في الإسكندرية، حيث عاشت عائلتها الثرية وامتلك والدها الكثير من الأراضي. هاجرت عائلتُها إلى أمريكا خلال الستينيات، بعد أن تعرَّضت سياساتُ الإصلاحات الزراعية والتأميم التي طبَّقها جمال عبد الناصر لثروات مُلّاك الأراضي أمثالِ والدِها مينوش شفيق.
قال شريف: "لقد فكَّرْنا في الماضي والتاريخ، وكيف تبني هذه الحركة على ذلك الأساس. إنها [شفيق] . . . لا تهتم بشرائح ضخمة من الطّلبة. هي تهتم فقط بالجهات المانحة. نحن نؤمن بأن الجامعةَ مُجْمِعَةٌ على الرأي بسحب الاستثمارات . . . عددٌ قليل جداً من الناس يدعمون الجانب الآخر".
مومودو تال، طالب الدكتوراه الذي فُصل مؤخراً من مخيم جامعة كورنيل، غامبيُّ الأصل. عندما اتصل بأعمامه وعمّاته، الذين قال إن لديهم صلة بكوامي توري المؤيد المتحمس لتحرير فلسطين، وأخبرهم بأنه فُصل، ضحكوا وقالوا إنه ليس الأول في العائلة ممن عوقبوا بسبب نشاطهم المؤيد لفلسطين. لقد خضعوا للعقوبات نفسها في أيامهم.
قال تال: "أخبرَني أعمامي كثيراً من الأحيان أن الصهيونية مجرّد حالةٍ أُخرى من العنصرية والاستعمار. نحن نعرف ذلك بسبب تجاربنا الخاصة مع الاستعمار".
سواءً تعلَّق الأمر بعضوية طالبة السنة الثانية في "الصوت اليهودي من أجل السلام" لتكريم أسلافها اليهود الذين واجهوا الاضطهاد، أو نداء الطالبة الأرمينية التي تناضل من أجل الاعتراف بالإبادة الجماعية لشعبها، أو مشاركة الطالب الكوري الذي سمع من أجداده عمّا مروا به تحت الاحتلال الياباني، أو نشاط فلسطينيين مثل سيرينا، التي ما تزال عائلتها تعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي، فإن السمة المشتركة لاستجابة الطّلبة هي الخوض في الماضي من أجل خلق مستقبلٍ أفضل.
بعد إزالة المخيم، وإنهاء احتلال قاعة هاملتون، دخلت سيرينا على الإنترنت لتشرح ألم مشاهدتها تدمير المساحة التي كانت تَشغلها مع أقرانها لمدّة أسبوعين تقريباً: "الليلة الماضية، قامت شرطة نيويورك، وبأعنف طريقةٍ ممكنةٍ بجمع كل ما كان موجوداً، ووضعِه في شاحنة نفايات، وكبسِه كلّه في القمامة. لا يسعني إلا أن أشعر بأن ذلك يرمز إلى كيفية التعامل مع الهوية الفلسطينية، أي كيف يُعاد تجميعُها ويتم التخلص منها". وتردف سيرينا: "إن الطّلبة يطالبون بعدم استخدام أموالهم الدراسية وأموال الضرائب لتمويل الحرب. تستثمر هذه المؤسسات في صناعةِ الحرب، وتبني أقساماً تبشِّر بالديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان، وتنشر الكتبَ وتربح بطرقٍ أُخرى أيضاً. هذا هو نفاق التعليم الغربي الذي يدعو إلى تعزيز حقوق الإنسان بينما يموِّل في الوقت نفسه تدميرَ البشرية".
الآن، بعد أن أَغلقت إدارةُ جامعة كولومبيا ما عُدَّ نقطةً محوريةً لحركة التضامن مع فلسطين، ما يزال مصيرُ المخيّمات الأخرى غائماً. هل ستحذو جامعاتٌ أُخرى حذوَ كولومبيا وتقتلع المخيمات، غاضّةً الطَّرْفَ عن انتقادات استخدام السلطات القوّةَ؟ أَمْ ستسلُك الطريقَ الذي اختارته جامعةُ براون حينَ وعدت بإجراء تصويتٍ لمجلس الإدارة على سحب الاستثمارات ورؤية الطّلبة وهم يفكِّكون خِيَمَهم سِلمياً؟ يرى بعضُهم أنّه بغضّ النظر عمّا سيحدث للمخيّمات نفسها، فإنها خَلَّفت أثراً بالفعل. ومِثلَ أسلافِ الطّلبة المحتجّين، الذين غيَّروا النظرة السائدة عن الحروب والفصل العنصري في زمنهم، فإن لهذه الحركة الاحتجاجية القدرة على تحقيق تغييرات تاريخية على أرض الواقع في فلسطين. لا يأتي هذا الشعور من أعضاء الهيئات التدريسية أو المعلقين السياسيين أو النشطاء فحسب، بل أيضاً من داخل غزة اليوم. فقد لجأ العديد من الفلسطينيين والفلسطينيات في غزة والضفة الغربية إلى وسائل التواصل الاجتماعي ليعبِّروا عن احترامهم لكل من فُصل أو اعتُقل أو هاجمته الشرطة، كما حدث في حرم جامعة جنوب كاليفورنيا في الأول من مايو. وقد نشرت بيسان عودة، الفلسطينية اللاجئة الآن في رفح، مقطعَ فيديو تقول فيه: "لقد أمضيت حياتي كلَّها في غزة ولم أشعر أبداً بهذا القَدْر من الأمل. أوَّلَ مَرّةٍ في حياتنا نحن الفلسطينيين نسمعُ صوتاً أعلى من صوت قنابلهم. لقد أمضيتُ الليلَ كلَّه أفكِّر في كل فيديو أراه وأنتم تصرخون وتحتجّون وتغنّون من أجل فلسطين. أشعر بذلك أننا سنعود إلى منازلنا، وسنكون أحراراً".