كانت نتساريم البقعةَ الأولى التي دخلتُها قبل تسعة عشر عاماً احتفاءً بمغادرة الجيش الإسرائيلي والمستوطِنين قطاعَ غزّة ضمن خطّة فكّ الارتباط التي وضعها رئيسُ الوزراء الإسرائيليّ أرييل شارون في 2005. لم يترك الجيشُ يومها منزلاً ولا منشأةً قائمةً في هذه المستوطَنة ولا في غيرها في باقي القطاع دون أن يسوّيَها بالأرض. تحوّلت بقعةُ الموت، أو هكذا ظَنَنّا، إلى فرصة. ولكن ككلّ شيءٍ تقريباً في السياق الفلسطيني، تأتي الفرصُ دائماً ملغَّمة. وها هي اليوم معاول الهدم تعود لتجرف البقعة ذاتها.
فمع اجتياح غزة في نهاية أكتوبر 2023، حوَّل الجيشُ الإسرائيلي المنطقةَ التي كانت تحتلّها مستوطَنةُ نتساريم فيما مضى والمناطقَ المجاورةَ لها إلى صحراء قاحلةٍ، بعرض ستّة كيلومتراتٍ وطول سبعة كيلومتراتٍ تمتدّ من حدود القطاع مع إسرائيل شرقاً حتى شارع الرشيد الملاصق لبحر غزة غرباً. وسُمّيت هذه المساحة المثقلة بالدبابات والسلاح "ممرّ نتساريم"، فهو يشطر القطاعَ من منتصفِه إلى شمالٍ وجنوب. كلّ ما بقي في المنطقة من حياة، بعضُ كلابٍ وقططٍ نحيلةٍ تهيم بحثاً عن طعامٍ أو شيءٍ من خشاش الأرض يقع تحت أنظار جنودٍ مدجّجين بالمعدّات تخندقوا خلف حواجز أسمنتيةٍ وسواتر ترابيةٍ، تحرسهم دباباتُ الميركافا وناقلاتُ الجند المدرّعة وفوقهم أعينُ المسيّرات ومناطيدُ التجسّس.
عامٌ بالتمام أضحى معه قطاعُ غزّة قطاعَيْن. واحدٌ شمالَ نتساريم وآخَرُ جنوبَه. ولا يجمع اليومَ العائلاتِ المشتَّتةَ على جانبيه غيرُ قصص البؤس، ولا يَلمّ شملَهم سوى أصواتُ نسفِ ما بقي من المباني على طرفَي الممرّ، من حيّ الزيتون شمالاً إلى أطراف مخيم النصيرات جنوباً. يحاول الناس اجتياز حاجز الموت هذا بعد أن شُرّدوا في الجنوب في مناطق شديدة الازدحام وعاشوا في خيمٍ ولاقوا الموت الذي فرّوا منه بعد أن تركوا بيوتهم ومعاشاتهم في مدينة غزة ومدن شمال القطاع. والموت مصير جلّ من يغامر في محاولة الذهاب شمالاً، إذ تحرص إسرائيل على إخلاء مناطق الشمال لا على عودة الناس إليها. حاول قريبي محمد "العبور" من الجنوب إلى منزله في مدينة غزة رغم توسلات زوجته، ولم يعد بعد. ومن المكان ذاته رجع بمعجزةٍ جارُ العائلة أيمن، وقد حَبَسَت الصدمةُ لسانَه ولم تترك له سوى بضع عباراتٍ كرّرها عن آبار الصرف الصحي في المنطقة والتي طفحت بالجثث. شاهدَ الجنودَ يقتلون رفيقَ رحلته يوسف عند محاولتهما التسلّل عائدَيْن إلى بيوتهم شمالاً، قبل أن يُلقوه في غياهب إحدى الآبار. وقد أصيبَ أيمنُ فعاد زاحفاً ينزف حتى تلقّفَه الصليبُ الأحمر وأعاده إلى من بقي من أهله في خيام النزوح في دير البلح وسط القطاع.
وبين شمال ممرّ نتساريم وجنوبه مئاتُ الآلاف من القصص تتجاوز بتفاصيلها أحاديثَ السياسة وبحقيقتها كلامَ الإعلام. عامٌ تغيّرَت فيه ملامحُ غزّة وأهلها، فانحرفت الأولويات وطفتْ على السطح بوضوحٍ مخاوفُ من النزوح الدائم المقرون بكرامةٍ متفتتةٍ وشعورٍ ساحقٍ بالخذلان. يلفّ كلَّ هذا صراعُ بقاءٍ مرّ وأسئلةٌ وجوديةٌ عن الذات والآخَر، وعن المقاومة بكل تعريفاتها. ليست رواياتِ بطولةٍ مِن عدمِها، وليست قذائفَ الياسين التي ترمي بها حماسُ دباباتِ المُحتَلّ ولا فُتَات آليات إسرائيل وبقايا جنودها، ولكنها حياةٌ ساوَت القنابلَ المتساقطة بين أكبرهم وأصغرهم، فقيرهم وغنيهم، مثقفهم وعامّيهم. هنا غزة بعد عامٍ من العدوان بكلماتِ بعضِ أهلها.
الأخبار المتوالية عن جولات مفاوضات وقف إطلاق النار في الدوحة والقاهرة بدأت سيلاً من الأمل الحذر، ثمّ تحوّلت مع تكرار فشلها أو إفشالها إلى شعورٍ جمعيٍّ بالإحباط. يقول لي بعضهم إنه خيرٌ لك أن تخفض سقف التوقعات، وإلّا سيكون السقوط مؤلماً. لربما حِميةً نفسيةً من باب حفظِ الذات، فليس القصف وحده من يقتل، بل انعدام الأمل أيضاً. "على الأقل إذا متنا رح نموت مقهورين أقلّ شوي"، تخبرني عمّتي النازحة في مواصي خانيونس غرب جنوب غزة والثكلى بولدها، الذي أَطفأَتْ أنفاسَه قذيفةٌ إسرائيليةٌ في الجانب الشمالي من نتساريم، ولم تَرَهُ عمّتي أو تُشيّعْه. تتململ قليلاً وتعود لتذكّر نفسها بأنها "أمّ الشهيد"، وأن لها من يشفع لها في العالم الآخَر. ولها في هذا سلوانٌ في حرِّ خيمتها الذي يلهب الجسد والروح معاً.
لقد باتت أقصى أمانيّ عمّتي ووالدي، ومثلهم عشرات الآلاف، العودة إلى البيت في شمال غزة، وإنْ بات منزلُ عمّتي اليوم ركاماً. وكما أن الأمل بالعودة أضحى الرغبةَ الأقوى، فعدمُ تحقّقه أصبح الاحتمالَ الأكثرَ رعباً. فكلّما تعثّرَت المفاوضات، زادت المسافةُ إلى البيت. وكلّما سمع والدي أصواتَ نسفِ المباني في ممرّ نتساريم، تعزّزَت مخاوفُه بأن العودة باتت بواقعيتها مساويةً لتجربة والديه بعد نكبة الشعب الفلسطيني سنة 1948، أملاً تذروه الرياح. يتحدث وقد حاول أن يحافظ على ما بقي في نفسه من هدوء، وإن فضحَت كربَهُ عيونُه الغائرة ونقصان وزنه، بأنّ لإسرائيل هدفاً واحداً من أوّل الحرب، ألا وهو إفراغ غزة من أهلها.
التاريخ والتقارير الإخبارية وعمليات الاحتلال على الأرض تدلّل على أن المنحى قد يكون بهذا الاتجاه. فلا نصر لإسرائيل المتعثرة في القطاع سوى بتهجير أهله. كانت المحاولات الأولى لتهجير أهل غزة في أكتوبر 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر، عندما احتلّت إسرائيلُ قطاعَ غزّة وسيناء مؤقتاً قبل احتلالهما في حرب 1967. التقدير بأن بن غوريون اعتقد أن احتلال غزة سيمكّن إسرائيل من دفع سكانها إلى سيناء المصرية، ومن ثم ضمّ القطاع إلى دولة المحتلّ الإسرائيلي. الواقع السكاني الجديد والظرف الدولي، بل وقصر مدّة الاحتلال الأول الذي دام ستة أشهرٍ، لم يسمح بتنفيذ هذا المخطط. ظهر الحديث عن التهجير مجدداً في وثيقةٍ في 2005 صاغها الجنرال غيورا إيلاند، واقترحَت نقلَ سكان القطاع إلى سيناء ومساعدة مصر بإعادة توطينهم هناك. ثم عاد بنيامين نتنياهو لطرح الموضوع على الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في 2010، لكنه رفض المقترح.
بعد عامٍ من التدمير الممنهج لكلّ مناحي الحياة في غزة، تعزّز الاعتقادُ بين كثيرين من سكان القطاع أن السابع من أكتوبر مثّل فرصةً نادرةً لإسرائيل لتطبيق مخطّط التهجير. بُني على هذا الاعتقاد نظرياتُ مؤامرةٍ بأن المخابرات الإسرائيلية علمت مسبقاً بهجوم حماس وسمحت بحدوثه لتوفير الذريعة لإعادة احتلال القطاع وإفراغه من أهله. عزّز هذا الاعتقادَ طلبُ إسرائيل من سكان غزة النزوحَ إلى الجنوب منذ الأسبوع الأول من الحرب. الحديث المتصاعد بين المستوطِنين في إسرائيل عن إعادة مستوطَنات نتساريم وغوش قطيف لغزة، وآخَرين عن تحويل الواجهة البحرية لها إلى منتجعاتٍ سياحيةٍ، لا يعطي لأهل القطاع الكثير من السلوى بأن ممرّ نتساريم ليس أكثر من إعادة احتلالٍ وتمهيدٍ لعودة الاستيطان تدريجياً. كان نتنياهو أبرزَ المعارضين لخطةَ شارون الانسحابَ من غزة، واستقال على إثرها من منصبه وزيراً للمالية في حكومة شارون في 2005. يأتي هذا القلق المتزايد مع تواتر أخبارٍ عن تعيين نتنياهو الجنرالَ إلعاد غورين لتولّي "الشؤون الإنسانية" في شمال القطاع فيما بدا محاولةً لتحييد المؤسسات الدولية ومنها الأونروا وتعزيز السيطرة الإسرائيلية. ويتزامن هذا مع ما كشفَته صحيفةُ هآرتس في سبتمبر 2024 عن خططٍ لفرض حكمٍ عسكريٍّ في كلّ المنطقة شمال ممرّ نتساريم، ولربما تجويع الناس وترويعهم إذا سنحت الظروف الدولية ودفعِهم للتوجه جنوباً.
يعتقد والدي أن لا دخانَ بلا نارٍ، والتاريخُ مع الصهيونية هو الشاهد. عَمّقَ هذا الشعورَ لديه ولكلّ العائلة جدّتي التسعينيةُ، والتي نزحَت معهم. وكأنما طُوي التاريخُ عندها بين نكبتَيْ 1948 و 2023، فقصّت بلا توقّفٍ، وإنْ كان مجرّداً من التنظير السياسيّ، كيف كانت تجلس على تلّة المنطار في شرق غزة بعد طردها من بيتها في قرية السوافير شرق مدينة أسدود في ما بات يُعرَف الآن بإسرائيل في 1948، تنتظر الأخبار عن موعد عودتهم لديارهم كما وعدَتهم "الجيوش العربية الهاملة"، أي الفاشلة. أدانت الحديثَ المكرور عن "هدنة" وذكّرَت الجميعَ بأنه "عُمرنا ما نتعلم"، وبأن نتساريم باتت الحدودَ الجديدةَ لإسرائيل. أَرعبَها أن تنتهي حياتها نازحةً في مكان لجوئها في جنوب غزة كما بدأَتها لاجئةً في منطقة مخيّم الشاطئ على بعد بضعة كيلومتراتٍ شمالاً قبل ستّةٍ وسبعين عاماً. تخيّل أن تكون نازحاً حتى في مكان لجوئك.
أخبرَتنا مراراً عن أفراد عائلتها ومعارفها الذين حاولوا العودةَ إلى قُراهم بعد النكبة. ومثل قريبي محمد وغيره ممّن حاولوا العبور إلى شمال غزّة، لم يعد منهم أحد. حسب رأي المؤرّخ الإسرائيليّ بِيني موريس في كتابه "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، فقد قَتل أو اعتَقَل الجيشُ الإسرائيليُّ ومسلّحون يهودٌ الآلافَ من الفلسطينيين الذين حاولوا اجتياز "الحدود" للعودة إلى قُراهم وبلداتهم بعد النكبة. تطوَّر الأمرُ في 1954 لإعطاء هذه الممارسة طابعاً قانونياً بإقرار الكنيست قانونَ منع التسلّل، والذي جاء بعد أربع سنواتٍ من سَنّ قانون "حق العودة"، والذي بموجبه مُنح كلُّ يهوديٍّ الحقَّ بالقدوم إلى الدولة العبرية والإقامة فيها والحصول على جنسيتها. بينما حُرم الفلسطينيُّ من كلّ الحقوق الموازية وصُنّف أجنبياً أومتسلّلاً أو مخرّباً.
يرى أن فقدان الكرامة بالنزوح تتجاوز بمراحلَ تلك "البهدلة" (الشقاء والمَهانة) اليومية في طوابير الماء ورفعه أدواراً متعدّدة، وتتجاوز محاولةَ الحصول على طعامٍ باتت أسعارُه الأعلى عالمياً، "ثلاثين دولار لكَم بصلة، ومثلها لشويّة بندورة"، أي طماطم. في نظر أحمد، البيت يعادل الكرامة، وكلّ شيءٍ آخَر حسب ما يقول "ممكن نُجْمُطه"، أي نتحمّله على مضضٍ، حتى وإن ذابت أحذية أطفاله بعد عامٍ من الحرب وصاروا يمشون حفاةً في شوارع اختلطت بعضُ رمالها ببقايا الفسفور الأبيض الذي أَمطر به الطيرانُ الإسرائيلي القطاعَ في بداية الحرب. يتبرّم وإنْ حاول صبغَ عبارته بشيءٍ من التهكّم: "عمرك شفت بلد على وجه الأرض ما فيها شباشب؟" وفي بعض هذا إشارةٌ إلى اختزال الميراث السياسي من أجل فلسطين وحقّ تقرير المصير لقضيةٍ إنسانيةٍ، واختُزلت القضية الإنسانية لحفنةٍ من المعلبات والشباشب، واختُزل هذا كلّه مجرّد صراع بقاء. فيعلّق أحمد بأن "فلسطين صارت علبة فول".
ومن هذا المنظور يبدو أن وصفَ وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، في بداية الحرب الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية" يُقطع عنهم الماء والكهرباء والوقود والطعام، لم يكن عشوائياً بقدرِ ما كان تصوّراً عنصرياً يُنفَّذ ليصبح واقعاً محسوساً. يُحرم الفلسطيني من كلّ شيءٍ، وتدريجياً تتغيّر أولوياته من برنامجٍ قوميٍّ ومتطلّبات مجتمعٍ مدنيٍّ بمراكزه الإدارية ومستشفياته ومدارسه وجامعاته، لمتطلّباتٍ تنحصر في البقاء على قيد الحياة، ماءٌ وطعامٌ، بل حتى شباشب. في ظروفٍ كهذه يغيب النظام والقانون وتنحطّ الكرامة إلى غايةٍ وحيدةٍ، ألا وهي صراع البقاء.
وفي حوارٍ مع زميلةٍ أكاديميةٍ تعمل في إحدى جامعات المملكة المتحدة اتفقنا على أن هذا المنظور الاستعلائيّ قد يفسِّر أيضاً لِمَ انقضَّت الدباباتُ على المراكز الثقافية والمكتبات والجامعات عند دخولها مدينة غزة. خَلصنا في نقاشنا إلى أن صورة الحداثة الفلسطينية تناقضت مع صورة الفلسطيني البدائي في المخيال الصهيوني وبات ضرورياً تدميرُها حفاظاً على تلك النظرة التي تبرّر "مشروعية الوجود اليهودي في فلسطين" مقابل "السكان الأصليين البدائيين". وليس بعيداً عن هذا تبريرُ الإبادة والاضطهاد، كالقول "نحن اليهود بَشَرٌ والفلسطينيون بشرٌ من نوعٍ أدنى، ولا تنطبق عليهم الحقوق نفسها ولا المعايير الأخلاقية التي نقيس بها أنفسنا". وللمفارقة، هي ذاتها المعادلة التي أَطّر بها النازيّون قتلَ اليهود، وكأنّ ما فَعَلَه جنودُ الاحتلال ويفعلونه محاولةُ تعويضٍ أو إسقاطٌ نفسيٌّ يعيد فيها الضحيّةُ دورَ جلّاده ويسقطه على من هم أضعف منه. وهنا لا يمكن فهمُ كيف للجرّافات العسكرية أن تمسح معالم ثقافيةً مرموقةً وسط غزة كمكتبة الثقافة والنور ومركز رشاد الشوّا الثقافي – المؤسَّس في الثمانينات ومن إحدى قاعاته خَطَب الرئيسُ الأمريكي بِل كلينتون بعد افتتاح مطار غزّة أواخر 1998 – لولا أن هذه المؤسسات ناقضت الصورةَ النمطيةَ في مخيلة الجنود الإسرائيليين عن الفلسطيني. يكفي أن تقومَ بجولةٍ في قلب المدينة الراقي، منطقة الجندي المجهول وسط حيّ الرمال التي تحوّلت حدائقُها أرضاً بواراً وبنوكُها وشركُاتها ومكتباتُها وأسواقُها أطلالاً لترى منهجيةَ هذا النمط من التدمير وتقفَ على دوافعه.
وعن نزع الإنسانية والخوف من فقدان ما بقي منها، حدّثَتني زميلتي أسيل، من شمال نتساريم. عملت أسيلُ محاضِرةً في إحدى جامعات غزّة – قبل أن تصبح كلّها اليوم أثراً بعد عينٍ – وقد بقيَت مرابطةً في الشمال مع ما يقارب ثلاثمئة ألفٍ آخَرين بعد أن ضُرِب بيتُها في حيّ الرمال وسط مدينة غزّة وذهبت مقتنياتُها أدراجَ الرياح. تبكي بمرارةٍ أيضاً على ما حلّ بقططها، "هذه الأرواح البريئة"، كما تقول، التي تلاشت آثارُها. فلَم يكن ممكناً أخذُها معهم في رحلة البحث عن الأمان والقوت، فتُركت لحال سبيلها تسعى لرزقها داخل بقايا المنازل والنفايات المتراكمة، بل حتى تطفئ جوعَها من جثثٍ تُرِك بعضُها في زوايا الشوارع المدمّرة وتحت الأنقاض.
وفي رحلة البحث عن الكرامة الكثيرُ من فقدان الكرامة. طيلة عامٍ كاملٍ تنقّلَت أسيلُ من بيتٍ إلى بيتٍ، عند أقرباء أو أصدقاء، فحُشرَت أسابيعَ أو أشهراً مع عائلتها الكبيرة في غرفةٍ واحدة. توجب عليها خوضُ صراع المراحيض وطوابير المياه مع عشراتٍ آخَرين تلاشت طبقاتهم الاجتماعية وتساوَوا في الحاجة. يزداد الأمر قتامةً لسكان المدارس والخيام الذين فُرض عليهم صراعٌ مع آلافٍ آخَرين لأجل أساسياتٍ تحفظ الحدّ الأدنى من إنسانيتهم. اشتبك المحتاج مع المحتاج وبات ما كان تافهاً سلعةً لا تقدّر بثمن. تردف أسيل بأنه وبعد عامٍ ضاق كثيرٌ من الناس ببعضهم ذرعاً، حتى شمّر أحياناً "أساتذة جامعاتٍ وأطباء محترمون" عن سواعدهم في مشادات مع آخَرين من أجل شيءٍ من الطعام أو شربة ماءٍ لعوائلهم أو من أجل استخدام الحمّامات، والتي أضحى كثيرٌ منها مجرّد حُفَرٍ في العراء تسترها أغطيةٌ بلاستيكيةٌ أو "زينغو" أي ألواحٌ معدنيةٌ رقيقةٌ تستخدَم بالعادة لبناء السقف. وكانت قوات الاحتلال منذ اليوم الأوّل للعدوان قد استهدفَت كلَّ ما طالته يدُها من مرافق خدميةٍ وشبكات المياه والصرف الصحّي. ففي مدينة غزّة مثلاً، تقول منظمة أوكسفام إن 88 بالمئة من آبار المياه دُمّرت، في حين توقفت كاملُ محطّات التحلية عن العمل.
إلّا أن مِن أقسى ما يحزّ في نفس أسيل لم يأتِ من إسرائيل مباشرةً، بل مِن بعض الدول وبالأخصّ العربية منها. تتحدث عن طائرات المساعدات التي ألقت أطناناً من الموادّ الغذائية فوق رؤوس الغزّيّين، ففُرض على الناس الجريُ في مشهدٍ شبّهه أهلُ غزة بمشهد "يوم الحشر" متدافعين بالآلاف نحو الأمل القادم من السماء. ولكن الكثير من هذا الأمل قَتَل الناسَ عند سقوطه عليهم. فابنُ عمّة صديقي ذو الثمانية عشر عاماً قُتل عندما اصطدم برأسه أحدُ الصناديق التي ترميها الطائراتُ. في حين غرق بعضُ الشبّان محاولين انتشال بعض الصناديق التي سقطت في البحر. وفي حالاتٍ أخرى دفعت الرياحُ المظلّاتِ صوب القوات الإسرائيلية المتمركزة في أطراف حيّ تلّ الهوا جنوب غرب مدينة غزّة فكان نصيبُ الجوعى سيلاً من الرصاص والقذائف.
تُعلِّق: "أنا أستاذةٌ جامعيةٌ، وكان من المفروض أن أركض خلف المظلات المحملة بالطرود الغذائية". ثم تضيف: "تواصل معي أصدقاء من ماليزيا درستُ معهم، يَعرضون مبالغَ ماليّةً ليساعدونا بها … آخَرون من الجيران والأقارب ممّن انتهى بهم المآلُ نازحين في جنوب القطاع، طلبوا منّي أن أذهب إلى بيوتهم للاطمئنان عليها وأخذِ كلّ ما فيها من طعامٍ ومستلزماتٍ أخرى".
تقول أسيلُ إن عروض المساعدة كانت طعناتٍ في قلب كرامتها. بكت لياليَ طوالاً حتى أنها سَألَت اللهَ أن ينزع روحَها ويأخذَها إليه. ثم تردف بأسىً: "فكّرتُ بالتوجه إلى الجيش الإسرائيلي ليقوموا بهذه المهمة لأجلي". تستغفر اللهَ ثم تستدرك أن الوضع الغذائي تحسّن قليلاً بعد عامٍ من الحرب، ولكن الشحّ والعازة بقيت على حالها. ومثل أحمد، ترى أسيلُ أن الإذلال وتدهور حسّ الناس بإنسانيتهم بقي سيّد الموقف. برأيها لا مساحة لالتقاطِ الأنفاس أو أخذِ فسحةٍ ولو قليلةٍ من حالة الاكتئاب الجمعي التي طالت أغلبَ سكان القطاع. فلا يمكن أن تنفصل عن هذا كلّه وهي لا تبعد سوى بضع شوارع عن حطام ما كان يوماً منزلها. وفي مكان نزوحها وقتَ هاتفتُها في بيت أحد الأقارب دُفن سِلفُها وابنُه، وفي بيت سِلفها هذا أو ما بقي منه دُفن حماها الذي كما تقول "مات من القهر والنزوح المتكرر". وإلى جانب حماها دُفنت يدُ ابن سِلفها: "اتصل جيرانُ سِلفي ليخبرونا أنهم وجدوا يدَ ابنِ سِلفي تحت ركام المنزل. هذا بعد أن دفنّا أشلاءه وأباه بأيامٍ … غزة أصبحت كلّها مقابر، في البيوت والأرصفة والحدائق، وكلّ المستشفيات".
أما صديقي الصحفيّ إسماعيل من حيّ الشجاعية شرق مدينة غزّة، والذي استطعتُ الوصولَ إليه بعد جهدٍ جهيدٍ، إذ نزح إحدى عشرة مرّةً منذ بداية الحرب، فإن الشعور بالعجز وفقدان السيطرة هو ما يَستنزف شعورَه بإنسانيته. ينعت وضعَه "قهر الرجال" ولديه ما يبرّره. فقد أصيب والده بنوبةٍ قلبيةٍ يقول إنها بسبب كثافة القصف، فوقف إسماعيلُ عاجزاً أمامه وهو يلفظ أنفاسَه الأخيرة، مع أن بينه وبين مستشفى الشفاء وسط مدينة غزة عشر دقائق فقط. وكان هذا في بداية توغل القوات الإسرائيلية للمرّة الثانية باتجاه المستشفى من غرب المدينة في مارس 2024. يتحدث أن شعور العجز قلّص من شعوره بقيمته أباً. فما عاد يملك من أمره شيئاً لحماية أسرته من سيل القنابل المتساقطة، خصوصاً وأنه أصبح مسؤولاً عن أحد أبناء أخيه ناهيك عن أطفاله الثلاثة. وأخوه هذا انتهى به المطافُ وزوجته على الجانب الجنوبي من نتساريم، مع أحد أبناء إسماعيل أيضاً. وكان الأخَوان قد تبادلا واحداً من أبنائهما، كلّاً في منزل الآخَر، في حال أُبيدت عائلة أحدهما فسيبقى واحدٌ من العائلة حيّاً عند الآخَر. كرّر إسماعيلُ كثيراً عبارة "مُحِيَت من السجلّ المدنيّ"، وهو ما أضحى المصطلحَ الرسميَّ منذ عدوان 2014 لوصف ما حلّ بمئات العائلات الغزية التي قُتلَت عن بكرة أبيها صغاراً وكباراً في القصف الإسرائيلي.
هذا الصراع المرهِق مع العجز أغرق إسماعيلَ في حالة اكتئابٍ حادّ. وبرأيه فهذه إضافةٌ إلى حلقاتٍ متنوّعةٍ من الاكتئاب سبقت الحربَ بسنواتٍ وتعكس واقعَ شرائح واسعةٍ من سكان قطاع غزة. ففي العام الذي سبق الحربَ صُنّف القطاعُ مِن أسوأِ مناطق العالم في الصحّة النفسيّة، خصوصاً بين الأطفال. جولاتُ العدوان والقتال المتتاليةُ منذ 2009 وفوق هذا الحصار منذ 2007، ويحيط بهذا كلّه واقعُ الاحتلال منذ 1967 وصدمة نكبة 1948 العابرة للأجيال، كل ذلك لم يترك أيَّ مساحةٍ للتعافي. وهنا يسخر إسماعيل من تقارير المنظمات الدولية عن حالات "أعراض ما بعد الصدمة" بين سكان غزة، متسائلاً كيف يكون لهذه الصدمة ما بعدها في حين أنها مستمرّةٌ ولم تنتهِ. الإشكالية ذاتها حدّثتني عنها أسيل، فقد خضعَت بنفسها لعدّة جلسات علاجٍ نفسيٍّ نظّمَتها وموّلَتها مؤسّساتٌ إغاثية. شعرَت كأنها "ترقيع نفسيّ" ينتهي تأثيرُه بمجرّد الخروج إلى الشارع وسط الركام وتحت عيون المُسيّرات التي يصمّ طنينُها الآذانَ على مدار الساعة.
إلّا أنه، وفي محاولةٍ لعقلنة الخذلان ربما لتخفيف وطأته، اختار بعضُهم عقدَ مقارناتٍ تاريخيةٍ لإثبات أن خذلان اليوم ليس تغيّراً في النمط، وإنما حجمُ المقتلة فقط هو ما فضح مدى القصورَ العربي والإسلامي. في تواصلي مع الغزيّين لاحظتُ أن الروايات التقليدية أو ما بات يُعرف بنقاشات المقاهي عادت لتطفو على السطح، ومفادُها أن "الأنظمة العربية سَلّمَت فلسطينَ تسليمَ اليد" للصهيونية منذ اليوم الأوّل، وما يحدثُ اليوم استكمالٌ للخطيئة الأُولى. كان جَدّي ومثله كثيرون من جيل النكبة يخبروننا أن ضبّاط القوّات العربية التي دخلت فلسطين بعد إعلان دولة إسرائيل في مايو 1948 كانوا يردّون على مطالبهم بالمساعدة في وقت مهاجمة عصابات الهاغانا وشتيرن قراهم وبلداتهم بالقولِ "ماكو أوامر" (لا يوجد أوامر) أو "ما في سلاح". تحدّث جدّي كثيراً عن "الأسلحة الفاسدة" للجيوش العربية أو ما بات يُعرف في الوعي الشعبي بِاسم "حرب التَنَك"، وتعني الخردة، مشيراً إلى فساد الأنظمة العربية التي كان معظمها تحت الاستعمار في فترة حرب 1948 وتآمرها في "بيع فلسطين لليهود".
من وجهة نظر البعض الآخَر، فإن مسألة الخذلان يمكن تفسيرها من منظورٍ سياسيٍّ ميكافيللي، بمعنى أن الغاية تبرّر الوسيلة. فالنظم العربية لديها التزاماتٌ دوليةٌ ومصالح داخليةٌ أهمّ من فلسطين، وإن استخدمت فلسطين إطاراً قيمياً لسياساتها المعلَنة للحفاظ على شرعيتها أمام شعوبها. هذا المنحى أدركَته منظمةُ التحرير في مراحل مبكرةٍ بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة سنة 1965. وفي محاولاتها المتكرّرة الاستقلالَ بالقرار الفلسطيني، بعيداً عن الوسائل صحيحها وخاطئها، وجدَت نفسَها في صداماتٍ مع بعض الحكومات العربية انتهى بعضُها بكوارث. ابتداءً بالتصادم مع النظام الأردني في 1970، ثم الجفاء مع القاهرة بعد توقيع السادات لكامب ديفيد مع إسرائيل في 1979، ومروراً بالحرب الأهلية في لبنان ومن ثم الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في 1982، وانتهاءً بالقطيعة مع دول الخليج بعد الغزو العراقي للكويت في 1990. وفي حين لا ينكر أحدٌ أن بعض الدول العربية أغرقت الفلسطينيين بمساعداتٍ إنسانيةٍ تقدّر بمئات الملايين من الدولارات منذ عقودٍ، إلّا أن آخَرين يشكّكون بأهدافها الحقيقية، على قيمتها الإغاثية. وذلك باعتبار أن التركيز على الإنسانيّ حجَّم القيمةَ السياسية للوضع الفلسطيني وقلّص مساحةَ المناورة أمام إسرائيل، فصار الكفاحُ من أجل "لقمة العيش" واختلّت الأولوياتُ القومية.
بغضّ النظر عن دقّة هذه التقييمات مِن عدمِها، إلا أنها تعبّر عن شكٍّ متجذّرٍ في الوعي الفلسطيني بمدى الالتزام العربي تجاه فلسطين بما يتجاوز الشعارات. حرب غزة جاءت كاشفةً وفاضحةً، على حدّ قول صديقي أحمد "بما يتجاوز التعقيدات السياسية". فيقول: "انتقلنا من مرحلة الإدانة والسلبية السياسية إلى مرحلة مساندة بعض الأنظمة العربية للكيان". ثم يردف: "صرنا اليوم نقول إذا ما بدهم العرب يدعمونا، على الأقل يحلّوا عنا وما يتآمروا ضدنا". يتوقف قليلاً ثم يسألني وقد علت نبرتُه: "بتذكُر في حرب 2014 كيف دخل أعضاء من المخابرات الإماراتية مع الهلال الأحمر الإماراتي للتجسس على المقاومة؟" الإمارات نفت هذه الشائعات، ولكن الميل لتصديقها بحدّ ذاته يمثّل تعبيراً صارخاً عن فقدان الثقة بأغلب الأنظمة العربية. ولا يرى أحمدُ أن على الفلسطينيّ أن يدير ظهره إليها قطّ.
قال لي جمال، وهو باحثٌ في العلوم السياسية، وبات اليومَ يقطن خيمةً على جانب نتساريم الجنوبيّ في مدينة دير البلح، إن الشعور الجمعيّ بالخذلان قائمٌ على حقائق. وإن انتقد تطبيعَ بعض الدول العربية مع إسرائيل، إلا أنّ جمال يشير أن ثقل هذا الشعور موجّهٌ إلى مصر، والتي برأيه تسببت بخيبة الأمل الكبرى لأهل غزة. لا سيما بعد دخول القوات الإسرائيلية إلى رفح في مايو 2024 وسيطرتها على ممرّ فيلادلفي الفاصل بين القطاع ومصر، ومن ثمّ احتلالها معبرَ رفح وإحراقه. برأيه "لم يتجاوز الردُّ المصري الشجبَ واعتبار ما حصل انتهاكاً لمعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل … كنا نتوقع ثورةً مصريةً رسميةً، ولكن جاءت ردود الأفعال مخجلةً مشابهةً لشهورٍ فشلت فيها مصر في إدخالِ ولو زجاجة ماءٍ للقطاع من دون إذن الاحتلال". يتدارك أن الوضع المصري معقّد، وأن لمصر المرهَقةِ اقتصادياً والمرهونةِ سياسياً للهيمنة الأمريكية ما تخسره لو انخرطت في مواجهةٍ مع إسرائيل. لكنه غير مقتنع، مع ذلك، أن موقف نظام السيسي ناجمٌ بالكامل عن عجز.
الاعتقاد بين شرائح واسعةٍ في غزة كان ولا يزال أن الحكومة المصرية منذ عهد مبارك متورطةٌ في الحصار على القطاع. وضُيّق هذا الحصار بعد صعود السيسي للسلطة في 2013. ثم تعمّق في 2015 بإغلاق مصر معبرَ رفح ذلك العام مدة ثلاثمئة وأربعٍ وأربعين يوماً وقيام الجيش المصري بتدميرٍ وإغراقٍ لما يقارب الألفَيْ نفقٍ تربط القطاعَ بمصر في سياق ما عدّته القاهرةُ حربَها ضد الإرهاب في سيناء. لا يَعتقد جمال أن التحسن الطفيف في العلاقات بين نظام السيسي وحماس في 2021، والتي طالما عدّها النظام المصري امتداداً لعدائه مع تنظيم الإخوان المسلمين، قد غيّر الكثيرَ على الأرض. ومع كلّ العناقات التي تلت حربَ إسرائيل على غزة سنة 2021 بين رجالات المخابرات المصرية وعلى رأسهم عباس كامل وبين رئيس حماس يحيى السنوار. فقد بقي معبر رفح، إن فُتح، مكاناً يُهان ويُبتزّ فيه الغزيون الراغبون دخولَ مصر، مع وعودٍ مصريةٍ متكررةٍ بتقديم تسهيلاتٍ سفر لم تتحقق أبداً. يذكر جمال في هذه الحرب وحتى سيطرة إسرائيل على ممرّ فيلادلفي كان المعبرُ وسيلة استرزاق على حساب الفلسطينيين. فمثلاً شركة "هلا" التي يملكها رجل الأعمال السيناوي إبراهيم العرجاني والقريب من متنفذين داخل الحكومة المصرية جَبَت من خمسة إلى سبعة آلاف دولار للشخص مقابل تسهيل خروجه من القطاع. نجح جمال بإخراج زوجته وابنتيه إلى القاهرة بعد أن باع سيارته وجمع معظم مدخراته لدفع ما سمّاه "الفدية" لينقذهم من الموت في غزة. اليوم وبعد ثمانية أشهرٍ من إخراجهم وعامٍ من الحرب يتساءل إذا ما كان سيراهم مرةً أخرى، خصوصاً وأن معبر رفح مغلقٌ منذ خمسة أشهرٍ ولا أُفق واضح لاتفاق وقف إطلاق نارٍ يقضي بانسحاب الجيش الإسرائيلي منه.
يقول أحمد إن ما يخفف من لوعة الخذلان العربي، وهنا يشير إلى كلٍّ من الحكومات العربية وقلّة حيلة الشعوب، هو الانعطافة الحادة في الرأي العام العالمي لمصلحة فلسطين منذ السابع من أكتوبر. ثم يعود مع هذا ليصبّ جامَ غضبه على ما يشعر أنه طعنةٌ في الظهر من ذوي القربى، مردّداً كلماتٍ تنمّ عن شعورٍ غامرٍ بالظلم والتخلّي. كلماتٌ وكأنه اقتبسها من الكاتب المصري أنيس منصور الذي قال في إحدى مقالاته يوماً بأنه لو كان فلسطينياً لكان الشعور الوحيد الذي يتسلط عليه هو الظلم، وأنه لو كان فلسطينياً لكَفر بكلّ القيم وكَره العربَ واحتقر كلَّ البشر. تصادف حوارنا مع الهجوم الجوي الشاسع الذي بدأته إسرائيل على لبنان في الثالث والعشرين من سبتمبر 2024، وعليه تساءل بأسىً إذا ما كان لبنان سيكون الضحية التالية للتخلي والخذلان العربي والدولي، مستذكراً كيف تُرك هذا البلد وحده يواجه مصيره في حرب تموز سنة 2006.
يصف لي صديقي إسماعيل، قاطنُ حيّ الشجاعية، المشهدَ في مدينة غزة وكأنه يَقتبس من قصيدة "الأرض اليباب" للشاعر الإنجليزي تي إس إليوت، فيقول إن الغزيين يَخْطون بالشوارع ووسط الركام وقد باتوا كالظلال مجرّدين من الروح: الوجوه واجمةٌ والعيون غائرةٌ والقلوب قد بلغت الحناجرَ، مستنكِراً كيف لهذا البؤس كلّه أن يكون انتصاراً. ولكن هذا منظورٌ من مناظير شتّى عاينتُها في حديثي مع العشرات من أهل غزة. يرى بلال، مثلاً، أن الأمر يستحق إذا كان الثمن النهائي هو التحرير، معلّلاً أن لا حرية بلا تضحيات. رَدّة فعل بلال صديق إسماعيل – عائلته هو أيضاً تفرقت وقُتل أخوه في بداية 2024 في غارةٍ على حي التفاح شرق مدينة غزة – تبدو أكثر تقبّلاً وإن كان لا ينكر حجم المأساة، فهو يتشبّث بشيءٍ من الأمل. فعلى درب الغالبية الساحقة من أهل القطاع، يتعلق بكلّ خبرٍ عن قرب الاتفاق على نهاية الحرب. ومثل والدي، لديه مذياعٌ يعمل بالطاقة الشمسية، يحمله معه لكلّ مكان. الأمل هنا هو حالةٌ قاتمةٌ من انتظار الفرج، الفرج بهدنةٍ أو حبذا نهاية الحرب بلا رجعة.
يقول لي يانس، مدرس التاريخ من مدينة غزة والذي انتهى به الأمرُ في خيمةٍ في مواصي خانيونس، بأن لسانه يلهج بالدعاء على السنوار كلما عصفت رياحُ البحر بغطاء خيمته أو أغرقت مياهُ الأمطار أطفالَه وزوجتَه. يرى أن السابع من أكتوبر كان عملاً جريئاً ولكنه أرعن أيضاً. فالعملية برأيه تجاوزت بمستواها ما كان مخططاً له وأن السنوار أساء تقدير الموقف وردّة الفعل الإسرائيلية. يانس يقدّر أن الاختراق الأمنيّ لمنظومة الدفاع الإسرائيلية في غلاف غزّة سهّلته الاستخبارات الإسرائيلية لخلق الذريعة لدخول غزة وتهجير أهلها. يعارضه في هذا أخوه، بأن ما حققته حماس في السابع من أكتوبر كان إنجازاً عسكرياً فريداً، وأن العملية كانت نتيجةً حتميةً لعقودٍ من القهر.
لم يكن هناك بدٌّ سوى توجيه ضربةٍ كبيرةٍ للاحتلال اعتُقِد أنها ستحلحل الجمودَ وتُغيّر وضعية الحصار على القطاع. أخو يانس كان قد أصيب في فخذه من قناصٍ إسرائيليٍ في مَسيرات العودة في 2018 على حدود القطاع مع إسرائيل في المحاولة الشعبية لكسر الحصار. ولذلك يرى أن قضاء كتائب القسام أثناء الهجوم على وحدة غزة في الجيش الإسرائيلي، والتي انخرط أفرادها في عمليات القنص، انتقامٌ شخصيٌ له. يذكّرني أن الكثير من فيديوهات الهجوم ظهر فيها بعض مقاتلي القسام يتحدثون عن ثأرهم لأفرادٍ من عائلاتهم كانوا قد قضوا نحبَهم في هجمات الجيش الإسرائيلي المتكرّرة على القطاع. وهو بهذا لا يرى أن الثأر يتناقض مع الرغبة بالتحرر، مذكّراً مرّةً أخرى أن أحد دوافع السنوار وراء عملية طوفان الأقصى ربما كان الانتقام الشخصي بعد أن ذاق ويلات السجون الإسرائيلية عقدَيْن من الزمن: "هذا حقّه الطبيعي".
ومن الطريف، وليس الكثير في غزة طريفاً، أن مستوى تأييد من حدثتُ من الغزيين يحيى السنوار يظهرُ في طريقة تسميتهم له. فمناداته بكنيته "أبو إبراهيم" بدت الأكثرَ استخداماً في محيط معجبيه، ومنهم أخو يانس. في حين أسماه يانس "السنوار"، ونَعَتَه إسماعيلُ بالمجنون، لأنه برأيه وفّر لإسرائيل الذريعةَ لتدمير غزة التي استعصت على شارون ورابين وشامير. هذا وإن أجمع المتحدثون بالمقابل أن دورَ السلطة الفلسطينية في رام الله، وبالذات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كان باهتاً ودون المستوى بمراحل، وأسهم بتدهور شعبية عباس المتدهورة أصلاً في مقابل صعود نجم يحيى السنوار وإسماعيل هنية، قبل اغتياله في طهران في نهاية يوليو 2024. ولهذا السبب يسخر بعضُ أهل غزة من "سلطة عباس" فيصفونها بأنها "دولة رام الله الشقيقة" كنايةً عن قلّة حيلتها وما يعدّونه انفصالاً عن الواقع.
يرى جمال أن جزءاً كبيراً من إحباط الغزيين بعد عامٍ من العدوان غيرُ مقرونٍ بالعمل المقاوم، نجاحاته أو إخفاقاته، بقدر ما هو مرتبطٌ بقرار الحرب والسلم واستفراد فصيلٍ معيّنٍ به. برأيه أن معادلة الربح والخسارة التي حاولت فصائل المقاومة ترسيخَها لم تعد تعني الكثيرَ للناس العاديين المشتتين على شطرَيْ نتساريم أمام حاجتهم إلى وقف الحرب والتقاط الأنفاس. وتقوم هذه المعادلة على مبدأ إفشال الأهداف الإسرائيلية وتقليص قدرة الردع للجيش الإسرائيلي، واعتبار هذا العمل نصراً نظراً لفارق القوة الشاسع بين المحتل ومن هو تحت الاحتلال. ومنه القول إن فشل إسرائيل في تحقيق كل أهدافها المعلَنة لهذه الحرب – وهي تشمل استعادة الأسرى الإسرائيليين، وتدمير حماس، وتحييد غزة – يشكّل انتصاراً إستراتيجياً للمقاومة وحماس بالذات، خصوصاً وأن الحرب دفعت بالقضية الفلسطينية للواجهة الدولية بعد أن كادت تُنسى وحشدت تأييداً عالمياً شعبياً هو الأضخم منذ النكبة.
أصواتٌ أخرى ترى في هذه المعادلة عدميةً لا تؤدي للنتائج المرجوة، خصوصاً بعد أن أصبح معظم غزة ركاماً. وهنا يصر جمال أن أصحاب هذه الرؤية إما من "جماعة السلطة وعباس والتنسيق الأمني" أو ما يسميهم بعضُ أهل غزة "المنبطحين"، أو أناس تدفعهم المصالح الشخصية. منطلقه أن كل جولات المفاوضات مع إسرائيل كانت عبثيةً، مفاوضاتٌ لغرض التفاوض، وأن المقاومة السلمية أو الشعبية التي دعا إليها محمود عباس أكثر من مرّةٍ لم تكن يوماً كافيةً لثني إسرائيل عن التوسع الاستيطاني أو دفعها لقبول حق تقرير المصير للفلسطينيين. وبالتالي فنعتُ معادلة الربح والخسارة بالعدمية عدميٌّ، كون المنتقدين لم يقدّموا بديلاً، وأن ما قدّموه جُرّب مراراً وثبت عدمُ جدواه لتحقيق حلّ الدولتين. ابتسم جمال وأنا معه عند ذكر "حلّ الدولتين"، وكأنه عقدٌ فلسطينيٌ صامتٌ بأن مصطلحاتٍ كهذه فقدت معناها منذ زمنٍ، وأن استعمالها مفاهيميٌّ فقط وفي إطار اللياقة السياسية لا أكثر.
يقول أحمد إن بعض المجموعات في شمال غزة والتي تورطت في أعمال سرقةٍ من بيوت النازحين وسطوٍ على المساعدات، حملت بنادقَ إم-16، وهو السلاح الرسميّ للجيش الإسرائيلي. وإن لم ينكر أن حالاتٍ كثيرةً من اقتحام بيوت النازحين كان مبعثُها الحاجةَ الماسّة من أفرادٍ عاديّين فَتَكَ بهم وبعائلاتِهم الجوعُ والعوز. يضيف أنه في بعض المناطق ظهرت أسواقٌ لبيع أدواتٍ وأثاثٍ منزليٍّ يُعتقد أنه سُرق من البيوت الخالية. يشرح أحمد بأن حساسية الوضع لا تسمح بالتفرغ لهؤلاء وأن الأولويات الآن في مكانٍ آخَر، وإن كانت هناك محاولاتٌ من شرطة حماس (بزيٍّ مدنيّ) أدّت إلى قمع بعضهم وتحييده.
وفي الصدد ذاته يخبرني أحدُ أفراد الشرطة في منطقة شمال مدينة غزة، والذي عاد للباسه المدني منذ أشهرٍ تجنباً للاستهداف، أن بعض هذه المجموعات التي وصفَها بـالخارجة عن الصفّ الوطني ظهرت بعد الاجتياح البرّي للقطاع في نهاية أكتوبر 2023 بفترةٍ وجيزةٍ، وأن هنالك شكوكاً بأن بعضها تعمل بدعمٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ من المخابرات الإسرائيلية لقلقلة الجبهة الداخلية. وهو يعتدّ بقضية حمل بعضهم البنادقَ الإسرائيلية دليلاً، كما فعل أحمد. يعتقد أن هذا يتماشى مع خططٍ إسرائيليةٍ أُعلنَت في بداية الحرب لإبدال حكمِ حماس بمجموعاتٍ محليةٍ تتحكم بها إسرائيل، أي أن تبدّل البعدَ الفصائلي السياسي بالبعد العشائري وتروّضه ليعمل لصالح الاحتلال.
وكانت قد ظهرت تقاريرُ في مارس 2024 مفادُها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حاول جسّ نبض العشائر والعائلات في شمال غزة ليتولّوا توزيع المساعدات. هذا بعد تقارير في الإعلام الإسرائيلي أن تل أبيب درست تسليح بعض أفرادها. رفض أعيانُ القطاع ومخاتيرُه المسعى الإسرائيلي باعتباره تعاوناً مع سلطات الاحتلال، لا سيما وأن حكومة حماس لم تزل تسيطر على الواقع الأمني في كثيرٍ من مناطق القطاع، وإن لم تعد السيطرة بالقوة ذاتها منذ بدء الاجتياح البرّي. ومن هذا المنطلق، فإن حيّزاً من هذه الفوضى يبدو مفتعلاً والهدف منه إعادة صياغة قطاع غزة على نمط ما عُرف بروابط القرى، وهي تشكيلاتٌ إداريةٌ من القرى والتجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية حاولت إسرائيلُ إنشاءَها في 1978 بديلاً عن منظمة التحرير التي بدأ نفوذها يجد صداه داخل الأراضي المحتلة آنذاك.
حتى وإن كان جزءٌ من الفوضى مفتعلاً، فلا يرى يانس وإسماعيل أن هذا مبرّرٌ لتغوّل بعض التجار والمنتفعين ممّن أصبحوا يُعرَفون اليوم في غزة بمسمّياتٍ مثل "تجار الحرب" أو "تجار الدم". تصادف حديثي مع يانس في وقتٍ كان يبحث فيه عن "شادر"، أي غطاءٍ بلاستيكيٍ، لخيمته بعد أن باغته المطر وعائلتَه فتحوّلت خيمتُه الصغيرة لفناءٍ مفتوحٍ تنهمر المياه داخله من كلّ جانب. طلب منه أحد التجار، واستخدم مسمّى "تاجر" تجاوزاً، خمسمئة وخمسين شيكلاً (أكثر من مئة وأربعين دولاراً) نظير أحد هذه الشوادر. أي عشرة أضعاف سعره الحقيقي. تبرع له أحد أقاربه بالخارج بالمبلغ عن طريق أحد الصرافين في غزة، فحوّل لهذا الصراف النقودَ على حسابه في بنكٍ خارج القطاع مقابل أن يُسلّم المبلغ ليانس نقداً في غزة. وصل يانس فقط ستون بالمئة من المبلغ، وبقيت أربعون أخرى لجيب الصراف رسومَ تحويل، ما يعني أن يانس لم يستوفِ ثمنَ الشادر.
مع بداية العدوان والاجتياح البرّي انهار النظام الاقتصادي والمصرفي في القطاع انهياراً شبه كامل، وصل معه الانكماش في الربع الأول من 2024 إلى 86 بالمئة، حسب تقرير البنك الدولي، ووصلت مستويات الفقر في منتصف العام ما يتجاوز 90 بالمئة. تدمير البنوك وعمليات السطو على النقود التي نفّذتها عصاباتٌ والجيشُ الإسرائيليُّ خلّفا شحّاً غيرَ مسبوقٍ في السيولة، وفتحت المجالَ أمام بعض الناس ممّن اكتنزوا النقد لاحتكاره والتحكم بأسعاره. هكذا فسّر لي الأمرَ بعضُ من حادثتُهم من الغزبين. وتدمير الجيش الإسرائيلي أكثرَ المصارف وأجهزة الصراف الآلي حالَ بين الموظفين وبين استلام رواتبهم، فلجأ كثيرٌ منهم لمحالّ صرافةٍ وتجارٍ وفّروا لهم سيولةً ماليةً مقابل اقتطاع نسبةٍ تصل الثلثَ وأكثرَ من قيمة الراتب.
يرى إسماعيلُ أن التدهور في الوضع الاقتصادي خلق طبقةً جديدةً من "مُحدَثي النعمة" على حساب كرب الناس. كثيرٌ من هؤلاء التجار برأيه كانوا يقبعون في قاع المجتمع قبل الحرب. ولكنه يعود فيؤكد أن الحاجز بين الغزيين وبين أولئك هي الحرب وأن الأمر مؤقت، وعند انتهاء الأزمة "سيُعلّقون من أرجلهم". يردف، فكما أَخرجت الأزمةُ أفضلَ ما في أهل غزة بتعاضدهم وصمودهم، فإنها أحدثت أيضاً شقوقاً سمحت لبعض النبت الخبيث في المجتمع بالتسلق للخارج.
يأخذ نفساً عميقاً قبل أن يتنهّد مردّداً: "حسبي الله ونعم الوكيل … ربنا يفرجها".
أمّا جدّتي، فقد غادرَتنا في نهاية سبتمبر 2024، لاجئةَ الهوية، نازحةً في مكان لجوئها. وكانت آخِرُ أمانيها أن تعود إلى بيتها في مدينة غزة ولو ساعةً قبل الفراق.
وفي قلب هذا يظلّ يجثم ممرّ نتساريم فاصلاً بين الشمال والجنوب، يجمع بين شطرَيْه الفرقاءَ في تشتّتهم ونزوحهم ومخاوفهم وشعورهم بالخذلان وأسئلتهم الوجودية والأمل بيومٍ تنتهي فيه المقتلة.
أحمد: "المهم تخلص المجزرة. بيكفي!"
