"لنجعل الكويت نقيّة مجدداً"... جذور وآثار سحب الجنسيات في الكويت

سحبت الكويت وأسقطت جنسية أكثر من ثمانية وستين ألف مواطن في أقل من سنة ونصف. يقف خلف هذه الحملة خطاب سياسي عمد منذ ما قبل الاستقلال إلى التفريق بين الكويتيين في حقوقهم السياسية والاجتماعية.

Share
"لنجعل الكويت نقيّة مجدداً"... جذور وآثار سحب الجنسيات في الكويت
يمتدّ أثر قرارات السحب والإسقاط من الشخص المنصوص عليه في القرار إلى أقربائه الذين حصلوا على الجنسية عن طريقه من زوجاتٍ وأبناءٍ وأحفاد | تصميم خاص بالفراتس

فور دخولها مبنى الهيئة العامة للمعلومات المدنية، المعنيّة بإصدار الوثائق الثبوتية لمواطني الكويت والمقيمين فيها، صاح ضابطٌ في وجه "شريفة" ذات الستّين عاماً قائلاً: "المسحوبة جناسيهم في الصالة الأخرى". ولدت شريفة ونشأت في الكويت، وترمّلت بعد زواجها من كويتيٍّ واحداً وعشرين عاماً. يومئذٍ جاءت إلى هذا المبنى لتسليم الوثائق التي تثبت أنها كويتيةٌ، بعد أن وجدت اسمها أواخر ديسمبر 2024 ضمن قوائم المسحوبة جنسياتهم. عندما دخلت الصالة التي أشار إليها الضابط، وجدت نساءً كثيراتٍ مثلها ينتظرن دورهنّ للتخلّي قسراً عن أوراقهنّ الكويتية. لكن ما لفت انتباهَ شريفة وشفقتَها أيضاً، امرأةٌ ترتدي لباساً وهو عبارةٌ عن علم الكويت يغطّيها من رأسها إلى أخمص قدميها، فيما بدا محاولةً يائسةً لاستدرار تعاطفٍ ما، قد يوقف المصيبة التي حاقت بها.

شريفةُ واحدةٌ من بين ثمانيةٍ وستّين ألف كويتيٍ وكويتيةٍ على الأقلّ سحبت أو أسقطت عنهم جنسياتهم ضمن حملةٍ حكوميةٍ بدأت منذ مارس 2024. تقول الحكومة الكويتية إن هذه الإجراءات جاءت "لتصحيح أوضاع خاطئةٍ تمّ رصدها، وهو قرارٌ قد يكون صعباً لما له من تبعاتٍ، لكنه ضرورةٌ تمليها مصلحة الوطن وسيادة القانون" حسب تصريحات النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية ورئيس اللجنة العليا لتحقيق الجنسية الكويتية الشيخ فهد اليوسف الصباح، في لقاءٍ مع رؤساء تحرير الصحف الكويتية وجمعيات النفع العامّ في ديسمبر 2024.
تنطلق حملة سحب الجنسيات وإسقاطها في الكويت من خطابٍ سياسيٍ تشكّل بعد تحرير الكويت سنة 1991، مهمومٍ بمسألة الجنسية والهوية الكويتية، ويحنّ إلى إعادة الكويت لما كانت عليه قبل الغزو العراقي. إذ كانت الكويت مقسّمةً إلى ثلاث فئات: كويتيون بالتأسيس وشملت من قطنَ الكويت قبل سنة 1920 وظلّ مقيماً فيها حتى صدور قانون الجنسية سنة 1959، وهؤلاء لهم حقّ المشاركة في الحياة البرلمانية. الفئة الثانية تتألف من كويتيين مجنّسين ليس لهم ولا لأبنائهم الحقّ في المشاركة السياسية. الفئة الأخيرة هي "البدون"، وتسمّيهم الحكومة "مقيمين بصورة غير قانونية"، وهم أولئك الذين لا يحملون أيّة جنسياتٍ، لا كويتية ولا غيرها، لكنهم ولدوا وعاشوا في الكويت. ومع أن القانون الكويتي يفرق بين سحب الجنسية وإسقاطها، سيكتفى فيما يلي باستخدام مصطلح "سحب الجنسية" في الحالتين تيسيراً على القارئ.
نما خطابُ الهوية الكويتية ردّةَ فعلٍ على القرارات التي اتُّخِذت بعد الغزو، والتي وسّعت المكتسبات الديمقراطية لتشمل المجنّسين والنساء وكادت تصل للبدون. طالب المؤمنون بهذا الخطاب "تصحيح" ما رأوه تلاعباً وتسييساً طرأ على ملفّ الجنسية في مرحلة ما قبل الغزو وأتاح للكثيرين أن يكونوا كويتيين أصليين أو بالتجنيس في حين أنهم "مزوّرون" أو "مزدوجو الجنسية". انتقل هذا الخطاب من هامش المشهد السياسي الكويتي إلى خطاب السلطة مع تولّي الأمير مشعل الحكمَ نهاية سنة 2023، وتحوّلت المطالب إلى حملةٍ تسحب جنسيات مقيمين على أرض الكويت، غيّرت حياة عشرات الآلاف من الكويتيين.


كان واضحاً مع بداية تولّي الأمير مشعل الأحمد الصباح الحكمَ في 16 ديسمبر 2023 حرصُه الشديد على ملفّ الجنسية. فبعد أربعة أيامٍ من تولّيه منصبه، وفي أوّل خطابٍ ألقاه أمام مجلس الأمة بعد أدائه القسم، انتقد الأمير تعاونَ "السلطتين التشريعية والتنفيذية … على الإضرار بمصالح البلاد والعباد". ومن بين الملفّات التي تضرّرت من السلطتين، ذكر الأمير "ملفّ الجنسية" وما حدث فيه "من تغييرٍ للهوية الكويتية".
لم تمرّ ثلاثة أشهرٍ على هذا الخطاب إلّا وأطلقت الكويت أكبر حملة سحبٍ وإسقاطٍ لجنسياتٍ في تاريخ المنطقة العربية. ففي يوم الاثنين 4 مارس سُحبت جنسيات ثماني نساءٍ وثلاثة رجالٍ، من بينهم حاكم المطيري، المؤسس والأمين العام لحزب الأمّة ذي التوجه الإسلامي، والمقيم في تركيا. بعدها بأسبوعٍ، سحبت الجنسية من سبعةٍ آخرين، ثم بعد أيامٍ من ستّةٍ غيرهم. انطلقت الحملة ثم توسّعت في غيابٍ برلماني. إذ أعلن الأمير عن حلّ مجلس الأمّة حلّاً دستورياً في 15 فبراير. ولمّا انتُخِب مجلسٌ جديدٌ في أبريل من السنة نفسها، أجّل الأميرُ انعقادَه شهراً كاملاً. وما كاد الشهر ينقضي حتى حلّ الأمير البرلمانَ الجديد حلّاً غيرَ دستوريٍّ في 10 مايو، وأصدر قراراً بتعطيل العمل ببعض موادّ الدستور.
ويبدو أن الحكومة كانت تعاني بادئ الأمر في الحصول على معلومات من عَدّتهم مزوِّرين أو مزدوجي الجنسية، فلجأت للمواطنين ليبلّغوا ضدّ بعضهم بعضاً. ففي يوم 15 مارس 2024 خصّصت إدارة مباحث الجنسية، التابعة للإدارة العامة للجنسية ووثائق السفر الكويتية، خطّاً ساخناً طلب من المواطنين الاتصال به للإدلاء "بكافّة المعلومات الجدّية بشأن مزوّري ومزدوجي الجنسية الكويتية. وذلك تجسيداً لمقولة 'كلّ مواطنٍ خفير'" كما ورد في بيان الداخلية الكويتية. ولّد هذا التطوّر فرصةً لبعض الكويتيين حتى يبتزّوا غيرهم. علمت الفراتس أثناء عملها الميداني على هذا التحقيق في العاصمة الكويتية بقصّة كويتيٍ ضمّ إلى أولاده صبيّاً من جنسيةٍ عربيةٍ كان يعمل معه، وسجّله بِاسم طفلٍ له مات منذ زمن. وعندما توفّي هذا الرجل، تنازل الصبيّ الذي أصبح شابّاً عن الإرث لأنه ليس ابناً حقيقياً. لكن تنازله لم يُعفِه من تردّد أبناء الرجل عليه لطلب آلاف الدنانير مقابل السكوت وعدم الإبلاغ عنه.
وبعد هذه الخطوة لجأت الحكومة في ديسمبر 2024 إلى تعديل قانون الجنسية ليسمح للجهات المختصة باستخدام "الوسائل العلمية الحديثة" لسحب جنسيات المواطنين. وبعد أربعة أشهرٍ صدر قرارٌ أعلنه وزير الداخلية فهد اليوسف موضّحاً أن هذه الوسائل تشمل إجراء فحوص البصمة الوراثية لمن يخضع منهم لتحقيقٍ بشأن الجنسية. وعلمت الفراتس من مصادرها، الذين تتحفظ على الكشف عن هويّاتهم لسلامتهم الشخصية، أن هناك وقائع لمسح البصمات الوراثية بالقوّة في الكويت، وترتّب عليها سحب جنسيات مواطنين، إضافةً إلى كلّ من حصلوا على الجنسية من ذرّياتهم بالتبعية، بعد أن وجد بالفحص أن هناك عدم اتساقٍ بين ما تشهد به الوثائق الرسمية من نَسبٍ وبين ما أثبته تحليل البصمة الوراثية.
استمرّت وتيرة سحب الجنسيات وإسقاطها تتنامى ببطءٍ حتى وصل عددهم ألفاً في أكتوبر 2024، ومن حينها أخذت الأعداد تتضاعف بتسارع. يتضح هذا من الرصد الذي تُواصِله مبادرة "غرفة الأخبار"، وهي مبادرةٌ إعلاميةٌ خليجيةٌ مستقلةٌ، أَوْلَت اهتماماً خاصّاً بهذا الموضوع. بدأت "غرفة الأخبار" رصدها منذ صدور أول قرار سحبٍ في شهر مارس 2024، وتابعَت من بعدِه رصدَ أعداد المسحوبة جنسياتهم ونشرها دورياً. وبناءً على الأرقام التي رصدوها من تتبّع المراسيم المعلَنة في جريدة الكويت الرسمية، نجد أنه بينما استغرقت أعداد من سحبت جنسياتهم ستّة أشهرٍ حتى تتجاوز حاجز الألف، لم تحتجْ إلّا شهرين تاليَيْن حتى تتجاوز حاجز العشرة آلافٍ، ثم شهرين آخَرَيْن حتى تتجاوز حاجز الثلاثين ألفاً، فشهراً واحداً حتى تتجاوز حاجز الستّين ألفاً. وحتى تاريخ 4 أغسطس 2025 بلغت أعداد المسحوبة جنسياتهم 68553 شخص. يمثل هذا العدد 4.4 بالمئة من إجماليّ تعداد الكويتيين الرسمي البالغ 1.545 مليون نسمة، حسب أرقام الإدارة المركزية للإحصاء الصادرة في يناير 2024.

تطور زمني لإسقاط وسحب الجنسية الكويتية

ومع ضخامة هذا العدد، إلّا أنه لا يعبّر عن الصورة الكاملة. إذ يمتدّ أثر قرارات السحب والإسقاط من الشخص المنصوص عليه في القرار، إلى أقربائه الذين حصلوا على الجنسية عن طريقه من زوجاتٍ وأبناءٍ وأحفاد. وهذا يعني أن "العدد قد يصل إلى حدود الثمانين ألفاً"، حسبما يرجّح أكاديميٌ كويتيٌ متخصّصٌ في الشأن السياسي، تحدّث للفراتس شريطة عدم ذكر اسمه. فيما ذكر نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية فهد اليوسف في لقاءٍ مع صحيفة القبس الكويتية في 9 أغسطس 2025، أن عدد المسحوبة جنسياتهم قارب خمسين ألف شخص.


تنتمي جلّ المسوّغات التي قدّمتها الحكومة الكويتية لحملة سحب الجنسيات إلى خطابٍ سياسيٍ تشكّل بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي، وخصوصاً بعد خطواتٍ توسّعت بموجبها المشاركة السياسية، فتغيّرت القاعدة الاجتماعية للمعارضة السياسية المؤثّرة من فئة الكويتيين بالتأسيس إلى فئة الكويتيين بالتجنيس. فقبل الغزو العراقي كانت المشاركة في الحياة البرلمانية مقصورةً على الرجال من فئة مواطني التأسيس، في حين أن الكويتيين من فئة المجنسين وأبنائهم وكلّ النساء الكويتيات، كانوا مبعَدين من العملية السياسية. تغيّر هذا الوضع بإصدار مجلس الأمّة القرار 44 لسنة 1994، الذي أضاف فقرةً للمادة السابعة من قانون الجنسية تنصّ على أن "أولاد المجنَّس الذين يولدون بعد كسبه الجنسية الكويتية يعتبرون كويتيين بصفةٍ أصليةٍ، ويسري هذا الحكم على المولودين منهم قبل العمل بهذا القانون". وبعد إحدى عشرة سنةً، ومطالباتٍ نسائيةٍ لم تهدأ، أقرّ مجلس الأمّة حقّ المرأة الكويتية في التصويت والترشّح. ومع هذا الاتساع في دائرة المشاركة السياسية، أصبح البدو، وهم أغلبية فئة المجنَّسين من الكويتيين، المكوّنَ الرئيسَ في المعارضة البرلمانية.
لم تكتفِ هذه القوى الجديدة باقتحام الفضاء السياسي والمنافسة فيه، بل رفعت شعار تجنيس فئة البدون. والبدون هم مقيمون بالكويت ينتمون للقبائل الشمالية التي تمتدّ على مساحةٍ جغرافيةٍ تشمل أجزاء من أراضي الكويت والعراق والسعودية، استمرّ وجودهم فيها منذ ما قبل ترسيم الحدود الحالية. لم تمنح الكويت هؤلاء الجنسيةَ. وبمرور السنوات بات مطلب حصولهم على الجنسية مسألةً ذات حساسيةٍ خاصةٍ لدى الدولة.
قادت هذه التطورات إلى نشوء خطابٍ إقصائي على هامش المشهد السياسي الكويتي يتطرّف في التمييز بين فئات المقيمين على أرض الكويت ويَعُدّون أنفسَهم كويتيين أصليين. ينضوي تحت هذا الخطاب فئاتٌ متعددةٌ ذات أولوياتٍ متباينة. لكن يمكن تلمّس أهمّ ملامحه في خطاب أحد أكثر ممثّلي هذا التيار تطرّفاً، وهو النائب الكويتي السابق محمد الجويهل، الذي أسّس سنة 2009 قناةً فضائيةً سمّاها "السور".
يَشي اختيار الاسم بمنهج القناة والحركة الكامنة وراءها. إذ يستدعي الاسم سوراً بُنِيَ سنة 1920 لصدّ هجمات جماعة "إخوان من طاع الله". تكوّنت تلك الجماعة من قبائل تابعةٍ آنذاك لسلطان نجد، عبدالعزيز آل سعود، وتخلّت عن حياة البداوة واعتنقت الوهابية وشاركت في توسيع نفوذ سلطنة نجد. وعُدّ تاريخ بناء السور أساساً حَدّد بموجبه قانون الجنسية الكويتية فاصلاً بين "الكويتي الأصلي" وغيره.
لا يكتفي الخطاب الذي أذكاه الجويهل وقناة السور برفض تجنيس البدون، بل يتوسع في رفع شعار أن الكويت للكويتيين. والمقصود بالكويتيين هنا هم كويتيّو التأسيس وجُلّهم من الحضر. ويزعم أن الهوية الكويتية "تلوّثت" بدخولِ من يسمّيهم الجويهل "الإيرانيين والعراقيين، واللفو والهيلق والطراثيث، على الجنسية الكويتية" وهي نعوتٌ تحقيريةٌ يقصد بها أن هذه الفئات طارئةٌ غير أصلية.
يرى المتّفقون مع خِطاب الجويهل أن غير "الكويتيين الأصليين" لا يستحقّون الجنسية الكويتية، إمّا لأنهم مزوّرون أو لأنهم مزدوجو الجنسية. وللتدليل على صحة كلامهم، يستندون على ما حدث في العقدين الأوّلين من تاريخ الكويت بعد الاستقلال من "تسييس" للجنسية الكويتية باستخدامها في حروب المتنازعين على كرسي الإمارة. كذلك يتّهم متّبعو خِطاب الجويهل قطاعاً كبيراً من بدو الكويت، وتحديداً المنحدرين من قبائل مطير وعتيبة والعجمان، أنهم سعوديون يُخفون هويّتهم السعودية "طمعاً بأرزاق وخيرات الكويت". وفي أحد الخطابات التي ألقاها الجويهل في قناته، استعرض مجموعةً من الأسماء التي زعم أنها لأشخاصٍ مزدوجي الجنسية غيّروا أسماءهم. وقال إن أسماء الكويتيين "تُسرق كما يسرق كلّ شيءٍ فيها".
أدّت دعاية قناة السور وتشكيكها بجنسية قطاعاتٍ واسعةٍ من الكويتيين إلى خلق أزمةٍ في ديسمبر 2009. فردّاً على ما جاءت به حلقة الجويهل التي ادّعى فيها أن غالبية أبناء القبائل في الكويت ليسوا كويتيين حقيقيين، شهدت الكويت تظاهرةً ضخمةً من خمسة آلاف شخصٍ، شارك فيها أعضاء من مجلس الأمة، طالبت الحكومةَ "بوضع حدٍّ لهذه الإساءات والتشكيك في ولاء أبناء القبائل". أغلقت الحكومة القناةَ وأحالت الجويهل للتحقيق. إلّا أن هذا كلّه لم يقلّل من جماهيريته عند من صوّتوا له ومكّنوه من الفوز بمقعدٍ في مجلس الأمّة سنة 2012، ما أتاح له على الأثر استجواب وزير الداخلية حول ملفّ الجنسية.
خلافاً لسبيل التحريض الإعلامي الذي سلكه الجويهل، شكّل إعلاميون وسياسيون ورجال أعمالٍ من حاملي جنسية التأسيس تجمعاً للضغط السياسي، أسموه "مجموعة الثمانين". اختارت المجموعة الإعلاميَّ عادل الزواوي منسّقاً عامّاً لها، وسَعَت إلى تحويل هذا الخطاب التمييزي ضدّ مكونات المجتمع الكويتي الأخرى إلى برنامج عملٍ سياسيٍ وقانونيٍ لا يكتفي بمنع تجنيس البدون، بل يسعى لسحب جنسيات مزدوجي الجنسية ومن عَدّتهم المجموعة مزورين.
تأسّست مجموعة الثمانين على خلفية لجوء الحكومة الكويتية في سنة 2014 إلى سحب الجنسية من مجموعةٍ من المعارضين. وحاول بعض من سُحبت جنسياتهم الطعنَ في القرار لدى المحكمة الإدارية المختصة بالفصل في صحة قرارات الجهاز التنفيذي للدولة، لكن المحكمة قضت بأن قضايا الجنسية تقع خارج اختصاصها. ومع حصد القوى المعارضة عدداً كبيراً من المقاعد في انتخابات مجلس الأمّة لسنة 2016، اقترح بعض النواب تشريع قانونٍ ينقل سلطة سحب الجنسية من الحكومة إلى القضاء. وذلك لمنع الحكومة من استخدام هذه السلطة ضدّ خصومها السياسيين وإفساح المجال للمتضررين من قرارات السلطة بالتظلم لدى القضاء. اعتبرت مجموعة الثمانين هذا القانون المقترح "بادرة خطيرة"، فقرّروا تشكيل "مجموعة ضغط"، كما قال المنسّق العامّ للحركة عادل الزواوي متّخذين من مسألة الهوية الوطنية والجنسية قضيةً رئيسة.
مع أن مجموعة الثمانين تتألف من شبكةٍ من الشخصيات المؤثِّرة، إلا أن وجودها في المشهد السياسي ونجاحها في التأثير على ملف الجنسية، ظل محدوداً بسبب هيمنة المعارضة على مجلس الأمة. فهي تضم صالح الفضالة، رئيس الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورةٍ غير شرعيةٍ، وهو كيانٌ حكوميٌ أنشئ سنة 2010. وكذلك رجل الأعمال جاسم قبازرد، والتربوية منيرة عبدالله الغانم، ووزير التربية والتعليم السابق الدكتور بدر العيسى، ورجل الأعمال هاشم الرزوقي وغيرهم. نجحت هذه المجموعة في تنسيق جهودها ومنع تمرير قانون بسط سلطة القضاء على ملف الجنسية. لكن نجاحها لم ينعكس على وجودها السياسي الرسمي، لعدم قدرتها على حصد مقاعد كثيرةٍ في البرلمان، وانحصر تأثيرها على ملف الجنسية بالضغط والتأثير الإعلامي.
تحوّل خطاب الهوية الوطنية وحماية ملف الجنسية من هامش المشهد السياسي الكويتي إلى سياسةٍ رسميةٍ مع تولّي الأمير مشعل الحكمَ في ديسمبر سنة 2023، وتعيين فهد اليوسف وزيراً للداخلية وحلّ مجلس الأمّة. فكما كان ملف الجنسية حاضراً في كلمته الأولى بعد تولّي الإمارة، كرّر الأمير الحديثَ عن الملف نفسه في الكلمة التي ألقاها في مايو 2024 وأعلن فيها عن حلّ مجلس الأمّة حلّاً غير دستوريٍّ للمرّة الثالثة في تاريخ البلاد. إذ تحدّث عن ضرورة إعادة النظر فيما سمّاه "قوانين الأمن الاجتماعي". وتحديداً الحالات التي تشمل "من دخل البلاد على حين غفلةٍ وتدثّر في عباءة جنسيتها بغير حقٍّ، ومن انتحل نسباً غير نسبه، أو من يحمل ازدواجاً في الجنسية أو وسوست له نفسه أن يسلك طريق التزوير للحصول عليها". ثمّ راح يتحدث عن أن الأدوات الديمقراطية باتت توظَّف على نحوٍ "لا يتفق مع عادات وتقاليد أهل الكويت الطيبين الأصليين".
كرّر الأمير الخطابَ نفسه في كلمته التي ألقاها في مارس 2025 بعد أن تجاوز عدد المسحوبة جنسياتهم حاجز الخمسين ألفاً. في هذه الكلمة ابتهل الأمير إلى الله بأن يُعِينَه في "تسليم الكويت لأهلها الأصليين نظيفةً خاليةً من الشوائب التي علقت بها". ثم وصف منتقدي حملة سحب الجنسيات بأنهم من "دعاة الفرقة ومثيري الفتنة"، واتهمهم أنهم يخلطون الأوراق. وجدّد تمسّكه بالحملة والإشادة بها والاستمرار فيها.
كرّر هذا الخطابَ النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية ورئيس اللجنة العليا لتحقيق الجنسية الكويتية الشيخ فهد اليوسف الصباح. ففي لقاءٍ في برنامج "مسرح الحياة" في أول مارس 2025، قال إن "الكويت كانت مختطَفة. في جنسيات مختلفة [. . .] دخيلة على مجتمع الكويت في حياتها الاجتماعية، في لغتها، في طبعها، في علاقاتها الاجتماعية في النَسَب [. . .] وهذا طبعاً كان مستمرّ لسنوات [. . .] من أربعين أو خمسين سنة". وعندما علّق المذيع السعودي علي العلياني بأن هذه الحملة قد تقلّص عدد الكويتيين، أجاب اليوسف: "خلّي يصير عدد السكان مهما يصير، لكن يصير من أهل الكويت ومن أنسال الكويتيين الأصليين [. . .] أهل الكويت الأصليين [. . .] اللي عاشوا بالكويت آباؤهم وأجدادهم من قديم الزمان".


ما كان لهذا الخطاب الإقصائي أن ينتج حملةً لسحب الجنسيات وإسقاطها بهذا الحجم وبهذه السرعة، لو لم تكن الأرضية القانونية في الكويت مهيّأةً لذلك. ذلك أن قانون الجنسية الكويتي الصادر بمرسومٍ أميريٍ سنة 1959، والتعديلات التي طرأت عليه لاحقاً لم يكن ينقصها سوى إرادةٍ سياسيةٍ غير مقيّدةٍ، تحمل خطاباً إقصائياً عن الهوية الكويتية، حتى تنتج مثل هذه الحملة.
صيغ قانون الجنسية الكويتي في فترة توترٍ سياسيٍ، ووسط مخاوف شديدةٍ من التغيرات السكانية الناجمة عن الطفرة النفطية. هذه المخاوف بدت في ردّة الفعل على مهرجانٍ نظّمته القوى السياسية العروبية في فبراير سنة 1959، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للوحدة بين مصر وسوريا وتشكيل الجمهورية العربية المتحدة. اختارت المجموعة ساحاتِ مدرسة الشويخ الثانوية التي تأسست سنة 1953، ودُعِي للخطابة فيها عددٌ من غير الكويتيين المرتبطين بالاتجاه القومي العروبي، أحدهم أحمد سعيد مذيع إذاعة صوت العرب المصرية الشهيرة آنذاك. وكان من بين الخطباء أيضاً جاسم القطامي الذي كان مديراً للشرطة في الكويت، لكنه استقال رفضاً لأمر إخماد مظاهراتٍ خرجت تنديداً بالعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. ينقل أحمد الخطيب، السياسي القومي والعضو السابق في مجلس الأمّة، في مذكراته "الكويت من الدولة إلى الإمارة" الصادر في 2007، أن القطامي قال: "إن رضي الكويتيون أن يُحكَموا من عهد صباح الأول حكماً عشائرياً، فقد آن الأوان آن الأوان لحكمٍ شعبيٍ ديمقراطيٍ يكون للشعب فيه دستوره ووزراؤه".
كانت ردّة الفعل الأولى لأمير الكويت عبدالله السالم الصباح قمعَ المشاركين بتلك المظاهرة. ونشر الأميرُ بياناً إلى الشعب في الصفحة الأولى من عدد "الكويت اليوم"، جريدة الكويت الرسمية، الصادر في 8 فبراير 1959، وصف فيه المتظاهرين بأنهم "الشباب الذين لا يقدّرون عواقب الأمور". وأغلقت النوادي العامّة والصحف وفُصِل جاسم القطامي من عمله واعتقِل أحمد الخطيب. لكن بعد تدخّل وسطاء من فئة التجار بين القوى القومية والحكومة، تشكّل المجلس الاستشاري للمجلس الأعلى وكُلِّف بإدخال إصلاحاتٍ على عمل الحكومة وسنّ القوانين.
وجّه المجلس الاستشاري دعوةً للقانوني المصري الشهير عبد الرزاق السنهوري لمساعدته بسَنّ القوانين. يقول حمد بن يوسف القناعي، الذي عمل معاوناً للسنهوري آنذاك، في حديثه لبرنامج "حصاد الأيام" المعروض على تلفزيون الكويت، إن من أول القوانين التي عمل عليها السنهوري كان قانون الجنسية. ويقول القناعي إن السنهوري سأله: "كلّ جنسيةٍ لها جنسيةُ تأسيس. وجنسية التأسيس تحكّمية. نختار تاريخاً تحكمياً ونجعله هو الأساس. فوِش [فماذا] عندك أفكار في الموضوع هذا؟". يقول القناعي إنه اقترح على السنهوري أن يجعل تاريخ بناء سور الكويت سنة 1920 هو التاريخ التأسيسي. وكان قانون الجنسية السابق على قانون السنهوري، والصادر سنة 1948 ولم يدخل حيّز التنفيذ، اختار سنة 1899 لتحديد من هو الكويتي بالتأسيس. وهي سنة توقيع أمير الكويت مبارك الصباح اتفاقية الحماية مع بريطانيا.
قسّم قانون الجنسية، الصادر في ديسمبر سنة 1959، سكّانَ الكويت إلى مواطنين بالتأسيس ومواطنين بالتجنيس. وعرّف الفئةَ الأولى بأنهم "المتوطّنون في الكويت قبل سنة 1920" وظلّوا مقيمين فيها حتى تاريخ صدور القانون. أمّا بقية سكّان الكويت ممّن لا ينطبق عليهم هذان الشرطان، فيكتسبون المواطنةَ بالتجنيس بموجب مرسومٍ أميريٍ وتوصيةٍ من وزير الداخلية. ويكتسب المواطنةَ بالتجنيس من أقام في البلاد عشرين سنةً متتاليةً أو خمس عشرة إذا كان من بلدٍ عربيٍ، ومن بذل خدماتٍ جليلةً، وزوجاتُ الكويتيين بالتجنيس أو التأسيس، وأبناء الكويتيات وغيرها من الفئات.
وتضمّن القانون عند صدوره عدّة موادّ نظمت الأسباب الثلاثة التي تؤدّي لفقد الجنسية. أول هذه الأسباب اختيار الكويتي التجنّسَ بجنسيةٍ أخرى. والثاني محصورٌ بالمرأة الكويتية عند زواجها برجلٍ من جنسيةٍ أجنبيةٍ واكتسابِها جنسيّتَه. أما السبب الثالث فهو الإسقاط. وقد ميّز القانون بين نوعين من التجريد من الجنسية. أولهما الإسقاط، وهو نوعٌ عامٌّ يشمل كلّ مواطنٍ سواءً كان بالتأسيس أو بالتجنيس. ونوعٌ خاصٌّ سمّاه السحب، يطبّق حصراً على الكويتي بالتجنيس. ويكون السحب في حالات التزوير أو ارتكاب جريمةٍ في السنوات الخمس الأولى التالية على اكتساب الجنسية. أما الإسقاط فيكون في حالات الالتحاق بجيشٍ آخَر، أو العمل لصالح دولةٍ في حالة حربٍ مع الكويت، أو الانتساب لتنظيمٍ في الخارج يهدف لتقويض النظام الاجتماعي والاقتصادي لدولة الكويت.
نظّمت المادّة 21 من قانون الجنسية طريقةَ تطبيقه، بما في ذلك مسائل الإثبات والتحقق من هوية كلّ ساكنٍ من سكان الكويت. وخوّلت هذه المادة لجاناً تحقيقيةً صلاحيةَ التحقّق من هوية سكان الكويت، سواءً بالاستدلال بالأوراق الثبوتية أو شهادة الشهود أو غيرها من الأدوات. وتعِدّ هذه اللجان تقاريرَ بنتائج تحقيقاتها متضمّنةً توصيتها بشأن سحب الجنسية. ولا تصبح توصياتها نافذةً إلا بعد رفعها واعتمادها عبر لجنةٍ عليا تعيَّن بمرسوم. بدأت هذه اللجان بعد صدور القانون واستمرّت حتى سنة 1965.
منحت طرق الإثبات والأدلّة التي اعتمدها القانون أفضليةً لفئةٍ من سكان الكويت على فئاتٍ أخرى. تشير فرح النقيب، أستاذة التاريخ في جامعة كاليفورنيا بوليتكنيك ستيت، في بحثها "ريفيزيتينغ حضر آند بدو إن كويت" (إعادة النظر في الحضر والبدو في الكويت) المنشور سنة 2014 إلى أن الحاضرة (سكان الحضر) استطاعوا تزويد هذه اللجان بوثائق الولادة والوفاة وملكية الأراضي والسفر، ما سهّل قبولَهم لدى اللجان مواطنين بالتأسيس. أما سكان البادية، الذين كان نمط حياتهم آنذاك قائماً على الثقافة الشفهية والتنقل والرعي، فتعسّر عليهم إبراز أدلّةٍ ووثائق مماثلة.
نتج عن عمل هذه اللجان تقسيم سكان الكويت إلى ثلاثة أثلاث. الثلث الأول هم المواطنون بالتأسيس، وغالبهم من الحضر الذين استطاعوا استيفاء الاشتراطات أمام اللجان. الثلث الثاني هم المواطنون بالتجنيس وشمل عدداً كبيراً من أهل البادية الذين منحوا الجنسية في حال الانضمام للجيش، حيث كانت الكويت مهدَّدةً من حاكم العراق آنذاك عبد الكريم قاسم. أما الثلث الأخير فلم يمنحوا الجنسية، وهم فئة البدون، ونسبةٌ كبيرةٌ منهم تضمّ القبائل التي كانت تعيش حياة البادية والرعي خارج سور الكويت.


يتغذى خطاب الهوية الوطنية الكويتي المسوِّغ لحملة سحب الجنسيات وإسقاطها على التوظيف الانتقائي لتاريخ التسييس الذي تعرَّض له ملف الجنسية في الكويت بعد استقلال الكويت سنة 1961 وتأسيس البرلمان الكويتي، أو مجلس الأمة، وتحديداً في عقدي الستينيات والسبعينيات.
كان واضحاً عند تأسيس مجلس الأمة الكويتي حرص لجنة إعداد الدستور على قصر المشاركة فيه على فئة المواطنين الكويتيين بالتأسيس. تسجّل مضابط جلسات اللجنة التي اطّلعت عليها الفراتس، أن الاتجاه السائد في جلساتها كان حرمان المواطنين بالتجنيس من الحقّ في الترشح، والاكتفاء بمنحهم الحقّ في الانتخاب بعد مدّةٍ من حصولهم على الجنسية. تساءل وزير الداخلية آنذاك الشيخ سعد العبدالله الصباح في الجلسة الحادية والعشرين عن عدالة هذا الاتجاه، مبدياً تخوّفه من انتقادات الصحف العربية التي سترى في هذا التفريق بين المتجنس والأصلي "مناقضةً للاتجاه نحو التوحد في البلاد العربية". فذكّره وزير العدل حمود الزيد الخالد بأن المساواة بين الكويتي الأصلي والمتجنس في المشاركة السياسية "ليس من صالحكم أنتم قبل غيركم، وأنتم يجب ألا توافقوا على هذا الموضوع". مبرّراً ذلك بأنه "لا نريد أن يتدفق على البلد تياراتٌ نحن الآن بعيدون عنها"، ربما في إشارةٍ للتيارات العروبية واليسارية. فجاء ردّ وزير الداخلية بأنه "إذا كنتم تريدون حرمانهم من هذه الحقوق لا تعطوهم جنسيات". فأجابه وزير العدل بأن الدستور ساوى بين المتجنس والأصلي في جوانب التجارة والتعليم وغيرها "أما أن نسلّمهم رقابنا بأن يحكمونا فهذا ما لا نستطيعه. ونحن وضعنا ليس طبيعياً، وليس هناك بلدٌ في العالمِ الأجانب فيه أكثر من سكّانه بأضعافٍ كما عندنا". أجاب وزير الداخلية: "ستُستغَلّ المسألة ضدّنا حتى دولياً. ونحن الآن في ظروفٍ تقتضي كسب ثقة العالم، كما أننا بحاجةٍ ماسةٍ لزيادة عدد سكان الكويت". علّق رئيس المجلس التأسيسي عبداللطيف محمد الغانم على هذا النقاش قائلاً إنه يشعر "بمدى الخطأ والخطر الذي ترتكبه الحكومة"، وهو يشاهد "في الجريدة الرسمية أسبوعياً قوائم طويلةً بأسماء المتجنسين". خلص المجتمعون إلى حرمان المتجنس من حقّ الترشح. أما حقّ المتجنسين في الانتخاب، فكفله القانون رقم 35 لسنة 1962، بعد مرور عشرين سنةً من حصولهم على الجنسية.
ولم تكتفِ لجنة إعداد الدستور بحرمان المتجنسين من حقّ الترشح وتأجيل حقّ الانتخاب، بل امتدّ الحرمان لأبنائهم. كان رأي وزير العدل حمود الزيد الخالد أن ابن المتجنس "يصبح كويتياً بالمولد وبالتالي له جميع الحقوق في الانتخاب والترشح إذا بلغ السنّ القانونية المحدودة". إلا أن وزير الداخلية اعترض محتجاً بقانون الجنسية قائلاً "كما أننا نعتبر ابنه حاصلاً على الجنسية بالتجنس وبالتالي يسري عليه ما يسري على والده لأن الفرع يتبع الأصل. وبالتالي فإن نفس الحكم في الحرمان من حقّ الترشيح والانتخاب يسري عليه كما هو سارٍ على والده". فرد وزير العدل بأنه كويتيٌ بالمولد "أو كويتيٌ بالأصل له ما لنا من حقوقٍ وعليه ما علينا من واجبات". فأصرّ وزير الداخلية بأن قانون الجنسية يعامل ابن المتجنس على أنه متجنسٌ وليس كويتياً بالأصل. داخَلَ الخبير الدستوري المصري الدكتور عثمان خليل عثمان محتجاً بحقيقة أن ابن المتجنس لا تُسحب منه الجنسية لأنه لم يكتسبها بالمنح وعليه فهو كويتيٌ بالمولد لا بالتجنيس. وهنا جاءت إجابة وزير الداخلية مقرّةً بهذا الإشكال الناجم من قانون الجنسية قائلاً: "لا يمكن سحب الجنسية منه ولكن رغم ذلك فهو يعتبر متجنساً ونحن نكتب في شهادته كويتيّ بالتجنس وذلك أسوةً بجنسية أبيه". فلم يَفُتْ هذا الأمرُ الدكتورَ عثمان، الذي علّق: "القانون بهذا الشكل فيه قسوةٌ لا حدّ لها، لأن الأبناء والأحفاد سيتوارثون إلى ما لا نهاية صفةَ التجنّس". انتهى هذا الخلاف بانتصار الرأي الذي يقول بمعاملة أبناء المتجنسين معاملة آبائهم في الحرمان من المشاركة السياسية.
وبهذه الطريقة بدأت الحياة البرلمانية في الكويت بعد تقسيم المواطنين إلى فئتين من ناحية الحقوق والحريات السياسية. فئةٌ سمّيت الكويتيين الأصليين ولها الحقّ في الانتخاب والترشح غالبها من الحضر. وفئةٌ سمّيت الكويتيين بالتجنيس لها الحقّ في الانتخاب بعد عشرين سنةً من التجنس وليس لها أو لذرّيتها الحقّ في الترشح أبداً.


لم يَكَدْ يبدأ العمل بهذا النظام البرلماني الإقصائي المحصور على فئة الكويتيين بالتأسيس، إلا وتكشّفت لدى أفرادٍ من الأسرة الحاكمة تحدّياتٌ لم تكن بالحسبان، دفعت بعضَ أعضائها للتلاعب بملفّ التجنيس وتسييسه. وهذه المرحلة من التلاعب والتسييس هي التي ينتقي منها أنصار الخطاب الداعم حملةَ سحب الجنسيات وإسقاطها ما يناسبهم لتبرير الحملة.
أُولى هذه التحدّيات، أنّ حصر المشاركة السياسية بفئة الكويتيين بالتأسيس حوّل مجلسَ الأمّة لمؤسسةٍ معارِضة. فقد استطاعت القوى القومية بقيادة شخصياتٍ مثل أحمد الخطيب إنشاءَ كتلةٍ برلمانيةٍ معارضةٍ، ذات قاعدةٍ حضريةٍ تنتمي للتيارات الفكرية ذاتها التي كان بعض أعضاء لجنة كتابة الدستور يتخوّف من دخولها الحياة السياسية عبر المجنسين.
أما ثاني تحدّيات حصر المشاركة بهذه الفئة فكان عرقلة وصول بعض أفراد أسرة الصباح إلى كرسي الإمارة. فقد اشترط الدستور الكويتي مبايعة أغلبية أعضاء مجلس الأمة في جلسةٍ خاصةٍ لمن يختاره الأمير وليّاً للعهد. أدّى هذا الاشتراط لتحوّل مجلس الأمّة لساحة صراعٍ بين الطامحين لولاية العهد من أفراد الأسرة الحاكمة.
في سبيل إضعاف الكتلة البرلمانية المعارضة وضمان مبايعة مجلس الأمة، سجّل أفرادٌ من الأسرة الحاكمة، وتحديداً جابر العلي الصباح، أعداداً كبيرةً من البادية مواطنين بالتأسيس حتى يشكّلوا قاعدةً انتخابيةً مواليةً له. فقبيل صدور الدستور الكويتي سنة 1962، عُيّن الشيخ صباح السالم وليّاً للعهد، ونشأ صراعٌ على من يَخلفه لاحقاً في ولاية العهد بين الشيخين جابر العلي وجابر الأحمد. ولما حسم هذا الصراع لصالح جابر الأحمد سنة 1965، لم ييأس جابر العلي وخاض صراعاً آخَر طويلاً مع منافسه الجديد على ولاية العهد سعد العبدالله أدّى إلى حلّ الأمير صباح السالم مجلسَ الأمّة أوّلَ حلٍّ غير دستوريٍّ في يوليو سنة 1976. لم ينتهِ هذا الصراع إلا بعد وفاة الأمير صباح السالم وتولّي جابر الأحمد الإمارةَ إذ عيّن سعد العبدالله وليّاً للعهد سنة 1978 دون الحاجة لموافقة المجلس المنحلّ.
ومع أن جابر العلي لم ينل مراده في ولاية العهد، إلا أن دوره السياسي في التلاعب في ملف الجنسية هو الأشدّ تأثيراً اليوم. جاء هذا التلاعب عبر تسجيل أعدادٍ كبيرةٍ من البادية في فئة المواطنين بالتأسيس بعد أن كانوا مسجلين في فئة المجنسين، حتى يتسنى لهم الترشح لعضوية مجلس الأمة ومن ثم دعم موقفه في السباق على ولاية العهد. ويعدّ البرلماني والأكاديمي الكويتي عبد الله النفيسي حركةَ التجنيس الواسعة التي وقف وراءها جابر العلي سبباً في ما يصفه بالزيادة غير الطبيعية في سكان الكويت من 995 ألف نسمة في 1975 إلى 1.250 مليون نسمة في السنة التالية مباشرة.
انعكس تسييس الجنسية على تركيبة مجلس الأمة الكويتي. تقول أستاذة العلوم السياسية الأمريكية جيل كريستال في كتابها "النفط والسياسة في الخليج" المترجم سنة 2023، إن هذه السياسات أدّت لزيادة نسبة الناخبين البدو من 21 بالمئة سنة 1963 إلى 45 بالمئة سنة 1975، وأن عدد النوّاب البدو في البرلمان الذي يضمّ خمسين مقعداً، ازداد من أربعة عشر نائباً سنة 1963 إلى ثلاثةٍ وعشرين سنة 1975.
هذا التسييس الناجم عن تنافس أفراد الأسرة الحاكمة على السلطة فتح الباب لغيرهم كي يتلاعبوا بهذا الملف لمصالح أقلّ بكثيرٍ من السلطة. فمن القصص الطريفة التي تكشف حجم هذا التلاعب تلك التي روتها إحدى المصادر الكويتية التي التقتها الفراتس ورفضت الإفصاح عن هويتها. مفاد القصة أن واحداً من معارف المصدر كان راعياً للغنم ولم يكن مدركاً أهمية ملف التجنيس والتقديم عليه فلم يقدّم وصار في عِداد البدون. وذات يومٍ جاءه شخصٌ ليبتاع غنماً لكنه انصرف دون أن يشتري شيئاً. نبّه أحدُ الحاضرين راعيَ الغنم أن ذلك الزبون عضوٌ في لجنة التجنيس وأنه بذلك ضيّع فرصة الحصول على الجنسية بعدم إحسان التعامل معه. فما كان من الراعي إلّا أن أخذ ثلاث أغنامٍ وذهب بها إلى بيت هذا الزبون وأهداها إليه. أراد الزبون أن يردّ له الجميل فسأله عن طريقةٍ يخدمه بها، فأخبره الراعي أنه يريد جنسية. فمع الأخذ والردّ ذهب هذا الزبون لمكتبه وأحضر ملفاً مكتملاً لشخصٍ لم يعثروا عليه، فعرض على الراعي أن يأخذ صورته الشخصية ويضعها مكان صورة صاحب الملف ويأخذ الجنسية. وهكذا تحوّل الراعي من بدونٍ إلى كويتيٍّ بالتأسيس وبِاسمٍ وقبيلةٍ مختلفةٍ عن قبيلته.
سعت الحكومة الكويتية إلى المحافظة على النظام البرلماني الإقصائي واستعادة التركيبة السابقة على تدخلات جابر العلي في ملف الجنسية لكن دون جدوى. ففي سنة 1970 أضيفت مادةٌ جديدةٌ لقانون الجنسية تسمح للحكومة بإسقاط الجنسية الكويتية بالتأسيس عمّن اكتسبها وعن أبنائه بالتبعية إذا ثبت أنه حصل عليها بالغش والأقوال الكاذبة. وبصدور هذا التعديل أصبح لدى الدولة صلاحية سحب الجنسيات من الكويتيين في فئتي التأسيس والتجنيس، استناداً لتهمة الغش.
في الثمانينيات صدرت أربعة مراسيم تضمّنت تعديلاتٍ على قانون الجنسية حاولت حمايةَ النظام البرلماني الإقصائي وحلّ المشاكل الناجمة عن تسييس الجنسية في الفترة السابقة. تضمّنت هذه التعديلات إلزام المتجنس الذي يحمل جنسيةً أخرى بأن يتنازل عنها، وجعلت سنة 1981 آخر سنةٍ لتقديم طلبات الحصول على الجنسية بالتأسيس أو التجنس، بناءً على بعض فقرات المادة الخامسة من قانون الجنسية التي تشترط مدّة إقامةٍ محددةٍ، وبعدها يغلق الباب أمام مثل هذه الطلبات. وأوقفت التعديلاتُ العملَ بقرارٍ أصدرته اللجنة العليا للجنسية سنة 1964 يقضي بأن كلّ من حمل جوازاً كويتياً قبل إقرار قانون الجنسية سنة 1959 يعدّ كويتياً بالتجنس.
وعندما حلّ الأمير جابر الأحمد مجلس الأمة حلّاً غير دستوريٍّ في صيف 1986، أصدر عدّة تعديلاتٍ على قانون الجنسية لتأمين هذا النظام البرلماني المحصور بفئة مواطني التأسيس. فقد كان قانون الجنسية قد وعد الكويتيين بالتجنس بأن يكون لهم الحقّ بالتصويت في سنة 1986 أي بعد عشرين سنةً من تجنسهم، ولكن عندما حلّت تلك السنة، صدر مرسومٌ يطيل مدّة الانتظار عشرة أعوامٍ إضافية. وتضمّنت هذه التعديلات تعديل حالة مجهولي النسب من كويتيين بالتأسيس إلى كويتيين بالتجنيس.
إلا أن صدمة الغزوِ العراقي الكويتَ أنهت محاولات حماية الإقصاء والتمييز بين فئات الكويتيين. فبسببه اقتنع المتنفذون في الأسرة الحاكمة آنذاك، وهم الأمير جابر الأحمد ووليُّ عهده ورئيس مجلس الوزراء سعد العبدالله وإخوة الأمير وزير الخارجية صباح الأحمد ووزير الداخلية نواف الأحمد، بأن فتح النظام البرلماني ليشارك فيه جميع الكويتيين، والتوقف عن حلّ مجلس الأمّة حلّاً غير دستوريٍ، يساعد في حماية الكويت دولياً ويمنحها شرعيةً ديمقراطيةً تفيدها فيما لو تكررت أزمةٌ مثل أزمة الغزو العراقي. ولذا، شهدت الفترة التي أعقبت عودةَ مجلس الأمة بعد الغزو توسعاً كبيراً في من يحقّ له المشاركة في الحياة السياسية في الكويت، ليشمل مواطني التجنيس وأبناءهم الذين عدّلت حالتهم القانونية إلى مواطنين أصليين، والنساءَ، بل كاد الأمر يصل لحلّ مشكلة البدون.
استمرّ مسار النظام البرلماني المنفتح طيلة المرحلة التي تَعاقَب على الحكم فيها الأمراءُ الأربعةُ المذكورون آنفاً، إلى أن توفّي الأمير نواف سنة 2023 وتولّى الحكم الأمير مشعل، الذي يبدو أنه عاقد العزم على تقويضه والعودة إلى نظامٍ برلمانيٍ مغلقٍ على فئة مواطني التأسيس.
هذا ما أكّده الكويتيون الذين التقتهم الفراتس، سواءً الذين ما زالوا يحملون الجنسية الكويتية أو سحبت منهم، إذ أَرجَعوا حملةَ سحب الجنسيات لشخص الأمير مشعل. ويفسرون رؤيته وتحركاته لأنه ذو خلفيةٍ أمنيةٍ ولم ينخرط في العمل السياسي قبل توليه الإمارة. فالأمير مشعل التحق بوزارة الداخلية فور تخرجه من كلية هندون الإنجليزية للشرطة سنة 1960. وبعد سبعة أعوامٍ، أصبح رئيساً للمباحث العامة التي تحولت في عهده إلى جهاز "أمن الدولة" واستمرّ على رأسها حتى سنة 1980. وبعدها بقي الأمير مشعل بلا منصبٍ حكوميٍ حتى عُيِّن سنة 2004 نائباً للحرس الوطني وبقي فيه حتى سنة 2020.
ورأى آخرون أن الغرض من هذه الحملة استهداف الدستور وديمقراطية الكويت. إذ أصرّ نائبٌ سابقٌ بالمجلس تحدّث للفراتس على أن "العنصرية ليست الدافع وراء هذه الحملة، بل استهداف الديمقراطية الكويتية وتعويض انعدام برنامجٍ وطني". لم تكن هذه هي المرّة الوحيدة التي التقت الفراتس فيها كويتيّاً يتحدث عن ما أسماه تقليم أظافر مجلس الأمة، ويرى أن هذه الحملة وما يتبعها سينتج عنه مجلسٌ استشاريٌ وطنيٌ لا قيمة له، مثل مجالس استشاريةٍ أخرى بمنطقة الخليج.


مع أن المسوّغات التي قدمتها الحكومة لحملتها ركّزت على أن المستهدَفين من سحب الجنسيات هم المزوّرون أو المزدوجون، نجد أن غالبية من جُرّدت جنسياتهم ينتمون لفئتين أخريَيْن، حصل أفرادها على جنسياتهم بطريقةٍ قانونيةٍ وسليمة. الفئة الأولى هنّ زوجات الكويتيين اللاتي تنازلن عن جنسياتهنّ الأصلية من أجل الحصول على جنسية أزواجهن الكويتيين، والمعروفات محلّياً بالمادة الثامنة. قدّرت منصة "غرفة الأخبار" أن عدد المسحوبة جنسياتهنّ من هذه الفئة 31703 حالة في الفترة من 12 ديسمبر 2024 إلى 8 فبراير 2025. وقال نائبٌ سابقٌ بمجلس الأمة للفراتس إن "هذه أكبر عملية ضدّ النساء، وهي مهاجمةٌ صريحةٌ تحدث أوّل مرّةٍ ضدّ الأمهات الكويتيات".
حاولت الفراتس التواصل مع بعض المتضررات من هذا القرار بعد إعلانه مباشرةً، لكن الأمر كان شديد الصعوبة. فالغالبية منهنّ يوافقن على إجراء مقابلةٍ، ثم ينسحبن قبل إجرائها أو يطلبن حذف شهاداتهن بعد المقابلة. يمكن فهم ذلك في سياق التهديد الذي بثّه وزير الداخلية فهد اليوسف في لقائه التلفزيوني الذي سبقت الإشارة إليه، والذي هدّد فيه بأن الامتيازات ستعود فقط للنساء اللائي فقدنها بموجب المادة الثامنة، "إذا كان ملفّها الأمني نظيفاً". ولكن الفراتس التقت سيدةً كويتيةً من أصولٍ عربيةٍ لديها أبناءٌ أحدهم من ذوي الاحتياجات الخاصة. تعتمد هذه السيدة على الراتب الذي يُصرف للأرامل وربّات البيوت. لكنها اليوم بعد سحب الجنسية منها مهدَّدةٌ بالعجز عن دفع إيجار بيتها أو تلبية حاجاتها دون الاضطرار لطلب المساعدة من آخرين. بكت هذه المرأة أثناء حديثها معنا، ليس لفقدانها المنفذ الوحيد الذي يشعرها بالأمان الماليّ فحسب، وإنما لأنها لم يعُد لها هويةٌ سوى أنها "كويتية تنتمي لهذه الأرض" ولديها ولاءٌ مطلقٍ لها. التقت الفراتس امرأةً أخرى تنازلت عن جنسيتها السعودية للحصول على الكويتية وفق القانون. كانت هذه السيدة في حالة إنكارٍ، وكانت تردّد "يمكن يردّوها لنا".
أما الفئة الثانية من الذين سحبت جنسياتهم مع حصولهم عليها بطريقةٍ قانونيةٍ فهم الحاصلون عليها تحت بند الأعمال الجليلة. شملت هذه الفئة فنانين وفناناتٍ مشهورين ارتبطت أسماؤهم بالكويت، من أمثال المطربة نوال الكويتية والممثل داوود حسين. وعندما سئل فهد اليوسف عن أسباب تجريد هؤلاء من جنسياتهم، لم يقدّم تبريراً قانونياً بقدر ما أبدى رأياً شخصياً حول ما تعنيه الأعمال الجليلة. فقال: "ما الذي قدّمه الفنان؟ ما الذي يعنيه أن تحصل على الجنسية مقابل الفن؟ أنت قابض فلوس عالأعمال اللي سويتها". في لقاءٍ للفراتس مع نائبٍ سابقٍ من فئة الكويتيين الأصليين، علّق على هذا المنهج في التعامل مع حقّ المواطَنة، مستشهداً بمقاطع ومواقف من رواية "الصهد" للكاتب الكويتي من فئة البدون ناصر الظفيري. تتطرق هذه الرواية إلى أسئلةٍ معقدةٍ عن الانتماء والوطن، والتي يصفها النائب بكلمة "الصراع الوجودي" الذي هو أعمق من الصورة التي يقدّمها الوزير فهد اليوسف. يكتب الظفيري في الرواية على لسان إحدى شخصياته ما يمكن اتخاذه بياناً ضدّ تسطيح المواطنة والانتماء على هذا النحو. فبعد الغزو، يقف الشابّ البدون قائلاً "لا تعرف ربما معنى الوطن بداخلي، وتريد قياسه على علاقته بي، لا على علاقتي به".


إن كانت هذه الحملة مفاجئةً في حجمها وطبيعة الخطاب الذي يرافقها، فإن ما هو أكثر مفاجأةً ذلك الصمت الرهيب المخيّم على الشارع الكويتي إزاء العصف بحقّ المواطَنة وما يترتب عليه. علّق على هذا الصمت نائبٌ سابقٌ، طلب من الفراتس عدم ذكر اسمه، وقال: "الكويتيون حتى في أيام الغزو [العراقي] خرجوا إلى الشوارع وكتبوا على الجدران موقفهم من الاحتلال الذي لم يرحم أيّاً ممّن تُسوّل له نفسه الحديث عن الأمر والإشارة إليه إذ يتمّ تصفيتهم مباشرة". يتابع بعدها: "لا بدّ وأن التفسير الأقرب لفهم ما يحدث هو الحراك الذي قادته المعارضة وسُجن على إثرها مسلّم البرّاك رمز المعارضة سنة 2013، بعد ذلك اضمحلت الساحة السياسية وتراجعت". فحينها، كان تجريد المعارضين من جنسياتهم "أحدَ سيوف السلطة". وإذا ما قرأنا ما يحدث الآن في ضوء ذلك، نستطيع فهم سرّ الصمت الذي يخيّم على الكويت بأسرها. قال إن سلاح الجنسية استُخدِم ضدّ أسرة البرغش وسعد العجمي وآخَرين فيما عدّه "تسليعاً للجنسية"، واصفاً ما يحدث في الكويت الآن بكونه "جمهورية الرعب".
أشار نوابٌ ومواطنون آخَرون تحدّثوا للفراتس شريطة عدم الإفصاح عن هوياتهم، إلى أن هذا الصمت نتيجةٌ لخيبة أمل الشارع الكويتي برموز معارضته. ففي حديث الفراتس مع أسرةٍ كويتيةٍ فقدت الأمّ فيها جنسيتها، قالت إحدى بناتها إن السكوت اليوم "نتيجةٌ لعمليةٍ ممنهجةٍ بدأت منذ وقتٍ طويلٍ عندما خاب أملهم ممّن ظنّوا أنهم رموزٌ للمعارضة وفقدوا الثقة بهم". سمّت الفتاة النائبَ السابق عبيد الوسمي ورئيسَ مجلس الأمّة السابق أحمد السعدون. أمّا الأمّ فكان لها رأيٌ مختلف. فهي ذات أصولٍ عراقيةٍ لكنها من مواليد الكويت وحصلت على الجنسية بعد زواجها من كويتيٍ سنة 1989. كانت تصرّ في التأكيد على سَنَة زواجها أنها سابقةٌ على الغزو العراقي الكويت، لِما في ذلك من رمزيةٍ شعبيةٍ كويتية. حصلت على الجنسية سنة 2002 وكانت تنتظر بفارغ الصبر انقضاء عشرين سنةً حتى تشارك في الحياة السياسية. قالت لنا إن لها رأياً مستقلاً عن توجهات بعض أبنائها الذين عدّتهم معارضين يُلقون بأيديهم إلى التهلكة دوماً.
التقت الفراتس بشابٍّ كويتيٍ يَشعر بالتهديد مع أن عائلته لم تخالف أيّ قانون. يقول إنه لا يستبعد "في ظلّ عشوائية اتخاذ القرار" أن يشمله سحب الجنسية أو أحداً من أفراد أسرته. سألناه في بداية اللقاء بوضوح سؤالاً مباشراً: "هل يمكن أن تصحوَ غداً وأنت غير كويتي؟" أجابنا بدون انفعالٍ وكأنه طرح على نفسه السؤال مسبقاً: "نعم". شابٌّ آخَر، من خلفية بدويةٍ، يرفض عدّ ما يحدث استهدافاً مباشراً للبدو، ويرى أن هذا قصورٌ في الفهم وتبسيطٌ لمسألةٍ معقدة. ويرى أن قانون الجنسية منذ لحظة إقراره والنموذج الذي اعتمد عليه لا يناسب المجتمع الكويتي أصلاً، لأنه مجتمعٌ ذو مكوناتٍ عديدة. فهو يناسب نموذج الأسرة في الغرب، وهي الأسرة المكونة من الأب والأم والأبناء، لكن حياة البدو وعلاقاتهم مختلفة تماماً. ويقول أن منطق السلطة ليس سياسياً بل هو إجرائيّ. يرى ذلك الشاب البدوي أن ثمة "سوء فهمٍ وجهلاً يملآن الفضاء العامّ في الكويت"، فغالبية الكويتيين يقسِمون بالضرورة البدوَ إلى قبائل جنوبية وقبائل شمالية. حصل أبناء الجنوبية على امتيازاتٍ منها الجنسية بالتأسيس، والفئة الثانية حصلت على الجنسية بالمادة الخامسة عن فئة الأعمال الجليلة. ويرى أن الأمر ببساطةٍ كان عمّن وافق على العمل في الجيش و"بهذا مُنح العسكريون الجنسية وفقاً للمادة الخامسة، وحصلنا عليها كأبناء لنصبح مجنسين وفقاً للمادة السابعة".
في هذه الرحلة، التقت الفراتس باثنين من البدون. قال أحدهما: "أعتقد بأن وضعي أفضل بكثيرٍ ممّن فقدوا جنسيتهم اليوم. فخلال سنوات عمري تكيّفتُ مع هذا الظلم الواقع عليّ وفكّرتُ في سبلٍ للتعامل معه. لديّ وظيفتي ولا يمكن أن يحدث لي أسوأ ممّا أنا فيه. أظنّ بأن هذه مزيّة". يشير الشابّ لحالات سحب الجنسية في 2018 والتي أُعيدت لأصحابها سنة 2023 ليُعاد سحبها الآن، ولا يستطيع التفكير فيما يمرّون به الآن. أما البدون الثاني فقال بأن "قتل الأمل بهذه الطريقة لن يعود بالخير على أحد".


ما زالت حملة سحب الجنسيات مستمرةً. وليس معلوماً متى تتوقف وسط تجاهل وسائل الإعلام الكبرى عربياً ودولياً. في لقائه مع جريدة القبس الكويتية في 9 أغسطس شدّد نائب رئيس الوزراء فهد اليوسف على أن "كل ملفات الجنسية في الكويت تحت التدقيق وتخضع للفحص بكلّ دقّةٍ وبلا استثناء". وعند الحديث عن تجاهل الإعلام، فسّرت صحفيةٌ للفراتس هذا التجاهلَ بقولها "لا قيمة لكلّ ما يحدث إزاء ما يجري في فلسطين، لقد هُيِّئنا طيلة عامٍ كاملٍ ليصبح أي ما يمكن أن يحدث عادياً بالمقارنة".
ومع هذا التجاهل الإعلامي، إلا أن الحكومة الكويتية حريصةٌ على التكتّم وإسكات أيّ صوتٍ ناقد. ففي الآونة الأخيرة توقفت اللجنة العليا لتحقيق الجنسية عن ذكر الأرقام الإجمالية في بياناتها عن سحب الجنسية أو إسقاطها. قال عادل الزواوي، منسّق مجموعة الثمانين، بأن هذه الخطوة "سياسة حكيمة" لأن "بعض المغرضين يستغلّون تلك الأرقام فيما يخدم أجندتهم وأهوائهم". ومع ازدياد الكويتيين الذين يلجؤون لحسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن امتعاضهم، ذكر نائب رئيس الوزراء فهد اليوسف في لقائه مع صحيفة القبس أن الكويت بصدد تطبيق نظامٍ جديدٍ "لمنع جميع الحسابات الوهمية بصورةٍ نهائية".
أما أولئك الذين جُرّدوا من الجنسية فقد بدؤوا يتكيّفون على حياةٍ جديدةٍ تشبه حياة فئة البدون. ومع أن مشاعر الإحباط وخيبة الأمل تعمّ أكثر مَن قابلَتهم الفراتس، كان ثمّة قلّةٌ قليلةٌ متفائلةٌ بأن هذه مرحلةٌ مؤقتةٌ مرتبطةٌ بالأمير الحاليّ، وأن المياه ستعود إلى مجراها متى نُصّب وليّ عهده صباح خالد الحمد الصباح أميراً جديداً للكويت.

اشترك في نشرتنا البريدية