لا يشمل فن الشارع كلّ الأعمال المعروضة في الفضاء العام. تشمل الأعمال الفنية البصرية المعروضة للاستهلاك العام الصروحَ والتماثيل. وهي غالباً أعمالٌ رسميةٌ أو شبه رسميةٍ ترعاها الحكومات أو تموّلها. أو يرتهن وجودها بموافقةٍ وتيسيرٍ من جهاتٍ تنفيذيةٍ ذات سلطةٍ قانونيةٍ، مثل المجالس البلدية للمدن والأحياء. ومع عرضها مجاناً في الشوارع، لا يُعترف بهذه الفنون أشكالاً من فن الشارع. فمصطلح "فن الشارع" في دراسات الفن المعاصر يقتصر على الفنون التي تصرّ على الوجود في الهامش وترفض التقيّد بموافقة الكيانات المنظمة أو تمويلاتها. وقد تكون تلك الأعمال نُصباً في الفراغ (إنستاليشن) أو جداريات أو "غرافيتي". والأخير هو الأشهر، ويعرّفه قاموس كامبريدج بأنه "كلماتٌ أو رسوماتٌ، في الغالب ساخرةٌ أو فظّةٌ أو سياسيةٌ، على الحوائط أو الأبواب [. . .] في أماكن عامّة".
لا يخضع فن الشارع لأيّ سلطةٍ، بل يتميّز بالتمرّد والفردية التي تعطيه هويّته وقيمته. وهو يعبّر عن مزاجٍ أو رؤيةٍ لفردٍ أو مجموعةٍ من الأفراد، لا تتفق بالضرورة مع رؤية المؤسسات الرسمية أو المدنية ذات السلطة على المجال العام. وترى دراساتٌ عدّةٌ فنّ الشارع تحركاً لانتزاع الأفراد حقَّهم في الفضاء العام بمواجهة سيطرة السلطات عليه.
يفتح هذا التعريف لفن الشارع باب إعادة النظر إلى جداريات عمّان. فقد رُسمت جداريات عمّان بأيدي فنانين أردنيين وغير أردنيين. لكنها لم تعد تعبّر بالضرورة عن تمرّدهم، ولا عن الرأي الفردي لصاحب الجدارية. بل صارت تعبّر أحياناً عن رؤية مؤسساتٍ ومنظماتٍ وضعت ثقلها وراء فنّ الجداريات، لتستخدمه وفنانيه وسيلةً لترويج أفكارها ومشروعاتها التوعوية والتنموية.
في أثناء دراستها الصحافة في جامعة كولومبيا، وثّقَت أمريكيةٌ تدعى "سيريس لو" الاختلافَ بين الفنَّيْن في شوارع حيّ بروكلين في نيويورك. يستطيع الفنانون الحصول على تراخيص من السلطات المعنية لرسم جدارياتٍ، عادةً ما تغطّي على أعمال فناني الغرافيتي التي لا تحظى عادةً بموافقة السلطات أو تشجيعها. رصدت سيريس صراعَ الغرافيتي والجداريات على المساحات. إذ يردّ فنانو الغرافيتي على محو أعمالهم المستمرِّ بطباعة خطوطٍ وعباراتٍ غاضبةٍ ورشِّها على الجداريات التي تحتلّ الحوائط. فيردّ فنانو الجداريات برسم وجوهٍ باسمةٍ للتغطية على تلك الخطوط، وهكذا.
في شوارع مدينة شيكاغو في الستينيات، تغيّر استخدام الجداريات من أداةٍ للتجميل إلى أداةٍ سياسيةٍ مع ظهور أوّل جداريةٍ مجتمعيةٍ في سنة 1967. الجدارية، التي سُمّيَت "جدارية الاحترام"، رسمها فنانون ونشطاء في ورشة فنونٍ بصريةٍ تابعةٍ لمنظمة ثقافة الأمريكيين السود. وكانت تعبيراً جماعياً عن الفخر والهوية والنضال من أجل الحقوق المدنية. وتتكوّن جدارية الاحترام من مجموعة صور للشخصيات الإفريقية الأمريكية المؤثّرة. ويُنسب إليها الفضل في إشعال حركة الجداريات المجتمعية في مختلف أنحاء العالم.
تغيّر الأمر مع تطوّر المشهد السياسي بدايةً من سنة 2011. في هذه الآونة، خرجت الجماهير في عدّة دولٍ عربيةٍ إلى الشوارع وانتزعت الحقّ في إدارة الفضاء العام بصورٍ مختلفةٍ ودرجات نجاحٍ متباينة. في مصر، كانت الحوائط شاهدةً على هذا الانتزاع، بعد أن استخدمها فنانو الغرافيتي للتعبير عن آرائهم السياسية. على أن تعبير الجماهير عن نفسها في الفضاء العام لم يَدم طويلاً. إذ سرعان ما تغيّر النظام السياسي في صيف 2013، وتكثّف الوجود الأمنيّ في شوارع القاهرة. فاختفت أغلب رسومات الغرافيتي، وغادر كثيرٌ من فناني الغرافيتي إلى خارج البلاد أو توقفوا عن الرسم.
في زخم ذلك المشهد، نما اتجاهٌ آخَر لاستخدام الحوائط في رسم جدارياتٍ لا تتحدى السلطة أو تعارضها. فمثلاً، ظهرت مبادرة "تلوين القاهرة" سنة 2014 على يد مجموعةٍ من طلاب كلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان. وانطلقت تلوّن أسفل الجسور وحيطان الأحياء بهدف تجميل المدينة ومناطقها المختلفة، في تحدٍّ للّون الرمادي الذي يطغى عليها.
بالمقابل، ظهرت جداريات عمّان في أعقاب سنة 2011. فقد سمحت السلطات الأردنية بهامشٍ من الحرّية بعد الاحتجاجات التي شهدتها المملكة ضمن احتجاجاتٍ اجتاحت العواصم العربية تلك السنة. جاءت تلك الحرية المحدودة بعد أن كانت فنون الشارع، وعلى رأسها الغرافيتي، ملاحَقةً من السلطات الأردنية في العقد الأول من الألفية. ظهرت الجداريات في 2011 متناثرةً. يرسمها فنانوها على النحو المستقل نفسه الذي يتبعه فنانو الغرافيتي، إلى أن حدث تغيّرٌ مهمٌّ في سنة 2013.
حوصر الغرافيتي في الأردن بالتزامن مع محاصرته في مصر سنة 2013، بعد سنتين من غزو الغرافيتي الذي يعبّر عن المظاهرات التي بدأت سنةَ قيام الثورة المصرية. عادت السلطات الأردنية للمطاردة والمحو. لم يبقَ من مشهد الغرافيتي العَمّاني إلّا بعض الصور التي جمعتها ووثقتها الباحثة والفاعلة الثقافية ديانا الحباشنة في دراسةٍ غير منشورة. تحدّثَت ديانا عن محتوى الدراسة للفِراتْس، قائلةً: "أغلبهم كانوا يستعملون الإستَنْسِل [القوالب المفرَّغة التي توضع على الحائط ويُرَش على فراغاتها ثمّ تُرفع] عشانها سريعة بتخلّيه مَرِن عشان مش معاه أدوات". وتضيف: "خلق هذا عندهم مشكلة، خصوصاً لما خلص الربيع العربي. صارت هاي الأشياء تُلاحَق".
تقول ديانا إن أغلب تلك الرسوم كان مآلها المحوَ على يد البلديات، إلّا أنها ما زالت تحتفظ ببعض الصور التي توثّقها. مثلاً، تحتفظ بصورة غرافيتي "لا تنتخِ، بل انتخِب". هذا الغرافيتي الموجّه ضدّ قانون الانتخاب الأردني رقم 9 لسنة 2010، والذي كان محلَّ جدلٍ وانتقاداتٍ وقت صدوره. كذلك وثّقت ديانا عملَ غرافيتي آخَر عن مشكلة عمالة الأطفال التي ظهرت في شوارع عمان بالتزامن مع الحراك الذي كان يطالِب بإصلاحاتٍ اجتماعيةٍ واقتصادية. والأخيرة محاولةٌ من أحد فناني تلك الآونة الذي تَرَكَ صورتَه بدلاً من اسمِه توقيعاً، لتجنّب الملاحقة الأمنية.
من هذا المنطلق، نستطيع فهم علاقة فن الشارع بالسلطة وتأسّسه على التمرد. ليس في المساحات السياسية والقيمية وحسب. وإنما على مستوى تصميم المدن والمساحات فيها، وتخصيصها بالتصميم أو بتخصيصها مساحةً عامةً أو خاصةً أو حتى من تحديد استخداماتها لأنشطةٍ معينة. فهي ليست محض مساحةٍ لشعاراتٍ تناوئها وتنتقدها، ولكنها أيضاً تغيّر من تركيبة مساحةٍ حدّدتها السلطات مسبقاً بأهداف معينة.
كذلك يساعد هذا في فهم تحوّلات فناني الغرافيتي التي رصدتها ديانا. بدأت ديانا رحلتها لتوثيق الغرافيتي والجداريات في عمّان سنة 2023. كانت مدفوعةً بفضولها للتعرف على أسباب انتشار الجداريات التي وصفتها "ملمّعة ومنمّقة"، بالمخالفة لما يُعرف عن فنون الشارع من تمرّد. تقول ديانا أنها تتبّعت سبعةً من فناني الغرافيتي ممّن نشطوا في مناطق مختلفة، وعلمت كثيراً عن تجاربهم في رسم الغرافيتي والجداريات.
لاحظت ديانا أن الفنانين يفضّلون الجداريات على الغرافيتي. تتميّز الجداريات بأنها أعمال يستطيع الفنانون التحدث عنها وإضافتها إلى ملفّات أعمالهم. وتضيف أن الفنانين يرون في هذه الأعمال، كما يقول أحدهم، "فرصة أن أعرض شغلي، آخد تمويل يغطّيلي المواد، يعطيني تصاريح. بيكون عندي حرية من غير أي أجهزة أمنية تيجي تتناقش معي".
وتؤكّد رسّامة الجداريات الأردنية بتول ادعيس في حديثها للفِراتْس ما نقلته ديانا عن دوافع الفنانين الأردنيين وغير الأردنيين لتفضيل الجداريات في شوارع عمّان. عملت بتول على جدارياتٍ رسمتها مستقلةً، وأخرى رسمتها بالتعاون مع منظماتٍ مختلفة. تقول بتول عن هذه التجارب: "نرسم مع الناس جدارية، وناخد موضوع الجدارية من الناس. يعني مثلاً نقعد مع طلاب مدرسة في مخيم الأزرق. نسمع مشاكلهم وأحلامهم ونحاول إننا نلاقي حلول للمشاكل اللي بيواجهوها، ونعبّر عنها بالفعل".

على طول عمّان وعرضها، تتنوع الجداريات التي خَطّتها أيادي فنانين معبّرةً عن أصواتٍ لمانحين أو مشروعاتٍ مجتمعيةٍ أو أحداثٍ ثقافية. يتنوع الداعمون من المشروعات المهتمة بقضايا اللاجئين وحتى الشركات المهتمة بالدعاية لقضايا معيّنة. مثلاً، رسمت بتول جداريةً تحتفي بالمرأة الأردنية في مركز تسوق بوليفارد المفتوح في منطقة العبدلي وسط عمّان، برعاية شركة مستحضرات نظافة.
سيطرت تلك المؤسسات على جدران الشوارع الرئيسة والكبيرة. بينما انزوى في الظلّ فنانو الجداريات المستقلّون، بعدما احتلّت الرسائل التي ترعاها تلك المؤسسات الحكومية أو المدنية جدران العاصمة الأردنية، محدّدةً هويّتَها البصرية.
وعلى وجاهة ما تذهب إليه ديانا وبتول، لا يمكن قصر أسباب انتشار الجداريات في الشرق على التصميم العمراني وقطع النظر عن الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية. فمنطقة الشرق، بما فيها حيّ الهاشمي الشمالي، هي الأقلّ حظّاً في الثروة والتنمية. خاصّةً في منطقةٍ مثل الهاشمي الشمالي الملاصقة لمخيم المحطة. وهو تجمّعٌ لا تعترف الأردن ولا الأونروا بأنه أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، إلّا أنّ آلافاً بعد نكبة 1948 نزحوا إليه.
في هذه المناطق يكثر عمل المنظمات الأممية والدولية المختلفة، في مشروعاتٍ منها تنمويٌّ ومنها ما يركّز على المساعدات. تشهد الجداريات على هذا الوجود. إذ إن كثيراً من الجداريات الملونة ممهورةٌ بِاسم المشروع الراعي والجهة الراعية إضافةً إلى اسم الفنان. يضاف إلى هذا أن الموضوعات ذات الرسائل الواضحة التي تهتم بشأنٍ تنمويٍ أو توعويٍ، مثل المياه أو التلوث أو حتى التعليم، تنتشر إلى جوار بعض الجداريات التي لا تظهر اهتماماً من فنانيها بإيصال أيّ رسائل.
من ناحيةٍ أخرى، لا تتفق آراء الأهالي عن الجداريات ومحتواها. فبعضهم، مثل أبي عزّام وهو صاحب محلّ بقالةٍ في الهاشمي الشمالي، يشجعها ويراها تجميلاً للشارع، ويَسعد بها لما جذبته من زوّارٍ وسائحين للمنطقة. بينما آخَرون، مثل علا محمد وهي ربّة منزلٍ، يَرَوْن الجداريات مسيئةً للحيّ. إذ تقول علا عنها: "بيبشّع المنظر". مؤكّدةً أنها لا تفضّل وجود تلك الرسومات من حيث المبدأ، بل تفضّل أن تكون الحوائط مدهونةً بلونٍ موحدٍ دون أعمالٍ فنية.
وقع أبو عزام في حبّ الجدارية التي تستقبل الزائرين للمنطقة، وهي لطفلةٍ يقول إنها من مخيم الزعتري: "هي الطفلة صوّروها وبعدين رسموها في هذي الجدارية". يعرف أبو عزام قصص عديدٍ من الجداريات. ويقول إن سبب ذلك معرفته برسّامٍ من المنطقة اسمه صهيب العطّار. يعبّر أبو عزام عن سعادته عندما يرى هذه الجداريات، وإن كانت لا تعود عليه بفائدةٍ ماديةٍ مع توافد السياح للمكان، لكنه سعيدٌ بمشهدها على كلّ حال.
دلّني عزام على منزل عائلة العطار، مسقط رأس صهيب. ذهبت هناك للتحدّث مع الفنان الشابّ، في محاولةٍ لم تكلّل بالنجاح. إلّا أنني قابلت عمّته أفراح العطّار، التي شاركت أبا عزام سعادتَه بالمشهد الملوّن في الحيّ. قائلةً: "حلّا لنا الحارة"، في إشارةٍ إلى أعمال ابن أخيها صهيب. وتقول: "كلّ أسبوع في أجانب بيجوا يصوروا ويتفرّجوا".
تحرص بتول على استئذان أصحاب المباني قبل الرسم على جدران منازلهم. بينما قالت ديانا إنها رصدت في مقابلاتها الفنانين أنهم لا يستشيرون الأهالي في موضوعات جدارياتهم، وإن استأذنوهم في الرسم كما فعلت بتول. والسبب كما توضحه ديانا: "الأشياء بتيجي مموّلة". وتوضح أن المؤسسات تدفع للفنانين مقابل "عملهم" وتستخرج التصاريح وتوفّر الخامات. وعليه فهي تتحكم كذلك في الرسائل التي يرسمها هؤلاء الفنانين.

وثمّة جدارياتٌ أخرى تتطلب معرفة مموّليها بعض البحث. بعض الجداريات تموّلها شركاتٌ ربحيةٌ في قطاعاتٍ مختلفةٍ، مثل الاتصالات ومنتجات التجميل وصناعة السيارات. ولها برامج تنمويةٌ تهتم بموضوعاتٍ معيّنةٍ كالنوع الاجتماعي والبيئة وغيرها. وبعضها تموّله مؤسساتٌ غير ربحيةٍ لها أنشطةٌ فعليةٌ في المنطقة. وبعض الجداريات رُسمت في أثناء فعالياتٍ ثقافيةٍ مرتبطةٍ بهذا النوع من الفنّ. مثل مهرجان "بلدك" الذي يقام سنوياً منذ 2013، وخرجت منه مجموعةٌ متنوعةٌ من الجداريات تزيّن جدران أحياء العاصمة بدعمٍ من مؤسساتٍ ربحيةٍ وغير ربحية.
تؤكد بتول، التي تعاونت مع مؤسساتٍ بعضها تنمويٌّ وبعضها الآخَر تجاريٌّ، أنها لا تَعدّ ما تطالبها به تلك المؤسسات شروطاً أو قيوداً. وتقول: "كناس بدهم يعملوا 'فَنْد' [تمويل] إنه أنا لازم أطابق 'الكونسبت' [المفهوم] اللي هم بدهم يحكوا فيه". في الوقت عينه، تتحدث بتول عن شروط تتصل برؤية الجهة المانحة ناحيةَ موضوعٍ معيّنٍ، وحتى اختيارات الألوان. وأن دوافع الجهات المانحة تتنوع بحسب قيم الجهة واحتياجاتها. تعطي بتول مثالاً على ذلك بمؤسسةٍ عملت معها على جداريةٍ دمجت فيها اليوم العالمي للطفل مع مشكلة شحّ المياه: "كنت راسمة الفستان [فستان الطفلة] لونه بينك [ورديّ]. قالتلي [المسؤولة عن المشروع] إنه لا، إحنا بنفضّل يكون لونه من الألوان المحايدة. عشان ما يكون إنه فيه 'جندر بايَس' [تمييز مرتبط بالنوع الاجتماعي]".
تؤكّد بتول مواجهتها بعض القيود. خصوصاً على مستوى عملها في الرسم بالمخيمات الذي يتضمن الحديث مع اللاجئين، لاسيما من الأطفال لرسم جداريةٍ معبّرةٍ عنهم. وتقول "يعني بآخر مشاريع إلنا كان ممنوع إنه نحكي مع الأطفال بثلاث موضوعات: السياسة والجنس والدين". تضيف: "وقتها الكلّ كانوا مشغولين بأحداث غزة". هذه الجدارية –"المشروع" كما تسمّيه– عملت فيه بتول مع مؤسسةٍ غير ربحية.
مؤخراً، دخلت وزارة الثقافة الأردنية على الخطّ بحملاتٍ أطلقتها في عدّة محافظاتٍ لرسم جدارياتٍ ترتبط بعناصر من البيئة الأردنية. مثل جداريةٍ في محافظة الزرقاء تعكس عناصر الحياة البدوية، وأخرى في الطفيلة تتضمن مشاهد من الطبيعة الأردنية، وأخرى على الطريق الصحراوي بالحسا تجسّد الحياة البدوية.
قبل ظهور جدارياتٍ كهذه، كانت مؤسساتٌ حكوميةٌ تنخرط في دعم الجداريات –منها "أمانة عمّان"– تعدّ الأشكال المختلفة لفنون الشارع، خصوصاً الغرافيتي، نوعاً من "التخريب" للجدران. حتى أنها في منشورٍ يعود لسنة 2018 سمّت فنونَ الشارع "خرابيش جدران". ودعت وقتئذٍ المواطنين الراغبين في الرسم إلى التنسيق معها، إذ رأت في "الخرابيش" تنافياً مع "مفاهيم المواطنة الصالحة".
تنتقد ديانا حباشنة مجمل الجداريات التي تحتلّ جدران عمّان اليوم، وترى فيها انفصالاً عن الأشخاص القاطنين بالمكان وتاريخهم وتاريخ الأماكن التي يعيشون بها. وتقول في هذا الإطار: "الشي اللي عم بيصير لا يضيف للمكان، ولا يروي تاريخ المكان". لا تعترض ديانا على وجود تلك الجداريات باعتبارها عنصراً جمالياً. لكنها ترى أن تلك الأعمال "دخيلة" على الأماكن المرسومة بها، وترتبط –على حدّ قولها– بجذب السيّاح الأجانب إلى تلك المناطق. وتضيف: "هو غسيل سمعة باستخدام الفنّ بالنسبة لهذه المؤسسات. والفنانين بالنسبة لهم هذه فرصة، وأنا أفهم ذلك. أنت كفنان بدّك من يدفع لك، بدّك تعرض شغلك".
سألتُ بتول عن المساحات من الوقت والحوائط التي تتبقّى لها لرسم ما تريده هي بلا تدخّلٍ من جهاتٍ مموّلةٍ أو غيره. فردّت: "بعد ما صارت الأحداث [7 أكتوبر]، كتير حبّيت أرسم شي متعلّق بغزة، متعلّق بفلسطين، فعملت جدارية اسمها قاوم". تضيف أنها كانت تحاول أن تكون في منطقةٍ رماديةٍ عند اختيار الموضوع. وتقول: "يعني ما يكون واضح إنه [صمت متردد] إن أنا بحكي عن فلسطين". في إشارةٍ لجداريةٍ رسمتها على حوائط مطعمٍ في جبل عمّان.
تقول بتول إنما حذرها تخوفٌ من أن توقفها السلطات: "هي كبيرها إنه يطلبوا مني ادهني الحيط [على نفقتها]، والموضوع مش مناسبة وإنتِ أصلاً بتعملي شي 'إليغال' [غير قانوني]".
قانون العقوبات الأردني لسنة 1960 وتعديلاته واضح. تنصّ المادّة 459 على العقاب بالحبس أسبوعاً حدّاً أقصى وغرامةٍ حتى خمسة دنانير لمن تسبب في "تخريب الساحات والطرق العامة". وتنصّ المادّة 468 على أنه "مَن طَبَع أو باع أو عرض نقوشاً أو صوراً أو رسوماً تعطي عن الأردنيين فكرةً غير صحيحةٍ من شأنها أن تنال من كرامتهم واعتبارهم، عوقب بالحبس حتى أسبوعٍ وبالغرامة حتى خمسة دنانير، وتصادر تلك النقوش والصور والرسوم".
لعلّ أوضحَ مثالٍ على تلك المقارنة متجسدٌ في الصورة الرئيسة لهذا المقال. إذ ترى مساحةً واضحةً وبارزةً لجداريةٍ ذات موضوعٍ محايدٍ بلا رسائل. وفي الطريق البعيد منها ذي الخلفية الزرقاء، تجد عملَ غرافيتي مبعثراً بين عباراتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ، وأخرى ذات دلالاتٍ رومانسية. هذه المساحات عادةً ما يخلقها الفنانون أنفسهم أو مارّون من نواحٍ "مختبئة". تراها إذا كنت من المتفحّصين للشوارع التي تمرّ بها. لكن الصدارة في هذا المشهد، كما رأيت من ثلاث سنواتٍ عشتها في الأردن، تكون للجداريات التي يندر أن تكون من بنات أفكار فنّانٍ بلا تمويلٍ من مؤسسةٍ أو دعايةٍ لها.
