قوانين الإيجار القديم في مصر هي مجموعةٌ من التشريعات التي صدرت منذ بدايات القرن العشرين، بهدف ضبط العلاقة بين المالك والمستأجر. فَرضت هذه القوانين تثبيت قيمة بدل الإيجار عند مستوياتٍ منخفضةٍ لا تتناسب مع تغيّرات السوق. ومَنحت المستأجرين، وأحياناً ورثتهم، حق البقاء في العقار المؤجَّر مدى الحياة، ما أدى إلى نشوء علاقاتٍ إيجاريةٍ ممتدة تُعرف محلياً باسم "الإيجار القديم".
بقيَ ملف قانون الإيجار القديم الشائك معلَّقاً سنواتٍ بسبب تعقيداته الاجتماعية والاقتصادية. فالعلاقة الإيجارية تؤثر في ملايين المواطنين، بعضهم مستأجرون يرون في القوانين القديمة – التي تؤبد العلاقة الإيجارية مقابل إيجاراتٍ رمزيةٍ تزيد بنِسبٍ محدودةٍ – مظلةً اجتماعيةً تضمن لهم الاستقرار في مساكنهم مدى الحياة. والبعض الآخر مُلّاك، يرون في القوانين قيداً حال دون استفادتهم من ممتلكاتهم عقوداً طويلة. اختارت الحكومات المتعاقبة سياسة التجميد تجنباً لإظهار انحيازٍ واضحٍ لأحد الطرفين، فظلّ الملف مرحَّلاً وتُركت معالجته للقضاء. فأصدرت المحكمة الدستورية العليا عدداً من الأحكام قلّصت تدريجياً نطاق الاستفادة من عقود الإيجار القديمة. لم تُتبِع السلطة التشريعية تلك الأحكام بتشريعاتٍ حاسمةٍ، حتى أقرَّت في صيف 2025 تعديلاتٍ واسعةً على قانون الإيجار القديم، قضت على ما تبقى منه.
يمثل تعديل قوانين الإيجار القديم لحظةً مفصليةً في مسار التحوّل الاقتصادي والاجتماعي للدولة المصرية. فالقوانين التي مثلت عنواناً عريضاً للاستقرار وخشية الغضب المجتمعي منذ عهد الملك فؤاد والملك فاروق ثم الحماية البريطانية لمصر، وكانت أحد أعمدة العدالة الاجتماعية في مرحلة ما بعد يوليو 1952، تتحوّل اليوم أداةً سياسيةً تعبّر عن توجّهٍ جديد. تفكيك ما تبقى من مظلة الرعاية الاجتماعية، وإعادة رسم العلاقة بين الدولة والمواطن لصالح مصالح رأس المال، ليودّع المصريون عصر المكتسبات المجتمعية بلا رجعة.
قوبل المقترح برفضٍ واسعٍ من المستأجرين والملَّاك على حدٍّ سواء. وهدّد الجانبان بتنظيم تظاهراتٍ ضدّه، ما زاد من تعقيد المشهد، خاصةً مع اقتراب نهاية الدورة التشريعية وبدء الاستعدادات للانتخابات البرلمانية المقبلة. وفي هذه الأجواء، بدا تبنّي النواب مشروعَ قانونٍ بهذه الحساسية مخاطرةً سياسيةً تهدد فرص إعادة انتخابهم. وهو ما دفع رئيس مجلس النواب حنفي الجبالي، ومعه أعضاء بحزب مستقبل وطن (صاحب الأغلبية البرلمانية)، إلى توجيه انتقاداتٍ لاذعةٍ لم يعتادوا توجيهها للحكومة. وذلك بسبب عدم إعدادها خطةً واضحةً للتعامل مع الملايين، الذين سيُطردون من مساكنهم بعد انقضاء مهلة السنوات السبع التي حدّدها القانون.
ومع ذلك، وافق البرلمان بنوابه وأغلبيته في اليوم التالي على المقترح. وبدَّل انتقاده بشكر الحكومة، لينتهي دور البرلمان وتنتقل الكرة إلى ملعب رئيس الجمهورية.
يؤكّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ تولّيه السلطة سنة 2014 على أنه لن يتردّد في اتخاذ "القرارات الصعبة" التي أحجم عنها سابقوه خشية ردود الفعل المجتمعية. ويكرر السيسي هذا التأكيد في أعقاب أي قرارٍ بتخفيض الدعم الحكومي، أو إلغائه، أو زيادة الأسعار. ومع ذلك، تظلّ قضية تعديل قانون الإيجار القديم واحدةً من أكثر الملفات الاجتماعية التي يواجهها النظام الحالي حساسية. وذلك بعد قراره الأشهَر في مايو 2024 رفع سعر رغيف الخبز، في خطوةٍ غير مسبوقةٍ منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
النائب محمد بدراوي، عضو مجلس النواب عن حزب الأغلبية، قال في حديثه مع الفِراتس إن إقرار قانون إلغاء الإيجار القديم يعبّر عن توجّهٍ واضحٍ نحو إنهاء دور الدولة في دعم المواطنين. وبحسب بدراوي، يَظهر هذا التوجّه في مراجعة قوانين الإيجار القديم. ويظهر أيضاً في رفع الدعم عن رغيف الخبز والطاقة.
ويؤكد بدراوي أن هذا التوجّه، وإن لم يكن خاطئاً من الناحية الاقتصادية النظرية، إلا أنه ينبغي أن يتزامن مع رفعِ متوسط دخول الأفراد وزيادة معدلات النمو، وهو ما لم يحدث. ويفسّر تجاهل الدولة المخاطرَ السياسية المحتملة نتيجة هذا التعديل القانوني بقوله: "الرسائل السياسية لم تعد موجودة في المناخ المصري الحالي. المواطنون منهكون اقتصادياً ومشغولون بلقمة العيش، والدولة تدرك ذلك. وبالتالي لم تعد تخشى من ردود الفعل الشعبية التي كانت تشكّل خطوطاً حمراء في الماضي. ما يحدث الآن هو تطبيق لسياساتٍ اقتصاديةٍ بحتة دون اعتبارٍ كافٍ للأبعاد الاجتماعية". وأشار بدراوي إلى أن مجلس النواب، منذ بداية انعقاده في 2016، تلقّى عشرات المقترحات من النواب لتعديل قوانين الإيجار القديم. لكن الأجهزة الأمنية كانت، في كل مرة، تحذّر من فتح هذا الملف خشية الغضب الشعبي.
التمهيد للتخلّص التدريجي من قوانين الإيجار القديم لم يكن مجرد توجّهٍ برلمانيٍّ، بل نهجاً متكاملاً تبنّته الدولة، وعلى رأسها رئيس الجمهورية. ففي أغسطس 2021، قال السيسي في خطابٍ تلفزيونيِّ تعبيراً عن توجيهه ببناء عددٍ كبيرٍ من الوحدات السكنية: "هخلّيكوا تمشوا تتكعبلوا في الشقق"، أملاً في أن تسهم هذه الوفرة في تخفيف حدّة أزمة الإيجار القديم. وأشار في الوقت نفسه إلى أن الدولة تسعى لإحداث "توازنٍ نسبيّ" في التعامل مع هذه الأزمة، لأنها تمسّ ما وصفه "مكتسب اجتماعي" يصعب المساس به جذرياً.
تغيَّر خطاب الرئيس بعد عامين فقط، فبدا أقل تمسّكاً بمفهوم "المكتسبات". فأثناء حضوره مؤتمر "حكاية وطن" في أكتوبر 2023، قال: "الناس اللي عملت المكتسبات دي، الله يرحمهم، ماتوا من زمان، والموجود دلوقتي أحفادهم [. . .] من 1962 اللي كانوا ساكنين واستفادوا من التخفيض اللي تم، هو مدى الحياة. ولا الموضوع ينتهي بقى؟ [. . .] حرام علينا نفقد قيمة 2 مليون وحدة مقفولة".
خالد علي، المحامي والمرشح الرئاسي السابق، يرى الإصرار على إنهاء ملف الإيجار القديم الآن تعبيراً عن انحياز الطبقة الحاكمة ضد الفقراء. وفي حديثه مع الفِراتس قال إن السلطة أحكمت قبضتها على المساحات العامة المملوكة للمواطنين، ثم سلّعتها واستهدفت مناطق ذات قيمةٍ استراتيجيةٍ، مثل جزيرة الوراق في نهر النيل في القاهرة ونزلة السمان المجاورة لأهرامات الجيزة، قبل أن تصادرها. والآن جاء الدور على وحدات الإيجار القديم. وأشار علي إلى أن عدداً كبيراً من هذه الوحدات كان مملوكاً لجهاتٍ، مثل وزارة الأوقاف وشركات التأمين، قبل أن تنتقل ملكيتها إلى الدولة التي ترى في تحرير هذه الوحدات من قيود قانون الإيجارات القديم مصدراً محتملاً لمليارات الجنيهات بمجرد طرد ساكنيها.
انضمّت مصر إلى ركب الدول التي تدخلت في العلاقة الإيجارية بدايةً من العهد الملكي. في دراستها "التعامل مع الأنماط المختلفة للوحدات السكنية بقانون الإيجار القديم في مصر" المنشورة في يوليو 2018، تحكي الباحثة في كلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة هدى الأمير عن تقييد الأسعار في عهد الملك فؤاد. خضعت العلاقة بين المالك والمستأجر للقانون المدني القائم على مبدأ "العقد شريعة المتعاقدين"، دون تدخلٍ من الدولة. ثم أصدر الملك فؤاد القانون رقم 4 لسنة 1921، الذي قيّد أسعار الإيجارات لمدة خمس سنوات. ومع انتهاء المدة، تدخلت الحكومة المصرية مجدداً لمواجهة ظاهرة طرد الملاك المستأجرين المصريين، لصالح الأجانب الذين كانوا يدفعون إيجاراتٍ أعلى.
أرست الأوامر العسكرية الصادرة أثناء الحرب العالمية الثانية مبدأَين للعلاقة بين المالك والمستأجر. الأول تقييد نسب الزيادة في الإيجارات، والثاني المد التلقائي لعقود الإيجار بما يضمن استمرار المستأجر في الوحدة السكنية. هذان المبدآن، اللذان فُرضا في سياق ظروفٍ استثنائيةٍ، تحوّلا لاحقاً أساساً لتشريعات الإيجارات في مصر عقوداً طويلة.
تبنّت ثورة يوليو 1952 مبادئ تدخل الدولة في سوق الإسكان لحماية من المستأجرين من استغلال الملاك. فأصدر الرئيس جمال عبد الناصر سلسلةً من التشريعات التي خفضت القيمة الإيجارية للوحدات السكنية وغير السكنية. أبقت هذه القوانين على قاعدة منع إخلاء المستأجر إلا بحكمٍ قضائيٍّ، والتي طُبّقت أثناء الحربَين العالميتَين إجراءً استثنائياً لحماية السكان. وأرست القوانين مبدأً جديداً هو منح أبناء المستأجر، وأي شخص تربطه به صلة قرابة ومكث معه في الوحدة مدة سنة، الحق في وراثة عقد الإيجار بعد وفاته، فيما سُمِّي لاحقاً "الامتداد القانوني لعقد الإيجار".
بدأت الدولة بالتراجع عن هذه السياسات بعد وفاة عبد الناصر سنة 1970 وتولي محمد أنور السادات رئاسة الجمهورية. كانت نقطة التحول الأولى سياسة الإيجار المحدد. فظهر ما سُمِّي "خلو الرِجْل"، وهي آلية غير رسمية للتحايل على قوانين مراقبة الإيجارات. يطلب شاغل العقار مبلغاً مالياً كبيراً من المستأجر الجديد قبل إتمام عقد الإيجار، مقابل التنازل له عن الوحدة الخاضعة لقوانين الإيجار القديم.
وفي بداية الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات، قلّ المعروض من شقق الإيجار واتجه القطاع الخاص للبناء بغرض التمليك، مستفيداً من تدفق التحويلات الخارجية بعد فتح باب السفر للعمل بالخارج في 1974. وفي سنة 1977، صدر القانون رقم 79 لتربط الإيجارات بأسعار الأراضي مع زيادة سنوية 7 بالمئة، وأعقبه القانون رقم 136 لسنة 1981 الذي قصد إعادة التوازن للعلاقة الإيجارية بتوزيع أعباء الصيانة والترميم بين الُمَّلاك والمستأجرين.
ساهم توريث الوحدات السكنية في تفاقم أزمة الإيجار القديم على مدى العقود. إذ لاتزال مواد القانون رقم 136 لسنة 1981 تطبَّق على أكثر من مليون وستمئة ألف وحدة سكنية يقطنها أكثر من ستة ملايين نسمة، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لسنة 2017. ويُلزم القانون الجديد، الذي أقرّه مجلس النواب في الثاني من يوليو 2025، قاطني هذه الوحدات بإخلائها في مدةٍ لا تتجاوز سبع سنوات من تاريخ التصديق عليه، أي بحلول سنة 2032.
في مواجهة هذا الواقع، عادت مصر منذ أوائل التسعينيات إلى تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر. فصدر القانون رقم 4 لسنة 1996، المعروف بقانون "الإيجار الجديد"، الذي أوقف العمل بقوانين "الإيجار القديم" عند إبرام تعاقداتٍ إيجاريةٍ جديدة. بدأت المحكمة الدستورية العليا بالتوازي تقليص نطاق المستفيدين من قوانين الإيجار القديم. في سنة 2002، أصدرت المحكمة حكماً يقصر حق الامتداد الإيجاري على أقارب المستأجر من الدرجة الأولى. فاستبعد المستفيدين السابقين من القانون، من أقارب المستأجر، إلى الدرجة الخامسة. وبدأ تطبيق هذا الحكم من نوفمبر 2002.
أصدرت المحكمة في مايو 2018 حكماً بعدم دستورية امتداد عقود الإيجار إلى الوحدات غير السكنية المؤجَّرة للأشخاص الاعتباريين، سواء كانوا شركات أو هيئات أو مؤسسات حكومية أو خاصة. ومع إلزام الحكم السلطتين التشريعية والتنفيذية بتنفيذه بدءاً من اليوم التالي لانتهاء دور انعقاد مجلس النواب في يونيو 2019، فإنه لم ينفَّذ فعلياً إلا في مارس 2022. وذلك حين أصدر السيسي قانوناً يقضي بزيادة الإيجار إلى خمسة أضعاف القيمة السابقة، مع زيادةٍ سنويةٍ بنسبة 15 بالمئة وإخلاء الوحدات المؤجَّرة بنظام القانون القديم خلال خمس سنوات من تاريخ سريانه، أي بحلول مارس 2027. وقد تضمّن القانون الأخير، المُقَر من البرلمان، بنداً لتمديد هذه المهلة حتى سنة 2030.
هذا الجمود انعكس في تحولاتٍ عميقةٍ داخل سوق السكن، أبرزها توجّه الاستثمار العقاري الخاص إلى البناء بهدف التمليك بدلاً من التأجير. يستهدف هذا التوجّه الشرائح فوق المتوسطة والعليا، ويستبعد الطبقات الاجتماعية الدنيا، التي تمثل أكثر من نصف المجتمع، من دائرة الاهتمام بسبب عجزها عن شراء وحداتٍ سكنية. ووفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لسنة 2017، أصبحت نسبة الوحدات المطروحة للتمليك نحو 80 في المئة من إجمالي الوحدات السكنية، مقابل 20 في المئة فقط للوحدات المعروضة للإيجار. وهي نسبةٌ مخالفةٌ للمعدلات العالمية المتوازنة، التي تتراوح عادةً قرب 50 بالمئة، بحسب دراسة هدى الأمير.
ومع قلة الخيارات المتاحة للإيجار بأسعارٍ مناسبةٍ، اضطرّ ملايين المواطنين إلى التوسع في بناء مساكن عشوائيةٍ بمناطق غير رسمية تفتقر في كثيرٍ من الأحيان إلى الخدمات الأساسية والبنية التحتية. خاصةً في ظلّ تمركز مشروعات الإسكان الحكومي في مناطق صحراويةٍ نائيةٍ، بعيدة عن مراكز المدن ومواقع العمل.
وتعمّقت الفجوة بين قيم الإيجارات للوحدات الخاضعة لقوانين الإيجارات القديمة، مقارنةً بالوحدات المؤجَّرة بنظامٍ الإيجار الجديد أو المملوكة. فبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لسنة 2017، تدفع أكثر من ثلث الأسر المقيمة في وحدات إيجارٍ قديمٍ أقلّ من خمسين جنيهاً شهرياً (أي أقل من ثلاثة دولارات بسعر الدولار في 2017). فيما تدفع نحو 40 بالمئة من الأسر ما بين ثلاثة وأحد عشر دولار شهرياً، بينما يدفع 2 بالمئة فقط من المستأجرين بنظام الإيجار القديم أكثر من تسعمئة جنيه شهرياً أي نحو خمسين دولاراً.
في المقابل، لا تقلّ إيجارات الوحدات بنظام الإيجار الجديد في المناطق الشعبية عن ثلاثة آلاف جنيه أي ما يعادل 168 دولاراً، بينما تبدأ أسعار الوحدات التمليك من مليون جنيه أي نحو عشرين ألف دولار في أقلّ الفئات.
وبحسب دراسة هدى الأمير سالفة الذكر، أسفر جمود قوانين الإيجار عن أضرارٍ جسيمةٍ لم تقتصر على الملاك فقط، بل طالت الدولة والمجتمع بأكمله. فوفقاً لتقديرات جريدة الأهرام في سنة 2016، أدى تجميد القيم الإيجارية إلى حرمان الدولة من تحصيل ضرائب عقاريةٍ على ثروة تقدَّر بنحو أربعة تريليونات جنيه، فضلاً عن تجميد قيمة مالية ضخمة في الوحدات المغلقة الخاضعة للقانون. ودفع تدنّي الإيجارات بعض الملّاك إلى تخريب عقاراتهم عمداً باستخدام وسائل، مثل مادة ديكسبان لتفتيت الأسمنت، في محاولةٍ لتسريع انهيار المبنى وبيع الأرض. وهو ما شكَّل تهديداً مباشراً لحياة السكان، وألحق أضراراً جسيمةً بالثروة المعمارية في أحياءٍ راقيةٍ، مثل الزمالك والمعادي والقاهرة الخديوية.
ومع أن قوانين الإيجارات القديمة وُضعت أساساً لحماية الفقراء، إلا أن الواقع كشف عن استفادة غيرهم منها. تقيم أعدادٌ ليست قليلةً من الأسر ميسورة الحال في وحداتٍ فسيحةٍ بمناطق راقيةٍ وسط العاصمة، في أحياء الزمالك والمهندسين وغاردن سيتي، مقابل إيجاراتٍ لا تتجاوز بضعة جنيهات، مع امتلاك هذه الأسر وحداتٍ سكنيةً أخرى. وتستفيد بعض الجهات الحكومية من القانون باستئجار مقرّاتٍ في مختلف المحافظات بأسعارٍ رمزية.
وفي ظلّ ضعف الرقابة المحلية وغياب قواعد البيانات الدقيقة، يتحايل بعض المستأجرين على القانون بتحويل وحداتهم السكنية إلى مقرّاتٍ لأنشطةٍ تجاريةٍ أو إداريةٍ، ما يزيد من تدهور حالة العقارات ويهدد سلامتها الإنشائية.
اجتماعياً، تسبّب الجمود التشريعي في انخفاضٍ ملحوظٍ في معدّلات الحراك السكني. فقد أظهرت دراسةٌ للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أن 27 بالمئة من الوحدات في القاهرة الكبرى غير مستغَلّة، يغلقها المستأجر للسفر أو لإقامته في مكانٍ آخر، وتخضع أغلبها لنظام الإيجار القديم. تعيق هذه الظاهرة حركة السكان وتحدّ من قدرة العمال على الانتقال إلى مواقع العمل. وبيّنت الدراسة أن أقلّ من 4 بالمئة من الأسر تتحرك سنوياً، وهي نسبةٌ منخفضةٌ مقارنةً بالمدن العالمية، ما يدلّ على جمود سوق الإيجار وعدم فاعليته.
ومع ضيق المدة، لم تتقدّم الحكومة بمشروع تعديل القانون إلى مجلس النواب إلا في 29 أبريل 2025، أي قبل شهرين فقط من انتهاء المهلة. وبدلاً من الاكتفاء بوضع ضوابط لزيادة القيمة الإيجارية لوحدات الإيجار القديم، والتي قدّرتها الحكومة بنحو مليون وستمئة ألف وحدة سكنية كما نصّ حكم الدستورية، اختارت الحكومة والبرلمان إنهاء العمل بقانون الإيجار القديم وتحرير العقود القديمة نهائياً في سبع سنوات من تاريخ تصديق الرئيس على القانون.
عارض ممثلو روابط الدفاع عن المستأجرين القانون المقترح. واستندوا، أثناء حضورهم جلسات حوارٍ نظّمتها لجنة الإسكان في مجلس النواب قبل إقرار القانون، على حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر سنة 2002. والقاضي بقصر امتداد عقود الإيجار القديم على أقارب المستأجر الأصلي من الدرجة الأولى. وحاججوا أن هذه القاعدة تقلّل من عدد المستفيدين من الإيجار القديم تلقائياً، وأن الوحدات ستعود للملاك بلا حاجة لتدخلٍ تشريعيٍّ جديدٍ يطرد المستأجرين منها. إلا أن الحكومة والبرلمان عارضا هذا الرأي على سند سلطة المشرع في تحديد الفترة الزمنية لامتداد عقد الإيجار دون مخالفةٍ لحكم المحكمة الدستورية.
مضت الحكومة في إقرار القانون مع معارضة عددٍ من حلفائها التقليديين. مثلاً، عبّر زعيم حزب الأغلبية في البرلمان عبد الهادي القصبي عن استيائه من تجاهل الحكومة تقديم بياناتٍ تتعلّق بالفئات العمرية للمستأجرين، أو بحجم الأراضي المتاحة لبناء وحداتٍ بديلة. دفع هذا رئيس مجلس النواب لتأجيل التصويت إلى الثاني من يوليو 2025، مطالباً الحكومة بتقديم بياناتها. حضرت الحكومة دون إحصاءات، ليعود رئيس المجلس ويشكرها، معلناً الموافقة على مشروع القانون. ولكن بعد تضمينه مادةً جديدةً تنصّ على "أحقية المستأجر" في التقدّم بطلب الحصول على وحدةٍ بديلةٍ (سكنية أو غير سكنية) بنظام الإيجار أو التمليك. وبشرط تقديم إقرارٍ بإخلاء الوحدة الحالية قبل انتهاء المدة المحددة، دون تضمين النص أي إلزامٍ للحكومة بتوفير الوحدة البديلة وتسليمها المستأجر قبل مغادرته وحدته الحالية.
جعلت المادة الأولوية في التخصيص للفئات الأولى بالرعاية، وفي مقدّمتهم المستأجر الأصلي الأكبر سناً. وقد ألزمت الدولة بتوفير وحدةٍ بديلةٍ له قبل عامٍ على الأقلّ من انتهاء مدة السبع سنوات. ويصدر مجلس الوزراء في ثلاثين يوماً قراراً يحدِّد إجراءات تقديم الطلبات وترتيب الأولويات والجهات المعنية بالتخصيص، مع مراعاة طبيعة المنطقة التي تقع بها الوحدة الأصلية.
لكن محلل سياسات الإسكان والعمران ومدير "مرصد عمران"، يحيى شوكت، اعتبر المادة الجديدة تأكيداً لمخاوف اندلاع أزمة سكنٍ عنيفةٍ بعد سبع سنوات. وأشار في حواره مع الفِراتس إلى أن الحكومة بالكاد توفّر سبعين ألف وحدة إسكانٍ اجتماعيٍّ سنوياً. وقد تساءل عن قدرة الدولة على مضاعفة هذا الرقم، لمواجهة طرد ملايين السكان في وقتٍ متزامن.
وأكد شوكت أن معالجة الحكومة عيوبَ قوانين الإيجار القديم جاءت على حساب ملايين المستأجرين، معظمهم من كبار السنّ ومحدودي الدخل. وطرح حلاً بديلاً تَمثل في تحمّل الدولة، عبر صندوق الإسكان الاجتماعي، فارق الإيجار بين القيمة الحالية والقيمة السوقية بما يضمن بقاء المستأجرين دون تهديد. يتفق رئيسٌ سابقٌ لمحكمة القضاء الإداري تحدث مع الفِراتس، طالباً عدم ذكر اسمه، مع شوكت. لكنه يرجح بداية تداعيات الأزمة فور تطبيق القانون، لا بعد سبع سنوات. إذ تلزم المادة الرابعة المستأجر بدفع مئتين وخمسين جنيهاً شهرياً فور سريان القانون، لحين انتهاء لجان الحصر، التي ستُقسّم المناطق ثلاث فئات: متميزة، تُرفع الإيجارات فيها إلى عشرين ضعفاً بحد أدنى قدره ألف جنيه، ومتوسطة تزيد عشرة أضعاف، بحد أدنى قدره أربعمئة جنيه، واقتصادية تزيد عشرة أضعاف، بحد أدنى قدره مئتين وخمسين جنيهاً.
بحسب الرئيس السابق لمحكمة القضاء الإداري الآنف ذكره، ينذر تطبيق القانون بأزمةٍ اجتماعيةٍ واسعة. إذ يلزم المستأجر بعد انتهاء الحصر بدفع الفروق بأقساط، وهو ما قد يعجز عنه الكثير من كبار السن. ويتيح القانون للملاك رفع دعاوى طرد ضدهم، وهو ما ينذر بأزمةٍ اجتماعيةٍ واسعة. وانتقد الرئيس السابق لمحكمة القضاء الإداري صياغة المادة السابعة، التي تمنح المالك الحق في استصدار أمر طردٍ فوريٍّ من قاضي الأمور الوقتية، في حال انتهاء مدة العقد أو غلق الوحدة أو امتلاك المستأجر وحدةً أخرى. بينما تسمح للمستأجر رفعَ دعوى للاستمرار في السكن، دون أن توقف دعواه أمر الطرد. ما يُعدّ خللاً تشريعياً واضحاً، سيفتح الباب أمام منازعاتٍ قانونيةٍ معقّدة.
أقرّ النائب محمد بدراوي بوجود صياغاتٍ معيبةٍ في القانون، لكنه أكد أن الهدف الرئيس هو إغلاق ملف الإيجار القديم نهائياً. مؤكداً سهولة إدخال تعديلات لاحقاً، إذا ظهرت عقباتٍ جوهريةً في التطبيق. وأكد أن التعقيد المتعمَّد في إجراءات الحصول على وحداتٍ بديلةٍ وفتح الباب للطعون، يهدفان إلى دفع المستأجرين القادرين نحو تسوية أمورهم طوعاً مع الملاك، بحيث تتدخل الدولة فقط في الحالات الإنسانية القصوى.
اعتبر سياسيون هذا الإجراء إعلاناً رسمياً عن رغبة السلطة في إنهاء كافة أشكال الاحتجاج ضد مشروع القانون. وكانت الرابطة، قبل توقيف عصام، تنظم اجتماعاتٍ ووقفاتٍ احتجاجيةٍ أمام مقار بعض الأحزاب الداعمة لحقوق المستأجرين. وقد شارك ممثلوها في جلسات الحوار التي عقدها البرلمان قبل إقرار المشروع، إلا أن صوت الرابطة خفت بوضوح بعد توقيف أحد ممثليها.
وبحسب تصريحات محامي الرابطة ميشيل حليم للفِراتس، فإن خيارات المستأجرين باتت محدودةً بعد موافقة البرلمان على القانون. فالرابطة تأمل ألا يصدّق رئيس الجمهورية على القانون. ولكن في حال صدّق عليه، "فلن يتبقى أمام المستأجرين سوى خيارين. أولاً الالتزام بدفع الإيجارات الجديدة، وثانياً اللجوء إلى القضاء للطعن بعدم دستورية القانون، استناداً إلى الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية العليا سنة 2002". الحكم الذي حظر إنهاء العلاقات الإيجارية الخاضعة لقانون الإيجار القديم مفاجأةً، وألزم بامتداد العقود لورثة المستأجر من الجيل الأول ولمرةٍ واحدة.
في المقابل، لا يعوِّل الرئيس السابق لمحكمة القضاء الإداري، في حديثه مع الفِراتس، على صدور أحكامٍ من المحكمة الدستورية قد تعرقل تمرير القانون. واعتبر أن القرار الآن بيد رئيس الجمهورية وحده، إما بالتصديق على القانون أو إعادته للحكومة.
ومع تصاعد الضغوط لإلغاء هذه المكتسبات تحت شعارات الإصلاح وتحرير السوق، يبقى التساؤل: هل الإصلاح يعني بالضرورة شطب تاريخٍ طويلٍ من التوازنات الاجتماعية، أم يمكن السعي نحو حلول عادلة تحفظ حق الساكن والمالك معاً. الإجابة على هذا السؤال ستحدِّد مصير أزمة الإيجار القديم، وكذلك شكل العلاقة بين الدولة والمجتمع لسنواتٍ مقبلة.
