قاعات عزاء وأفراح.. تسليع المساجد في مصر عبادة وأرباح

تتشكل ملامح تصور جديد لوظيفة الجوامع في مصر. رؤية تروّج لها الدولة ويستثمر فيها رجال الأعمال، تؤسس لفكرة أن المسجد ليس مكاناً للعبادة وحسب، بل مساحة اقتصادية قابلة للتربّح

Share
قاعات عزاء وأفراح.. تسليع المساجد في مصر عبادة وأرباح
تتشكل ملامح تصورٍ جديدٍ لوظيفة الجوامع في مصر. رؤيةٌ تروّج لها الدولة ويستثمر فيها رجال الأعمال | تصميم خاص بالفراتس

في أبريل 2025 تُوفّي والد صديقي بالقاهرة. وبينما انشغل هو بترتيبات الجنازة وتفاصيلها طُلب منّي تولّي مهمة حجز قاعة مناسباتٍ لاستقبال المعزّين. كان الأمر بسيطاً في ظاهره، بحثٌ سريعٌ على الإنترنت عن قاعات المناسبات بشرق القاهرة، أفضى إلى قائمة خيارات. لكن اسماً بعينه استوقفني: "دار مناسبات مسجد رابعة العدوية". بدا الاسم مألوفاً ومربِكاً في آن. تساءلتُ: هل يُعقَل أن تكون هذه القاعة تابعة للمسجد المغلق منذ فضّ اعتصام أنصار الرئيس المصري السابق محمد مرسي في 2013. ظننتُها مصادفةَ اسمٍ أو إعلاناً قديماً.
اتصلتُ بالأرقام المنشورة لقطع الشكّ باليقين. ردّ عليّ موظفٌ أكّد لي أن القاعة تابعةٌ لمسجد رابعة العدوية، لكنها باتت تُعرف اليوم بِاسم "دار مناسبات مدينة نصر"، وتعمل منذ سنواتٍ، فيما لا يزال المسجد مغلقاً في وجه المصلِّين. بدا الأمر وكأنه إعلانٌ عن عودة الحياة إلى جزءٍ من المكان، لكن بشروطٍ جديدةٍ ووظيفةٍ مختلفة.
بعد نحو شهرين، وأثناء زيارةٍ عائليةٍ في حيّ حدائق القبّة شمال القاهرة، مررتُ بمسجدٍ حديثٍ شاهقٍ يدعى "القبّة الخضراء". جذبني تصميمه المعماريّ الذي يحاكي المسجد النبوي بالمدينة المنورة، فقررتُ استكشافه. عند البوابة استوقفني شابٌّ يقف على باب المسجد، ويبدو من هيئته أنه مجنّد. وسألني: "حضرتك متوضّي؟". أجبتُ بالنفي، فأشار إلى مراحيض عامةٍ أسفل الجسر المقابل، موضحاً أن المسجد لا يحتوي على أماكن مخصصةٍ للوضوء. المفارقة أن الدخول إلى تلك المراحيض يشترط دفع تذكرة دخول.
وفي مشهدٍ آخَر لا يقلّ دلالةً، لاحظت في شهر رمضان سنة 2025 أنَّ المساجد التي كانت تظهر في التلفزيون وقت الأذان، لم تعد هي نفسها. إذ غابت جوامع الأزهر وعمرو بن العاص وابن طولون والسيدة زينب، لتحلّ مكانها مساجد لامعةٌ داخل مجمعاتٍ سكنيةٍ راقيةٍ مثل "مدينتي" و"الرحاب".
ما بين رسوم دخولٍ للوضوء، ودار مناسباتٍ نشطةٍ في مسجدٍ مغلقٍ منذ اثني عشر عاماً، ومساجد تستخدم للترويج العقاري، تتشكل ملامح تصورٍ جديدٍ لوظيفة الجوامع في مصر. رؤيةٌ تروّج لها الدولة ويستثمر فيها رجال الأعمال، تؤسّس لفكرة أن المسجد ليس مكاناً للعبادة وحسب، بل ساحةً اقتصاديةً يمكن التربّح منها. في ظلّ سياساتٍ عمرانيةٍ جديدةٍ تعيد صياغة الساحات العامة وتفرض المنفعة المالية أولويةً، يبدو أن دور المسجد في الوعي الشعبي والرسمي يُعاد تعريفه اليوم.


قدّر مستشار رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف، أسامة الأزهري، في مايو 2025 عدد المساجد في مصر بنحو مئةٍ وستّين ألف مسجد. ومع غياب إحصاءٍ دقيقٍ معلنٍ لعدد قاعات المناسبات الملحقة بالمساجد، فإنّ الطابع العام للمساجد التي أنشئت في العقد الأخير منذ 2015، يكشف عن نمطٍ جديدٍ من العمارة الإسلامية الرسمية. فالمساحات شاسعةٌ وهناك قاعات مناسباتٍ متعددةٍ، ومواقف سياراتٍ مدفوعة الأجر، وخدماتٌ تجاريةٌ ملحقة.
ظهر الجيل الجديد من المساجد الضخمة سنة 2015 مع افتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسي مسجد المشير طنطاوي، آخر وزير دفاعٍ في عهد الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك ورئيس المجلس العسكري بعد ثورة 2011، الذي نفذته إدارة المهندسين العسكريين بالقوات المسلحة على مساحة ثمانية آلاف مترٍ مربع. يسع المسجد ثلاثة آلاف مصلٍّ، وبه سبع قاعات مناسباتٍ، اثنتان رئيستان وخمسٌ فرعيةٌ تستوعب أربعة آلاف فردٍ تقريباً، فضلاً عن موقف سياراتٍ يتسع لأكثر من ثلاثمئة سيارة.
وفي يناير 2019 افتتح السيسي مسجد الفتاح العليم في العاصمة الإدارية الجديدة على مساحةٍ تتجاوز مئتين وخمسين ألف مترٍ مربع. ويضمّ المسجد سبع قاعات مناسبات. وعلى المنوال نفسه، افتُتح في الإسكندرية سنة 2020 مسجد الشهيد عبد المنعم رياض، وهو جامعٌ ضخمٌ يسع نحو ألفٍ وثمانمئة مصلٍّ. وملحقٌ بالمسجد اثنتان وعشرون قاعة مناسباتٍ موزّعةً على ثلاثة مبانٍ، نصفها مخصّصٌ للرجال والنصف الآخَر للنساء، وتستوعب نحو ثلاثة آلافٍ وخمسمئة فرد.
واصلت الدولة تشييدَ مساجدِها الكبرى. فبَنَت مسجد مصر في العاصمة الإدارية الجديدة سنة 2023، الذي يُعدّ الأكبر في البلاد. فهو ثالث أكبر مسجد في العالم الإسلامي مساحةً، بحسب الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية. شُيِّد المسجد على مساحة 476 ألف مترٍ مربع، ويسع نحو 137 ألف مصلٍّ، وتجاوره أربع قاعات مناسباتٍ ومركزٌ تجاريٌ بمساحةٍ تقارب تسعة آلاف مترٍ مربع.
وفي فبراير 2025 افتتح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي وقيادات الهيئة الهندسية مسجدَ العليّ العظيم بحيّ ألماظة بالقاهرة، ووصفه وزير الأوقاف أنه "باكورة المساجد الجامعة"، في خطوةٍ أولى لاستنساخ نموذج مسجد مصر الكبير في جميع المحافظات، تحقيقاً لفكرة "المسجد الجامع" أي الجامع للناس والخدمات التي يحتاجونها.
يضمّ مسجد العليّ العظيم تحت سقفه خدماتٍ متنوّعةً تشمل دار العبادة والتعليم والرعاية الصحية. ويسع المسجد خمسة آلاف مصلٍّ، ويضمّ ثلاث قاعات مناسباتٍ وحضانتين للأطفال ومكتبةً وداراً لتحفيظ القرآن الكريم وخمس عياداتٍ طبّيةٍ، إضافةً إلى موقف سيارات.
بالتوازي مع هذه المساجد المركزية، توسعت "الشركة الوطنية لإدارة وتشغيل الطرق" التابعة للقوات المسلحة في إنشاء المساجد على المحاور والطرق السريعة التي تُسنَد إليها. ووفق مصدرٍ داخل الشركة تحدّث إلى الفراتس بشرط عدم ذكر اسمه، أنشأت الشركة ثمانيةً وأربعين مسجداً في سائر أنحاء مصر في ثماني سنواتٍ، بينها اثنا عشر مسجداً في القاهرة وحدها. ويؤكّد المصدر، وهو ضابطٌ سابقٌ يعمل بنظام التعاقد مع الشركة، أن التصميمات الجديدة لأيّ محورٍ أو ميدانٍ تشترط إنشاء مسجدٍ وقاعات مناسباتٍ ضمن المشروع على أن تبقى إدارة المسجد خاضعةً للشركة بالتنسيق مع وزارة الأوقاف لتوفير الإمام والخطيب.


تخضع جميع المساجد في مصر لإشراف وزارة الأوقاف. لكن هذه التبعيَّة تقتصر غالباً على منح تصاريح الخطابة والإمامة للمساجد التي تنشئها جهاتٌ حكوميةٌ أخرى أو رجال أعمالٍ أو جمعياتٌ أو مؤسساتٌ خيرية.
ومع اتساع ظاهرة بناء المساجد الجديدة، ليس في مصر قانونٌ مستقلٌّ ينظّم مسألة إنشائها أو يحدّد جهةً حكوميةً واحدةً تتولّى الإشراف عليها. إذ يمكن لأيّ فردٍ أو مؤسسةٍ أو وزارةٍ أو جمعيةٍ أن تبني مسجداً، بشرط الحصول على موافقةٍ من الجهة الإدارية المحلية. وكذلك الالتزام باشتراطاتٍ عامّةٍ وضعتها وزارة الأوقاف في عهد وزيرها الراحل محمود حمدي زقزوق، الذي شغل المنصب منذ سنة 1995 حتى 2011.
ومن بين هذه الاشتراطات، أن تكون المنطقة في حاجةٍ إلى المسجد، وألّا تقلّ المسافة بينه وبين أقرب مسجدٍ قائمٍ عن خمسمئة مترٍ، مع حظر البناء على أراضٍ مغتصبةٍ أو محلّ نزاع. ويشترط ألّا تقلّ مساحة المسجد عن مئةٍ وخمسة وسبعين متراً مربعاً، وأن يضمّ طابقاً أرضياً يخصّص للأنشطة الخدمية وسكناً للإمام.
ويُحظر إقامة المساجد أسفل العمارات السكنية كما يحظر بناؤها على شواطئ النيل والترع دون موافقة وزارة الموارد المائية والري. ويتطلّب البناء على الأراضي الزراعية موافقة وزارة الزراعة، وصدور قرارٍ رسميٍ بتبوير الأرض.
ومع تلك الاشتراطات، لا تملك وزارة الأوقاف سلطةً لمنع بناء أيّ مسجدٍ أو مراقبة بنائه، ما يفسّر وجود مساجد تابعةٍ للقوات المسلحة وأخرى تابعةٍ لوزارة الداخلية ووزارة الآثار بالإضافة إلى مساجد أنشأتها شركات تطويرٍ عقاريٍ داخل مجمّعاتٍ سكنيةٍ مغلقةٍ، ومساجد أخرى تتبع جمعياتٍ خيرية.
"الأوقاف لا تمتلك الموارد البشرية أو الإدارية لفرض ولايتها على نحو مئةٍ وستّين ألف مسجدٍ وزاويةٍ على مستوى الجمهورية"، هكذا صرّح مصدرٌ في إدارة المساجد بالوزارة في حديثه مع الفراتس، طالباً هو الآخر، عدم الكشف عن هويّته. وأوضح المصدر نفسه أنه منذ صدور قرار الوزير السابق محمد مختار جمعة في مارس 2014 بضمّ جميع المساجد والزوايا في مصر إلى وزارة الأوقاف، توصّلت الوزارة والجمعيات الدينية الكبرى التي تمتلك مساجد ضخمةً وتديرها إلى تفاهمٍ غير معلنٍ يقصر دَور الوزارة على منح التراخيص لمن يعتلي المنبر، بلا أيّ صلاحيةٍ في إدارة المسجد أو ملحقاته.
وتجلّى هذا التفاهم في قرار رئيس الجمهورية الصادر في يناير 2025، بشأن نقل تبعية مسجد مصر الكبير الدعوية والعلمية من شركة العاصمة الإدارية إلى وزارة الأوقاف، مع احتفاظ الشركة بحقّ الإدارة الكاملة. ونصّ القرار على أن يتولّى إدارة المسجد عميدٌ يدعى ماهر السيد، وهو نفسه الذي يشغل منصب مدير مسجد المشير طنطاوي منذ افتتاحه قبل عشر سنوات.
وقال مصدرٌ بالوزارة إن محمد مختار جمعة، الذي يُعدّ ثاني أطول الوزراء بقاءً في المنصب بعد زقزوق، ساهم في ترسيخ هذا النمط المختلط من الإدارة سعياً للتقرب من القيادة السياسية. وتحوّل هذا الاتفاق إلى ما يشبه العرف المؤسسي، إذ تطلب الجهة المالكة لأيّ مسجدٍ من وزارة الأوقاف توفير إمامٍ معتمدٍ لإلقاء خطبة الجمعة وإمامة الصلوات الخمس، من غير أن يكون للوزارة أيّ سلطةٍ على مرافق المسجد أو مداخيله المالية.
ولتأكيد هذا التوجّه، خاطبت الفراتس المتحدّثَ بِاسم وزارة الأوقاف أسامة رسلان الذي قال إن قرار الوزير السابق بضمّ المساجد والزوايا إلى الوزارة هدفه تنظيم الشأن الدعوي، ما يعني أن تبعية المساجد لوزارة الأوقاف لا تشمل الجانب الإداري والمالي.
ويعزّز هذا الطرح ما صرّح به ضابطٌ سابقٌ في القوّات المسلّحة، يعمل حالياً مشرفاً على أحد المساجد التابعة للشركة الوطنية لإدارة وتشغيل الطرق. إذ أوضح في حديثه مع الفراتس أن الشركة تستعين بأئمةٍ وخطباءَ من وزارة الأوقاف بنظام الانتداب مقابل رواتب من الوزارة ومكافآتٍ مجزيةٍ من الشركة. وقد تعيّن الشركة خريجي الأزهر الحاصلين على تصاريح خطابةٍ من الوزارة للعمل أئمةً في المساجد. لكن إدارة المساجد، كأعمال النظافة والأمن وإدارة قاعات المناسبات، تبقى بالكامل بيد الشركة التي تعتمد في ذلك على عساكر يعملون في شركاتٍ تابعةٍ للجيش.
وتُظهر معلوماتٌ منشورةٌ على موقع "إدارة الشؤون المعنوية" للقوات المسلحة أن الجيش يدير أربعة مساجد رئيسةٍ في القاهرة، هي مساجد آل رشدان وزهراء مدينة نصر والمشير طنطاوي والنزهة ويشرف على سبع عشرة قاعة مناسباتٍ ملحقةً بها. وتملك وزارة الداخلية ثلاثة مساجد كبرى، جميعها تحمل اسم مسجد الشرطة، وتتوزع بين التجمع الخامس في شرق القاهرة والدراسة في قلب المدينة والشيخ زايد في غربها.


واكب التوسع في بناء المساجد الضخمة إسناد مهماتٍ ربحيةٍ إليها، شملت تشغيل قاعات المناسبات الملحقة وتأجير المحلات التجارية وتحصيل رسوم مواقف السيارات. في سنة 2023 أصدرت وزارة الأوقاف قراراً يمنع إقامة أيّ سرادقٍ للمناسبات – سواءً مفتوحةً أو مغلقةً – داخل المسجد أو ساحته. القرار جاء بدعوى "الحفاظ على قدسية المسجد"، وألزم الراغبين في عقد القران أو إقامة العزاء استئجار قاعات المناسبات الملحقة بالمساجد. تحدثت الفراتس مع مصدرٍ بالوزارة، أوضح أن هذا القرار أنهى أعمالاً سابقةً كانت تسمح بعقد القران مباشرةً في المسجد عقب الصلاة، دون أيّ رسومٍ أو حجزٍ مسبق.
ويتوقع أحد المسؤولين بالشركة الوطنية لإدارة وتشغيل الطرق أن يستكمل هذا الاتجاه قريباً عبر قرارٍ مرتقبٍ بالتنسيق مع وزارة التنمية المحلية لمنع إقامة سرادقات العزاء في الشوارع، ما يعني أن قاعات المناسبات ستكون المنفذ الوحيد أمام الأهالي، سواءً في الأفراح أو الأتراح.
أثناء بحثي عن أسعار قاعات المناسبات في المساجد الكبرى لعزاء والد صديقي، اكتشفتُ أن تلك القاعات تدار بمنطقٍ تسويقيٍ كاملٍ، وتُسعَّر خدماتها وفقاً لعوامل مثل الموقع والسعة ومستوى الخدمات المقدَّمة. فعلى سبيل المثال، تؤجِّر الجمعية المسؤولة عن إدارة قاعة المناسبات بمسجد رابعة العدوية – التي تتسع لمئتين وخمسين فرداً – القاعةَ بعشرة آلاف جنيهٍ مصريٍّ . (نحو مئتي دولارٍ أمريكي أي ما يعادل مرةً ونصف الحد الأدنى للأجر، البالغ سبعة آلاف جنيه) لساعتين، شاملةً الضيافة من مياهٍ وقهوةٍ ومقرئين.
ووفقاً لموظفٍ يعمل في المسجد فالقاعة محجوزة تقريباً طيلة الشهر، حتى إن بعض الأهالي "يضطرون لتأجيل العزاء أسبوعاً بعد الوفاة بسبب عدم توفر مواعيد شاغرة". لذا يُقدَّر صافي أرباح القاعة شهرياً بحوالي مئتي ألف جنيهٍ مصريٍ (نحو أربعة آلاف دولارٍ أمريكيّ)، بعد خصم مصاريف التشغيل.
ترتفع هذه العوائد في مساجد أخرى. ففي مسجد بلال بن رباح التابع لجمعيةٍ خيريةٍ في منطقة المقطّم جنوب القاهرة، تبلغ كلفة استئجار القاعة الصغيرة سبعة آلاف وخمسمئة وخمسين جنيهاً مصريّاً (نحو مئة وتسعين دولاراً)، بينما تصل كلفة استئجار القاعة الكبيرة إلى عشرة آلاف جنيهٍ (نحو مئتي دولار). فالمقدّر أن القاعتين قد تدرّان دخلاً شهريّاً يتجاوز نصف مليون جنيه مصري (أكثر من اثني عشر ألفاً وخمسمئة دولارٍ أمريكيّ)، يُصفّى منه نحو أربعمئة ألف جنيهٍ (حوالي عشرة آلاف دولار) أرباحاً صافيةً بعد خصم التكاليف التشغيلية.
أما في مسجد آل رشدان التابع للقوات المسلحة فتتضاعف الأرقام. إذ يضمّ المسجد خمس قاعاتٍ تستخدم لعقد القران والعزاء على مدار اليوم. تبلغ كلفة استئجار قاعة الريان الملحقة بمسجد آل رشدان على سبيل المثال، نحو 7920 جنيهاً مصريّاً (نحو 161 دولاراً) لثلاث ساعات عزاء، وقرابة ستّة آلاف جنيهٍ (حوالي 117 دولاراً) لعقد القران ساعةً واحدة.
أما قاعة النور، وهي الأكبر وتتسع لنحو ثلاثمئة فردٍ، فتُكلّف عشرة آلاف جنيهٍ (نحو مئتين وأربعة دولارات) للعزاء، وستّة آلافٍ وخمسمئة جنيهٍ (نحو 133 دولاراً) لعقد القران. وتتاح قاعة الزهور الواقعة في الهواء الطلق في حديقة المسجد، للعزاء مقابل 6660 جنيهاً (نحو 136 دولاراً)، أو لعقد القران مقابل خمسة آلافٍ ومئة جنيهٍ (نحو مئةٍ وأربعة دولارات).
أما المساجد التابعة لوزارة الأوقاف، فقد كانت الوزارة في السابق تترك لكلّ مسجدٍ تحديد أسعار قاعاته. لكن في 2015 وُضعت قاعات المناسبات تحت إشراف لجنةٍ عليا للخدمات خَصّصَت موظفاً لتلقّي الحجز الهاتفي وتحويل المبالغ مباشرةً لخزينة الوزارة. وأصدرت الوزارة منشوراً دورياً بأسعار قاعات المناسبات، لكن هذا المنشور توقّف منذ نوفمبر 2023. المفارقة أن المتحدث بِاسم الوزارة نفى علمه بوجود إدارةٍ مركزيةٍ لتلك القاعات، وعدّ ذلك "قراراً قديماً على الأرجح".


يكشف أحد الأئمة في شبرا الخيمة أن جميع الإيرادات، من التبرعات إلى إيجارات القاعات، تُرسل إلى المديرية ثم تحوّلها إلى وزارة الأوقاف. ويضيف إن الوزارة هي من تحدّد أوجُه الإنفاق، وغالباً ما تخصّص هذه الأموال لمساعدة المحتاجين. لكنه يلفت أيضاً إلى أن الأوقاف تُعدّ من أكثر الوزارات تحقيقاً للفائض المالي، قائلاً: "يمكن دا السبب الحقيقي لاستمرار الوزير السابق محمد مختار جمعة كلّ السنين دي".
ويكشف إمامٌ غيره بمحافظة الشرقية جانباً آخَر من الواقع، قائلاً إن بعض المناسبات لا تُسجَّل في دفاتر المسجد، ما يتيح توزيع عائداتها بطريقٍ غير قانونيةٍ بين بعض العاملين. ويضيف: "لو في ستّة عزاءات بالأسبوع، بنسجّل أربعة والباقي بيتوزّع"، في إشارةٍ إلى وجود فسادٍ إداريٍّ محتمَل.
في المقابل ينفي المتحدث بِاسم الوزارة تعميم مثل هذه التصرفات مؤكداً وجود نيّةٍ لتكليف شركةٍ تابعةٍ للوزارة، أو استحداث شركةٍ جديدةٍ، لتتولّى إدارة قاعات المناسبات، لإعادة هيكلة هذا الملفّ الحيوي وتنظيمه.
إدارة موارد المساجد وتوزيع عائداتها شهدت تحوّلاً واضحاً في السنوات الأخيرة، مقارنةً بما كان معمولاً به في السابق. فبينما كانت الدكاكين والعقارات الموقوفة تُخصَّص لخدمة مسجدٍ بعينه، أصبحت دور المناسبات اليوم تدرّ دخلاً لا يقتصر على المسجد المقامة فيه، بل يُحوَّل إلى وزارة الأوقاف ليدرَج ضمن إيراداتها في الموازنة العامة، إلى جانب مصادر أخرى مثل العقارات والمحلات وسائر أملاك الوقف.
وبحسب أحد العاملين في ديوان وزارة الأوقاف العامّ، طلب عدم ذكر اسمه، تتبع الوزارة أكثرَ من آليّةٍ في إدارة العائدات المالية للمساجد. فتقسم إيرادات دور المناسبات التابعة للوزارة وفق نظام "الثلث والثلثين". فيخصَّص الثلث للعاملين في المسجد، بمن فيهم الإمام، بينما يُحوَّل الثلثان المتبقيان إلى وزارة الأوقاف. أما أموال صناديق النذور، فتقسم تحت إشراف لجنةٍ رسميةٍ مشتركةٍ تضمّ ممثلين عن وزارات الأوقاف والمالية والداخلية. ثمّ يحصل كلّ طرفٍ، بمن فيهم العاملون في المسجد، على ثلث العائدات.
ويضيف المصدر إن وزارة الأوقاف هي الجهة المسؤولة عن تحديد أوجه إنفاق هذه الأموال، إذ تُضمّ إلى موازنتها السنوية. وهو ما أسهم في تحقيق فائضٍ ماليٍ جعل الوزارة من بين المؤسسات الحكومية القليلة التي تسجّل توازناً جيداً في ميزانيتها.
وقد حدّد عضو لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، النائب أيمن محسب، ما أشار إليه مصدر ديوان وزارة الأوقاف العامّ بشأن فائض الميزانية أثناء مناقشة موازنة الوزارة لسنة 2022. موضحاً أن الأوقاف تمكنت، للمرّة الأولى منذ تأسيسها، من تحقيق صافي أرباحٍ بلغ مليارَيْ جنيهٍ، ما عدّه إنجازاً اقتصادياً يعكس نجاح الوزارة في إدارة المنظومة الدعوية برؤيةٍ اقتصاديةٍ فعّالة.
وتجدر الإشارة إلى أن وزارة الأوقاف تمتلك عدداً من الكيانات الاستثمارية التابعة لها، مثل المجموعة الوطنية لاستثمارات الأوقاف (المحمودية سابقاً) وشركة أوقاف للإدارة والخدمات العقارية ورمسيس الزراعية والشركة العربية للسجاد والمفروشات (مصنع سجاد دمنهور).


لم يغِب المسجد يوماً عن ذهن أيّ سلطةٍ حَكَمَت مصر الحديثة لما يمثّله من أهمّيةٍ كبرى، إذ يجتمع فيه الناس أسبوعياً، وهناك من يخاطب عقولهم وقلوبهم من المنبر. وإذا غابت السيطرة، فقد تَنْفَلِت الأمور من يد الأجهزة الأمنية. لهذا حرصت الدولة دوماً على فرض رقابةٍ مشدّدةٍ على اختيار الأئمة والخطباء. وكان مصير من يخرج عن الإطار الرسمي في المساجد غير الخاضعة لوزارة الأوقاف، الحبس أو التضييق.
وقد تعمّق هذا الشعور بعدم "الارتياح الأمني" تجاه المساجد وأئمتها بعد 30 يونيو 2013، إذ كانت السلطة حينها في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع جماعة الإخوان المسلمين التي تسيطر على عددٍ كبيرٍ من المساجد، سواءً التابعة للوزارة أو الأهلية والخيرية. لذا كان هدف السيطرة المباشرة على المساجد حاضراً منذ اللحظة الأولى.
في سبتمبر 2013، أي بعد نحو شهرين من إنهاء حكم الرئيس السابق محمد مرسي، قرّر وزير الأوقاف محمد مختار جمعة منع إقامة صلاة الجمعة في الزوايا التي تقلّ مساحتها عن ثمانين متراً. وتبع ذلك قراره بمنع غير الأزهريين من الخطابة في المساجد الحكومية والأهلية. ثم جاءت الخطوة الأبرز في 26 يناير 2014 بتوحيد خطبة الجمعة في جميع مساجد مصر، بحجّة أن الوزارة مسؤولةٌ عن إقامة الشعائر الدينية. وقد اتخذ الوزير عدداً من القرارات، قال إنها تهدف إلى "منع التوظيف السياسي أو المذهبي أو الطائفي للمنبر"، فاستُبعد نحو اثني عشر ألف إمامٍ وخطيبٍ من مساجد مصر، وفق تقديرات وكالة "أسوشيتد برس".
لكن وفقاً للمصادر المذكورين آنفاً وتحدثوا إلى الفراتس، لم يعد الهدف الأمني هو المحرِّك الوحيد لسياسات الدولة تجاه المساجد، بعد أن دخل البعد الاقتصادي على الخطّ. باتت المساجد تدار أشبه بكياناتٍ ماليةٍ مكتفيةٍ بنفسها، بل وتحقّق فائضاً إن أمكن. وقال مصدرٌ مطّلعٌ على ملفّ إدارة المساجد في وزارة الأوقاف إن التعليمات واضحةٌ للأئمة: "لا تُحمّلوا الوزارة جنيهاً واحداً". وأضاف إن الإمام بات مطالَباً بتوفير الأموال بأيّ وسيلةٍ، بل يجبَر أحياناً على ذلك، كما في حالة "صكوك الأضاحي" التي تَفرض فيها المديريات عدداً معيناً من الصكوك على كلّ مسجدٍ، وإلّا عُدّ الأمر تقصيراً يستوجب العقاب.
ويؤكد أحد العاملين الآنف ذكره في الوزارة، أن الوزارة تطلب من الأئمة والخطباء ابتكار أنشطةٍ تدرّ دخلاً للمسجد، حتى وإن كانت مبالغ رمزيةً، فيقول: "عشان كده هتلاقي مساجد بتعمل تحفيظ قرآن بأسعار رمزية".
استخدام المساجد في أنشطةٍ تتجاوز العبادة لم يكن طارئاً على التاريخ الإسلامي، بل هو جزءٌ أصيلٌ من تطوّر المؤسسة الدينية منذ نشأتها. فقد كان للمسجد أدوارٌ متعدّدةٌ في العصور الإسلامية.
في دراسةٍ نشرت سنة 2023 في مجلة "العمارة والعلوم الإنسانية"، يربط المدرِّس بجامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب طارق جلال، بين التحولات الوظيفية للمساجد وتطور أشكالها في اثنتي عشرة مرحلةً تاريخية.
بدأت هذه المراحل بالمسجد النبوي في المدينة المنورة، الذي مثّل نموذجاً لمسجدٍ متعدّد الوظائف. فهو مكانٌ للصلاة والتعليم والقضاء وإدارة شؤون الدولة، بل وكان يضمّ بيت النبيّ ويستقبل فيه الوفود وتنطلق منه الجيوش. واستمرّ دور المسجد كذلك في عهد الخلافة الراشدة والعصر الأموي.
غير أن هذا التداخل بين الديني والسياسي بدأ يتراجع في القرن العاشر الميلادي، حين انفصل الجهاز الإداري عن المسجد، واقتصر دور المسجد على العبادة والتعليم.
مع نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، ظهرت المساجد التي شُيّدت على ارتفاع يسمح بإقامة حوانيت تجارية أسفلها يوقَف ريْعها لصيانة المسجد. استمرت وظيفة المسجد في التوسّع والتبدّل بتغيّر ظروف الدولة الإسلامية، حتى القرن العشرين، حين ظهرت قاعات العزاء وظيفةً جديدةً ملحقةً بالمساجد. ويعدّ جامع عمر مكرم الواقع في قلب ميدان التحرير بوسط القاهرة منذ سنة 1945 أول مسجدٍ مصريٍ يضمّ قاعة عزاءٍ مستقلةٍ، خصّصت في الستينيات والسبعينيات لعزاء النخب. ثم أصبحت قاعات المناسبات جزءاً من التصميم المعماري لمساجد كثيرةٍ مثل مسجد صلاح الدين بالمنيل، وعمرو بن عبد العزيز بهليوبوليس. وكانت في البداية مخصصةً للرجال فقط قبل أن تظهر تدريجياً قاعاتٌ للنساء منذ أواخر التسعينيات.
ومع بدايات القرن الواحد والعشرين، أضيفت وظيفةٌ جديدةٌ إلى المسجد وهي عقد القران بعدما كان يحدث ذلك عادةً في بيت العروس. ثمّ ظهرت المجمَّعات الإسلامية وملحقاتها من مستشفىً وجمعيةٍ خيريةٍ ومركزٍ للدروس الخصوصية وكتّابٍ لتحفيظ القرآن وتجويده. ومع منتصف السبعينيات بدأ إنشاء مساجد جامعةٍ غير تابعةٍ للأوقاف، مثل جامع مصطفى محمود سنة 1975، الذي يضمّ جمعيةً خيريةً تقدّم خدماتٍ طبّيةً وعياداتٍ ومتحفاً فلكياً، وجامع الحامدية الشاذلية سنة 1985، الذي هو جزءٌ من "المجمع الإسلامي" ويضمّ قاعات عزاءٍ وعياداتٍ طبية.


بعد بحثٍ مبدئيٍ على شبكة الإنترنت، وجولةٍ ميدانيةٍ شملت دور المناسبات في مساجد جنوب القاهرة وشرقها وغربها تمكّنتُ من حجز قاعةٍ صغيرةٍ في مسجد آل رشدان لإقامة عزاء والد صديقي، مقابل نحو ستة آلاف جنيه. عندها لمستُ عن قربٍ التحوّل الجوهري في وظيفة المسجد، من مؤسسةٍ روحيةٍ وثقافيةٍ مستقلةٍ إلى مرفقٍ يخضع لحساباتٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ دقيقة.
فالدولة لم تعد تكتفي بالسيطرة على الخطاب الديني بتوحيد الخطب وتضييق مساحة الاجتهاد، بل ذَهَبَت أبعد من ذلك نحو تحويل المساجد إلى وحداتٍ ماليةٍ ذات جدوى، تتولّى تغطية نفقاتها ذاتياً، بل وتُدرّ أرباحاً أحياناً. وهو ما يضع الإمام في موقع الموظف المكلّف بتحصيل الإيرادات، أكثر من كونه مبلّغاً رسالةً دينيةً أو تربوية.
هذا التداخل بين الأمن والدِين والاقتصاد، وإن بدا منطقياً في ضوء سعي الدولة لإدارة كلّ شبرٍ من المساحات العامة، إلّا أنه يعكس في الوقت ذاته أزمةً أعمق. أزمة ثقةٍ بين السلطة والمجتمع، تُعالَج بمزيدٍ من الرقابة ومراكمة العوائد، لا بإصلاح الخطاب الديني أو تمكين المجتمعات المحلية من التعبير عن نفسها داخل هذا المرفق.
تحوّلت المساجد من منابر للوعظ والإرشاد إلى مسارح صامتةٍ تُدار بعقلية المؤسسة الربحية، ويُراقَب ما يُقال فيها بدقّةٍ، ويُثمَّن ما يُقدَّم فيها بالنقود.

اشترك في نشرتنا البريدية