الضم المالي للضفة الغربية.. الميزانيات تُشرعن مصادرة الأرض

ترصد إسرائيل جزءاً معتبراً من ميزانيتها لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية وفرض ضمٍّ فعليٍّ دون إعلان. وتبرز مستوطنة معاليه أدوميم مثالاً عن هذه السياسة.

Share
الضم المالي للضفة الغربية.. الميزانيات تُشرعن مصادرة الأرض
تعاملت إسرائيل مع المستوطنات منذ 1967 على أنها جزء من أرضها | خدمة غيتي للصور

"إنها السيادة قولاً وفعلاً"، بهذه الكلمات أعلن نفتالي بينِت سنة 2020، عندما كان وزيراً للدفاع، تدشين أول شارع في الضفة الغربية يفصل المستوطنين عن الفلسطينيين. أطلق عليه الإسرائيليون اسم "شريان الحياة" أو "طريق السيادة". بعد خمسة أعوام، وتحديداً في 29 مارس 2025، قال وزير المالية والمسؤول عن شؤون الاستيطان في وزارة الدفاع بتسلئيل سموتريتش، تعليقاً على قرار حكومته تخصيص أكثر من ثلاثمئة مليون شيكل (نحو مئة مليون دولار) لذلك الطريق القريب من مستوطنة معاليه أدوميم، إن "هذا الاستثمار الضخم جزء من خطة إستراتيجية لتعزيز الاستيطان، وربط المنطقة مادياً وسياسياً بدولة إسرائيل، وجعل السيادة أمراً واقعاً على الأرض".
لم يجد سموتريتش حرجاً في الدعوة الصريحة لضم 82 بالمئة من أراضي الضفة الغربية، في 3 سبتمبر 2025. وهو المشروع ذاته الذي طرحه أول مرة سنة 2017 من على منصة الكنيست، متحدثاً عن "ضرورة دفع الفلسطينيين إلى الكتل المدنية، وعزلهم عن بعضهم حتى لا يبقى لهم أمل في وطن يجمعهم. ومن يرفض، فمصيره القتل أو السجن أو التهجير".
وما إن تولّى سموتريتش منصب وزير المالية في حكومة نتنياهو، حتى بدأ بتطبيق تلك الرؤية عملياً. ومن موقعه هذا، ابتكر زعيم "الصهيونية الدينية" وأحد مؤسسي منظمة "ريغافيم" (التراب الوطني)، عشرات الوسائل لتوجيه الموارد الحكومية نحو توطين المستوطنين وتوسيع نفوذهم على حساب الفلسطينيين وأراضيهم. فأسّس إدارة للمستوطنات، وسحب صلاحيات واسعة من "الإدارة المدنية"، التابعة للجيش الإسرائيلي والتي تدير أمور الفلسطينيين في الضفة. وبهذا القرار انتقلت السيطرة من الجيش إلى الحكومة المدنية في تخطيط المستوطنات وتوسيعها، في خطوة تمهيدية لفرض السيادة الإسرائيلية الفعلية على الضفة الغربية.
تعاملت إسرائيل مع المستوطنات منذ 1967 على أنها جزء من أرضها وليست مناطق احتلال مؤقت، وإن حاولت تجميل هذا الواقع قانونياً. فتحت إسرائيل خزائن وزاراتها وبلدياتها لدعم تلك المستوطنات، وجنّدت الأموال لتسهيل حركة المستوطنين وترسيخ وجودهم على الأرض والدفاع عنهم وتدريبهم وتسليحهم. بل فُضِّلوا في المِنَح والحوافز على المقيمين داخل إسرائيل. هناك على مشارف القدس تقع مستوطنة معاليه أدوميم، أكبر مستوطنة في الضفة الغربية، والتي تشكّل نموذجاً لما قد تصبح عليه المستوطنات مستقبلاً. بؤر بدأت ببضع خيام أو كرفانات، ثمّ توسّعت بفعل الضخ المالي والحوافز والمنح لتغدو مدناً تفوق مواردها موارد مدن مركزية في إسرائيل. ولا يمكن لتلك الرفاهية أن تتحق إلّا على حساب أصحاب الأرض الفلسطينيين الذين يأنّون من ضعف الخدمات وشحّ الموارد وتقطّع السبل بين بلداتهم والهدم والاستيلاء على ممتلكاتهم وتهجيرهم من أرضهم.


بعد أيام من توقيع وثيقة شرم الشيخ في سبتمبر 1999 لبدء مفاوضات على الوضع النهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين – والتي كان يفترض أن تحدد مستقبل الأراضي المحتلة ووضع القدس ومصير المستوطنات – زار رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ إيهود باراك مستوطنة معاليه أدوميم. ومن ثمّ قال متحدياً: "كل منزل بنيتموه هنا هو جزء من دولة إسرائيل إلى الأبد، نقطة على السطر. ستواصل الحكومة الجديدة تعزيز دولة إسرائيل وسيطرتها على أرضها، وسنواصل تطوير معاليه أدوميم وتعزيزها".
سمّيت معاليه أدوميم (أي مرتفعات الدم) نسبةً إلى الرواية التوراتية التي تقول إنّ المنطقة كانت مسرح صراع بين مملكتي يهوذا في الجنوب والسامرة في الشمال ما بين القرنين الثامن والعاشر قبل الميلاد. ويُقال أيضاً إن الاسم مشتق من لون صخورها الحمراء. كانت هذه المنطقة جزءاً من خطة إيغال ألون، وزير العمل في حكومة ليفي أشكول في الستينيات، وأحد مؤسسي منظمة الهاغاناه الصهيونية العسكرية، وهي المنظمة التي لعبت دوراً كبيراً في تأسيس إسرائيل سنة 1948 وشكلت بذرة الجيش الإسرائيلي. الخطة التي طرحها ألون في الأيام الأولى بعد احتلال الضفة الغربية في يونيو سنة 1967، نصت على تأسيس عدد من المستوطنات وسط الضفة لتمتد إلى منطقة الأغوار شرقاً، بهدف قطع التواصل بين الفلسطينيين، في حين تشكّل مستوطنات الأغوار حاجزاً بين الأردن والضفة.
في تعقيبه على فكرة تأسيس معاليه أدوميم، انتقد الوزير اليساري السابق يوسي ساريد، عندما كان عضو كنيست منتصف السبعينيات، طريقة العمل الإسرائيلية في إنشاء المستوطنات، وقال إنّ الأموال المخصصة للبناء "ستقتطع من حصص البلدات الفقيرة في إسرائيل". لكن ذلك لم يمنع دولة إسرائيل من توسيع الاستيطان على الأرض الفلسطينية. إذ إن إسرائيل غليلي، الوزير السابق في حكومتي ليفي أشكول وغولدا مائير، والمعروف بِاسم "أبو الاستيطان"، صاغ الخطة بحيث تكون معاليه أدوميم مخزناً للجيش في البداية، ثمّ تتحوّل إلى منطقة صناعية. فيما كتب إيغال ألون بصفته رئيس اللجنة الوزارية المكلفة بدراسة وضع القدس بعد الاحتلال صيف 1967: "جميع الوزراء يتفقون على أنّ المنطقة ستصبح مستوطنة حضرية"، وفق ما أورده المؤرخ الإسرائيلي غرشوم غورنبيرغ في كتابه "ذي أكسدنتال إمباير: إسرائيل آند بيرث أوف سيتلمنتس [. . .]" (الإمبراطورية العارضة: إسرائيل وولادة المستوطنات [. . .]) الصادر سنة 2006.
تحقق ذلك في أكتوبر 1972، حين أقام الجيش الإسرائيلي معسكراً تدريبياً في المنطقة، يعرف بِاسم معسكر "يشاي"، وما زال جزء منه قائماً إلى اليوم. يقع المعسكر شرق مدينة القدس على الطريق المؤدي إلى أريحا. وأعلن الجيش حينئذ إغلاق حوالي سبعين كيلومتراً من أراضي بلدات العيزرية وأبو ديس وعناتا والسواحرة شرقي القدس، كان جزء منها ملكاً للحكومة الأردنية إبان إدارتها الضفة الغربية بين 1948 و1967.
بعد عامين، حاولت مجموعات من حركة "غوش إيمونيم" (كتلة المؤمنين) اليمينية الدينية التي تأسست بعد حرب 1967، إقامة بؤر استيطانية في مناطق مختلفة من الأغوار والقدس الشرقية، لاسيما في وادي القلط وأريحا والخان الأحمر، لكن الحكومة الإسرائيلية أصدرت قراراً بإخلائها. لاحقاً، أسس أربعون مستوطناً من "غوش إيمونيم" بؤرة استيطانية من البيوت الجاهزة في المنطقة، لكنها أخليت سنة 1975 وبُني مكانها لاحقاً مدرسة دينية (يشيفا) تعرف بِاسم "تل المؤسسين".
في 31 مارس 1975، قررت الحكومة الإسرائيلية مصادرة ثلاثين ألف دونماً (الدونم في فلسطين يساوي ألف متر مربع) من أراضي العيزرية وأبو ديس وعناتا. وهي ثلاث قرى استُبعدت من قرار توسيع حدود بلدية القدس سنة 1967 رغم تبعيتها التاريخية للمدينة، لبناء مستوطنة تكون بمثابة مشروع منطقة صناعية (سمّيت لاحقاً "ميشور أدوميم") مع معسكر سكني للعمال.
ورغم التكلفة الباهظة لإنشاء البنية التحتية للمنطقة الصناعية، التي أنجز منها حتى نهاية 1975 نحو ستمئة دونم من أصل ألف وثمانمئة دونم، أسندت مهمة تطويرها لشركة القدس الاقتصادية المملوكة للحكومة الإسرائيلية. اعترف حاييم بارليف، وزير التجارة والصناعة آنذاك، في استجواب أمام الكنيست في فبراير 1977، أنه رغم وعود العديد من المستثمرين، لم تتقدّم أي شركة لإقامة مصانع في المنطقة. هذا الواقع أكّد ما خلص إليه الكاتب إلياهو إيغرز في مقاله المنشور سنة 1974 عن إنشاء المستوطنة، بعنوان "هتنخليوت فشمه معالي أدوميم" (مستوطَنة اسمها معالي أدوميم) بأنّ الهدف الحقيقي سياسي مغطى بغلاف اقتصادي. إذ أُنفق ستّون مليون جنيه إسترليني (حسب ما يورد المقال) فقط على تطوير الشارع الذي يربط المستوطنة بالقدس.
ولتحقيق الهدف السياسي، قررت الحكومة في أغسطس 1977، إضافة عدد من المستوطنات والمناطق الصناعية إلى قائمتها للمناطق "ذات الأولوية الوطنية" (عادةً على الأطراف أو بالقرب من الحدود)، لتتمتع بتسهيلات ومحفزات تطوير تفوق تلك الممنوحة للمدن الصناعية داخل إسرائيل. في الوقت نفسه، تقرر إنشاء مستوطنة حضرية بِاسم معاليه أدوميم. وفي 8 أغسطس 1979، وضع وزير الإسكان والبناء الإسرائيلي حينها ديفيد ليفي حجر أساس المستوطنة، وقال في كلمة أمام ألف شخص حضروا الفعالية إن "إنشاء مدينة معاليه أدوميم يمحو الخط الأخضر عن هذا الجزء من أرض إسرائيل، ويفتح مساحات جديدة لإقامة القدس ومحيطها". ووعد ليفي المستوطنين بأنهم سيكونون أول من يسكن الخمسة آلاف وحدة استيطانية التي تعهّد ببنائها في غضون الأعوام الثلاثة التالية. وتحقّق ذلك، إذ سلّمت الوزارة سنة 1982 أولى الوحدات لمستوطني سكن العمال، مع شرط أن يكون الراغب بالاستيطان ذا مهنة تؤهله العمل في أحد مصانع المنطقة الصناعية.
ولكي يتحقق ذلك وجب إزاحة السكان الفلسطينيين من المنطقة.


الأراضي التي صادرتها إسرائيل، وخططت وبنت عليها المدن الصناعية والأحياء الاستيطانية، ووزعتها على اليهود القادمين من كل فج، لم تكن كما صوّرتها "صحراء خالية". بل قامت على أنقاض مساكن الفلسطينيين البدو الذين طُردوا من النقب جنوب فلسطين إلى وسطها، وتحديداً إلى منطقة الخان الأحمر، ومن بينهم قبيلة الجهالين.
سكنت القبيلة المنحدرة من تل عراد في صحراء النقب، الأرض الممتدة بين أريحا والقدس، بعد أن رحّلت السلطات الإسرائيلية أفرادها من مناطقهم الأصلية سنة 1950. وعلى مدار العقود التالية، لاحقتهم في تلك المنطقة بذريعة وجود مناطق عسكرية مخصصة للتدريب. غير أنّ 80 بالمئة من تلك المناطق لم تُستخدم للتدريب، بل حُوّل 56.5 بالمئة منها إلى أراضٍ تابعة للدولة، لاستخدامها لاحقاً لبناء المستوطنات، وفقاً لتقدير منظمة "كيرم نابوت" الإسرائيلية في تقرير لها في مارس 2015 بعنوان "حديقة مقفلة، إعلان المناطق المغلقة داخل الضفة الغربية". لذلك، أقام جزء من قبيلة الجهالين قرى صغيرة بعقود قانونية على أراضٍ كانت تعود للحكومة الأردنية أثناء إدارتها الضفة، وأخرى يملكها فلسطينيون من قرى العيزرية وأبو ديس وعناتا.
يتذكّر عطا الله المزارعة في حديث للفِراتس، وهو من سكان منطقة جبل البابا من بلدة العيزرية، أنّ عمّه الذي كان يقيم في تل عراد في أحد الأبنية القديمة التي استخدمها الجيش العثماني خلال حكمه لفلسطين، رحّله الجيش الإسرائيلي بالقوة مع عائلته إلى أطراف العيزرية. لم يكن وحده في ذلك، إذ شملت عمليات الترحيل عدداً آخر من العائلات، وأقيمت مكان منازلهم الأحياء السكنية الجديدة. وتظهر صور محفوظة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية وأخرى في أرشيفات صحفية كيف حاصرت الأحياء الاستيطانية هؤلاء البدو على مدى عقود، قبل أن تجبرهم على الرحيل بعد أن هدمت الجرافات مساكنهم المصنوعة من الصفيح والخيام البالية.
كان البدو يشاهدون المستوطنة التي حصلت على لقب أول مجلس محلي في الضفة الغربية سنة 1979 وهي تكبر أمام أعينهم، وتوفر لمستوطنيها كل سبل الراحة والرفاه، على حساب تقلّص أراضيهم واندثار مصادر رزقهم. والمفارقة أنّ خطط الإسكان في معالي أدوميم استندت إلى النموذج نفسه الذي طُبّق في مدينة عراد بالنقب، حيث طُرد الجهالين إبان النكبة. وهو نموذج منح الأولوية لرب الأسرة الذي يكسب دخله من عمل مهني في أحد مصانع المستوطنة.
في مايو سنة 1990، قرر وزير الإسكان آنذاك أرييل شارون، توسيع مستوطنة معاليه أدوميم ثلاثة أضعاف، ببناء ألفين وخمسمئة وحدة استيطانية في المنطقة المسماة "إي 1" وضمها إلى المستوطنة. تقع هذه المنطقة بين شرق القدس ومعاليه أدوميم، وتبلغ مساحتها حوالي اثني عشر إلى ثلاثة عشر كيلومتراً مربعاً، ما يجعل البناء فيها يربط المستوطنة بالقدس الشرقية ويؤثر على الاستمرارية الجغرافية للأراضي الفلسطينية. وفي العام التالي، أمر وزير الدفاع حينها موشيه آرنز بضم جزء من المنطقة إلى المستوطنة.
في أكتوبر 1991، عشية محادثات مؤتمر مدريد للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أعلن وزير الداخلية آنذاك أرييه درعي، رئيس حزب "شاس" الديني لليهود الشرقيين، عن تحويل المستوطنة إلى مدينة، بحسب موقع البلدية. هذا القرار منح المستوطنة أفضلية في الحصول على التمويل من ميزانيات وزارة الداخلية والوزارات الأخرى في الحكومة، إذ أصبحت تُعامل كما لو كانت بلدية في إسرائيل. وكانت معاليه أدوميم بذلك أول مستوطنة في الضفة تتحوّل رسمياً إلى مدينة، وضمت حينئذ 15500 مستوطناً و3250 وحدة مأهولة، بالإضافة إلى ألف أخرى قيد الإنشاء ذلك الحين.
بعد فترة من توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير، والتي منحت الفلسطينيين حكماً ذاتياً في بعض أجزاء الضفة الغربية وغزة، وتحديداً في مايو 1994، وبينما بدأت السلطة الفلسطينية تبسط نفوذها في مدينة أريحا على بعد عشرين كيلومتراً من معاليه أدوميم، كانت إسرائيل تضع الأساس للقضاء على أي فرصة لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وذلك من خلال العمل على ضم منطقة "إي 1" بالكامل إلى المستوطنة.
وبإصرار على المضي في المخطط، ومع تضخّم المستوطنة أضعاف ما كانت عليه، عملت الإدارة المدنية الإسرائيلية على اقتلاع سكان المنطقة منها. في سنة 1997 مثلاً، عبثت بأنابيب الصرف الصحي لمستوطنة معاليه أدوميم وفتحتها باتجاه خيام البدو، فأغرقتها وأجبرت سكانها على الرحيل. ولاحقاً، على مدار عامين، لاحقت السلطات الإسرائيلية من تبقى منهم بالجرافات، ليقبل قسم منهم سنة 1999 الانتقال إلى منطقة يطلق عليها الجهالين اسم "الجبل"، تقع ضمن أراضي بلديّتَي العيزرية وأبو ديس، بالقرب من مكب نفايات. انتقل السكان من حياة بدوية بسيطة في الخيام بالصحراء إلى أجواء المدينة وتحوّلاتها العمرانية، واضطروا إلى تغيير مصدر رزقهم من الرعي إلى العمل في وظائف ومهن مختلفة، حسب ما يروي للفِراتس داود الجهالين، أحد السكان.
يقول الجهالين، المُكنى أبو عماد، إنّ عائلته أجبرت على الرحيل من منطقتها الأصلية في بئر المسكوب شرقي القدس، ليقام اليوم مكانها طريق وحاجز يؤديان إلى الأحياء الشمالية الشرقية من معاليه أدوميم بعد تصنيفها مدينة. ويضيف أنّ ما حدث لم يكن تهجيراً فحسب، بل تشتيت للعائلة أيضاً. إذ هُجّر قسم من أسرته – إحدى زوجتيه وأبناؤه منها – إلى ما بات يعرف باسم "الجبل"، فيما بقيت زوجته وأبناؤه الآخرون في المنطقة القريبة التي حافظت على اسمها القديم وهو "المسكوب".
يعيش أبو عماد ومن تبقى من أسرته نمط حياة بدوي يعتمد على الرعي. غير أنّ مساحة المراعي تقلّصت بفعل الأوامر العسكرية، التي تحاصره مع تجمعين بدويين آخرين في المنطقة، في حين تمتد أحياء المستوطنة فوق أراضي تلك التجمعات.
مثل أبي عماد، واجهت تجمعات بدوية أخرى المصير نفسه. إذ هجّرت سلطات الاحتلال تجمع "أبو نوار" القريب من "الجبل"، ليقام مكانه اليوم حي استيطاني يُعرف بِاسم "06"، يطلّ مباشرة على منطقة ترفيهية واسعة تضم حدائق وملاعب ومناطق للتسوق.
وعلى بعد مئة متر من هذا الحي المرفه، يقضي البدو أيامهم في شظف العيش. إذ يضطرون لطهي الطعام على النار في الأماكن المكشوفة، بلا مياه جارية أو طرق أو خدمات نظافة. وفوق كل هذا، تلاحقهم إخطارات الهدم من مكان إلى آخر. يضطر السكان للانتقال عشرين كيلومتراً لتلقي الخدمات الصحية، فيما يسافر أطفالهم إلى البلدات المجاورة لتلقي التعليم الذي تفتقر إليه تجمعاتهم، كما يؤكد أبو عماد.
المدرسة الوحيدة لتلك التجمعات تبرعت ببنائها منظمة الإغاثة الإيطالية "فينتو دي تيرا" (رياح الأرض) سنة 2009، مستخدمةً الإطارات والطين، لتخدم تجمّع الخان الأحمر أسفل التل الذي أقيمت عليه مستوطنة "كفار أدوميم"، التابعة لكتلة معاليه أدوميم. وتضم هذه الكتلة أيضاً مستوطنات ألون، نفيه برات، كيدار، ميتسبيه نيفو، وميتسبيه يهودا، إضافة إلى المنطقة الصناعية و"إي 1".
لكن الإدارة المدنية أمرت بهدم المدرسة بعد شهر واحد فقط من بنائها، بحجة قربها من الطريق السريع رقم واحد الذي يمتد من الأغوار حتى تل أبيب. غير أنّ الخطوات اللاحقة كشفت أنّ الهدف الحقيقي كان تهجير التجمّع بكامله. إذ أشار حكم المحكمة العليا الإسرائيلية سنة 2018، إلى أنّ سلطات الاحتلال عرضت نقل التجمع، وليس المدرسة، إلى منطقة النويعمة قرب أريحا، أو إلى منطقة الجبل بالقرب من مكب نفايات أبو ديس شرقي القدس. ومع أنّ دفاع الإدارة المدنية في البداية ركّز على قرب المدرسة من الطريق السريع وادّعاء غياب معايير السلامة، تحوّل الملف لاحقاً لتصنيف جميع بناء التجمّع، الذي استمر لأكثر من نصف قرن، على أنه غير قانوني.
وفي محاولة لتثبيت وجود التجمع القانوني وحمايته من الهدم، منحته السلطة الفلسطينية صفة هيئة محلية في 11 مايو 2018، بحسب تصريحات الخبير بشؤون الاستيطان في القدس خليل التفكجي للفِراتس. وبضغط شعبي وإعلامي دولي، منحت المحكمة فرصة للحكومة الإسرائيلية لتأجيل الهدم والتفاوض على حل قابل للتطبيق.
لم يطرح الاحتلال أبداً تطوير القرية لتصبح جزءاً من المنطقة "إي 1". وفي أغسطس 2025، أعلن سموتريتش الموافقة النهائية على بناء أكثر من ثلاثة آلاف وأربعمئة وحدة استيطانية في المنطقة، ما يهدد بفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها عبر ممر استيطاني يمتد من شرق القدس حتى أطراف مدينة أريحا. وإذا سارت الأمور وفق المخطط، فإنّ الجدار العازل سيلتف حول المنطقة كلها ليضمها نهائياً إلى إسرائيل.
بهذه الطريقة، تضخمت مستوطنة معاليه أدوميم، ليس فقط على حساب التجمعات البدوية المهدَّدة بالتهجير، التي تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن 85 بالمئة من سكانها لاجئون، بل تمتد لتسطو على مساحات واسعة من أراضي البلدات الفلسطينية المجاورة، مثل العيزرية وعناتا وأبو ديس. فقد قضم مخطط المستوطنة التنظيمي، البالغ حجمه ثمانية وأربعين ألف دونم، أكثر من نصف أراضي العيزرية، فيما صادرت إسرائيل سابقاً ثلاثين ألف دونم من عناتا لصالح كتلة معاليه أدوميم، ولم تُبْقِ لسكانها سوى حوالي 2 بالمئة من أراضيهم، بحسب ما قال رئيس بلديتها طه الرفاعي للفراتس.
وبذلك، أصبحت مساحة معاليه أدوميم أكبر من مساحة العيزرية المتبقية بسبع مرات، وأكبر من عناتا خمس عشرة مرة، وأضخم من أبو ديس بحوالي أحد عشر مرة. فيما يبلغ عدد سكان البلدات الثلاثة مجتمعة 70 ألف نسمة، مقابل 41 ألف مستوطن في معاليه أدوميم وحدها. الناتج هو تطوير المستوطنات وزيادة المساحات المسيطر عليها، وإن لم تُستغلّ بالكامل، مقابل محاصرة القرى والمدن الفلسطينية وتقليص مساحتها.


في قياسات تقديرية أجريناها باستخدام تطبيق "غوغل إيرث برو"، وجدنا أنّ المستوطنة مقامة على حوالي 11 بالمئة فقط من الأراضي التي صُودرت. وفي حين صادقت إسرائيل على مئات المخططات للمستوطنات، فإنها ترفض بشكل شبه كامل الطلبات الفلسطينية للبناء في المنطقة. فقد أحصينا 1632 قراراً منشوراً على موقع هيئة التخطيط الإسرائيلية، صادراً عن المجلس الأعلى للتخطيط واللجان اللوائية التابعة للإدارة المدنية حتى 12 سبتمبر 2025. لم تتضمن هذه القرارات والمنشورات أي مخطط أو قرار خاص ببلدة أو مدينة فلسطينية في المنطقة "إي 1". لكنها شملت 137 قراراً خاصاً بمعاليه أدوميم، تراوحت بين الموافقة على مشاريع طرق، وتعديل طبيعة استخدام الأراضي، وقرارات تتعلق بمخططات بناء وحدات استيطانية جديدة.
وتشير منظمة "السلام الآن" في تقرير لها صادر سنة 2021، إلى أن ثمانية وتسعين تصريح بناء فقط صدرت للفلسطينيين بين سنتي 2009 و2018 من أصل 4422 طلباً قُدّمت في المنطقة "ج". وتقع المنطقة "ج" تحت السيطرة الإسرائيلية أمنياً ومدنياً، وتشكل 61 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، وتقع منطقة "إي 1" من ضمنها. وكانت هذه التصاريح لأغراض السكن أو الصناعة أو الزراعة أو البنية التحتية. ويشكل ذلك ما نسبته 98 بالمئة من الطلبات التي رفضتها الإدارة المدنية.
تقول "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل" إنّ الأداة الأساسية التي تستخدمها إسرائيل لخنق التنمية الفلسطينية هي الامتناع عن إعداد مخططات تنظيمية. والحالات القليلة التي أعدّت فيها مخططات جديدة لقرى تقع في المنطقة "ج" لم تكن كافية، فإما حُصرت من ناحية المساحة أو شح مواد البناء أو غياب التطوير. وحسب ما يورد تقرير صادر عن منظمة "بمكوم" الإسرائيلية سنة 2008، فقد صُنّفت معظم الأراضي في المنطقة "ج" مناطق زراعية، مما يحدّ من البناء السكني، فيما ترفض معظم طلبات الحصول على رخصة بناء.
ومنذ سنة 2011، بادرت التجمعات الفلسطينية في هذه المنطقة، وبدعم من الاتحاد الأوروبي ووزارة الحكم المحلي الفلسطينية، بإعداد مخططات هيكلية تفصيلية خاصة بها، أُنجز منها 123 مخططاً حتى سنة 2021. لكن الإدارة المدنية رفضت 102 منها من أصل 109 مخططات قدمت للموافقة "رغم المستوى الفني العالي لهذه المخططات"، وبحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية الصادر سنة 2021.
هذه الإجراءات المتراكمة منذ 1967، أوصلت إلى سيطرة إسرائيل على 53 بالمئة من الضفة الغربية تحت عناوين متعددة، بدءاً من المناطق العسكرية المغلقة، مروراً بإعلانات أراضي الدولة، وصولاً إلى الاستيطان الرعوي. فضلاً عن سيطرة الاحتلال والمستوطنين على نحو 87 بالمئة من المنطقة "ج"، بحسب تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولم تكن هذه النتيجة لتتحقق لولا تدفّق الأموال الضخمة إلى شرايين البنى الاستيطانية.


اتبعت إسرائيل أساليب متعددة لتمرير الأموال إلى المستوطنات. بمجرد أن "تُشرعن" المستوطَنة، تخصص لها حصة من موازنات الوزارات المختلفة، وتُعامل كما لو كانت مدينة داخل إسرائيل. بل تُمنح معاملة تفضيلية تتضمّن مزايا وحوافز مالية لتشجيع المستوطنين على الانتقال إليها، حسب ما يوضح الباحث في مركز "مدار" الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية وليد حباس في حديثه للفراتس.
كانت أولى الوسائل التي استخدمتها إسرائيل تصنيف المستوطنات ضمن ما يُعرف بِاسم "مناطق الأولوية الوطنية". وهي سياسة اتبعتها تحت شعار تطوير المناطق الطرفية وفق معايير تشمل قربها من الحدود، والوضعين الاقتصادي والاجتماعي (بما في ذلك وجود الأقليات)، ومستوى المخاطر الأمنية. لكن الحقيقة، كما تقول الباحثة عوفرا بلوتش في بحثها حول هذه السياسة تحت عنوان "ناشونال برايورتي ريجنز [. . .] " (مناطق الأولوية الوطنية) المنشور سنة 2023، هي أنّ الأفكار الصهيونية كانت متأصلة ضمن هذه التوجهات التي تهدف إلى تشجيع الاستيطان اليهودي في "الأطراف الوطنية".
ضُمّت مستوطنة معاليه أدوميم إلى هذه القائمة بعدما فشلت في جذب المصانع إلى نواتها الأولى في المنطقة الصناعية "ميشور أدوميم". ووفقاً لعوفرا، صنّفت إسرائيل جميع المستوطنات في الضفة الغربية ضمن قائمة "البلدات ذات الأولوية الوطنية" حتى سنة 1993، مع بعض التعديلات الطفيفة في عهد حكومة حزب العمل بين 1993 و1996. فقد أزيحت بعض المستوطنات في تلك المدة من القائمة بما يتماشى على الأقل نظرياً مع استحقاقات اتفاق أوسلو. ولكن مع عودة اليمين الإسرائيلي إلى الحكم، توسّعت هذه السياسة لتضع المستوطنات في صلب الأولويات، إذ رُفعت بلدات وقرى عربية من القائمة وأضيفت لها تجمعات يهودية جديدة. ففي كلمته حين كان يرأس حكومة الليكود من 1996 إلى 1998، قال بنيامين نتنياهو إن حكومته عدّلت القائمة وفق مبادئها الأساسية "لمنح أهمية وطنية للاستيطان في النقب والجليل ومرتفعات الجولان ووادي الأردن والضفة الغربية، جزء من الأمن الإسرائيلي وإتماماً للصهيونية".
تضيف عوفرا أنه لاحقاً أُضيف معيار جديد لتصنيف المستوطنات مناطق ذات أولوية وطنية، وهو حداثة البلدة، ليشمل المستوطنات التي أُنشئت حديثاً في الضفة أو "شُرعنت" مؤخراً، ما عنى عملياً توسيع قائمة هذه المناطق. ومنذ سنة 2009، وخاصة في سنوات حكم نتنياهو العديدة من سنة 2012 إلى سنة 2021، أصبح تصنيف المستوطنات مجتمعات ذات أولوية وطنية، بغضّ النظر عن وضعها الاجتماعي والاقتصادي، وسيلة منهجية لتخصيص الأموال للمستوطنات.
وسّعت قائمة سنة 2018 الدعم المالي الممنوح للمستوطنات بشكل أكبر. إذ أضافت الحكومة معياراً لاستيعاب المستوطنات الأبعد والأحدث وضمّها لأحياء استيطانية كبرى لا تُعد تقنياً جزءاً منها، لكنها تقع على بعد كيلومتر واحد على الأقل عنها. وجاء ذلك بهدف شمول البؤر الاستيطانية القريبة من المستوطنات ضمن الدعم المالي.

تجلّى ذلك في سنة 2021، إذ حصلت مستوطنات الضفة الغربية على تفضيل واضح في معايير التصنيف، بهدف زيادة مخصصاتها من وزارة الخدمات الدينية. وتشير بيانات جمعناها وحللناها باعتماد المنهج الكمي التحليلي (بجمع البيانات بجداول إحصائية وتحليلها)، إلى تلقي المستوطنات قرابة واحد وثمانين مليون شيكل (حوالي اثنان وعشرون مليون دولار) منذ سنة 2011، ذهب حوالي 40 بالمئة منها (واحد وثلاثون مليون شيكل) لمستوطنة موديعين عيليت، وهي مستوطنة لليهود المتدينين غرب رام الله.
وتشير منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية إلى أنّ الحكومة، عند تطبيقها ميزانية الدعم المالي المناطقي لسنتَيْ 2021 و2023، خصصت ثمانية بنود من هذه الميزانية للمستوطنات، وثلاثة للبلدات المحاذية قطاع غزة، وبندَيْن للشمال والجنوب. ومع أنّ قرار الحكومة الحالية لاعتماد قائمة المناطق ذات الأولوية الوطنية يشير إلى تسع وثمانين مستوطنة في الضفة الغربية، فإنّ قائمة المناطق ذات الأولوية التي تنشرها وزارة البناء والإسكان أعلى من هذا الرقم. وبتحليلنا البيانات المتوفرة على موقع الوزارة، شمل قرار الأولوية الوطنية بتاريخ 10 سبتمبر 2023 مئة ومستوطنتين. يمثل هذا نحو 15 بالمئة من مجمل البلدات المدرجة في القائمة وعددها 688، ويخصص ربع المدرج ضمن الأولوية الوطنية لمستوطنات محافظة الخليل.

أما الامتيازات التي تحظى بها المستوطنات نتيجة تصنيفها ضمن مناطق الأولوية الوطنية، فيستفيد سكانها من عدة ميزات وإعانات، مثل شروط تفضيلية للرهن العقاري، وخصومات ضريبية مباشرة للسكان، ورواتب معلمين أعلى مدعومة بعقود شخصية أو منح مدرسية. وكذلك رسوم دراسية مدعومة لمراكز الرعاية النهارية، وتمويل للمراكز الطبية أو الثقافية أو المدارس، فضلاً عن تخصيص منح لبعض المناطق المدرجة داخل القائمة لأداء مهام محددة.
وتحظى بعض المناطق المصنفة ضمن هذه القائمة بدعم حكومي يتراوح بين 50 و70 بالمئة من تكلفة السكن والمشاريع التنموية، بحسب تقرير لمحكمة العدل الدولية في مايو 2023. وتشمل الحوافز منحاً وقروضاً ميسّرة، تصل في المناطق الحضرية إلى ما بين 60 ألفاً و190 ألف شيكل (18 ألف إلى 58 ألف دولار)، تمنح لتشجيع المواطنين على الانتقال إلى هذه المناطق والاستقرار فيها.
وتقسّم "مناطق الأولوية الوطنية" التي تعتمدها الحكومة الإسرائيلية عادةً إلى فئتين رئيسيتين: "أ" و"ب". وأحياناً إلى "أ1" و"أ2" و"ب"، بحسب مستوى الدعم والأولوية. وتحصل الفئة "أ" على أكبر قدر من الامتيازات الحكومية، وتشمل عادة المستوطنات أو المناطق التي تسعى الحكومة لتوسيعها أو تثبيتها إستراتيجياً. أما الفئة "ب"، فتُمنح مستوى دعم أقل نسبياً من الفئة "أ".
وكذلك يُعتمد في تحديد مستوى الدعم السكني المقدّم من وزارة الإسكان للمناطق المصنفة ضمن "مناطق الأولوية"، على نسبة انحدار الأرض التي سيقام عليها العقار. ولأن الغالبية العظمى من مستوطنات الضفة الغربية مقامة على الجبال والتلال، فلها أفضلية في الحصول على أعلى مستويات الدعم. إذ تحصل الوحدة الاستيطانية على دعم تطويري يعادل 50 بالمئة من تكاليف التطوير المقدرة للبناء المرتبط بالأرض في المناطق الحضرية، و70 بالمئة في المناطق الريفية. وتصل المبالغ المقدمة للوحدة الاستيطانية التي يتجاوز انحدارها 25 بالمئة إلى 189 ألف شيكل (58 ألف دولار) في المناطق الريفية، و114 ألف شيكل (35 ألف دولار) في المناطق الحضرية، وفقاً لموقع الوزارة.
ويحصل المستوطنون في المجموعة "ب" من المناطق ذات الأولوية الوطنية على 10 آلاف شيكل (3 آلاف دولار) لتغطية تكاليف التخطيط، وعلى 50 بالمئة من تكاليف "البناء المشبع"، وهو بناء أربع وحدات سكنية على كل دونم. إضافة إلى ذلك، تقدّم الوزارة مساعدات شخصية للمستوطنين، إذ يحصل الشخص الذي يقرر شراء شقة في هذه المناطق على ألف وخمسمائة نقطة أهلية (ائتمانية) للحصول على قرض، ثم يُمنح قرضاً بفائدة مخفضة تصل إلى 100 ألف شيكل (30 ألف دولار).
ومع أنّ معاليه أدوميم لم تدرج في قوائم وزارة البناء والإسكان الأخيرة، إلا أنّ الوزارة ساهمت في بناء خمسة آلاف وحدة سكنية ابتدائية في المستوطنة سلّمتها سنة 1982. كما حصلت بلدية معاليه أدوميم على نحو 60 مليون شيكل (20 مليون دولار) على شكل منح من الوزارة، خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2025، وفق البيانات التي حللناها بالاستناد إلى أرقام موقع "مفتاح الميزانية"، التابع لمنظمة "هاسدناه". والأخيرة منظمة غير ربحية تسعى لتوفير بيانات الميزانية الحكومية المفتوحة وتسهيل وصولها للجمهور.
وفي سنة 2018، أعلنت وزارة الإسكان، عن خطة لبناء عشرين ألف وحدة سكنية بميزانية تُقدّر بنحو 2.8 مليار شيكل (قرابة 860 مليون دولار) في معاليه أدوميم. وإلى جانب الوحدات السكنية الجديدة، ستنشأ أيضاً مؤسسات عامة وتعليمية. كما خصصت الوزارة 190 مليون شيكل (18 مليون دولار) لأغراض الترميم في المستوطنة.
وفي 11 سبتمبر 2025 عرض رئيس الحكومة نتنياهو، ووزير المالية سموتريتش، صورة موقّعة عن أول "اتفاقية سقف" في الضفة الغربية. واتفاقية السقف هي أداة تخطيط وتمويل مشتركة بين الحكومة الإسرائيلية والسلطات المحلية (وزارة البناء والإسكان، ووزارة المالية، وبلدية معاليه أدوميم)، وتعد أول خطوة تنفيذية لمخطط "إي 1" الذي يهدف إلى ربطِ معاليه أدوميم مباشرة بالقدس، ما يفصل شمال الضفة عن جنوبها، وعزلِ القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني.
تشمل الاتفاقية بناء 7606 وحدة استيطانية في المستوطنة، بتكلفة تصل إلى ثلاثة مليارات شيكل (حوالي مليار دولار). وتوفر اتفاقيات السقف التمويل المسبق من الحكومة، خصوصاً من وزارة الإسكان، لتطوير البنية التحتية والمؤسسات التعليمية والمباني العامة والحدائق ووسائل النقل الضرورية. بالإضافة إلى تسويق المشروع، وهو ما خصص له 420 مليون شيكل (130 مليون دولار) ضمن ميزانية المشروع، وفقاً لقسم مراقبة ميزانية الدولة.
وتضمن اتفاقيات السقف للسلطة المحلية، الوسائل والدعم الحكومي لإنشاء أحياء ضخمة تضم آلاف الوحدات السكنية. وهي ضمانات تسهم في دفع البنوك الإسرائيلية لتقديم الأموال الضخمة للاستثمار في تلك المستوطنات، كما تقول منظمة "هو بروفيتس" (من يستفيد)، الإسرائيلية غير الحكومية التي تلاحق البنوك المتورطة في دعم الاستيطان في تقرير لها سنة 2017.
في المقابل، تحتسب تكاليف البناء في إسرائيل بالنسبة للمباني العامة والبنية التحتية عبر الدولة، بينما تتحمّل الشركة المطورة للأحياء تكاليف المباني السكنية. وهنا تكمن أهمية التسهيلات التي تمنحها الوزارة، سواءً من خلال تطوير البنية التحتية بموازنة الحكومة، كما يحدث في المستوطنات، أو عبر خفض قيمة الأرض التي استولت عليها إسرائيل من أصحابها من دون مقابل، ومنحها امتيازات الأولوية الوطنية. هذه الإجراءات تقلل من تكلفة الشراء وتشجّع المستوطنين على الانتقال للعيش في المستوطنات.
وتشير البيانات التي جمعناها وحللناها من موقع "مفتاح الميزانية"، إلى أنّ ما مجموعه نحو 320 مليون شيكل (120 مليون دولار) قُدّمت من دائرة أراضي إسرائيل وقسم التسوية (المسؤول عن تقسيم الأراضي وتحديد حقوق الملكية وتوزيعها)، لسِتٍّ وعشرين مستوطنة ومجلس مستوطنات على شكل منح. وإذا أضفنا إليها بقية الحوافز الضريبية، مثل الإعفاء من ضريبة التحسين وتسهيلات العمل وحوافز التعليم والبنية التحتية المرفهة، فإنّ تلك العوامل مجتمعة تدفع كثيراً من المستوطنين للعيش في هذه المناطق، طمعاً في الرفاه. وهو ما يعبّر عنه مستوطنون من معاليه أدوميم، في مقابلات أجراها مع عدد منهم الباحث الإيطالي ماركو أليغرا، ضمن مقالة نشرت في المجلة الأكاديمية البرتغالية "إتنوغرافيا" سنة 2019 بعنوان "ذي سيتلمنت أوف معاليه أدوميم إز أي سابربن سيف سبيس" (مستوطنة معاليه أدوميم مكاناً آمناً في الضواحي). ويتناول أليغرا في مقاله كيف تحوّلت معاليه أدوميم إلى ما يشبه ضاحية أمنية إسرائيلية، حيث يعيش السكان لأسباب يومية واقتصادية أكثر مما هي دوافع عقائدية.
ويوضح تحليل البيانات الذي أجريناه لآخر خمسين صفقة شراء لشقق سكنية، بحسب صفحة سلطة الضرائب في إسرائيل، لكل من معاليه أدوميم وتل أبيب، أن متوسط سعر المتر المربع في معاليه أدوميم يبلغ 15771 شيكل (4854 دولار)، أي أقل بحوالي 70 بالمئة مقارنة بسعره في تل أبيب الذي يصل إلى 51577 شيكل (15875 دولار).
في الوقت نفسه، وبالإضافة للدعم الحكومي والمجالس المحلية، تعمل مؤسسات وجمعيات تشجع الاستيطان في الضفة الغربية على دعم المستوطنين وتمويلهم، كما يتبين في تحقيق الفراتس المنشور في يونيو 2025 بعنوان "الصدقة القاتلة: كيف تتحول تبرعات الأمريكيين وسيلة لتمكين الاستيطان في فلسطين".
وبما أنّ الوزارات يمكنها تحديد المناطق ذات الأولوية الوطنية، ظهرت معاليه أدوميم في قائمة وزارة التربية والتعليم، ما يمنحها معاملة خاصة في ما يتعلّق بمنح عقود للمعلمين الذين يلتزمون بالعمل أو الإقامة فيها لمدة تتراوح بين ثلاثة وأربعة أعوام. مع حصولهم على منحة تصل إلى 70 بالمئة من رواتبهم، وقد تصل إلى 120 ألف شيكل سنوياً (37 ألف دولار). هذا من دون احتساب المنح التي تقدمها الوزارة لبناء المدارس والحدائق وتبريد الصفوف.
قدمت لمعاليه أدوميم 110 ملايين شيكل (33 مليون دولار) مِنَحاً بين 2011 و2025 فقط، حسب موقع "مفتاح الميزانية". كما تموّل الدولة بالكامل مصروفات التعليم في كل المستوطنات، بما يشمل رواتب المعلمين والاستهلاك والتطوير، وفق ما يوضح الباحث الفلسطيني في مركز "مدار" وليد حباس في حديثه للفراتس.
كذلك، حسب تقرير لمنظمة "السلام الآن" نشر سنة 2009، أدرجت المنطقة الصناعية "ميشور أدوميم" إلى معاليه أدوميم ضمن قائمة وزارة الاقتصاد والصناعة للمناطق ذات الأولوية الوطنية، ما يمنح الشركات والمصانع فيها أيضاً منحاً وإعفاءات ضريبية للصناعة. كذلك يمنحها دعماً لأصحاب العمل والمؤسسات المتعثرة، وتطويراً للبنية التحتية الصناعية. هذا بالإضافة إلى منح لنفقات البحث والتطوير، ومنح أفضلية لتمويل حاضنات التكنولوجيا (الشركات الكبيرة التي تنمّي وتدعم شركات التقنية الناشئة).
وتحصل المصانع في هذه المناطق، بحسب التقرير نفسه، على منحة بنسبة 24 بالمئة على الأصول الثابتة مثل المعدات والمباني الجديدة. وإذا تجاوز الاستثمار 140 مليون شيكل (43 مليون دولار)، تكون المنحة 20 بالمئة. كذلك تُعفى المصانع من ضريبة الشركات خلال العامين الأولين، ويُخفّض معدّل هذه الضريبة بنسبة 25 بالمئة لخمسة أعوام إضافية، ويمكن الحصول على إعفاء كامل لعشرة أعوام. كذلك، تحصل المصانع على منحة حكومية بنسبة 60 بالمئة من نفقات البحث والتطوير، وإعفاء من مزايدة الأرض، وخصم بنسبة 69 بالمئة من قيمة الأرض، بحيث يدفع المشترون 31 بالمئة فقط من سعرها.
أما الشركات، فلا تقلّ المنح فيها عن تلك الممنوحة للمصانع. إذ تحصل على دعم بنسبة 15 بالمئة من متوسط تكلفة راتب الموظفين الجدد الشهري، بحدّ أقصى قدره 120 ألف شيكل (33 ألف دولار) للموظف، شريطة أن يكون الموظفون من سكان منطقة ذات أولوية وطنية. وفي تقرير مركز "ماكرو" الإسرائيلي للاقتصاد السياسي الصادر سنة 2015، تقدّر المنافع الضريبية السنوية الممنوحة للشركات في الضفة الغربية، بموجب "قانون تعزيز الاستثمارات الرأسمالية"، بنحو 18 مليون شيكل (6 ملايين دولار).
كل هذه الأموال، ضمن بند المناطق ذات الأولوية الوطنية، تمنح المستوطنات امتيازات خاصة، إلى جانب منح إضافية تُخصص لبلديات المستوطنات. فوفق تحليل البيانات الذي أجريناه بالاعتماد على موقع "مفتاح الميزانية"، حصلت ستّ وعشرون مستوطنة أو مجلس مستوطنات في الضفة الغربية بين 2011 و2025، على نحو 19 مليار شيكل (6 مليارات دولار)، منها 852.5 مليون شيكل (230 مليون دولار) لمعاليه أدوميم. وهو تمويل جاء من تسع وأربعين وزارة وهيئة حكومية. وأكثر تلك المنح قُدمت من وزارة الداخلية بنسبة 77 بالمئة، تليها وزارة التربية والتعليم بنسبة 15 بالمئة، ثم وزارة الإسكان، ثم وزارة الشؤون الاجتماعية التي توزّع منحاً أغلبها مخصص للرعاية النهارية للموظفين.


هذا الواقع المالي غير المتكافئ لا يقتصر تأثيره على الضفة الغربية فحسب، بل ينعكس أيضاً داخل إسرائيل نفسها. ويتجاوز التمييز الممنهج ضد البلدات العربية الفلسطينية تاريخياً، ليطال أطيافاً من المجتمع اليهودي أيضاً.


ذكر تقرير صادر عن مركز الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست سنة 2018، أنّ المجالس الإقليمية للمستوطنات في الضفة الغربية تحصل على ربع التمويل الحكومي، مع أنها تمثل 5 بالمئة فقط من المجالس الإقليمية الأخرى داخل إسرائيل. وتشير بيانات موقع "مفتاح الميزانية" إلى أنّ 19 مستوطنة من أصل 25 شملها التحليل اعتمدت على التمويل الحكومي في أكثر من نصف متوسط إيراداتها خلال المدة بين 1999 و2022. فيما تجاوزت نسبة الإيرادات الحكومية في ثلاث عشرة منها 60 بالمئة، وفي سبع مستوطنات أكثر من 70 بالمئة. في حين بلغ متوسط إيرادات مستوطنة معاليه أدوميم من الحكومة أكثر من 40 بالمئة.
يبرز هذا التمويل مثلاً في المنح المقدمة للتعليم الاستيطاني الذي يتبع قسماً خاصاً في وزارة التعليم الإسرائيلية. فقد أنفق هذا القسم خلال المدة بين 2019 و2021 نحو 80 مليون شيكل (24.6 مليون دولار) على مختلف المناطق. وفي المدة ما بين 2011 و2015، كان نصيب معالي أدوميم من تمويل التعليم الاستيطاني 240 ألف شيكل (74 ألف دولار).
يدعم هذا القسمُ المعاهدَ الدينيةَ والزراعيةَ المنتشرة في عدة مستوطنات، والتي يتبنى كثير من حاخاماتها أفكاراً متطرفة تدعو إلى "تطهير البلاد" من الفلسطينيين. منهم مثلاً الحاخام إليعازر كشتيل، رئيس أكاديمية بن ديفيد في مستوطنة بيت إيل قرب رام الله، الذي سُرّبت عنه تصريحات وصف فيها "العرب" بأن لديهم "عيوباً جينية [وراثية]" تجعلهم "عنيفين وأغبياء"، وأنه من "الأفضل لهم أن يكونوا عبيداً لليهود".
كذلك فإن خريجي بعض هذه المعاهد الدينية ينتمون إلى مجموعات تهاجم الفلسطينيين في الضفة الغربية. ومن أبرزها مدرسة "يَشيفا عود يوسيف حاي" (المدرسة الدينية يوسف الحي)، التي اشتهر اثنان من حاخاماتها بكتاب "توراة الملك"، الذي يبيح قتل الأطفال الفلسطينيين بدعوى "خطرهم المستقبلي". ووفق صحيفة هآرتس، تلقت المدرسة الثانوية التابعة لليَشيفا (المدرسة الدينية) من وزارة التعليم 468 ألف شيكل (144 ألف دولار) سنة 2009، في حين حصلت اليَشيفا نفسها على 847 ألف شيكل (260 ألف دولار).
لا ينتهي الأمر عند تمويل التعليم، فعدم التكافؤ بين ساكني المستوطنات وداخل إسرائيل يظهر أيضاً في مستوى الدخل العام للفرد. تطهر بيانات المؤشر الاقتصادي والاجتماعي للسكان في الوحدات الجغرافية، الصادرة عن مركز الإحصاء الإسرائيلي لسنة 2021، أن متوسط الدخل الشهري للفرد في معاليه أدوميم بلغ 6957 شيكل (2140 دولار). وهو أعلى من المتوسط العام في إسرائيل البالغ 6611 شيكل (2034 دولار). ويُظهر تصنيف المستوطنة الاقتصادي أنّ مستوى دخل الفرد فيها يفوق مدناً إسرائيلية رئيسة مثل نتانيا وإيلات وأشدود وعسقلان، إذ تحتل المرتبة 99 من أصل 150 بلدية، ضمن المجموعة المتوسطة العليا.
في المجمل، ووفقاً لتحليل البيانات، شمل المؤشر الاقتصادي والاجتماعي عشرين مستوطنة تُعد بلديات مستقلة (من دون احتساب المستوطنات التي لا تتمتع بهذا التصنيف). وأظهر التحليل أن أربعاً من هذه المستوطنات سُجّل فيها متوسّط الدخل الشهري للفرد أعلى من مدينة تل أبيب، العاصمة السياسية والاقتصادية لإسرائيل. كذلك تبيّن أنّ مستوطنة هار أدار شرق القدس صُنّفت ضمن المجموعة التاسعة، وهي ثاني أعلى فئة في التصنيف الاجتماعي الاقتصادي، متفوّقة بذلك على جميع المدن الإسرائيلية الرئيسية.

ويشير تقرير صادر عن منظمة "السلام الآن" في فبراير 2024، إلى أنّ الحكومة الإسرائيلية خصصت في ميزانية سنة 2024 نحو 737 مليون شيكل (حوالي 226 مليون دولار) من أموال الائتلاف لصالح المستوطنات. بالإضافة إلى 409 ملايين شيكل (126 مليون دولار) لتطوير المناطق الأثرية، وتمويل جمعية "إلعاد" الاستيطانية التي تسيطر على عدد من الممتلكات الفلسطينية في القدس، وتعمل على تطوير البلدة القديمة فيها. كذلك خُصص مبلغ 3.6 مليار شيكل (1.11 مليار دولار)، لتطوير شبكة المواصلات بين المستوطنات وداخل إسرائيل، في إطار خطة لتمكين استيطان مليون مستوطن في الضفة الغربية بحلول سنة 2035، وفقاً لتصوّر سموتريتش. وتشمل الميزانية أيضاً 85 مليون شيكل (26.1 مليون دولار) لدعم البؤر الرعوية (المستوطنات الرعوية) غير القانونية.
وتوضح منظمة "السلام الآن" أن هذه الميزانيات تمثل جزءاً صغيراً فقط من الأموال المخصصة لتطوير المستوطنات. إذ إن العديد من الأموال الإضافية لا تظهر بنوداً مخصصة لمناطق محددة، ولا يمكن التحديد مسبقاً مقدار ما سيُخصص للمستوطنات وفي مقابل ما سيُخصص لبقية أنحاء البلاد. كذا فإنّ هذه الميزانية لا تشمل المخصصات الجارية لصيانة جميع المستوطنات، ولا التكاليف الباهظة للحماية الأمنية لمئات الآلاف من المستوطنين المنتشرين في الضفة الغربية.
وبفحص ميزانيات الوزارات واحدة تلو الأخرى، لم نعثر على بنود خاصة تحدد المستوطنات مكاناً للإنفاق، وهو ما قد يشير إلى أن إسرائيل تعامل هذه المستوطنات جزءاً من حدودها. وتعبّر بلدية معاليه أدوميم عن هذا بوضوح على موقعها الإلكتروني بالقول: "تخضع معاليه أدوميم للقانون الإسرائيلي بموجب أوامر عسكرية، وجيشُ الدفاع الإسرائيلي هو صاحب السيادة في المنطقة. في الحياة اليومية، لا يُشعر بهذا الوجود، وسكان المدينة مواطنون إسرائيليون يتمتعون بالحقوق والواجبات نفسها".
في مقابل هذه الأرقام، ترزح البلداتُ المجاورةُ المستوطناتِ تحت ضغط شديد، يتمثّل في تقلّص المساحات وضعف الميزانيات وشح الموارد والحصار الذي يكاد يطبق عليها من جميع الجهات. ولتوضيح الفارق، فإنّ إيرادات معاليه أدوميم تتجاوز مجموع ميزانيات القرى الأربع المحيطة بها (عناتا، العيزرية، أبو ديس، الزعيم) بمقدار 13.6 مرة، مع أن عدد سكان تلك القرى يفوق عدد سكان المستوطنة بمقدار الضعف.
ولا تتوقف المستوطنة عند هذا الحد من الاستحواذ على إمكانيات القرى المجاورة. فآخر ما بدأ تنفيذه هو ما يُعرف بشارع "شريان الحياة" أو "شارع السيادة" كما يسميه الإسرائيليون، فيما يطلق عليه الفلسطينيون "شارع الفصل العنصري". ففي سنة 2020، قرّر نتنياهو إنشاء شارع يفصل الفلسطينيين عن المستوطنين الذين يسلكون الطريق نفسه، من مدخل مستوطنة معاليه أدوميم شمالاً باتجاه قرية الزعيم على الطريق المؤدي للقدس، بحيث يتجه الفلسطينيون يميناً نحو رام الله، بينما يكمل المستوطنون طريقهم عبر حاجز الزعيم إلى القدس.
لكن الفكرة لم تتوقف على هذا، إذ تطوّرت لاحقاً خطة لفصل الفلسطينيين نهائياً، بحيث لا يمرون من مدخل المستوطنة، بل يتجهون يساراً عبر أراضي العيزرية، وصولاً إلى أسفل نفق الزعيم العيسوية، مروراً بجانب الجدار إلى عناتا ثم رام الله. ويهدف هذا المخطط إلى ضم الطريق السابق ضمن مخطط "إي 1"، ونقل الحاجز شرقاً، لتُضم كتلة معاليه أدوميم حتى حدود محافظة أريحا خلف جدار الفصل. وهو ما يؤدي إلى فصل شمال الضفة عن جنوبها إلا من خلال هذا الشارع، ما يضمن انسيابية حركة مستوطني معاليه أدوميم نحو القدس.
في المقابل، تبقى قرى العيزرية وأبو ديس محاصرة من ثلاث جهات عدا الجهة الجنوبية، فيما تبقى عناتا وشعفاط والرام محاصرة من ثلاث جهات عدا الشمال. وخُصص لهذا الشارع مبلغ 330 مليون شيكل (100 مليون دولار) في مارس الماضي.
ما يحدث في معاليه أدوميم عبارة عن ضم مساحات شاسعة مقابل حشر البلدات الفلسطينية التابعة للقدس في ما يشبه "القنينة"، كما وصفها رئيس بلدية عناتا طه الرفاعي في حديثه للفِراتس. وفوق ذلك، فإن مستوطنة أرئيل المقامة على أراضي سلفيت، والتي تحتضن أول جامعة استيطانية في الضفة الغربية، تفوق إيراداتها السنوية من منح الوزارات الحكومية وحدها ما يجمعه مجمل قضاء سلفيت وقراه من إيرادات سنوية بـما يعادل 3.7 مرات. وذلك وفقاً لمقارنة أجريناها استناداً إلى بيانات منشورة عن المنح التي تلقتها أرئيل، ومقارنتها مع إيرادات الهيئات المحلية من منصة الموازنات على موقع وزارة الحكم المحلي الفلسطينية.


ليست معاليه أدوميم استثناءً، بل نموذجاً لآلية ضمّ تتوسّع تحت غطاء القانون والميزانية، تقاس فيها السيادة بالإنفاق لا بالجغرافيا. فكل شارعٍ جديد، وكل إعفاءٍ ضريبي، وكل شبكة مياه تُمدّ إلى المستوطنات، تقابلها مساحات فلسطينية تُخنق وتُفصل عن محيطها. ومع استمرار ضخّ المليارات في جيب المستوطنات، يتحوّل "الضم المالي" إلى واقعٍ يسبق أي مفاوضات سياسية أو خرائط رسمية. إنها سياسة استيطان تتخذ من الحسابات الحكومية أداة للهيمنة، ومن الأرقام طريقاً للجرافات، لتفرض ضمّاً بلا إعلان، واحتلالاً يبدو على الورق "تنميةً"، بينما هو في الحقيقة خنقٌ محسوبٌ بالشيكل.

اشترك في نشرتنا البريدية