يظهر مشهد نورة وعمّتها اهتمامَ الفتيات المَهْرِيّات بالزينة التقليدية. لكنّ هذه الصناعة تواجه تحدّياتٍ وجوديةً في السنوات الأخيرة. إذ تنامت منذ 2011 ظاهرة استيراد نسخٍ مقلّدةً من الصين تباع بأسعارٍ زهيدة. يخبرني مسلم عويض، صاحب ورشة فضّةٍ في مديرية الغيضة بالمهرة، قائلاً: "الشباب يفضّلون الملابس الجاهزة. حتى العرائس أصبحن يطلبن فساتين غربيةً مع تطريزٍ بسيط". تشهد سوق السياحة الثقافية نموّاً ملحوظاً، كما يقول سعد مسلم كلشات، مسؤول وحدة التوثيق في مركز اللغة المهرية بجامعة المهرة، إذ يقتني الزوّار القطعَ التراثيةَ تحفاً فنّيةً، ممّا دفع بعض العائلات لإحياء حِرَفٍ كانت على وشك الاندثار.
لكن تبرز محاولاتٌ فرديةٌ لإنقاذ التراث بالتعليم. تقود نورة مبادرةً لتعليم الفتيات فنون التطريز في مركزٍ مجتمعيٍّ، مستخدمةً منصّات التواصل الاجتماعي لنشر فيديوهاتٍ تعليمية. تقول للفِراتْس: "الأمّهات كنّ ينقلن المعرفة بالملاحظة، لكن الجيل الجديد يحتاج لطرقٍ مختلفة".
تخوض نورة ومثيلاتها من نساءٍ كثيراتٍ في المهرة صراعاً يومياً دفاعاً عن تراثهنّ المادّي وصناعة الزينة التقليدية. فتتحول الإبرة والخيط، والفأس الصغيرة التي تنحت الفضة، إلى أدوات مقاومةٍ في وجه زحف العولمة. وتكشف دراسة الأزياء المهرية عن صراعٍ خفيٍّ بين ثنائياتٍ متعارضة: الالتزام بالموروث والانفتاح على الحداثة، المحلية والعالمية، البساطة والتعقيد. فبينما تحافظ القرى النائية على تقنيات النسيج اليدوي في الأزياء المهرية باستخدام سعف النخيل والأصباغ النباتية، تتبنّى مراكز المدن خاماتٍ مستوردةً مع الحفاظ على التصميمات التقليدية. هذه الآلية تعكس استراتيجيةً ذكيةً للتعامل مع العولمة، إذ يستوعب المجتمع المواد الحديثةَ دون التخلّي عن الهوية البصرية. يظهر هذا جليّاً في تحوّل بعض الحِرَفيات إلى دمج الخرز البلاستيكي مع الفضة في التطريز، فيخلقن تناغماً غير متوقعٍ بين التراث والحداثة.
يعزو كثيرون هذا التمايز في الأزياء المهرية إلى عزلة المنطقة الجغرافية نسبياً، مما سمح بتطورٍ ثقافيٍّ مستقلّ. لكن اليزيدي يرى أسباباً أعمق في تمايز الأزياء المهرية. فقد أخبرني في لقائي معه أن "المرأة المهرية لم تكن مستهلِكةً للتراث، بل منتِجة له. دورها كحارسةٍ للذاكرة الجماعية منحها مساحةً لإعادة ابتكار التراث بلغةٍ معاصرة. فالتحليلات الأنثروبولوجية [من عِلم الإناسة] تكشف عن بعدٍ سياسيٍّ خفيٍّ في هذه الممارسات". ويذكر اليزيدي أنّه، في ظلّ تهميش المنطقة تاريخياً، تحولت الأزياء إلى وسيلةٍ غير مباشرةٍ لتأكيد الهوية المهرية. يظهر هذا في العمدية الواضحة لاستخدام رموزٍ محلّية بحتة، كالفضة المستخرجة من الطبيعة بدلاً عن الذهب الذي يرمز للثراء في المناطق الأخرى. حتى أسماء قطع الحليّ، مثل "الخصوص" و"المحزم"، تحمل دلالاتٍ لغويةً من لغةٍ مهريةٍ قديمةٍ تكاد تندثر.
يرى اليزيدي أن تفاصيل الأزياء المهرية تشكّل نظاماً رمزياً متجذراً في اللاوعي الجمعي، فيقول: "الزيّ المهري هو سيرةٌ ذاتيةٌ مطرّزة. كلّ غرزةٍ تحمل ذكرى. وكلّ لونٍ يروي فصلاً من تاريخٍ قبليٍّ عريق". تتحقق هذه الرؤية عند تأمّل "المحزم"، الأساور الحمراء المصنوعة من عقيق الجبال التي تزداد سماكةً مع تقدّم العمر، فتصبح سجلاً بصرياً لمراحل العمر المختلفة. حتى أدوات الزينة نفسها تحمل أبعاداً وجودية. فالخصوص المطعَّم بالكهرمان لا يزيِّن الجبهة فحسب، وإنما يربط الحاضر بماضي تجارة اللّبان. فهي التجارة التي جعلت من المهرة محطةً رئيسةً على طريق البخور القديم الذي كان يمتد من سلطنة عمان مروراً إلى عدن حتى يصل إلى الشام.
تبدأ حكاية الأزياء المهرية التقليدية من الرأس، الذي يُعَدّ دليلاً لمعظم الإشارات الثقافية. فمثلاً، ثوب "الصمادة" الأسود المُصَبَّغ بالنيل والمثقوب بفتحاتٍ صغيرةٍ، يظهِر تمازجاً بين الوظيفة والجمال. فثقوب الصمادة تسمح بتهوية الرأس تحت أشعة الشمس الحارقة. وتختلف طريقة ارتدائه بين الفئات العمرية. فالكبيرات يستخدمن لتثبيته "العِقام"، وهي سلاسل وعقدٌ صغيرةٌ من الصوف. بينما ترفض الشابات هذه الإضافة، ربما تعبيراً عن رغبةٍ في البساطة أو تحرّرٍ من القيود الرمزية. أمّا "الكُمّة الشبكية"، المصنوعة من الصوف والمزينة بشرائط جلديةٍ مجدولةٍ وقطعٍ فضّيةٍ تُعرف بالنجوم، فتجسّد ثراءً بصرياً يعكس المكانة الاجتماعية. فتُزيَّن بصفائح معدنيةٍ أو عملاتٍ نقديةٍ ممّا يحوّلها إلى لوحةٍ تحمل دلالاتٍ اقتصاديةً توضّح الطبقة الاجتماعية لمرتديتِها.
لا تنفصل رموز الزينة والأزياء المهرية عن وظيفتها العملية. فثوب الغشوة الرقيق من القطن أو الحرير الذي يغطّي الوجه والصدر لا يقتصر على إخفاء الملامح، بل يُعدّ أداةً لتنظيم التفاعل الاجتماعي. إن تغطية الوجه بالكامل مع إمكانية استخدام طبقتين للغشوة يخلق توازناً بين ثنائيتَيْن متجذّرتَيْن في الثقافة المهرية، هما الالتزام الديني والاجتماعي، والتعبير عن الذات. أما عباءة "الغفنة" فتبرز تحوّلاً في الأدوار الاجتماعية، إذ لا تلبسها بنات المدن بعد البلوغ لأنّها قد تقلّل من حركتهن، ممّا يحدّ من تفاعلهن مع الرجال.
ترتبط هذه الأزياء المهرية بعاداتٍ وتقاليد قديمةٍ سُنَّت وفُرِضَت حتى أصبحت أشبه بقانونٍ إلزاميٍّ في المجتمع. فمثلاً لحاف "النقبة" الشفاف المصبوغ بالنيل لا ترتديه الفتيات قبل الزواج. ولهذا يشير إلى رمزية الزواج عتبةً اجتماعيةً تمنح شرعيةً لارتداء قطعٍ محدّدة. بالمقابل تظهر "الغموص"، وهي الكُمّة السوداء للصغيرات، كيف يُستخدم اللون والتصميم لتمييز الفئات العمرية. إذ يحدِّد طول الثوب حتى الصدر أو أوّل الظهر، مرحلةَ نموّ الفتاة وكيف يرى المجتمع جسدها.
تكثر أغطية الرأس في الأزياء المهرية، ولكلٍّ منها وظائفه العملية والاجتماعية. ولأنّ المجال لا يسع الحديث عنها جميعاً، يمكن الانتقال إلى الثوب. وهنا يظهر ثَوْبَا "أبو ذَيْل" و"البِرْكالية"، إذ يشكّلان نسيجاً مركّباً من الوظائف العملية والرموز الاجتماعية والدلالات التاريخية التي تجاوزت أغراضَها الجماليةَ المباشرة.
يمثِّل ثوب أبو ذيل حالةً فريدةً لتحوّل الأدوات الحربية إلى رموزِ هويّة، إذ تعود جذوره إلى المدّة ما بين مطلع القرن الخامس عشر وسنة 1577. وهي الحقبة التي شهدت اشتعال صراعاتٍ قبليةٍ داخليةٍ بين عشائر المهرة، وتصادماً خارجياً مع قبائل وافدةٍ من حضرموت. زِد على ذلك التهديدات البرتغالية التي طالت سواحل سقطرى كما ورد في كتاب "دور المهرة في مقاومة الغزو البرتغالي" للكاتبة نورا بن معيلي الصادر سنة 2021. آنذاك ظهر ثوب أبو ذيل أداةً حربيةً وفقاً لسعد مسلم كلشات، الذي يقول إنّ قصّة الثوب تتوارثها الأجيال. يشير سعد: "إنّ تصميم الثوب لم يكن مجرّد مسألةٍ جماليةٍ، بل أداة تكتيكية ذكية: الذيل الطويل الذي يلامس الأرض كان يُستخدم لإخفاء آثار أقدام المقاتلين، بينما القصّة الأمامية المثلثة القصيرة سمحت بحرية الحركة خلال يوميات الحياة. هكذا تحوّلَ الثوب من أداة حربٍ إلى ذاكرةٍ من النسيج تحمل في طيّاتها سردية المقاومة والبقاء".
لم تكن الموادّ الخام المستخدمة في صناعة ثوب أبو ذيل بعيدةً عن هذه الحكاية. فاختيار المخمل والحرير لم يكن لإضفاء الزينة وحسب، وإنما لضمان متانةٍ تتحمل ظروفَ التنقل في الصراعات. أمّا صباغة الثوب بالنيلة، فتجسّد تفاعلاً معقداً بين المعتقدات الشعبية والاحتياجات العملية. وكانت الزرقة التي يضفيها الثوب على البشرة ترسم تمويهاً طبيعياً في ظروف الإضاءة الخافتة، ممّا يضيف بعداً آخَر لوظيفته الأصلية في التخفّي. ويضيف كلشات: "ولاتزال المهريات حتى اليوم يعتقدن بقدرته على درء الأمراض والأرواح الشريرة".
مع تراجع الحروب القبلية خضع ثوب أبو ذيل لعملية إعادة تأويلٍ ثقافيةٍ، فحوّلته النساء من أداةٍ مرتبطةٍ بفضاء الذكورة العسكري إلى رمزٍ للأنوثة المهرية المتجذّرة. أصبح الذيل الطويل علامةً على الأناقة، بينما تحوّلت الزرقة الجلدية من أثرٍ جانبيٍّ للصبغة إلى سمةٍ جماليةٍ مطلوبة. هذا التحوّل لم يمحُ الذاكرة الأصلية لثوب أبو ذيل، بل أضاف طبقاتٍ جديدةً من الدلالات، جاعلاً منه أرشيفاً منسوجاً يحكي تحوّلات المجتمع من حالة الحرب إلى السلام.
على الجانب الآخر، يقف ثوب البركالية تعبيراً عن فلسفةٍ جماليةٍ مخالفةٍ للتوقّعات. إذ تخبرني فاطمة كلشات، الباحثة المهتمة في شؤون التراث، أنّ "لونه الأسود المطرَّز يتحدّى المفاهيم العالمية التي تربط اللون القاتم بالحداد". اختيار هذا اللون في المناسبات الفرحية مثل الزفاف ليس محض خروجٍ عن المألوف، بل هو تأكيدٌ على قدرة الثقافة المحلية على إنتاج أنظمةٍ جماليةٍ مستقلةٍ، بحسب فاطمة. هذه الأنظمة تتمثل في التطريز الدقيق بالخيوط القطنية، الذي يتطلّب ما يصل إلى أشهرٍ من العمل. ومعه تتحول العروس إلى لوحةٍ فنّيةٍ حيّةٍ. فالأيدي التي صنعت الثوب غالباً ما تكون لنساءٍ من العائلة أو المجتمع المحلّي، ممّا يحوّل الفستان إلى عقدٍ يوثّق الروابط البشرية.
العلاقة بين الثوبين تكشف عن ثنائيةٍ عميقةٍ في الثقافة المهرية. فبينما يجسّد ثوب أبو ذيل المرونة التاريخية والقدرة على تحويل التحدّيات إلى فرصٍ، يمثّل ثوب البركالية التمسك بالثوابت الجمالية على ضغوط العولمة. لكن كليهما يشتركان في كونهما أدواتٍ للتفاوض على الهويّة. وبالحفاظ على هذه الأزياء المهرية، تدير المرأة المهرية حواراً صامتاً مع الماضي والحاضر مؤكدةً على حقّ المجتمع في إنتاج ثقافته بعيداً عن التصنيفات الخارجية.
تكتسب الألوان دلالاتٍ خاصّةً في هذا النظام. فبينما تهيمن الألوان الترابية والصبغات الطبيعية مثل النيلة على أغطية الحياة اليومية، تتفجر الألوان المبهجة في ثوب "الشِّنْت" خلال المناسبات. هذا الانزياح اللوني لا يعكس فقط تغيّراً في المزاج العامّ، بل يشير إلى انتقال المرأة من دورها اليوميّ إلى دورٍ احتفاليٍّ، إذ يصبح الجسد منصّةً لعرض ثروة الأسرة.
جميع قطع الأزياء المهرية التقليدية السابقة تلوَّن بموادّ لونيةٍ تستخرج وتصنع محلّياً في الغالب. كالنيلة التي مازالت تُحفظ أسرار صناعة صبغتها الزرقاء التي تُستخرج من نبات العظلم. تُعَدّ هذه الصبغة، بدرجاتها المتراوحة من الأزرق الباهت إلى الزرقة الحالكة، شاهداً على حِرَفيةٍ تقليديةٍ تجمع بين المعرفة النباتية والكيمياء البدائية. فقد تحوّلت أوراق نباتٍ برّي إلى مادةٍ غنيةٍ بالدلالات الثقافية والاقتصادية.
تَعدّ سميرة كلشات الحليَّ الفضية سجلاً مفتوحاً لروح المهرة الجمعية. وتقول لي: "هذه الزينة التي تتلألأ على أجساد النساء تُعدّ نظاماً رمزياً متكاملاً يحكي قصصاً عن المكانة الاجتماعية والانتماء القبلي والمعتقدات الروحية". فعندما تتحرك العروس بحليّها التي قد تزن مجتمعةً أكثر من كيلوغرام، فإنها لا تصدر رنيناً موسيقياً فحسب، بل تبعث صوت الأجداد الذين صاغوا هذه القطع وسيلةً للتواصل بلا كلمات. ذلك الرنين الذي طالما استُخدم لرصد تحركات النساء تحوّل اليوم إلى سمة تفاخر.
وفي مجتمع المهرة، تشكّل النقوش الجسدية لغةً بصريّةً تُختزل فيها الهوية الثقافية والاجتماعية للمرأة، وتَحمل في تفاصيلها رموزاً تروي حكايات التقاليد والمعتقدات الموروثة. تُمارَس هذه الفنون منذ قرونٍ مرسّخةً وجودَها على رغم التغيرات الحديثة، وشاهدةً على ارتباط المجتمع بجذوره. لا تقتصر هذه الممارسات على الجماليات فحسب، بل تُعَدّ نظاماً ثقافياً متكاملاً يحكمه نسقٌ من القواعد الرمزية. بدءاً من اختلاف النقوش بين العازبات والمتزوجات، وصولاً إلى الطقوس المصاحبة للأعراس والمناسبات الاجتماعية.
تحدِّد حالة المرأة الاجتماعية أنماطَ النقوش المسموح بها. فالعزباء تكتفي بخطٍّ واحدٍ على كفّ اليد. وتزيّن المتزوجة يدها بخمسة خطوطٍ، علامةً على انتقالها إلى مرحلةٍ جديدة. هذا التمييز يشمل أماكن النقش. فبينما تُرسم بعض الزخارف على اليدين والقدمين، تنتقل أخرى إلى الوجه، خاصةً أسفل الذقن وحول العينين. هذه الاختلافات هي عرف اجتماعي يسهّل التعرف على حالة المرأة من أوّل نظرة. لا يُرى هذا التقسيم قيداً، بل علامة فخرٍ تجلّي المكانة الجديدة للمرأة بعد الزواج.
تتبوّأ طقوس تجهيز العروس مكانةً مركزيةً في ثقافة المهرة، إذ تخضع الشابّة لسلسلةٍ من الإجراءات التي تمزج بين الجمال والرمزية. تبدأ الإجراءات مع "التِّكْنان"، وهو طقسٌ يغطّى فيه جسد العروس بخلطةٍ من الكركم والنيل والمحلب والزعفران تضفي لوناً ذهبياً يرمز إلى النقاء والخصوبة. تتبع ذلك عملية نقشٍ معقدةٍ تُباشَر بالحنّاء والكحل بإشراف "الموسيت" (مصففة الشعر التقليدية) التي تجمع بين مهارات التزيين والمعرفة الرمزية للأنماط المسموح بها. ومن الطقوس اللافتة خدش جبهة العروس بأداةٍ حادّةٍ لاستخراج كميةٍ قليلةٍ من الدم، اعتقاداً بأن ذلك يجلب البركة ويحافظ على جمالها. تكتمل الزينة بضفر الشعر بطريقةٍ معقدةٍ، مع إضافة موادّ عطريةٍ كالبخور لتمييز رائحة العروس.
لا تنفصل العناية بالشعر عن سياق الزينة الكلّي في الأزياء المهرية. وفي هذا الإطار، تفضّل النساء استخدام أوراق السدر الممزوجة بالماء أو الليمون لصنع عجينةٍ تقوّي الشعر وتطيله. هذه الممارسات هي امتدادٌ لثقافة الاعتماد على الموارد الطبيعية التي تعزّز جمال المرأة دون اللجوء إلى موادّ كيميائية. تختلف تسريحات الشعر بين العازبات والمتزوجات، إذ تُضاف إلى الأخيرات زخارف وزينةٌ إضافيةٌ تبرز مكانتهن الاجتماعية كاستخدام الشرائط الملوّنة أو العقيق أحياناً.
إلى جانب وظيفته الجمالية في إبراز جمال العينين، يُستخدم الكحل عنصراً يقي من أشعّة الشمس في المناطق الصحراوية الحارّة. انتقلت هذه الممارسة من النطاق الجمالي إلى الاعتقادات الشعبية. يُعتقد أن الكحل يحمي من الحسد وأمراض العيون، خاصّةً لدى الأطفال حديثي الولادة. تظهر هذه المعتقدات تداخلاً بين الواقعيّ والرمزيّ في المهرة، حيث تُستخدم المواد الطبيعية لتحقيق منافع متعددةٍ تتراوح بين الملموسة (كالحماية من الشمس) والمتخيَّلة (كدرء الحسد). يعيد هذا التداخل تشكيل دور الزينة من مظهرٍ خارجيٍ محض إلى أداةٍ تفاعليةٍ مع البيئة والمعتقدات.
ومع كل هذا التنوع إلا أنّ الهوية البصرية للزينة والأزياء المهرية تواجه تحدّياتٍ جيلية. تتجه الأجيال الجديدة إلى التبسّط في الملابس اليومية. فتلبس الفتيات الجديد والعصريّ، وتحتفظ بالزيّ التقليدي للمناسبات، مما يعكس تحولاً نحو هويةٍ مرنةٍ قابلةٍ للتكيف. بينما تحاول شابات اليوم إحياء التراث بمزج عناصر تقليديةٍ مخفّفةٍ مع الموضة العصرية، مثل استخدام ألوانٍ جريئةٍ أو دمج الزخارف في تصميماتٍ حديثةٍ، سعياً لتجديد الموروث دون انقطاع.
توازياً، تهدّد العولمة هذه التقاليد بمنتجاتها الرخيصة فتحوّلها بعض الحركات الثقافية إلى قطعٍ متحفية. لكن جهود الحفظ تتجلّى بإعادة إنتاج القطع التقليدية في إطارٍ تراثيٍّ أو دمجها في تصميماتٍ عصريةٍ. مثل تحويل "الشبكة" إلى عمل فني أو توظيف زخارف "الوقاية" في الأزياء الفاخرة، ما يبقي التراثَ حيّاً مع احتضان التحولات المجتمعية.
تتناقل الأيدي إبر التطريز مثلما تتناقل الألسن حكايات الأجداد. هنا، حيث تختلط رائحة الصبر مع عبق اللبان، يُنسج مع خيوط الفضة والحرير مستقبل هويةٍ ثقافيةٍ تحاول أن تتنفس في عصر العولمة. تقول نورة: "نحن هنا. مازلنا نخلق الجمال رغم كلّ شيء".
لا تنفصل هذه الظاهرة عن التحولات الاقتصادية العميقة التي يشهدها المجتمع في المهرة. فقد هاجر رجالٌ يمنيون كثيرون للعمل في الخليج. وبلغت أعدادهم مليوناً على الأقلّ وفق آخر إحصائياتٍ رسميةٍ صادرةٍ عن جهاتٍ حكوميةٍ في دول مجلس التعاون الخليجي. مع ذلك، حافظت النساء على صناعة النسيج مصدرَ دخلٍ بديلٍ وحوّلْنَها من حرفةٍ منزليةٍ إلى مشاريع صغيرةٍ تدرّ دخلاً يقاوم شحّ الموارد. وهذا ما تؤكّده مريم عبد الله، الحرفية التي عاصرت النسج والتطريز على مدى ستّة عقود.
لم تكن التحولات الاقتصادية التي شهدتها المنطقة بعيدةً عن هذا المشهد. فتحوّل صناعة النسيج إلى مصدر دخلٍ أساسيٍّ للعديد من الأسر جعل النساء يُعِدن تشكيل دورهنّ الاجتماعي. تقول مريم: "النسيج كان حكاية نساءٍ مغلقةٍ داخل الجدران. أمّا الآن فهو رسالةٌ توصل صوتنا إلى صنعاء وعدن وحتى دول الجوار". تعلّق مريم على تأثير وسائل التواصل الاجتماعي بدهشةٍ ممزوجةٍ بالفخر: "شابّةٌ من عمر أحفادي علّمتني كيف أظهر منتجاتي على 'إنستغرام'. واليوم أبيع لزبائن لم أكن أعرف أنهم موجودون على الخريطة". لكنها تنهي حديثها بتأملٍ مرير: "الطلب يتزايد، لكن أيادينا تصغر مع كلّ جيل. من سيتذكر طريقة لفّ الخيط على المكوك كما كانت تفعل أمي؟".
يرى محمد بن علي، وهو باحثٌ مستقلٌّ في التراث المهري، أن هذه الممارسات تشكّل نظاماً ثقافياً يتحرّك ويتطوّر. يقول لي: "ليست الأزياء مجرّد أقمشةٍ ملوّنةٍ، بل هي سجلٌّ مفتوحٌ للتجديد". يشرح بن علي مشيراً إلى ظهور رسومٍ حديثةٍ مثل الهواتف أو الأقمار الصناعية بين نقوش الحيوانات والنباتات. ويضيف بالقول: "هذا الاختلاط بين القديم والجديد ليس تشويهاً للتراث، بل هو محاولةٌ لجعل التراث ينطق بلغة الشباب". ويؤكد أن ابتكارات الحرفيات تعيد تعريف مفهوم الأصالة لتكون مرنةً قادرةً على استيعاب تحولات العصر.
تبرز التقنيات الحديثة إشكالياتٍ متعدّدة الأوجه. يوضح للفِراتْس محمد عبد العزيز، نائب مدير مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث بجامعة المهرة: "الأقمشة الصينية رخيصة الثمن خلقت مفارقةً غريبة. فهي من ناحيةٍ تقلّص الاعتماد على النسيج اليدوي المكلِف، لكنها سمحت بتجريب ألوانٍ وأنماطٍ كانت مستحيلةً في السابق". ويضيف بالقول إنّ "هذه المرونة تتجلّى في المشهد الحضري لمدينة الغيضة، حيث تتعايش محلات بيع الشاشات الذكية مع ورش صياغة الفضة دون صراعٍ، وكأنّ كلّاً منهما يعيش في زمنٍ مواز".
لكن وراء هذه الصورة المتفائلة تخفي الأرقام أزمةً كامنة. ففي ورشة نسيجٍ بمنطقة "شحن"، لم يتبقَّ سوى حِرفيّتَيْن من أصل عشرٍ، وهو مصيرٌ تشاركه العديد من الورش التقليدية. هنا يأتي دور مبادرات التوثيق التي يقودها سعد مسلم في مركز اللغة المهرية، والتي تتجاوز فكرةَ الأرشيف الثابت. وفقاً لسعد، يعتمد المركز على تسجيل تفاصيل الحرفة عبر فيديوهات ثلاثية الأبعاد تحلّل حركة الأصابع أثناء الحياكة. كذلك إنشاء مكتبةٍ سمعيةٍ تحوي شرحاً صوتياً متنوعاً من الغرز التقليدية بلغة المهرة، ومقابلاتٍ مسجلةً مع الحرفيات العجائز اللواتي يحملن في ذاكرتهن أنماطاً نادرةً قديمة.
ولا يقتصر عمل المركز على الأرشيف الرقمي، بل يمتدّ إلى ورشٍ تدريبيةٍ لشاباتٍ تحت إشراف حِرفياتٍ متمرسات. إذ تُحوَّل التسجيلات إلى دليلٍ عمليٍّ مصوَّر، مع إضافة شروحاتٍ عن كيفية تطويع التقنيات القديمة لتصميم منتجاتٍ تلائم السوق الحديث. يلخّص سعد بالقول: "التوثيق دون نقل الخبرة يشبه تحويل التراث إلى متحف. نحن نريد أن نجعله ورشةً مفتوحة".
أما النيلة، فترتبط صناعتها بأدوار النساء والرجال. إذ كانت النساء يتولّين إدارة عملية الإنتاج من الزراعة إلى الحصاد والتجهيز. وتكفّل الرجال بجمع الأغصان ونقل المنتج النهائي إلى الأسواق. يعرض هذا التقسيم الأدوار الاقتصادية التقليدية في المجتمعات الريفية، لكنه يشهد اليوم تحولاً مع انخراط الرجال في مراحل التصنيع بسبب تراجع اليد العاملة النسائية نحو أنشطةٍ أخرى. فقد كانت النساء يزرعن ويحصدن ويجهّزن محصول النيلة، واقتصر دور الرجال على جمعها وتسويقها. لكن اليوم، مع اتجاه النساء إلى مجالات عملٍ أخرى كالتعليم والخدمات، فقد أصبح الرجال يشاركون في مراحل التصنيع التي كانت حكراً على النساء. يُعَدّ هذا التحول مؤشراً على التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيد تشكيل الحِرف التقليدية تحت ضغوط الحداثة.
وكي تحافظ المهريات على ثقافة النقوش، فإنّهن يحرصن على نقل المعرفة جيلاً بعد جيل. فتُلَقَّن الفتيات منذ الطفولة فنون الرسم على الجسد، بمشاركتهن في جلساتٍ تعقد خصيصاً لهذا الغرض. تقود الأمّهات والجدّات هذه العملية التعلّمية مستخدِماتٍ أدواتٍ بسيطةً كالأعواد الخشبية أو الإبر لتحويل أيدي الصغيرات ووجوههن إلى لوحاتٍ تجريبية. تقول صفية عبد الخالق، وهي مهريةٌ مهتمةٌ بالتراث، إنّ هذا النقل الشفهي للمعارف لا يقتصر على الجانب التقني، وإنما يمتد إلى شرح الدلالات الاجتماعية لكلّ نقشٍ، ممّا يرسّخ العلاقة بين الشكل والمضمون في ذاكرة الفتيات. وتضيف: "تصبح هذه المهارات جزءاً من هويتهن مع تقدم العمر. تتحول المشاركة في الجلسات من تدريبٍ إلى طقسٍ جماعيٍّ يعزّز التماسك الاجتماعي".
تلاحظ صفية أن دلالات النقوش لا تتوقف عند الجانب الجمالي أو الاجتماعي، بل تمتد إلى البعد الاقتصادي. إذ تسهم هذه الممارسات في خلق فرص عملٍ للنساء المتخصصات في فنون التزيين، مثل "الموسيت" أو صانعات الحنّاء. هذه المهن هي امتدادٌ للاقتصاد المحلّي القائم على الحِرف اليدوية، ممّا يعزّز الاستقلالية المادّية لبعض النساء. تقول صفية: "في الوقت نفسه تشكّل هذه المهارات مصدراً للفخر الشخصي. إذ يقدّر المجتمع للنساء اللواتي يتقنّ نقش الزخارف المعقدة، ممّا يمنحهن مكانةً خاصةً داخل نطاقهن الاجتماعي".
ترى الكاتبة نورا بن معيلي أن الأزياء المهرية تمثل نموذجاً فريداً لإدارة التغيير الثقافي بذكاء. فقد أبدع المهرة حلولاً اقتصاديةً مبتكرةً، مثل اعتماد نظام الإيجار بدلاً من الشراء. تقول نورا للفِراتْس: "[هذا] يعكس وعياً جمعياً بتحويل التراث من عبء الماضي إلى أداة تفاوضٍ مع متطلبات الحاضر، متجاوزةً الثنائيات الجامدة بين الأصالة والمعاصرة". وتضيف: "اعتمد المهرة لقرونٍ على موادّ محلّيةٍ في الأزياء المهرية، مثل صوف الماعز الجبلي وقطن الواحات. وصبغوا أقمشتهم بألوانٍ ترابيةٍ مستخلصةٍ من نباتات البيئة الصحراوية الجبلية. لكن مع توسّع التجارة قبل ثلاثة قرونٍ، دخلت موادّ مثل الحرير الهندي والصبغات الفارسية، فتنوعت الألوان وظهرت الأثواب الزاهية بالبنفسجي والقرمزي والأزرق. وهذا التحول لم يَمحُ الهوية، بل أثراها".
تشير نورا إلى أنّ هذا التكيّف في الإنتاج الحِرفي الذي تقوده النساء المهريات ليس محض تغييرٍ شكليٍّ، بل هو تعبيرٌ عن ثقافةٍ حيٍّةٍ تتفاعل مع العالم من حولها دون أن تفقد جذورها. فالنقوش المطرزة على الوقاية، وإن تطوّرت أدواتها، تبقى شاهداً على إرثٍ حِرفيٍّ متجدّد.
يتجلّى هذا التكيّف في نظام الإنتاج الحِرفي الذي طورته النساء المهريات. ففي قرية شحن، شمال المهرة، لاتزال أنواع النسيج التقليدية تعمل، وإن انتشرت الآلات الحديثة. وهو ما تؤكّده فاطمة محمد، مالكة منسجٍ خشبيٍّ، بالقول: "النسيج اليدوي ليس مجرد حرفةٍ، بل هو جزءٌ من هويتنا. نتعمد الحفاظ على هذه الأنواع حتى مع صعوبة تأمين المواد الخام المحلية". وتشير فاطمة إلى تحوّلٍ ملحوظٍ في المواد المستخدمة. فقد حلّت الخيوط المستوردة مكان خيوط القطن المحلي الذي تراجعت زراعته. من جهته، يوضح الخبير الزراعي نايف محمد أن "العوامل البيئية مثل التصحر والاستنزاف الجائر للموارد [كالعقيق الأحمر من الجبال] أدّت إلى انخفاض إنتاجية المواد الخام التقليدية، مما اضطر الحرفيين للاعتماد على بدائل مستوردةٍ تؤثر على جودة المنتج النهائي".
التقيت بعائد صالح، مالك محلّ مقتنياتٍ تقليديةٍ. فشرح لي أن دمج موادّ، مثل خيوط "الفولك" مع الصوف في صناعة "العقام"، أسهمَ في تحقيق توازنٍ بين المتانة وخفّة الوزن. وأشار إلى أن التقنيات المستخدمة، مثل الصباغة بالنيلة المستخرجة من النباتات المحلية، لا تنتج لوناً أسود دائماً فحسب. "بل تحمي المنتج من الحشرات بسبب خصائصها الطبيعية". ويضيف أن استخدام النيلة كان مرتبطاً باقتصادٍ محلّيٍ قائمٍ على الموارد المتاحة، ممّا قلّل الاعتماد على الاستيراد، لكنها تواجه منافسةً حادّةً من الأصباغ الصناعية رغم تفوّقها البيئي. ويلفت عائد النظر إلى أن "النيلة تحوّلت رمزاً ثقافياً يُباع سلعةً ترفيهيةً بأسعارٍ مرتفعةٍ، لكن صناعتها تواجه تحدّياتٍ مثل ندرة الحِرفيين المهرة وصعوبة التوسع التجاري".
تواجه الصناعات التقليدية في المهرة ضغوطاً متشابكةً، منها تدهور الموادّ الخام بسبب التغيرات البيئية ومنافسة التقنيات الحديثة وضعف الإقبال على المنتجات اليدوية. يلاحَظ أن الاعتماد على البدائل المستوردة غيّر الخصائص الجمالية للمنتجات مثل الزيّ التقليدي، ممّا يهدّد الهوية البصرية للتراث المحلي. في المقابل، تظهِر محاولات دمج التقنيات القديمة مع موادّ جديدةٍ، كخيوط الفولك، قدرةً على التكيّف. يؤكد من التقيت بهم أن ضمان استمرارية هذه الحِرف يتطلب إعادة توظيفها في أنماطٍ اقتصاديةٍ مستدامةٍ، كالسياحة الثقافية أو الأسواق المتخصصة، مع الحفاظ على عناصرها الجوهرية حلقة وصلٍ بين الماضي والهوية المعاصرة. لكنها تبقى حلولاً جزئيةً أمام التحولات الجمالية والثقافية عند الشباب والشابات.
ومع ذلك تبرز محاولاتٌ فرديّةٌ لخلق توازنٍ بين التراث والحداثة، كما في حالة الممرضة مريم في مستشفى الغيضة الحكوميّ. تواظب مريم على ارتداء خواتم "الحجول" الفضية تحت قفازاتها الطبّية. تفسّر مريم هذا الاختيار بأنّ الحجول ليست زينةً تقليديةً فحسب، وإنما هي تمثيلٌ حيٌّ لارتباطها بتاريخ عائلتها وثقافة مجتمعها، حتى في فضاءٍ مهنيٍّ يفرض شكلاً محدّداً من المظهر. وتضيف: "لا أرى تناقضاً بين عملي ممرضةً وبين الحفاظ على جزءٍ من تراثنا. فالقفازات تحمي المرضى، والحجول تحمي ذاكرتنا".
لا يقتصر هذا التحوّل على الأفراد، بل يعكس رحلةً جماعيةً لمواجهة إشكاليّات الهويّة في عصر العولمة. صورة المرأة المهرية التي تجمع بين أساور القرن التاسع عشر وقفازات الطبّ الحديث، كما يوضح سعد كلشات: "تختزل سعيَ المجتمع لإعادة تعريف تراثه. ليس بكونه مجرّد إرثٍ جامدٍ، بل أداةً تسهم في صياغة مستقبله. هنا لا يقتصر السؤال المركزيّ على كيفية المحافظة على الماضي، بل على كيفية تفعيله ليكون جسراً نحو آفاقٍ جديدةٍ، حيث يتحوّل التراث من عبءٍ يحتاج إلى الحماية إلى موردٍ ثقافيٍّ قادرٍ على التكيّف وإثراء الحاضر".
تواجه الصناعات الحِرفية في المهرة تحدّياً وجودياً يتمثل في الحفاظ على تميّزها الثقافي دون الانغلاق على الذات في ظلّ ضغوط العولمة وانتشار المنتجات الصناعية الرخيصة. تشكّل صناعة الحليّ الفضية نموذجاً لهذا التحدّي. فقد كانت تمثّل نظاماً اقتصاديّاً مغلقاً يعتمد على الموادّ المحلّية والمهارات المتوارثة، لكنها أصبحت أمام منعطفٍ تاريخيٍّ يتطلب إعادة تعريف دورها في سياقٍ عالميٍّ متشابك.
يشير الحِرفي معاذ ناصر إلى أن إدخال عناصر جديدةٍ، مثل أحجار الفيروز أو الزجاج الملون، في التصاميم التقليدية قد يكون مدخلاً لإثراء الحرفة. شرط أن تبقى الهوية البصرية المهرية حاضرةً بقوّةٍ، فلا تطغى المؤثرات الخارجية على الجوهر الثقافي. ويؤكد أن هذه الخطوة ليست محض استجابةٍ عابرةٍ لموضةٍ عالميةٍ، وإنما محاولةً لخلق تفاعلٍ إبداعيٍّ يضمن استمرارية الحرفة عبر جذب أجيالٍ جديدةٍ، مع الحفاظ على رموزها الأصلية التي تعكس تاريخاً من التميّز الفنّي.
من جهته، يلفت الباحث في التراث المادّي بجامعة المهرة نجيب إبراهيم إلى مفارقةٍ تاريخيةٍ تجسّدها حالة المهرة. فالعزلة الطوعية التي حمت الهوية الثقافية قروناً أصبحت عاملَ خطرٍ في عصرٍ تتحكّم فيه الشبكات الاقتصادية العالمية. الحليّ الفضية المصنوعة يدويّاً كانت طريقة تبادلٍ نقديٍّ، واليوم تواجه منافسةً شرسةً من المجوهرات الصينية ذات الأسعار الزهيدة. ويرى أن تحويل هذه العزلة إلى ميزةٍ تسويقيةٍ ممكنٌ بتسليط الضوء على ندرة المنتج المَهريّ وربطه بشهادة أصلٍ ثقافيٍّ تثبت تفرّده، ممّا يرفع قيمته سلعةً فنّيةً تتناسب مع أسواق الرفاهية العالمية.
يتجلّى عمق التجربة المهرية في قدرتها على إعادة تشكيل وظيفة الحليّ وفقاً لمتطلبات المرحلة، إذ تحوّلت من أداة زينةٍ تقليديةٍ إلى عملةٍ نقديةٍ ثمّ إلى رمزٍ تفاوضيٍّ مع متغيّرات الحداثة. يوضح نجيب إبراهيم أن النقاشات بين الأجيال في شكل التقاليد وحدود تطويرها ليست دليلاً على أزمةٍ ثقافيةٍ، بل تعكس حيويةً تتيح إعادةَ إنتاج الهوية دون المساس بجوهرها. فالثقافة الحيّة "ليست كياناً جامداً، بل نظاماً يتحرك ويتفاعل مع التحدّيات عبر آلياتٍ مرنة".
إن محاولة فهم هذه الأزياء المهرية هي سَبْرٌ لأعماق ثقافةٍ تعيد تشكيل هويّتها بخيوط النَوْل والألوان وفق استراتيجياتٍ ذكيةٍ تحوّل الخصوصية الثقافية من عنصرٍ هامشيٍّ إلى مركز جذبٍ اقتصاديٍّ وثقافيّ.
