أزمة الدواء المصرية… ستة عقود من ارتباك السياسات

منذ نهايات 2021، تدخل مصر أزمات متلاحقة من نقص واختفاء الأدوية وزيادة أثمانها بما لا يحتمله المواطنون في سعيهم لحقهم في الصحة. هذه الأزمة الممتدة نتاج سياسات اتسمت بالتردد اتبعتها الحكومة منذ سبعينيات القرن الماضي.

Share
أزمة الدواء المصرية… ستة عقود من ارتباك السياسات
أزمة الدواء في مصر استمرت على مدى عقود وسط تحولات قانونية وسياسية واقتصادية | تصميم خاص بالفرانس

في يومٍ قائظٍ من أيام سبتمبر 2024، قضت نهى إسماعيل ثلاث ساعاتٍ واقفةً وسط زحام المارّة وعوادم السيارات التي يكتظّ بها ميدان رمسيس وسط القاهرة. كانت تنتظر سائقاً قادماً من إحدى المحافظات، يحمل معه علبة دواء "ريتمونورم" الموصوف لوالدتها التي تعاني اضطراباً مزمناً بضربات القلب. وجدَت نهى العلبة بشقّ الأنفس واشترتها عبر إحدى مجموعات فيسبوك بثلاثة أضعاف سعر العبوّة الرسمي، بعد أن عجزت عن إيجاد شريطٍ من الدواء الذي تحتاجه والدتها ثلاث مرات يومياً، للحفاظ على تدفق دم الحياة في جسدها.
كان سبتمبر من سنة 2024 من الأشهر التي استمرت فيها أزمة دواءٍ طاحنةٌ، لا تكاد تنفرج حتى تعاود الاستحكام في الأسواق المصرية. بدأت الأزمة قبل ذلك التاريخ بأشهرٍ عديدةٍ، تحديداً مع بدء نُذر أزمة توفر الدولار وما تبعها من أزمةٍ اقتصاديةٍ تشهدها البلاد منذ نهايات سنة 2021. ومع اقتراب نهاية شهر يونيو 2025، بدأت أزمة الأدوية تلوح من جديد. وعاد مواطنون مصريون للشكوى على وسائل التواصل الاجتماعي من نقص بعض الأصناف الدوائية، فيما أقرّت هيئة الدواء، الجهة الحكومية المنظمة لسوق الدواء، "تحريكاً" جديداً لأسعار مئةٍ وثلاثين صنفاً دوائياً. والتحريك هو المصطلح الذي تستخدمه البيانات الرسمية وأجهزة الإعلام المملوك معظمها لأجهزة الدولة في مصر للدلالة على زيادة الأسعار.
وفيما تتجدد الأزمة عاماً رابعاً على التوالي، تعددت الدراسات والمقالات والتحقيقات الصحفية التي رصدت غياب الدواء وغلاء أسعاره وصعوبة حصول المواطنين والمقيمين في مصر عليه. عُزيت الأسباب لنقص المواد الأولية نتيجة أزمة الدولار، أو رفض شركات الأدوية مواصلة إنتاج الدواء وإتاحته بسبب عدم رضاها عن الأسعار المحددة. تدعو هذه الأسباب لمراجعة سياسات سوق الدواء في مصر، وكيف رَسمَت السياسات الاقتصادية ورؤية الدولةِ المصرية دورَها والتزاماتها نحو مواطنيها في هذا المشهد القائم.


لاحت أزمة نقص العملة الأجنبية بمصر في نوفمبر 2021، حين واجهت الدولة خروجاً جماعياً مفاجئاً لحمَلَة سندات الدين السياديَّة التي تعتمد عليها الحكومة في الاقتراض الخارجي. وتعاظم الاعتماد عليها في استدانة العملات الأجنبية في فترة وباء كورونا. اضطرت مصر في نهايات 2021 وطوال السنة التالية إلى التخلي عن قدرٍ من مخزونها الدولاري لسداد قيمة صكوك المتخارجين (الذين باعوا سنداتهم) مضافاً إليها الفوائد. سرعان ما انعكست تلك الأزمة على قدرة الدولة على الاستيراد، فنقص كثيرٌ من السلع الضرورية بينها الأدوية المصنّعة في الخارج والمواد الأولية اللازمة لصناعة الأدوية محلياً، ومستلزمات إنتاجٍ أخرى لازمةٌ لصناعة الأدوية. منها على سبيل المثال أوراق التغليف وقطع غيار آلات التصنيع ولوازم التعبئة. ومع التزام مصر بسداد ديونها التي فاقت 163 مليار دولار في سنة 2022، واستحقاق أقساط عديدٍ منها مع فوائدها في المدة من 2022 إلى 2026، ظلّت أزمة توفُّر العملة الأجنبية تتجدّد. وذلك ما دفع إلى تضييق الاستيراد خفضاً للكميات المستوردة من المستلزمات الدوائية، فقفزت أسعار الأدوية قفزاتٍ متواليةً نتيجة حركة العرض والطلب وتكرار خفض قيمة الجنيه (من 15 إلى 50 جنيهاً للدولار) إضافةً إلى آثار التضخم.
في آخر بحثٍ منشورٍ عن الدَّخل والإنفاق والاستهلاك، صدر في ديسمبر 2020 عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وكالة الإحصاء الرسمية في مصر، يتَّضح أن المصريين كانوا ينفقون نسبة 10.5 بالمئة من مدخولهم على الرعاية الصحية في أوان إجراء البحث سنتَيْ 2018 و 2019. وبعد لغطٍ أثير عن نزاهة البيانات المنشورة في تلك الدراسة، لم تنشر مصر بحوث الإنفاق والدخل التالية، التي يفترض نشرها سنوياً. ولم تُنشر بيانات بحثَيْ 2021-2022 و 2023-2024 رسمياً حتى وقت نشر هذا المقال، رغم حصول منصّاتٍ صحفيةٍ مستقلة في مصر على بعض تفاصيلهما. لذا ليس هناك أيّ ثبتٍ رسميٍ عن نسبة إنفاق الأسر المصرية على الدواء والخدمة الصحية. ومنذ نُشِر ذلك التقرير، تسارع ارتفاع معدلات التضخم في مصر نتيجة الأزمة الاقتصادية، في حين تؤكد تقارير حقوقيةٌ محليةٌ ورسميةٌ دوليةٌ –منها تقارير تقييم الوضع الاقتصادي المصري التي يصدرها صندوق النقد الدولي– أن مستوى دخول المواطنين لا يساير قفزات التضخم المتوالية. وطال التضخمُ أسعارَ الأدوية وغيرها من أدوات الرعاية الصحية وخدماتها التي تحمَّلَ المواطنون المصريون في 2019، وهي سنة قياس تقرير الدخل والإنفاق، 71 بالمئة من تكلفتها. فيما لم يتخطَّ إنفاقُ الدولة 29 بالمئة وفقاً لتقدير مجموعة أكسفورد الاستثمارية.
كانت سنتا 2019 و 2020 فاصلتين في ملفّ سياسات الدواء المصرية لأسبابٍ عدّة. ففي 2019، كانت قد مرّت عشر سنواتٍ على قرار تحرير أسعار الدواء في مصر. وهو قرارٌ رَفعت فيه الدولةُ يدَها عن سياسات التسعير الملزِمة التي كانت تضمن توفّر الأدوية في متناول المواطنين. في السنة نفسها 2019 سنَّت الحكومة سياسةً جديدةً لتسعير الدواء، وضعتها قيد التنفيذ في الأسابيع الأولى من سنة 2020، قبل أن يضرب فيروس كورونا المنظومة الطبية والدوائية لمصر في غضون أسابيع من قرار إعادة هيكلة قطاع الدواء. وانطوى القرار على تفكيك البنية التنظيمية التي كانت تضمن الحفاظ على أسعار الأدوية اللازمة في متناول المواطنين، عبر نقل سلطات الرقابة على الأدوية وتسعيرها إلى هيئةٍ جديدةٍ تشكلت خارج وزارة الصحة.
جاء قرار سنة 2020 خطوةً ناجحةً بعد محاولاتٍ عدّةٍ من الدولة للانسحاب من التزام توفير الدواء وضمان انخفاض أسعاره، أفشلتها مؤسسات المجتمع المدني من جمعياتٍ ونقاباتٍ تنادي بالحقّ في الصحة والدواء. بدأت أولى تلك المحاولات في 2009، مع صدور قرار وزير الصحة رقم 373 لسنة 2009. نصّ ذلك القرار على ربط أسعار الدواء في السوق المحلية بأسعاره في الدول الأجنبية. بيد أن "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، وهي منظمةٌ حقوقيةٌ معنيّةٌ بحقّ المواطنين في الصحة والوصول للدواء، تصدّت لذلك القرار بالتوجه للقضاء والمطالبة بوقف تنفيذه. ظلّت القضية متداوَلةً في المحاكم نحو عامٍ تقريباً تدخّلت أثناءه شركات الأدوية بالانحياز إلى جانب وزارة الصحة قانونياً. انتهت القضية إلى وقف تنفيذ القرار. لكن ذلك الحكم لم يكن نهاية المطاف، بل خطوةً أولى تلتها خطواتٌ عدّةٌ رسمت سياسة الحكومات المصرية المتوالية تجاه حقّ المواطنين في الصحة عموماً وفي الدواء على وجه الخصوص.
توقفت محاولات الحكومات المصرية لفرض سياسة تسعيرٍ جديدةٍ للدواء مدّة سنةٍ أعقبت ثورة 25 يناير 2011. وعادت تحاول مرّةً جديدةً سنة 2012 بإعلان سياسة تسعيرٍ جديدةٍ بموجب قرار وزير الصحة 499 لسنة 2012، المطابق في مضمونه للقرار السابق قبل ثلاثة أعوامٍ، والذي أوقفت محكمة القضاء الإداري العمل به. لكن القضاء عرقل تنفيذ القرار من جديد. وجاءت الأزمة الاقتصادية التي شهدتها مصر في سنة 2016 نتيجة نقص العملة الأجنبية لتتدخل الحكومة لزيادة أسعار ثلاثة آلاف صنفٍ دوائيٍ، بعد أن بدأ منتجو الأدوية في الضغط لزيادة أسعار الدواء، وانخفضت كميات الأصناف الدوائية المعروضة في الأسواق.
ومع توالي انخفاض سعر الصرف، استمرَّت الجهات المعنيّة في "تحريك" سعر الدواء، فزادت الأسعار بنسبة 20 بالمئة في 2016، ثم حُرِّكت مرّةً أخرى في 2017. وبعدها ظلّت الحكومة تتدخل لزيادة أسعار الأدوية بقراراتٍ وزاريةٍ متلاحقةٍ، حتى أعيدت هيكلة القطاع في 2020 وباتت القرارات تصدر من "هيئة الدواء"، الكيان الجديد الذي شكّلته الحكومة وسلّمته إدارةَ ملفّ الدواء بدلاً من وزارة الصحة.


عندما وقفت نهى في ميدان رمسيس لتحصل على علبة دواء والدتها، كانت قد قضت تسعة أشهرٍ في المعاناة نفسها لتوفير الدواء. حتى ساعة حديثها للفراتس في منتصف 2025، ومع أن الدواء اللازم لوالدتها بات متوفراً منذ بداية سنة 2025 ولم يختفِ من جديدٍ خلال الأزمة الجارية، لا تزال نهى حائرةً لا تفهم تبدُّل الحال من توفّر الدواء أحياناً واستحالة الحصول عليه في أحايين أخرى.

تقول نهى إنه عندما اختفى دواء "ريتمونورم" في نهاية سنة 2023، لجأت لشرائه من صيدلية "الإسعاف"، وهي صيدليةٌ حكوميةٌ تتبع "الشركة المصرية لتجارة الأدوية" المملوكة لوزارة الاستثمار والتجارة الخارجية، وتُعَدّ منفذاً حكومياً لتوفير نواقص الأدوية. ومع أن والدتها تحتاج عبوتين ونصف شهرياً، إلا أن الصيدلية لم تكن تصرف سوى عبوةٍ واحدةٍ فقط شهرياً، شريطة وجود وصفةٍ طبيةٍ حديثةٍ ومعتمدةٍ من طبيب.
كلما عادت أزمة نقص الأدوية للاستحكام، كانت سلسلة صيدليات "الإسعاف" الحكومية هي المنفذ الوحيد أمام المواطنين والمقيمين في مصر للحصول على الدواء بسعره الرسمي، لا بسعر السوق السوداء. لكن قبل الحصول على الدواء ثمّة عراقيل عديدة. أبرزها محدوديّة عدد الصيدليات وانتشارها في مصر.
بحسب الموقع الرسمي للشركة المصرية لتجارة الأدوية المالكة للسلسلة، فإنها تشمل خمساً وعشرين صيدليةً يفترض أن تخدم نحو مئةٍ وتسعة ملايين مواطنٍ مصريٍ، إضافةً للمقيمين حال نقص الدواء. ولا تغطي تلك الصيدليات سائر محافظات مصر. إذ يوجد ستّ صيدلياتٍ من سلسلة "الإسعاف" في القاهرة، واثنتان في المناطق المتاخمة للقاهرة في محافظة القليوبية. وتتوزع باقي الصيدليات على سبع عشرة محافظةً أخرى بواقع صيدليةٍ واحدةٍ لكلّ محافظة. فيما لا توجد أيّ صيدلياتٍ من السلسلة الحكومية في أسوان وقنا والمنوفية والبحر الأحمر ومرسى مطروح، ومحافظتَيْ شمال سيناء وجنوبها والإسماعيلية. هذا يعني أنه كلما شهدت الأسواق نقصاً في الأدوية، فإن سكان هذه المحافظات والمقيمين فيها يعجزون عن الحصول على الدواء إلا من السوق السوداء بأضعاف السعر الرسمي. ويناقض هذا الالتزام الدستوري القاضي بالمساواة في الحصول على الرعاية والخدمات الصحية، الذي تنصّ عليه المادة 18 من دستور سنة 2014، المعدل في سنة 2019.
توفّر صيدليات "الإسعاف" الدواء وفقاً لسياسةٍ محددةٍ تتشدد في تطبيقها في وقت أزمات الدواء، وهي صرفُ الدواء وفقاً لوصفةٍ حديثةٍ، ما يعني تكلفة زيارة طبيبٍ وصرف علبةٍ واحدةٍ أو شريطٍ واحدٍ من الدواء لكلّ مريضٍ أياً كانت الجرعة المقررة. وذلك بحسب درجة ندرة توفر الدواء. تقول نهى إنها كانت تضطر للوقوف في الصيدلية عدّة ساعاتٍ، خمس مرّاتٍ على مدار شهرين، للحصول على علبةٍ واحدةٍ من الدواء في كلّ مرّةٍ حتى تستكمل جرعة والدتها. ومع اشتداد الأزمة في يوليو 2024، باتت الصيدلية تصرف شريطاً واحداً في كلّ مرّةٍ، قبل أن يتوقف صرف الدواء نهائياً لعدم توفّره. وهنا لجأت نهى للسوق السوداء.
تتوزع منظومة توزيع الدواء في مصر على أربعة منافذ. أولها الصيدليات المملوكة لوزارة الصحة في الوحدات الصحية والمستشفيات الرسمية، وتصرف الدواءَ لمحتاجيهِ بموجب وصفاتٍ طبّيةٍ يكتبها أطباء عاملون بالمستشفى نفسه. ويتأثر هذا المنفذ مباشرةً بأزمات نقص الأدوية وخاصّةً المستشفيات المختصة بعلاج السرطان. وثانيها صيدليات "الإسعاف". وثالثها صيدليات التأمين الصحّي، وهي صيدلياتٌ خاصّةٌ مملوكةٌ لأفرادٍ، متعاقدةٌ مع الهيئة العامة للتأمينات (وزارة المالية)، وتصرف الدواء حال توفّره مدعوماً للمستفيدين من التأمين الصحّي، وعددهم نحو تسعٍ وستّين مليوناً. ومن ليس عندهم خدمات الدعم يشترون الدواءَ من السوق الرسمية ممثلةً في الصيدليات الاستثمارية. فإذا اختفى الدواء من كلّ تلك المنافذ، فإن الحصول عليه يكون من السوق السوداء.
ومع النداءات العديدة بزيادة عدد صيدليات "الإسعاف" وتوسعة انتشارها أفقياً لتُعين الدولةُ المواطنين في الحصول على الدواء بأسعاره الرسميّة، أعلنت الشركة المالكة عن العمل على وصول عدد صيدلياتها إلى إحدى وثمانين صيدليةً موزعةً على المحافظات، وهو رقمٌ لا يزال متواضعاً. وبالموازاة توجهت الدولة عبر الصناديق السيادية والخاصة التابعة لها، للتوسع في المشاركة بالصيدليات الاستثمارية سعياً لتعظيم أرباحها من تجارة الدواء.


يشيع الظنّ بأن أزمات الدواء في السوق المحلية في مصر تعود جذورها لبرنامج الخصخصة الذي تخلّت الدولة بموجبه عن ملكية كثيرٍ من شركات الأدوية في منتصف التسعينيات. لكن دراسة "استكشاف فرص منظومة الملكية الفكرية لتحسين إتاحة الدواء في مصر" الصادرة في أبريل 2021 عن منتدى حلول للسياسات البديلة، وهو مشروعٌ بحثيٌ تابعٌ للجامعة الأمريكية بالقاهرة، كشفت عن بدء تراجع تصنيع الدواء محلياً منذ حقبة الثمانينيات. وقبله كانت المصانع المحلية قادرةً على تغطية معظم احتياجات السوق الداخلي من الدواء وذات حصةٍ غير قليلةٍ في سوق الدواء الإقليمية، العربية والإفريقية.
في دراسةٍ صادرةٍ بعنوان "قرار تسعير الدواء رقم 449 لسنة 2012 أين هو من الحقّ في الدواء" نشرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في 2014، تُرجع المبادرةُ تاريخَ صناعة الأدوية في مصر إلى سنة 1939، أي بعد ثلاث سنواتٍ فقط من إنشاء وزارة الصحة وانتشار مديرياتها (أفرعها) في المحافظات. وكانت شركة مصر للدواء أولى الشركات الوطنية لتصنيع الدواء على نطاقٍ واسعٍ في سنة 1939. وظلّت هي أكبر شركات الأدوية المملوكة لمصريين حتى إنشاء شركة النصر للكيماويات التي اختصّت بتصنيع المواد الأولية. تلتها النصر للأدوية، وكلتاهما أنشئتا في الخمسينيات.
وفي سنة 1962 أسّست الحكومة الهيئة العامة للصناعات الدوائية لتدير القطاع على أساسٍ تخطيطيٍ لضمان مضاعفة الإنتاج المحلي ليغطي كامل الاحتياجات المحلية، والشروع في التصدير لتغطية احتياجات "الدول الشقيقة والصديقة". بحيث يكون الدواء أحد أدوات القوة الناعمة لمصر في حقبة المدّ القومي العربي ودعم حركات التحرر في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وبحلول سنة 1973 كانت الشركات المحلية تنتج 84 بالمئة من الأدوية التي يحتاجها المواطنون. لكن هذا النجاح النسبيَّ كان قصير الأمد، بحسب الدراسة. ففي سنة 1974 تبنّت الدولة المصرية سياسات الانفتاح الاقتصادي، وبها توجهت من الاشتراكية للنظام الرأسمالي واقتصاد السوق الحرّ. كانت أولى خطوات تلك السياسات فتح السوق المحلية أمام شركات الأدوية الأجنبية، لا سيّما الأمريكية منها، وبدأ حجم الدواء المستورد يتعاظم في السوق المحلية. وبالموازاة أنشأت شركة "سكويب" الأمريكية مصنعاً لها في مصر لإنتاج أدويتها في الداخل، وإن ظلّ التسعير في قبضة الدولة عبر وزارة الصحة التي كفلت استمرار دعم الدواء دون المساس بأرباح الشركة الأمريكية وما تبعها من شركاتٍ، منها "فايزر" و"سويس فارما".
شهدَت صناعة الدواء المحلية في تلك المرحلة تحولاً آخَر مهماً، كان مقدمةً لما يشهده سوق الدواء حالياً. فمع ضرب الشركات الأجنبية أطنابها في مصر، بدأت الاتفاق مع شركات الدواء المحلية لتصنيع الأدوية المملوكة للشركات الأجنبية بموجب ترخيصٍ على أن يوقف إنتاج الأدوية المشابهة، أي الأدوية التي تحوي المواد الأوليَّة والتركيبة الدوائية ذاتها ولكن تحت اسمٍ تجاريٍ مختلف. وتوقّف إنتاج كثيرٍ من الأدوية المثيلة، وهي أدويةٌ تحوي المواد الفعالة ذاتها إما بجرعةٍ مختلفةٍ أو بتركيبةٍ دوائيةٍ (موادّ أخرى بجانب المادة الأولية) مختلفة. وإثر ذلك عجزَت الشركات المحلية عن توفير أدويةٍ تؤدي المهام العلاجية نفسها بأسعارٍ أقلّ، حال تعاقدت إحدى الشركات في الداخل على ترخيص تصنيع دواءٍ أجنبيٍ مكافئ.
في أبريل 1994 صادقََت مصر على الاتفاقية الدولية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة "جات"، بموجبها أزيلت الحواجز الجمركية أمام عديدٍ من المنتجات من كلّ الدول الموقَّعة على الاتفاقية وعلى رأسها بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ونظراً لاحتكارات الدواء، مثَّل التصديق على الاتفاقية ضربةً جديدةً لصناعة الدواء المحلية، لاسيّما مع توقيع مصر على اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية "ترِبس" سنة 1995. وبموجب الاتفاقية، سيطرت الشركات صاحبة براءات الاختراعات على السوق. وتمنع الاتفاقية تصنيع أيّ دواءٍ مثيلٍ للدواء الحاصل على براءة اختراع. وحصلت مصر ودولٌ في مثل مستواها الاقتصاديّ على فترةٍ انتقاليةٍ يسمح فيها بتسجيل أدويةٍ حاصلةٍ على براءة اختراعٍ حتى سنة 2005.
وضعت تلك الاتفاقية وملحقاتها الدولَ والشركات المستثمِرة في البحث العلمي الدوائي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على قمة سوق الدواء العالمي. وسمحت للشركات العالمية باحتكار السوق، بحسب تقريرٍ بعنوان "أزمة الصناعات التحويلية" صادرٍ عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية في يوليو 2020.
وتنقسم صناعة الدواء إلى ثلاث مراحل. الأولى صناعة المواد الكيميائية الأساسية والمواد الدوائية النشطة. والثانية تحويل المواد الأولية إلى مستحضرٍ دوائي. أما الثالثة فتشمل التغليف والتوزيع. ومع تصريحات رئيس الوزراء المصري المهندس مصطفي مدبولي في سبتمبر 2024، بأن من بين كلّ مئة علبة دواءٍ مباعةٍ في مصر توجد واحدةٌ وتسعون علبةً مصنّعةً محلياً، إلّا أن أغلب مصانع الأدوية في مصر تعمل في المرحلتين الثانية والثالثة فقط. إذ لا يوجد سوى أربعة مصانع لتصنيع المواد الخام والأولية من بين مئةٍ وثمانين مصنعاً للدواء، بحسب تصريحات مدبولي نفسه.
وطبقاً لتعليق المركز المصري للدراسات الاقتصادية، انخفضت مشاركة القطاع العام المصري من 80 بالمئة من احتياجات سوق الدواء في بداية الثمانينيات إلى 6 بالمئة فقط، تنتجها إحدى عشرة شركةً تعمل في تصنيع الأدوية وتصديرها واستيرادها. وتبلغ نسبة إنتاج القطاع العامّ من علب الدواء المصنعة محلياً 20 بالمائة فقط، في حين يسيطر القطاع الخاص على 80 بالمئة، منها 69 بالمئة شركاتٌ محليةٌ و31 بالمئة للشركات متعددة الجنسيات. يعني هذا ترك تصنيع الدواء في مصر تحت سيطرة القطاع الخاص، وكفّ يد وزارة الصحة ومن بعدها هيئة الدواء عن التدخل لحساسية السوق والصناعة المصنفة "غير مرنة الطلب"، كون المريض لا يملك رفاهية الاستغناء دون التعرض للضرر المهدد للحياة مع ارتفاع الأسعار.
الطبيب والأكاديمي علاء غنام، مدير وحدة الحق في الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، يتفق مع ما جاء في التعليق السابق. مؤكداً للفراتس أن أزمة الدواء ستستمرّ ما استمرّت الأزمة الاقتصادية، لأن سوق الدواء المصري صار مرتبطاً "بشكلٍ يكاد يكون كلياً بالسوق العالمية التي يحكمها الدولار". ويوضح: "صناعة المواد الفعالة محلياً قُتلت لصالح الشركات الأجنبية".


في دورةٍ جديدةٍ من استحكام الأزمة، صرّح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في مارس 2025، بأن "توجيهاً رئاسياً" صدر لحكومته لاتخاذ خطواتٍ عمليةٍ لتوطين صناعة الدواء. وأضاف رئيس الوزراء إن هذه الخطوة قد تحلحل الأزمة المتجدِّدة في نقص الأدوية وغلائها.
عجزُ الحكومة أمام ترسانة القوانين المحلية والاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها مصر فيما يتصل بصناعة الدواء، يقف حجر عثرةٍ أمام تلك التصريحات الطموحة. وهذا ما يؤيده ملخصٌ تنفيذيٌ بعنوان "استكشاف فرص منظومة الملكية الفكرية لتحسين إتاحة الدواء في مصر" صادرٌ في أبريل 2021 عن منتدى حلول للسياسات البديلة.
بحسب الدراسة التي أعدّتها هبة ونيس وماجد إسكاروس، فإن ثمة قلقاً يعيق الدولة عن استغلال الفجوات الموجودة في الاتفاقات وقوانين الملكية الفكرية المعمول بها محلياً. يرى الباحثان أن تلك الفجوات تتيح فرصاً لتصنيع الدواء المنقذ للحياة، خصوصاً في حالة المرضى الأكثر هشاشةً من المصابين بالأمراض غير السارية والمهدِّدة للحياة، كالسرطان والسكري، ومتلازمة نقص المناعة المكتسبة الناجمة عن الإصابة بفيروس "إتش آي في".
وفق تصريحات رئيس الوزراء، بدأت مصر في الربع الثاني من سنة 2025 خطواتٍ لإعادة توطين صناعة المواد الأولية، إلّا أن خبراء ملفّ الحقّ في الصحة، ومنهم علاء غنام، يرون أن تلك الخطوة متأخرةٌ نحو عشرين عاماً. ويرى غنام أن المواطن المصري سيظلّ يدفع ثمن هذا التأخير لسنواتٍ قادمة.
يتفق غنام مع دراسة "استكشاف فرص منظومة الملكية الفكرية" في المطالبة باستلهام تجارب دولٍ مكافئةٍ لمصر في مركزها العلمي في صناعة الدواء ومستوى دخول السكان واحتياجاتهم، مثل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل. بحسب الدراسة، اعتمدت تلك الدول على توطين صناعة المواد الخام للأدوية وباتت من الدول المصدر للمواد الأولية.
يتفق معه محمود فؤاد، رئيس مركز الحقّ في الدواء، الذي أكد للفراتس أن "الأزمة ليست في نقص الدواء، وإنما في استمرار اعتماد مصر على استيراد المواد الخام". ويقدّر فؤاد أن نسبة استيراد المواد الخام تصل 95 بالمئة من المواد الأولية والمواد الخام المستخدمة في صناعة الدواء محلياً. يعني هذا استمرار ارتفاع أسعار الأدوية، كلّما تأثر سعر الجنيه مقابل الدولار. مؤكداً أن "العودة للمربع صفر في أزمة الدواء أمرٌ وارد الحدوث".


تضع الدولة سياسات الدواء ممثَّلةً في القرارات والقوانين والاتفاقيات التي توقّعها وتقرّها، وتنظم بموجبها سوق الدواء. لكن تلك السياسات لا تعمل بمعزلٍ عن قوىً أخرى تتدخل في الإتاحة. والإتاحة أطرافها التصنيع والتسعير والتوزيع. وهذا ما يبرز دور شركات الأدوية وسلاسل التجارة من أصحاب المخازن الكبرى وتجار التجزئة (الصيدليات) في إتاحة الدواء.
في حديثه للفراتس، يرجع محمود فؤاد، مدير مركز الحق في الدواء أزمة نواقص الأدوية المتكررة إلى ما يسميه "لعبة شدّ وجذب بين الشركات والحكومة". مشيراً إلى أن هناك تصريحاتٍ من غرفة صناعة الدواء بأن المصانع كانت تعمل بنسبة 20 بالمئة من طاقتها فقط حين استحكام أزمة الدواء سنة 2024.
وقد أكدت تصريحات جمال الليثي رئيس غرفة صناعة الدواء في ديسمبر 2024، أن مصانع الأدوية كانت تعمل بطاقة 20 في المئة فقط من قدرتها في المدّة ما بين مارس إلى يونيو سنة 2024 بسبب أزمة الإفراج الجمركيّ. وأكد أن زيادة الإفراج الجمركي عن مستلزمات الإنتاج الدوائي رفعت نسبة التشغيل إلى 100 بالمئة.
وشهدت سنة 2024 تكدّساً للمواد الخام ومستلزمات الإنتاج –ومنها لوازم الإنتاج الدوائي– في المنافذ الجمركية بسبب تجدد أزمة توفّر الدولار، وتوجيه الدولة ما لديها من سيولةٍ دولاريةٍ لشراء القمح والسلع الغذائية الأساسية ومشتقات الطاقة (النفط والغاز الطبيعي). ولم تنتهِ "أزمة الإفراج الجمركي"، كما أسمَتها الصحف، إلا بعد عدّة إجراءاتٍ منها الإفراج الاستثنائي عن شحناتٍ دوائيةٍ وتحريك سعر عددٍ من الأصناف الدوائية لتعويض الشركات. وكذلك إعطاء الأولوية للأدوية في تدبير النقد الأجنبي، أي إلزام البنوك بإعطاء الأولوية لشركات الدواء في الحصول على الدولار.
يرفض فؤاد المبرراتِ التي ساقها الليثي في تصريحاته وتعليقَه خفض الإنتاج على "شماعة" الإفراج الجمركي. ويستدلّ على عدم دقة تصريحات الليثي بأن المصانع لم تنتظر إفراجاً جمركياً لتعود للعمل بكامل طاقتها بمجرد موافقة هيئة الدواء على تحريك سعر الأدوية. فقد أفرجت شركات الأدوية للسوق عن شحنات أدويةٍ كان رقم تشغيلها (تاريخ إنتاجها) يسبق أزمة الإفراج الجمركي. ما يعني أن الشركات، في رأي فؤاد، عمدت إلى "تعطيش السوق" ومنع ما لديها من دواءٍ عمّن يحتاجون إليه، لتضغط على الدولة من أجل زيادة أسعار الدواء.
ما قاله فؤاد تتّفق معه الصيدلانية آمال منتصر، صاحبة صيدليةٍ تحمل اسمها في شبرا. تقول منتصر للفراتس: "النقص متعمَّد، والشركات تتعمد سحب أي دواءٍ قبل رفع سعره ليصبح المريض متقبلاً فكرة زيادة سعره في حال توفره". وترى الصيدلانية أن هناك أطرافاً عديدةً في الأزمة، بدايةً من الشركات وانتهاءً بالمخازن التي تشتري الأدوية من الشركات وتتحكم في خروجها للمستهلك عبر الصيدليات.
ووفقاً لآمال منتصر، تفرض المخازن على الصيدليات الشراء بمبالغ محددةٍ لصرف عدّة عبواتٍ من الأدوية الناقصة، "وهو أمرٌ يزيد من الأزمة، لأنني مثلاً إذا رغبت في شراء أدويةٍ حيويةٍ ناقصةٍ مثل أدوية السكر أو الغدّة أو الكلى، لا بد أن ترتفع الفاتورة لمبلغٍ لا تتحمله كل الصيدليات. خاصة الصيدليات الصغيرة في الأحياء العشوائية أو الأقاليم، وهي وسيلةٌ ترفع بها مخازن الأدوية توزيعها". مشيرةً إلى أن المخازن تستفيد حالياً من الأزمة بشراء التشغيلات التي خزنتها الشركات وشارفت مدّة صلاحيتها على الانتهاء بسعرٍ "محروق"، أي أقلّ من سعر البيع بنسبٍ تتراوح ما بين 20 و30 بالمئة. وتوزّع تلك العبوات على الصيدليات بعد مسح تواريخ انتهاء الصلاحية. موضحةً أنها تتضرر من تلك الأعمال بسبب ما أسمته "تآكل رأس المال".


في شهر سبتمبر 2025 أثناء جولةٍ بمصانع الأدوية بمدينة السادس من أكتوبر، صرّح رئيس الوزراء مدبولي أن مصر صدّرت مستحضراتٍ دوائيةً وطبّيةً قيمتها نحو مليار دولارٍ في 2024. وتوقّع أن ترتفع الصادرات إلى مليارٍ ونصف المليار دولارٍ في السنة الحالية 2025. وشهدت سنة 2024، التي توسَّعت فيها مصر في تصدير الأدوية والمستلزمات الطبية، أزمة دواءٍ لم تنفرج في تلك السنة إلّا قليلاً. بالموازاة كانت الحكومة بحاجةٍ إلى سيولةٍ دولاريةٍ كبيرةٍ لتغطية مدفوعات الدين الخارجي. وكان تصدير الدواء والسلع الغذائية –التي شهدت أزمات شحٍّ وغلاءٍ أيضاً– أحد مصادر توفير تلك التدفقات الدولارية.
وبحسب هيئة الدواء المصرية فإن صادرات مصر من الأدوية في سنة 2023 بلغت نحو 1.1 مليار دولار. وبحسب "وثيقة أبرز التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري للفترة 2024 - 2030" الصادرة عن مجلس الوزراء المصري في يناير 2024، تستهدف مصر زيادة صادرات الأدوية إلى خمسة مليارات دولارٍ بحلول سنة 2030.
ومع أن الإنسولين كان على رأس قائمة الأدوية الناقصة في مصر في سنتي 2023 و 2024، إلّا أن شركة "إيفا فارما" المصرية وقّعت في 2024 اتفاقيةً لتصدير الإنسولين المصري إلى خمسٍ وخمسين دولة. وبحسب حصرٍ أَجرته خدمةُ "سمارت سكرابرز" لمسح البيانات، فإن عدد الشركات المصرية المصدّرة للأدوية في سنة 2024 بلغ ثلاثاً وعشرين شركةً، زادت إلى خمسٍ وثلاثين بحلول مايو 2025. منها ستّ شركاتٍ مملوكةٌ للدولة كلّياً أو جزئياً، وهي "ممفيس"، والنيل للأدوية، و"إيبكو"، وشركة تنمية الصناعات الكيماوية، وشركة اتحاد المهن الطبية، والمجموعة المصرية للأمصال واللقاحات. وبحسب تعليق المركز المصري للدراسات الاقتصادية، فمصر هي الخامسة عربياً في تصدير الأدوية، وفي المركز التاسع والستين عالمياً رغم أزمات الدواء المتكررة منذ 2016.
في حديثه مع الفراتس يرى حاتم البدوي، الأمين العامّ لشعبة الصيدليات باتحاد الغرف التجارية، أن التصدير جزءٌ من الأزمة. مشيراً إلى أنه في حين استفحلت أزمة الأدوية محلياً، كانت شركة آمون التي استحوذت عليها دولة الإمارات على رأس الشركات التي يعاني السوق المصري من نقص أدويتها. قدّمت الشركة أمام سوق الأسهم المصرية بياناتٍ تفيد بارتفاع صادراتها للسوق السعودية بنسبة 34 بالمئة على أساسٍ سنوي. ويتساءل "كيف يمكن ترك السوق المصري متعطشاً للدواء، والصيدليات شبه متوقفةٍ، بينما يتمّ تصدير الأدوية لأسواقٍ أخرى؟".
وقد شكّك محمود فؤاد، مدير مركز الحق في الدواء، في دقة تصريحات رئيس الوزراء عن التصدير. مؤكداً أن الشركات الخاصة هي المستفيد من التصدير وليس الدولة. لأن أرباح هذه العقود تدخل إلى خزينة الشركات وليس الدولة، خاصةً مع إعفاء صناعة الدواء من عدّة ضرائب أهمّها ضريبة القيمة المضافة. ويرى فؤاد أن الأزمة تكمن في أن "الصناعة الوطنية للدواء تم إفقارها منذ تسعينيات القرن الماضي لصالح القطاع الخاص، بفضل سياسة وزير الاستثمار حينها محمود محيي الدين، الذي كان يرى أن الدواء مثل أي سلعة لا بدّ من التنافسية فيها وإخضاعها لقوانين السوق".


رصدت الفراتس أثناء التحقيق عدداً من المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، وقنواتٍ عبر "تيليغرام" لبيع الأدوية بأضعاف سعرها الرسمي. من بينها أمبولات (قوارير مغلقة) لازمةٌ للحَقنِ المجهري وعلاج تأخر الحمل، وهي الحقن التي تحتاجها نيفين عبد المحسن في محاولتها للحمل مع اقترابها من سنّ الأربعين.
تقول نيفين "أحاول الحمل مؤخراً، وضمن الأدوية المطلوبة حقن 'جونابيور' وهي حقنٌ تتواجد بتركيزاتٍ مختلفة. لكنها اختفت من الصيدليات، وارتفع سعرها من مئةٍ وخمسين جنيهاً إلى تسعمئة جنيهٍ في السوق السوداء، استغلالاً لحاجة النساء الخاضعات لعمليات الحقن المجهري لها حتى لا تفشل العملية التي يزيد سعرها على ثلاثين ألف جنيه".
مثل كثيرين واجهوا الصعوبات نفسها في توفير الأدوية، ذهبت نيفين إلى صيدلية الإسعاف، خاصةً وأنه منذ نهاية 2022 حتى مطلع سنة 2025 شهدَ سوق الدواء انتشار الأدوية المغشوشة ومنتهية الصلاحية، ما جعل نيفين تخشى اللجوء للسوق السوداء. فوجئت الحالمة بالأمومة بما أسمته "حالة إذلالٍ متعمدٍ للمواطنين المتردّدين على الصيدلية" بتركهم ساعاتٍ في الشارع انتظاراً، إضافةً إلى "عنف الموظفين" ما دفعَها للدخول في نوبة بكاءٍ شديدة. ولكنها في النهاية اضطرت لدفع "ترضية" (رشوة) لموظف كي يقبل إدخالها الصيدلية. لكنّ الموظف الموكل بصرف الدواء "عاقبني بتعمد إعطائي جرعةً أقلّ من التركيز المطلوب"، ردّاً على اعتراضها على طريقة التعامل معها.
لا تصرف الصيدلية إلا عبوةً واحدةً من أيّ دواءٍ بوصفةٍ طبّيةٍ مختومة. وحين احتاجت نيفين لعبوةٍ أخرى اتجهت لصيدلية "الإسعاف" بمنطقة الأميرية بالقاهرة بناءً على مشورة أصدقائها. ولكنها وجدت تعاملاً مماثلاً، ولم تحصل على الدواء بعد انتظار ستّ ساعات. نفد الدواء قبل أن يحلّ دورها. قررت نيفين التخلي المؤقت عن حلمها بالحمل "لأن التوتر الناتج عن إحساس الإهانة والخوف من عدم وجود الحقن يمكن أن يؤثر على المحاولة، لذلك قررتُ التأجيل وحفظ أدويةٍ يزيد ثمنها على تسعة الآف جنيهٍ بثلاجة منزلي".
وإذا كان عند نيفين رفاهية التخلي عن الحلم، فإن سندس عبد الراضي، ليس لديها هذه الرفاهية. فالسيدة الستينية تعاني من قصورٍ حادٍّ في وظائف الكلى، وهو ما يستدعي تناول ستّة أقراصٍ من دواء "كيتوستريل" الذي يحول دون وصولها لحالة الفشل الكلوي الكامل. والذي يعني الحياة مع جلسات الغسيل الكلوي أو الاضطرار إلى زرع كلى.
تقول سندس للفراتس: "أعيش بالاستعانة بالدواء منذ أكثر من عشر سنوات. وأحتاج إلى عبوتين شهرياً. في 2016 ارتفع سعر العبوة رسمياً من مئتين وعشرين جنيهاً إلى أربعمئةٍ وخمسين جنيهاً. ثم ارتفع مرّةً أخيرةً في بداية 2024 إلى 675 جنيهاً، قبل أن تدخل في قائمة نواقص الأدوية". عبر مجموعات التواصل الاجتماعي التي باتت نافذةً لإدارة السوق السوداء، اشترت سندس عبوةً من الدواء بـألفٍ وتسعمئة جنيهٍ.
يبلغ معاش سندس أربعة آلاف جنيهٍ، تقتطع منها 1350 جنيهاً لشراء هذا الدواء فقط. ويرتفع الرقم إلى ألفين وخمسمئة جنيهٍ بعد إضافة باقي الأدوية المطلوبة منها. لذلك فإن الشراء من السوق السوداء أمرٌ أكبر من قدرتها. وفي يونيو 2025 ارتفع السعر الرسمي للدواء ليقترب من 975 جنيهاً، أي أقلّ نسبياً من سعر العلبة في السوق السوداء.
وعن أزمة السوق السوداء قال فؤاد إن الاستثمار في مجال الأدوية لم يعد خاضعاً فقط للصيادلة، و"إنما دخل له الكثير من الأشخاص من خلال مخازن الأدوية التي لا يشترط لإدارتها وجود صيدلانيٍ، ولكن يكفي أن يكون الصيدلاني هو صاحب الترخيص فقط. لذلك يشتري أشخاصٌ التراخيصَ من الصيادلة ويعملون بها".
أما حاتم البدوي، الأمين العامّ لشعبة الصيدليات باتحاد الغرف التجارية، فيوضح للفراتس أن شركات أدويةٍ عدّةً دفعت بإنتاجها لموزعين "استغلوا أزمة الدواء وغياب مصانع الأدوية في العديد من المناطق القريبة لمصر بسبب الحروب، لتهريب الأدوية للخارج. وحققت الشركات والموزعين مكاسب خياليةً تفوق مكاسب السوق السوداء".
يمكن حلّ أزمة التهريب والسوق السوداء بتفعيل منظومة "التتبع الدوائي" التي أعلنت عنها هيئة الدواء في 2024. وتقضي المنظومة تتبّع مسيرة الدواء من نقطة الإنتاج حتى وصولها للمستهلك، من أجل ضمان سلامة الأدوية وجودتها عبر علامةٍ خاصةٍ بكلّ عبوةٍ (كيو آر كود). إلّا أن هذه المنظومة ظلّت أسيرة التصريحات ولم تُفعّل بعد.
المتحدث بِاسم لجنة التصنيع الدوائي بنقابة الصيادلة، محفوظ رمزي، يتفق مع رئيس مركز الحقّ في الدواء محمود فؤاد في أن التهريب عبر الحدود لمناطق الصراع جزءٌ من الأزمة. خاصةً وأن التهريب لا يخضع لقاعدة احتياج السوق المصري، إذ تُهرّب الأدوية سواءً كانت ناقصةً في السوق أم لا. مكرراً اتهام مخازن الأدوية بالمسؤولية عن التهريب لقدرتها على الحصول على كمياتٍ كبيرةٍ من الدواء من الشركات للاستفادة من الخصم، وعدم خضوعها لرقابةٍ حقيقية.
ما قاله رمزي وفؤاد يتفق مع ما رصدته الفراتس من أخبارٍ منشورةٍ عن تهريب الأدوية لمناطق الصراع. ففي أبريل 2025 ضبط موظفو الجمارك اليمنية بالتعاون مع الجهات الأمنية في مطار عدن الدولي، ثمانية أصنافٍ من الأدوية المهرّبة كانت بحوزة مسافرٍ قادمٍ من مصر. تنوعت الأدوية المضبوطة، التي بلغت كمّيتها 9626 شريطًا من الأدوية الفموية و 1486 قنينةً و 195 قلماً من الأنسولين، بين أدويةٍ لعلاج الأعصاب والصرع وأدوية السكري وجلطات القلب. ويلاحظ أن جميعها من الأدوية الناقصة في مصر في الفترة نفسها.
وفي ديسمبر 2025 ضبطت جمارك نويبع شحنة أدويةٍ مخبّأةً داخل شاحنةٍ متجهةٍ خارج البلاد، دون أن يحدد بيان مصلحة الجمارك المصرية وجهةَ هذه الأدوية المهرَّبة. وفي سبتمبر 2024 أحبطت جمارك السلّوم تهريب شحنة أدويةٍ بقيمة ثمانيةٍ وثلاثين مليون دولارٍ إلى ليبيا.
تواصلت الفراتس هاتفياً وعبر إيداع خطابٍ رسميٍ في الوزارة، مع المتحدث بِاسم وزارة الصحة حسام عبد الغفار، للردّ على أسئلة عن السياسات التي تنوي الوزارة والحكومة اتخاذها لضمان انتهاء تجدد أزمة الأدوية. لم نتلقَّ ردّاً بعد أكثر من شهرٍ على محاولات التواصل المستمرة. بينما وجّه علي الغمراوي، رئيس هيئة الدواء المصرية، معدّةَ هذا التحقيق إلى المركز الإعلامي للهيئة، الذي استلم خطاب المجلة بما فيه من أسئلةٍ عن السياسات التي يتتبعها التحقيق. وأرسلت الفراتس نسخةً من الأسئلة عبر البريد الإلكتروني قبل شهرٍ من نشر التحقيق. ولم نتلقّ ردّاً حتى تاريخ النشر.


رُسِمَت سياسة الدولة المصرية في إتاحة الدواء لمواطنيها والمقيمين على أرضها على مدى عقودٍ من التحولات السياسية والاقتصادية. فكانت تحولات نظرة الدولة لعلاقتها ومسؤوليتها عن مواطنيها في قلب صياغة تلك السياسات.
وتبدلت أولويات الدولة من الإتاحة والاستقلال إلى تعظيم الأرباح. ووسط التحولات القانونية والسياسية والاقتصادية، تُرك المواطن المصري عالقاً في انتظار الدواء.

اشترك في نشرتنا البريدية